قِراءَةٌ مُتَأخِّرةٌ في عَقلِ صَدّام حسين (17)

(الاخيرة)

المَهزُوم!

كان نَقعُ غُبار غزوة الكويت (1991) قد خَفَّ، والعسكرُ المُنكَسِرُ انكَفَأ الى ثكناته، حين نادى صدّام حسين قادةَ ألويته العسكرية إلى لقاء، تَلَبَّسَ فيه شخصية المُربّي والمُنظِّر و… القائد العسكري.

استدارَت وجوهُ القادة إليه، بين استغرابٍ، وإعجابٍ، وتعجُّبٍ، وذهول…  فهذا الرجلُ، رئيسُ البلاد، وقائدُهم، ومُخَطِّطُ حروبهم… هو الذي ما درس فنون الحرب والقتال، والعائد من “مغامرة” غزو الإمارة الصباحية، يُجَرجِرُ أذيالَ الانكسارِ والخَيبة، يَقِفُ أمامَهم مُعتَزًّا، ومُتفاخِرًا، ومُتشاوفًا، وهو يُحوِّلُ “الهزيمة” الى “نصرٍ مُبين”… كيف لا، و”أمُّ المعارك” التي خاضها، واستبسَلَ فيها جُندُهُ، هي فريدة من نوعها، فلا قبلها جرى مثلها، ولا بعدها تكرَّرَ ما دار على بطاحِ الصحراء.

دولةٌ صغيرة، مثل العراق، لا تتعدّى مساحتها مساحة “ولاية كاليفورنيا” الأميركية، تجتمعُ عليها جيوشُ ثلاثين دولة، منها دولٌ كُبرى تقودُ العالم، فلم تَرتَعِد أوصالُ قيادتها السياسية والعسكرية، ولا جندُها وَلّوا الإدبار، والمعاركُ التي انكسروا فيها، كانَ لها في الواقع، وفي العلم العسكري، “شيءٌ من عزَّة النصر”، فتباهى صدّام حسين أمام قادةِ جندِه، مؤكداً أنَّ من حَقِّهم اعتبار ما جرى في ميادين القتال هو “نصرٌ مؤزّرٌ”، وتكفي المقارنةُ بين المتحاربين، إن في العدد، والعتاد المتطوِّر، حتى يتأكَّد ذلك!

لا نستغربُ، والحال هذه، ما قاله صدّام حسين لجنرالات جيشه، فذلك دأبُ “الزعماء العرب”، في تحويلِ “الهزائم” إلى “انتصارات”، فتضيعُ نتائجُ وتبعات الهزيمة في زخمِ الخطبِ الرئاسيةِ، والكلامِ الأجوفِ المُزَوَّقِ المليء بالتكابُر، والختل، والأضاليل… ولنا في حرب جمال عبد الناصر مثالًا:

فبعدَ الهزيمة النكراء أمام إسرائيل سنة 1967، التي لمَّا يَزَل العالم العربي، الى الآن، ينوءُ تحت ثقلِ نتائجها وتبعاتها، حاول قائد العروبة الأغَرّ، أن “يُلبِسها هالة النصر”، بالتخفيفِ من وَقعها المدوّي على العرب المفجوعين، فاستبدَلَ محمد حسنين هيكل، الذي كتب خطاب تنحّي جمال عبد الناصر، كلمةَ “هزيمة” بعبارةِ “نكسة”… إلّا أنَّ الشعبَ المصري هو الذي أضفى “هالة النصر” على تلك الهزيمة القاسية، عندما خرج إلى الشوارع، يُنادي الرئيس، ويهتُفُ مُطالِبًا أن يبقى في سدّةِ الحكم لإزالة ما سُمي “آثار العدوان”!

عفا الله عن مُنَح الصلح، حيث كتب في مجلة “الحوادث”، بعدما سحب عبد الناصر تنحّيه وعادَ إلى الحكم: “الأمةُ المهزومةُ والقائدُ المنتصر”!

في “عاصفة الصحراء”، كما في “أم المعارك”، هُزِمَ العراق و… انتَصرَ صدام حسين!

***

مُنذُ أن فتحت السلطات الأميركية خَزانةَ الوثائق العراقية، المُصادَرة بعد حرب 2003، والدارسون في تيهٍ، يبحثون عن شيءٍ واحد، هو “المفهوم” الذي استخلصه صدّام حسين، إن في الحقيقة، أو الوهم، من حرب “عاصفة الصحراء”(1991)، ثم: هل تعامل بهذا “المفهوم” مع “أم المعارك” سنة 2003؟

سؤالٌ آخر، وقف أمامه الدارسون حيارى، ولم يجدوا له جوابًا قاطعًا، في كلِّ ما أُحصِيَ، حتى الآن، من وثائق تتناولُ حروب الرئيس العراقي، وهو: هل كان صدّام حسين قادرًا على تغيير استراتيجيته القتالية عشية حرب المُتحالفين ضدّه سنة 2003؟ أو، في أضعف الإيمان، هل تراه كان يرغب في ذلك؟

الأغلب على الظن، أنَّ صدّام حسين انتشى حتى أغوار نفسه، بنصرِ معركة مدينة “الخفجي” السعودية التي احتلها جيشه سنة 1991، فاستحوذَت على تفكيره… ذلك أنَّ تلك المعركة أذهلت الخبراء العسكريين، والاستراتيجيين، ودخلت في مناهج المدارس العسكرية العريقة في العالم، وسال حولها حبرٌ كثير… فأصرَّ الرئيس العراقي، في مواجهة جيوش ثلاثين دولة، مع سلاحهم المتطوِّر، اعتماد الخطة العسكرية ذاتها، على الرُغم من اختلاف المعطيات والظروف، وأَرغَمَ قادةَ قطعات جيشه على تنفيذها، ولم يجرؤ واحدٌ منهم على المُناقشة والاعتراض.

.”التاريخُ لا يعيدُ نفسه، لكن بالإمكان جعله يفعل ذلك”، قالها بالفم الملآن، وباعتدادٍ مُتكَبِّرٍ وثقة، لجنرالات جيشه، يوم اجتمع بهم في الثالث من آذار (مارس) سنة 1991.

لقد أراد صدام حسين أن يُطوِّعَ التاريخ، ويُرغِمه على إعادة نفسه، فسقط في “حفرة العنكبوت” في بلدة “الدور”.

***

“البصرة”، 27 كانون الثاني (يناير) 1991.

بَدَت حول مركز القيادة العسكرية في المدينة، حركةٌ غير عادية، طَوقٌ من الجنود زنَّرَ المكان. في داخل المبنى الذي حُوِّل الى ثكنةٍ عسكرية، كان يدورُ اجتماعٌ ضمَّ صدام حسين واللواء صلاح عبود محمود، قائد الفيلق الثالث، واللواء أياد خليل زكي، قائد الفيلق الرابع.

أمامَ خارطة مُسمَّرة على الحائط، راحَ صدّام حسين يضع خطةَ هجومٍ مُتَعَدِّدِ الجوانب، وأوكل اللواء محمود بالهجوم الشامل.

ليلة 29 كانون الثاني (يناير)1991 بدأ الهجوم، حامت المقاتلات الأميركية فوقَ المُهاجمين، أنزلت اطنانًا من القنابل. وكان اشتباكٌ مع القوات الأميركية، والسعودية، والقطرية، على طول الخط الساحلي.

صَدَّ مشاة “المارينز” معظم مهاجميهم، إلّاَ أنَّ إحدى الفرق العراقية المهاجمة تمَّ لها التفوُّق، واقتحمت “الخفجي” واحتلتها ليلة 29-30 كانون الثاني (يناير)، وسط ذهول الأميركيين والسعوديين.

الخطة التي اعترف صدّام حسين للمُحَقِّقين الأميركيين، أنه هو الذي وضعها، كانت استحضارًا لما كان يُطوِّره “الحرس الجمهوري”، وهو الفرقة الأقوى عديدًا، وعتادًا، وتدريبًا على فنون القتال. ففي منتصف الثمانينيات اشتدّت الحرب ضدّ إيران، وحمي وطيسها، وراحت الكفّة تميلُ راجحةً إلى الفرس، (بعدما أخذت إدارة رونالد ريغان تخطبُ وِدَّ ملالي طهران وتزوِّد جنودهم بالسلاح عبر إسرائيل)، طرح إبراهيم عبد الساتر محمد التكريتي، من قادة “الحرس الجمهوري”، (أصبح سنة 1999 رئيس أركان الجيش العراقي) فكرةً سمَّاها: “الهجمات الاستراتيجية الاستباقية”، في محاضرةٍ ألقاها في 20 من تموز(يوليو) سنة 1985، وتوسَّع في شرح نظريته العسكرية تلك. كانَ صدّام حسين بين الحضور، فلفتته الفكرة، وأبدى إعجابه بها، باعتبارها، كما نُقِلَ عنه في الوثائق: “هجماتٌ مُضَعضِعةٌ للعدو”…  وهذا بالفعل ما حاوله في معركة ” الخفجي”.

مع ذلك كله، خَشِيَ صدّام حسين من تمادي القادة في طروحاتهم النقدية، فضاقَ بها ذرعًا، وأبدى انزعاجه منها، خصوصًا عندما اقترح الجنرال رعد الحمداني، (من الفرقة الثانية في “الحرس الجمهوري”)، في ندوةٍ للقيادات العسكرية لتحليل “الدروس والعِبَر” من معركة “الخفجي”، تخفيف الاعتماد على المعدّات الثقيلة، لأنَّ تدميرَها سهلٌ على الأميركيين، كما اقترح “إعادة صياغة الاستراتيجية للعمليات العسكريَّة”، بالتركيز على المشاة، في تشكيلاتٍ صغيرة، تضربُ وتهربُ، كما كان في “حرب فيتنام”.

لم يَرُق هذا الطرحُ له، بدت على قسماتِ وَجهِ صدّام حسين ملامحُ الغضب والامتعاض، وعندما شعرَ الضبّاطُ انعكاسَ ذلك على تصرّفات الرئيس، تكتّموا على ما عندهم من ملاحظات، وتساؤلات، وطروحات عسكرية، وانبرى كلُّ واحدٍ منهم يؤيِّدُ الرئيس، ويوافقه على كل ما كان يُبديه، وهو في الحقيقة لا يمتُّ بصلةٍ الى العلوم العسكرية، لا من قريبٍ ولا من بعيد.

بعد تلك الندوة، صارَ التملُّقُ والكذب والنفاق هي الاستراتيجية العسكرية الجديدة، الأمرُ الذي انعكسَ سلبًا على العمليات الحربية في ما بعد.

لكن صدّام حسين، عاد إلى ما طرحه الجنرال رعد الحمداني، فأقرَّ أنه كان من الأفضل، في معركة “الخفجي”، الاستعاضة عن استخدام “قوة من الجيش” بفرقةٍ خفيفة، وسريعةِ الحركة، من فرق ” الحرس الجمهوري”، المُدَرَّبة على القيام بالعمليات الخاصة.

***

فَرَضَ “قانونُ حرية المعلومات” على الإدارة الأميركية، سنة 2008 الإفراج عن ملفَّات التحقيق مع صدام حسين، فتهافَتَ الباحثون، والمؤرِّخون، والمُهتمّون بشؤون الشرق الأوسط، الى الغَرْفِ من مُعينِ تلك الملفّات المُتخَمة بما يضيءُ على جوانب مهمّة من جلسات التحقيق الرسمية، التي جرت في” كامب كروكر”، مركز العمليات لقوات الاحتلال الأميركي، بمطار بغداد الدولي، الذي فيه احتُجِز صدام حسين وجرت معه جلسات التحقيق الطويلة.

أشرَفَ على تلك الجلسات، “مكتب التحقيقات الفيدرالي الأميركي” (أف بي آي)، وكان عددُها 20 جلسة، (ما عدا المُقابَلات غير المُعلَن عنها، مع المحامين والمستشارين القانونيين، وممثلي أجهزة استخباراتية متعددة الجنسيات حليفة للمُحتلّين الأميركيين).

في الجلسة الحادية عشرة من الاستجواب، أرادَ محقِّقو “مكتب التحقيقات الفيدرالي”، الوقوف على كيفيةِ نجاحِ الجيش العراقي في احتلال مدينة “الخفجي”، التي كانت على مقربة من الحشد العسكري العالمي في المملكة السعودية، (قرابة 15 كيلومترًا فقط)، لأنَّ تلك العملية “بهرتهم وأربكتهم”، كما اعترفَ نورمان شوارزكوف، القائد الأميركي، ولم يخفِ الأمير خالد بن سلطان، قائد القوات المشتركة، “ذهوله” من سقوط المدينة السعودية.

بعد سنة من “عاصفة الصحراء”، ذكر نورمان شوارزكوف، في كتابٍ صدر له عن” دار بانتام، نيويورك”، تحت عنوان “لا تحتاج إلى بطل”، ما مفاده أنَّ احتلال القوات العراقية لبلدة “الخفجي” أذهله، وحيَّره، وأربكَهُ، لأنه في الواقع “مُخالِفة لأيِّ منطقٍ عسكري”. وهذا بالفعل ما كان قَصْدُ صدام حسين من تلك العملية.

لكن القائد الأميركي لم يَعِش ليَطَّلع على كامل ما كشفته الوثائق العراقية حول تلك المرحلة، إضافةً الى تعليلات صدام حسين، وخلاصاته النقدية لعملية مدينة “الخفجي” ذاتها، التي كان يُمكن لها أن “تُضعضِعَ قوات التحالف الدولي”، على الرُغمِ من تفوُّقِها الجوِّي، (توفي الجنرال نورمان شوارزكوف يوم 27 كانون الأول/ديسمبر 2012).

أما الأمير خالد بن سلطان، فقد اعترفَ في كتابه: “محاربٌ في الصحراء” (صادر عن دار هاربر كولين، نيويورك، 1995)، أنَّ “الهجوم العراقي المفاجئ على “الخفجي”، هدَّدَ بإرباك استعداداتِ التحالف.

أرادَ المحقّق الأميركي، في جلسةِ الاستجواب الحادية عشرة لصدام حسين، يوم الثالث من آذار (مارس) سنة 2004، أن يعرفَ مَن الذي خطّطَ لمعركة “الخفجي”؟

سأل، فأجاب الرئيس العراقي الأسير بكلمة واحدة: “أنا”… ولم يَزِدْ

هنا، يخطر سؤالٌ آخر: لماذا أرادَ صدّام حسين تلك المعركة، ثم لماذا أعلنَ أمامَ قادة الميدان في الجيش العراقي، في اجتماعٍ تقويمي لسير العمليات، يوم 29 كانون الثاني (يناير) 1991، “إنه لا يجوز نسيان معركة الخفجي”!

قال صدام حسين لجنرالات جيشه، ربما لرفع معنوياتهم: “نريد أن نُثبتَ أنَّ العراق لا تلوي إرادته أيُّ قوة في العالم مهما عظُمت”.

***

بَعدَ الاحتلالِ الأميركي، قال أحد قادة الدفاع الجوي العراقي لمُراسل جريدة “واشنطن بوست”: “إنَّ النظامَ العراقي مُتَلبِّسٌ بالكذب”. (وليام براننجين، “حرب قصيرة ومريرة لضباط الجيش العراقي” 27 نيسان/أبريل 2003).

وكانَ الرجلُ على صواب… فجميعُ الأنظمةِ والحكومات تَكذُبُ على شعوبها، خصوصًا في أوقاتِ الأزمات الحادة. لكن نسبةَ الكذبِ تكون، بطبيعة الحال، أعلى في الأنظمة الفردية والديكتاتورية، منها في الدول التي تعتمد أنظمة ليبرالية…  فالتفرُّدُ بالحُكم، يَفرُضُ السيطرة على وسائل الإعلام، بكلِّ أنواعها. وتجربةُ صدّام حسين مع الأميركيين تؤكّدُ ذلك. هو وَصَفهم أمامَ قادة جيشه، بأنهم “كذّابون وعديمو الكفاءة”، وهم اتهموه بأنه يُخفي عن بقية العالم برامج سريَّة خطيرة.

في أواخر سبعينيات القرن الماضي، سَمَحَ الرئيس حافظ الأسد، بهامشٍ أوسع من الحريَّة للأدباء السوريين، بأن يُشَكِّلوا نوادٍ أدبية، وأن يُقيموا ندواتٍ فكرية، وأُمسياتٍ شعرية…  وحَدَثَ، أن قدَّم الشاعر والأديب والمسرحي ممدوح عدوان، مُطالعةً في أحد نوادي دمشق، عن “ممارسة الكذب في الدولة”. فقالَ إنَّ “النظامَ يكذب حتى في درجة حرارة الطقس في نشرة الأحوال الجويَّة من الإذاعة والتلفزيون، فتكون حرارة الجو خانقة فوق الأربعين درجة، فيُكلف المذيعون بالإعلان كذبًا، أن درجة الحرارة أقل من ثلاثين، ظنًّا من المسؤولين أن ذلك يُخفف من ضيق المواطنين”!

وكانَ أن حصلَ الصحافي السوري الراحل قصي صالح الدرويش، على نسخةٍ مُسَجَّلة من تلك المطالعة، عرضها على سليم اللوزي، فتلقّفها ناشر ورئيس تحرير مجلة ” الحوادث”، (كانت في هاتيك الأيام تصدر من لندن)، ونَشَرَ الموضوع، وتربّعَ على الغلاف عنوانٌ صارخٌ، أثار حفيظة نظام الأسد: “لماذا يَكذُب النظام؟”.

أما التغطية الإعلامية المصرية لحرب الأيام الستّة، حزيران (يونيو) 1967، فقد دخلت في التاريخ الإعلامي كحالةٍ خاصَّة، ليس فقط في اجتناب الحقيقة، بل في إعلانِ عَكسِها تمامًا… لكسب الوقت من أجلِ امتصاصِ النقمةِ على الهزيمة!

حربُ 1967، ظلًّت في ذهن صدام حسين، دليلَ مُقارنةٍ على تفوُّقِ استراتيجيته العسكرية، فامتدح سلاح الجو العراقي لدوره في تخفيف الخسائر، حيث قال: “من الناحية العملية، وبالنظر الى جدول خسائرنا الجوية، وحجم، وطبيعة ودوام العدوان الدولي على العراق، فقد استطعنا إنقاذ 75 في المئة من قواتنا الجوية، باستثناء ما دمَّرته قوات التحالف البرِّيَّة، أو ما حدث في الاضطرابات الأهلية”، (إشارة منه الى الانتفاضة الشيعية في جنوب العراق، وهو يقصد هنا الطائرات المروحية، لأنَّ الطيران العسكري من مقاتلات وقاذفات، كان محظورًا بموجب القرار الدولي رقم 688، حيث شمل الحظر الطيران الحربي العراقي من خط العرض 32 جنوبًا الى حدود الكويت والسعودية، ولحماية السكان الشيعة في تلك المنطقة من القصف الجوي، لكنه لم يشمل الطائرات المروحية).

ومضى يُقارِنُ مُعتَدًّا، فقال: “بالمُقارنة، خسر الطيران المصري نحو 70 في المئة من قوته الجوية في حرب 1967، مع العلم أنَّ القوات الإسرائيلية كانت أقلَّ، وأضعفَ كثيرًا من قوات التحالف الدولي الذي قاتل العراق”!

تأكيدًا على ما قاله صدام حسين، أعلن مدير الاستخبارات العسكرية العراقية، في معرض تقويمه لمعركة مدينة “الخفجي”، أنَّ “الفرقة الخامسة في الجيش العراقي، وحدها، تحمَّلت ضربات جوية من قوات التحالف الدولي، أكبر مما تحمَّله الجيش المصري من إسرائيل في حرب 1967”!

***

مشكلةُ صدّام حسين في حرب “عاصفة الصحراء”، كانت مبالغته في قدرات جيشه على المواجهة الميدانية، ومشكلة جيشه كانت أن قادته لا يستطيعون مواجهته بالحقيقة. وهذا الواقع جعله يعيش “وَهْم”، النجاح المؤقت في معركة “الخفجي”، فظنَّ أنَّ بإمكانه تكرار ذلك في حرب “أم المعارك”، فانهزَم.

هذا الوَهمُ، أو سوء الفهم، أو سوء التقدير، أو التبجُّح، في وقتٍ أصبح العالمُ وحيدَ القطب، وهو مزمعٌ على المواجهة مع هذا القطب المتفوِّق في المجالات كلها، وليس معه أي سَنَدٍ عالمي أو عربي يُذكر، بالإضافة الى أنه كان لتوِّه خارجًا من حربٍ مُضنية وطويلة مع إيران، جعله يتصوَّرُ أنه كسب معركة “الوجود”، لمجرّد بقائه في السلطة، بخسارةٍ محدودة، خصوصًا بعد إجهازه على “الانتفاضة الشيعية” في جنوب البلاد، بغضِّ نظرٍ أميركي. بل هو بعد انسحابه من الكويت، لم يتأخّر، في إعلان انتصاره على أكبر، وأقوى، حشد عسكري في تاريخ المنطقة العربية، كما تبيَّن من الوثائق العراقية المُصادَرة. فقد أعربَ عن شعوره بأنَّ جيشه “واجه حالة فريدة في التاريخ العالمي”. فسأل قادة جيشه، مُعتزًّا: “أينَ جاءَ في كتب التاريخ، أنَّ قصفًا جوِّيًا تمهيديًّا، استمرَّ لمدة شهر ونصف الشهر، بصورة متواصلة؟ في أيِّ كتابٍ كُتِب؟ هل دُوِّنَ في أيِّ سجلٍّ للحروب؟”.

وتعجَّل الاستدراك: “أقصدُ أنَّ هذا الهجوم من غير الممكن قياسه”.

تابع مفاخِرًا: “يجب أن نقول، بصورةٍ قاطعة، إنَّ العراق هو سيِّدُ العالم، عندما يتعلَّقُ الأمرُ بالإيمان، والصمود، والقدرات العقليَّة، وثبات الأعصاب، والطاقة البشرية على التحمُّل، لأنه لم يسبق أن حدثَ مثل هذا الهجوم في التاريخ” (عن الوثائق العراقية، كما ورد في كتاب الباحث الأميركي كيفين وودز “أم المعارك”، تقرير رسمي لقيادة القوات المشتركة الأميركية، منشورات معهد البحريَّة، 2008).

هذا كلامٌ قاطعٌ، في تعريف صدام حسين للنصر، حيث أعلن “انتصاره” وهو، في الواقع، مُنكَسِرٌ ومَهزومٌ.

إن الناظَرَ المدقِّق في هذا الكلام، يخرجُ باستنتاجٍ وحيد، هو أن المفاهيم الخاطئة التي استخلصها صدام حسين من حرب الكويت (1991)، أدَّت في حرب 2003 إلى الاحتلال الأميركي، فكانت قاتلة له ومُميتة لنظامه.

***

لم يَكُن غرورُ صدّام حسين، أو اعتدادُهُ بنفسه، ومبالغته في تقدير قوة جيشه، السبب في انكساره وهزيمته، إنّما السببُ يكمُنُ في “الالتباس الفكري”، (ربما نتيجةً لضعف ثقافته الأساسية)، حيث ينطلقُ في طَرحِ مفاهيم النقاش طرحًا سليمًا، ليستخلص منه العبرة الخاطئة، أو حتى العبرة المُعاكسة. فقد نقل “معهد الشرق الأوسط للإعلام” في واشنطن قوله لجنرالات جيشه: “السياسةُ علمٌ، وفي كلِّ علمٍ هناك اختبارات، والسياسيُّ الناجحُ هو تلميذٌ أبديٌّ، يستفيد دائمًا من اختباراته الشخصيَّة، واختبارات الناس الآخرين. إننا نؤمن بأهمية الرأي العام وتأثيره، ونتعلّم من تجاربنا. إنَّ ارتكابَ الأخطاء فعلٌ بشريٌّ يُمكِنُ تصحيحه”.

فإذا كانَ صدّام حسين يقصدُ “الرأي العام العربي”، فهو قطعًا وَاهِمٌ. فما يُسمَّى “الشارع العربي” أو “الرأي العام العربي”، هو حتى الآن شيءٌ “وَهْمِيٌّ”، ولا تأثير له في السياسات التي يرسمها الحكَّام من غيرِ أيِّ اعتبارٍ لأحد، وهو أدرى الناس بذلك، لانعدامِ أيِّ اعتراضٍ في بلده، أو حتى في نظامه، وقادة جيشه وبين المقرَّبين منه أيضًا. وهو يُجانِبُ الحقيقة، داخل العراق، أو أيّ بلدٍ عربي آخر، إذا تَوَهَّمَ أنَّ شعارات وقضايا، مثل “القومية العربية”، أو “الإسلام هو الحل”، أو “القضية الفلسطينية”، لها أيُّ تأثير يُذكر في صياغةِ السياسات الفعلية للأنظمة العربية، بل على العكس من ذلك، فإنَّ تلك الأنظمة تَتَّخِذُ كلَّ تدبيرٍ مُتاحٍ لها لإجهاضِ تلك القضايا والشعارات. وهذا أمرٌ يعرفه صدام حسين جيدًا، (كما مرَّ معنا)، عندما قال إنّهُ ليس ضدّ الحلّ السلمي (للقضية الفلسطينية) بالمُطلق، ووصف “منظمة التحرير الفلسطينية” بأنها مثل “الصابونة التي تغسل فيها الأنظمة العربية يديها (من القضيَّة)، “بما فيها نظامنا”،  حتى إذا باتت “بروةً” لا رغوةَ فيها، تُلقى في سلة المُهملات”!

كلُّ ذلك، جعل القوى المُتحالفة ضدَّ صدام حسين، وفي مقدّمهم الأميركيون، تعتقد بأنه “رجلٌ غامضٌ”، حتى لو تفوَّهَ بكلامٍ صحيحٍ، أو معقول. وبالتالي، اعتبرَ الدارسون والمُحَلّلون للوثائق العراقية، أنه يضعُ على وجهه أقنعة مُتعددة، وغير مُتشابهة. فراحوا ينزعون تلك الأقنعة، واحدًا بعد الآخر، ليتمكّنوا من قراءة ما وراءها. ويمكن القول، من خلال ما صدر من كتب، وتحليلات، ودراسات…  أنهم لم ينجحوا تمامًا في تلك المهمّة.

ولذلك، فإنّهُ منَ المُتوقَّع أن يصدرَ في المستقبل، القريب والبعيد، سيلٌ جديد من الكتب، والدراسات، حول صدام حسين “العراقي الغامض”، الذي أخفى ما في عقله وراء أقنعةٍ سميكةٍ استعصى بلوغ كنهها على مَن حاول ذلك.

لكن المُلاحَظ، أنَّ كلَّ كتابٍ صدر، أو دراسةٍ وُضعت، أو تحليلٍ نُشر، قدّمَ جُزءًا من تركيبة ذلك اللغز، وما زال هناك الكثير من الأجزاء غير المُرَكَّبة في مكانها الصحيح لتكتمل الصورة.

***

يقفُ الدارسون للحالةِ العراقية، ونحنُ منهم، حيارى في تفسيرِ انجرارِ صدام حسين الى “الحفرة” التي وَقَعَ فيها…  والمُحَيِّر في الأمر، أنه قبل  ستة أشهرٍ من غزوه الكويت، أي في 24 شباط (فبراير) 1990، أبلغ حلفاءه الملك حسين، والرئيس حسني مبارك، والرئيس علي عبد الله صالح، في “مجلس التعاون العربي” المُنعَقد في عمَّان، بدورته السنوية الثانية بعد تأسيسه، ما لم يكن مطروحًا على بساط البحث في أيِّ محفلٍ عربيٍّ رسمي، وهو أثر وتأثير تفكك الإتحاد السوفياتي وغيابه عن المسرح الدولي، بحيث أصبح العالم “أحاديَّ القطب”، والمجالُ حكرٌ على الولايات المتحدة  وإسرائيل، بكل ما يعنيه ذلك من أطماعٍ في الثروات العربية، والتحكُّم بمسار ومصير الشرق من دون استثناء.

واستفاضَ الرئيس العراقي في شرح رأيه، فاعتبرَ أنّ التوازُنَ الدولي سوف يبقى مُختلًّا لصالحِ الأميركيين والإسرائيليين إلى سنواتٍ عدة مقبلة، حتى يقوم في العالم توازنٌ جديد.

وقالَ مُنَبِّهًا الحلفاء ليسمع كل العرب: “إننا لا نخافُ من هذا الاختلال الدولي، طالما بقينا مُوَحَّدين. إنَّ ضعفنا الظاهري، لا يَكمُنُ في خصائصنا الموروثة، أو خصوصيتنا الفكرية، بل في انعدامِ الثقة بيننا. فليَكُن شعارنا من الآن وصاعدًا: كُلُّنا أقوياء في وحدتنا، وكُلُّنا ضعفاء في تَفرُّقِنا”.

تساءلنا نحن، قبل المُحَلّلين في الغرب: لماذا، إذن، قام قائلُ هذا الكلام باحتلالِ دولةٍ عربيةٍ جارة، بعد أقل من ستة أشهر على تحليله هذا؟

وسبقنا أولئك المحللين الى ما استنتجوه، بعد اطلاعهم على كلِّ ما هو مُتاحٌ لهم من وثائق، ومواد أرشيفية، ودراسات سياسية واستراتيجية، ومذكرات، أنَّ غاية صدام حسين من احتلاله الكويت، لم تَكُن طمعًا “بثروة الكويت النفطية”، كما كانَ شائعًا، إنما هو نتيجة تفسيره للتحوُّل في ميزان القوة الدولي، ومحاولة استباقه بإقامةِ وَضعٍ استراتيجي للعراق أقوى مما خرج به من حرب إيران.

فهو ظنَّ، خطأً، أنَّ مجيء جورج بوش الأب، سنة 1990، إلى المكتب البيضاوي في “البيت الأبيض”، سيكون فاتحةً لفَصلٍ جديدٍ في العلاقة بين بغداد وواشنطن، باعتبار أنَّ الرئيس الأميركي الجديد، رجلٌ عملي براغماتي، ولا يحملُ توجّهات إيديولوجية يمينية شديدة مثل سلفه رونالد ريغان، وبالتالي، فإنه سوف يحترمُ صدارة العراق في الفضاء الخليجي، فاكتشفَ صدام حسين، أن نيَّات الرئيس بوش الأب تجاه العراق، كانت “غير سليمة”، وأنه لن يسمح لأحد، أن يُنازِعَ الولايات المتحدة “الهيمنة” المُطلقة على الخليج.

أَيقَنَ صدام حسين، عندئذ، أنَّ إسرائيل سوف تُحاوِلُ الاستيلاء على كامل فلسطين، في نكبةٍ أفدح من النكبة الأولى (1948)، بالنظر إلى تدفُّقِ المهاجرين اليهود من الاتحاد السوفياتي السابق، مما يؤذن بموجة “استيطان صهيونية جديدة” تبتلع ما تبقّى من فلسطين.

في ذلك الوقت المبكر، استحوذت على الرئيس العراقي، الخشية من قيام إسرائيل بشنِّ حربٍ توسُّعية جديدة، تُطاوِلُ العراق، فحذَّرَ الدولة العبريَّة من مغبّةِ شنِّ عدوانٍ عليه، كما فعلت في العام 1981 بتدميرها “مفاعل تموز” النووي، وهدَّدَ بحرق نصف إسرائيل إذا ما تجرّأت وقامت بمثل هذا العمل العسكري.

لقد دحضت  تلك الدراسات، كل ما شاع، وقتها، عن أنَّ عينَ صدام حسين كانت على الثروة النفطية الكويتية، لمّا أمر بغزو الإمارة الصباحية، وكذلك، تفسير حديثه المُتَشدّد تجاه إسرائيل، بأنه قنبلة دخانية، لكسب الشعبية في العالم العربي، وكغطاءٍ لأطماعه في الكويت والخليج. وأيضًا بالنسبة إلى القائلين بأنه استخدم “الفزَّاعة الصهيونية” ليصرف أنظار العراقيين عن وضعهم الاقتصادي البائس بفعل الحرب الطويلة مع إيران.

أحدُ الباحثين الأميركيين، الذين صرفوا وقتًا في دراسة وتحليل تصوُّر صدام حسين للعالم “الوحيد القطب”، اعتبر أنَّ غزوة الكويت، هي في واقع الأمر، “حربٌ مع إسرائيل، وليست مع جيرانه الخليجيين”، وادَّعى أيضًا أنَّ مخاوف الرئيس العراقي من العدوانية الإسرائيلية كانت مخاوف حقيقية، وغير مُفتَعلة، وأنها جُزءٌ من مخاوفه من التصرّفات الكويتية. (دانيال تشاردل، مجلة “الباحث”، العدد الثالث، المجلد السادس، صيف 2023).

***

سقطت بغداد، توارى صدام حسين، عاد الى منبته “تكريت”، ولجأ إلى “مزرعة الحدوشي” في بلدة “الدور” (لفظة بابلية وآشورية تعني “القلعة”)، وفي منزلِ رجلٍ اصطفاه، ووثق به أقام، وليس في المخبأ تحت الأرض، كما شيَّعَ الأميركيون، للنيل من الرئيس الأسير وتحقيره.

كانَ صدّام حسين يجول، في النهار، مُتَخفّيًا ومحروسًا، في بلدات محافظة صلاح الدين، يتنقل من “بعقوبة”، إلى “سامراء”، و”تكريت”، يجمعُ المقاومين من فلول الجيش، الذي فككه، وسرّحه بغباوة، بول بريمر، الحاكم الإداري للعراق، باعتباره رئيس سلطة التحالف المؤقتة. ويتواصل مع عزّة إبراهيم الدوري، الذي كان شكّلَ فرق مقاومة من أتباع الحركة النقشيندية الصوفية.

كانَ صدام حسين “الهدف رقم 1 الأعلى قيمة”، كما وصفته اللائحة الأميركية للمطلوبين.

“فرقة العمليات المشتركة 121″، قامت بما يزيد على عشرين محاولة للعثور على “الهدف رقم 1″، وبما يزيد عن 600 عملية مُداهَمة في بلدات وقرى العراق، و300 تحقيق مع معتقلين اشتُبِهَ أنهم على درايةٍ بمخبَإِ الرئيس المطلوب.

وكان صدام حسين، بثَّ العيون، ترصدُ تحركات الأميركيين، في القرى والنواجع، المُولَجين بالبحث عنه.

يوم 12/12/2003 وصل صدام حسين، خبر اعتقال العقيد في جهاز الأمن الخاص، محمد ابراهيم عمر المسلط، في منزله ببغداد الذي حوله إلى مركز لمقاومي الاحتلال الاميركي. وتناهى إليه، أيضًا، أنَّ المسلط خلال التحقيق معه، ضَعُفَ، وقد يكون أسرَّ عن مكان وجوده… لكن صدام حسين، كان يثق بالعقيد، ويعرف أنه لن يفشي بسرٍّ ائتمنه عليه، إضافةً إلى أنَّ المسلط من عشيرة “البيكات”، من قبيلة “البوناصر” التي ينتسب صدام حسين إليها.

ليلة الثالث عشر من كانون الاول (ديسمبر) 2003 وصلت صدام حسين إشارة، أنَّ رتلًا من المصفّحات الأميركية يتَّجه إلى “الدور”، فترك صدام حسين البيت إلى “حفرة العنكبوت”، كما كان يُسميها، وفي ظنّه أنَّ المُداهمين سيفتشون المنزل، ثم يغادرون.

دخلت “فرقة العمليات المشتركة 121” بدعمٍ من اللواء القتالي الأول، بقيادة الكولونيل جيمس هيكي، بلدة “الدور”، وتوجّهت مباشرة الى المزرعة، وإلى “حفرة العنكبوت” كما قال لهم الواشون، الذين سمّاهم صدام حسين في حديثٍ مع المحامي خليل الدليمي، (تولى الدفاع عن صدام حسين ما بين 2005- 2006)، وهم قيس النامق وإخوانه، واللواء كمال الدوري.

أُخرِجَ صدام حسين من “حفرة العنكبوت”، أعلن عن نفسه للجنود الأميركيين الذين اعتقلوه أنه “رئيس الجمهورية العراقية”، مُضفِيًا على نفسه شرعيةً كاملة، مُقابل احتلال غير شرعي، متوقِّعًا أن يتفاوضوا معه على حلٍّ يقيهم غضب الشعب العراقي، ويقي العراق من دمارٍ محتوم في حال أصرُّوا على الاحتلال، وهذا ما جعلهم يعتبرونه “أسير حرب” تسري عليه القوانين الدولية المتعلقة بأسرى الحرب. ولذلك اعترض الحقوقيون على حكم الإعدام بحقه، لأنه مخالف للقانون الدولي الذي يحظّرُ إعدام “أسرى الحرب”.

وصار ما صار مما بات معروفًا…

كثيرون لاموه أنه “لم ينتحر” لحظة مجيئهم للقبض عليه ليتجنَّب “عار الهزيمة” و”المصير التعس” الذي كان ينتظره. لكن صدام حسين، لم يعتبر نفسه مهزومًا، فهو كان عَزَمَ على المقاومة حتى الرمق الأخير، أو حتى يخرج المحتلّون لبلاده خائبين.

أما “الانتحار”، فإنه في نظر عارفيه، لا يُمكِنُ أن يكونَ قد مرَّ في ذهنه لحظة واحدة، ولو كخاطرةٍ عابرة، لأنه لن يُسَجِّلَ على نفسه في سجلّات التاريخ، أنه “جبانٌ”، أو مستسلمٌ للأقدار أو للصعاب، أو حتى للحياة، فحياته الحقيقية هي في ساحات الوغى، ثم إنَّ “الانتحار” من الآثام في الإسلام، وهو المؤمن، المُتَعَبِّد، الذي أطلق الحملة الإيمانية، (كما مرَّ).

لم يَعِش صدّام حسين ليرى هذا السَيلَ العارم من الورق والحبر، الذي لمَّا يَزَل دافقًا. ولم يقرأ ما يُكتَبُ بكلِّ لغات الأرض عنه، وعن حكمه، ومآثره … وسيظل يُكتَب إلى أمدٍ طويلٍ في المستقبل، المنظور منه وغير المنظور…  فكيف، بعد ذلك كله، تنطبق عليه مواصفات “الهزيمة”، مع أنه هُزِمَ في النهاية، بعدما تجمّعت عليه جيوش العالم القريب والبعيد.

إنه المهزوم غير … المهزوم!

(تصدر هذه الحلقات قريباً في كتاب منقح ومزيد)

Post Comment