آراء الكاتبة الجزائرية علجية عيش
(الأمير عبد القادر كان همزة وصل بين الجزائر والمشرق العربي)
كارل ماركس شوّه الكثير من الحقائق التاريخية أثناء إقامته في الجزائر
في شهادته يقول الإعلامي اللبناني سليمان الفرزلي إن الجزائريين ما كانوا في يوم من الأيام، قبل الاستعمار وبعده، بحاجة إلى هوية أو البحث عن هوية مفقودة. ومن يعتقد ذلك فهو يحمل في طيَّاته انحرافاً تاريخياً، لأنه يسعى إلى تشويه حقيقة الثورة الجزائرية. الملاحظ في ورقة هذا الإعلامي، أنه ربط صورة المشارقة للثورة الجزائرية بنظرة الفيلسوف كارل ماركس لها، بحيث تحفَّظ عن ذكر بعض الحقائق، ولم يذكر الرسائل التي كان يرسلها كارل ماركس من الجزائر، وموقفه السلبي من معاملة الاستعمار الفرنسي للجزائريين، وإدانته الشيخ بوعمامة.
معرفة المشارقة بالجزائر، وبآفاق دورها التاريخي سابقة كثيراً لبقية العرب الذين تعرفوا عليها من خلال ثورة الخمسينات من القرن الماضي، فقد عرفها المشارقة، وبخاصة سوريا ولبنان، من خلال الأمير عبد القادر الجزائري، الذي أقام في دمشق منفيَّاً، وكان له دور فعال في إطفاء الصراعات الدينية (الإسلام والمسيحية)، والطائفية (السُّنَّة والشّيعة)، والحرب الأهلية اللبنانية في منتصف القرن التاسع عشر. وها هو صَوْتٌ مشرقي أبى إلا أن يؤرخ لهوية الجزائر وعروبتها، ويقول إن عروبة الجزائر كانت سابقة للتعريب بأجيال. فقد سالت الكثير من الأقلام العربية المشرقية، بالخصوص، في الكتابة عن ثورة الجزائر بمنطلقاتها الأصلية، فكانت موقعاً حصينا مانعاً لوأد العروبة، ووضعها في الإطار التاريخي الثقافي الصحيح.
هذا الصوتُ القادمُ من بيروت، كان له صدى واسع على مستوى الإعلام العربي، وهو يؤرخ لأحداث الجزائر منذ الاحتلال الفرنسي لها، إلى غاية الاستقلال، وما حظيت به من دعم مادي ومعنوي، بلغ حد التقديس، في ورقة له تحت عنوان: ” جذرية العلاقة الجزائرية المشرقية”، ليس من داخل مصر فقط، كما روَّجت له بعض الأقلام، بل من داخل دول عربية أخرى، فعلى غرار العديد من الأصوات العربية، كان الكاتب والمحلل اللبناني “سليمان الفرزلي” واحداً من هذه الأقلام التي قدمت رؤية تحليلية للإشكالات الاستقرائية في الحالة الجزائرية. ما يميزه عن الآخرين هو أنه كان صوتاً عربياً، لكن بخصوصية افريقية، بالنظر الى أن الخصوصية الجزائرية اتسَّمت بالهيمنة الاستعمارية التي خضعت لها الجزائر طيلة 130 سنة، وجعلت منها حالة خاصة في المغرب العربي والمشرق العربي.
وبناءً على هذه المفارقات، جاءت قراءة الكاتب والمحلل اللبناني سليمان الفرزلي، كرد على بعض المثقفين السودانيين، وقولهم بأن الاستعمار أقام في البلاد منشآت وبنى تحتية: (سكك حديد)، ومؤسسات التعليم والصحة، وما إلى ذلك، واستمر وجوده في الجزائر طويلاً، أي أن الجزائر تحرَّرت عسكرياً فقط، في حين ظلت مخلفات الاستعمار في شتى المجالات، فعاشت الجزائر مرحلةً جدَّ قاسية ما بعد الاستعمار، وهي التي دفعت إلى ظهور العنف في بداية التسعينيات، حيث ظهرت توجهات عنيفة للحركات الإسلامية، كمطابقة قسرية بين العنف والفكرة الجهادية، من أجل نصرة قضايا الأمة، لاسيما ما تعلق بقضية التعريب، ووضع حد للصراع بين الفرنكوفونية والعروبة. فالملاحظ أن من أبرز ما تميزت به الثورة الجزائرية، تزامنها مع المدّ القومي العربي الناصري، ما جعلها تنتقل من إطار تاريخي إلى إطار تاريخي آخر مختلفٍ عن الأول، كما تزامنت مع ظهور الحركات الاشتراكية العربية التي ساهمت بشكل كبير في إبراز الواقع الجزائري، واعتبار أن الثورة الجزائرية، في جوهرها، هي مناهضة وجودية لفرنسا وللثقافة الفرنسية، أكثر مما هي مناهضة للفكر الاستعماري، كما يقول الفرزلي، وهي حقيقة غير قابلة للنقاش.
إن قضية التعريب في الجزائر، كما يراها الإعلامي سليمان الفرزلي، من أهم وأبقى إنجازات الثورة الجزائرية، كعنوان ثابت للهوية الثقافية والوطنية، وقد تعرضت تلك القضية هي الأخرى لمطابقات قسرية، بحيث جعلتها الحركات الإسلامية هوية عقائدية لغايات سياسية، من خلال مصادرتها تحت عنوان آخر. فعلى الرغم من الدور الذي لعبته مصر الناصرية في دعم الثورة الجزائرية، إلا أن المعرفة المصرية بالجزائر ظلت أدنى بكثير من معرفة اللبنانيين والسوريين بها في منتصف القرن الـ: 19، حتى أن المفكر والفيلسوف ” كارل ماركس”، الذي كان مقيما في الجزائر في ستينيات القرن التاسع عشر (19)، كان يتابع عبر الصحف الأمريكية “نيويورك تريبيون” أحوال بلاد الشام والصراعات الأهلية فيها من الأخبار التي كانت تنتقل إلى الجزائر عن طريق الأمير عبد القادر. فقد أمضى كارل ماركس أزيد من شهرين في مدينة الجزائر، واطلع على أوضاع سكانها، فكان ماركس يراسل صديقه فرمييه من الجزائر، ويزوده بكل الأخبار، ويصف له بشاعة الاستعمار الفرنسي ومعاملته للجزائريين، كذلك كان ماركس يراسل ابنته لاورا من الجزائر، منها رسالة مطولة كتبها بتاريخ 13 نيسان (أبريل) من عام 1882، دوَّن فيها معلومات خاطئة عن إعدام الشيخ بوعمامة، واصفاً لها الواقعة بشكل غير مباشر، مع أنه كان يدرك أن الشيخ بوعمامة لم يُعدم، وأن السلطات الاستعمارية منحته الأمان، بعد مفاوضات، لينتقل بعدها إلى المغرب، وظل فيه إلى أن وافته المنية في 1908، وهذا موقف سلبي منه كونه اقتصر فيه على معاتبة الفرنسيين دون أن يدين جرائمهم.


