مقدمة كتاب المنظمة تحت المجهر لسليمان الفرزلي
كتبت هذا التقديم لكتاب الصحافية والباحثة البريطانية هيلينا كوبان، حول منظمة التحرير الفلسطينية،
تحت عنوان “المنظمة تحت المجهر”، الذي قمت بنقله الى العربية بتكليف من الزميل القديم فؤاد
مطر، لحساب دار “هايلايت” للنشر التي كان أسسها في لندن في مطلع ثمانينات القرن الماضي. وقد
كتبت تقديمي لذلك الكتاب القيِّم بتاريخ 7 نيسان (أبريل) من عام 1984، وهنا نصُّه الكامل:
الخصوصية الفلسطينية والشمولية العربية
بقلم سليمان الفرزلي
عندما طلب اليَّ الزميل العزيز فؤاد مطر، صاحب مجلة “التضامن” الغرَّاء، أن أستعرض هذا الكتاب
وأقدم له في مطلع هذه السنة، تردَّدت في البداية لانشغالي بكتابات أخرى ضاق عليها الوقت. لكن معزَّة
“التضامن” والزميل مطركبيرة، فأخذت الكتاب واشتغلت عليه من غير أن أعرف في البداية أن مؤلفته
عملت في الصحافة في بيروت، فكتبت لجريدة “دايلي ستار” البيروتية، وراسلت كبريات الصحف
العالمية مثل “صنداي تايمز”، و”كريستشين ساينس مونيتور”، فكان ذلك سبباً إضافياً لإقبالي على هذه
المهمة بحماس.
وإذا كان لي أن أبدأ بانطباع عام، فإنني أقول إن الإنصاف الموضوعي الذي ينضح به الكتاب للقضية
الفلسطينية، ربما لمعاصرة المؤلفة للحركة الفلسطينية في لبنان عن كثب، يكاد يكون من خلال التوثيق
الزمني (الكرونولوجي) الدقيق لمراحل ومحطات النضال الفلسطيني، إنصافاً كاملاً، لولا موازنة غير
متكافئة بين التضحيات الهائلة على مرِّ السنين، وضآلة النتائج النهائية لسنة خلت. ولهذا في تقديري سببٌ
رئيسيٌّ، هو التناقض القسري بين جوهر القضية البعيدة المدى عموماً، وإلحاح الحركة الفلسطينية على
هدف قريب المدى، وقد لامسته الكاتبة في أماكن كثيرة من أطروحتها، لكن من منظار فلسطيني اختلطت
فيه الرؤية بين “الخصوصية الفلسطينية” وبين “عموميَّة” المشكلة.
ولعل في هذا ما يفتح المجال لمزيد من البحث والتدقيق في المسائل الإيديولوجية، التي تناولتها الكاتبة
بقدر غير كافٍ، في رأيي، لئلا يتحوَّل الإنصاف الموضوعي للحركة الفلسطينية من إدانة، بالضرورة،
للاغتصاب الصهيوني، الى إدانة استنتاجية للأفكار والعقائد الشمولية العربية، وعلى الأخص لفكرة
القومية العربية.
وبصرف النظر عن الإطلالة الإيديولوجية الأولى للكاتبة على الحركة الفلسطينية المعاصرة، من خلال
التناقض بين القائلين بفلسطين أولاً، وبين القائلين بالوحدة العربية أولاً، فإن السياق العام لخوض الكاتبة
في التأريخ والتوثيق لهذا التناقض، ينقل فكرة “الخصوصية الفلسطينية” الى حيِّز التجريبية الذي لم يسفر
في النتيجة، عدا عن التضحيات اللبنانية والعربية والفلسطينية الكبيرة، سوى عن تأكيد ما سمَّته الكاتبة في
خلاصة كتابها “الهويَّة الفلسطينية”، أي محاولة مقارعة الصهيونية بسلاحها، وهو ما حاولت السيدة
كوبان إظهاره بصورة غير مباشرة.
لكن هذه التجريبية الفلسطينية المأخوذة على محمل الخصوصية، كما هو واضح من الكتاب في معظم
فصوله، نقلت الهدف الفلسطيني من مدار الى أكثر من مدار.
وإذا شئنا أن نطابق هذه المدارات، بين فصل وآخر من الكتاب، على سبيل المثل، لوجدنا أن مسلسل
التنازل في الهدف الفلسطيني ترافق مع مسلسل آخر في العمل السياسي والعلاقات الدولية. فمن هدف
التحرير الكامل لفلسطين، الى هدف “الدولة الديموقراطية العلمانية في كامل فلسطين التاريخية”، الى
“السلطة الوطنية على أي أرض فلسطينية يزول عنها الاحتلال”، الى “الدولة الفلسطينية المستقلة” في
الضفة الغربية وغزة. وفي المقابل، هناك انتقال موازٍ في العلاقات الدولية من الصين الشعبية الى الاتحاد
السوفياتي، فإلى أوروبا الغربية، الى الأمم المتحدة، وأخيراً الى الولايات المتحدة الأميركية التي لم يستطع
الفلسطينيون اختراقها، فوصفتها الكاتبة في فصلها الأخير بأنها “عقبة كأداء لا تتزحزح”!
هنا تصل الحركة الفلسطينية الى المأزق، وخاصة بعد الخروج الفلسطيني من لبنان.
فكيف الخروج من المأزق الراهن؟
هل يكون باسترضاء الولايات المتحدة لزحزحتها بالمزيد من التنازل عن الهدف الفلسطيني، أي بالتنازل
عن وحدانية تمثيل منظمة التحرير للشعب الفلسطينيين والدخول في ثنائية فلسطينية – أردنية كما تريد
واشنطن؟
هل يكون بمجافاة الولايات المتحدة لزحزحتها بالمقارعة ضد مصالحها في المنطقة، أي بإعادة الاعتبار
للنضال القومي ضد الاستعمار، على أساس أن أميركا هي الأصل، وإسرائيل هي الفرع؟
هذان الخياران يبدوان غير ممكنين في الظروف الراهنة لأنهما بطبيعتهما يلغيان مبررات وجود الحركة
الفلسطينية في شكلها المعروف منذ أواسط الستينيات، وفي شكلها المعترف به عربياً ودولياً منذ أواسط
السبعينيات، وعلى وجه التحديد منذ إقرار قمتي الجزائر والرباط في 1972 و1974 بأن منظمة التحرير
هي الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني.
الكاتبة هيلينا كوبان ترى في نهاية كتابها مخرجاً ثالثاً هو العمل الفلسطيني من داخل الأرض المحتلة، أي
من داخل فلسطين التاريخية، كما عُرفت حدودها منذ الانتداب البريطاني في العشرينات، لتغيير إسرائيل
من الداخل بالعمل العسكري والعمل السياسي معاً، من أجل إحياء هدف “الدولة الديموقراطية العلمانية في
فلسطين كلها”، لأن هدف إقامة دولتين، واحدة اسمها “إسرائيل”، وأخرى اسمها “فلسطين”، بات متعذراً.
وهذا يقتضي التسليم بأن مركز الثقل في الحركة الفلسطينية قد انتقل من الخارج الى الداخل، بحيث تتحوَّل
الحركة الفلسطينية في الخارج الى مساند وداعم للحركة الفلسطينية في الداخل.
هذا الانتقال من فكرة “الدولتين” الى فكرة “الجناحين”، هو الشيء الذي تراه الكاتبة كوبان منطقياَ
وممكناً، مع تحفُّظٍ واحد هو ردُّ الفعل الإسرائيلي بالإقدام على عمليات إبعاد وتهجير واسعة النطاق
للفلسطينيين من الداخل الى الخارج، وخصوصاً بعد عودة الدولة الإسرائيلية الى الاهتمام بنظرية مناحيم
ملسون التي تلفت الانتباه الى خطورة تكاثر الفلسطينيين في إسرائيل، ولا سيما في الجليل!
أذكر أنني في صيف 1982، أثناء الغزو الإسرائيلي للبنان، دخلت في مناقشة حول هذا الموضوع
بالذات مع المرحوم الدكتور عصام السرطاوي، الذي قال إنه بإمكان الفلسطينيين تحقيق هدفهم على
المدى الطويل من خلال التحكم باللعبة السياسية داخل إسرائيل عن طريق العملية الانتخابية كمواطنين
إسرائيليين. والهدف المقصود هنا، هو الهدف ذاته الذي خلصت اليه مؤلفة الكتاب، أي “الدولة
الديموقراطية العلمانية”.
وأذكر أيضاً أنني قلت للسرطاوي إن مناحيم بيغن، في أول زيارة له الى بريطانيا، بعد تسلمه الحكم في
إسرائيل، حيث تعالت أصوات بريطانية تدعو الى القبض عليه لقيامه بعمليات إرهابية ضد القوات
البريطانية في فلسطين أيام الانتداب، ردَّ على سؤال في التلفزيون البريطاني عن رأيه في دعوة ياسر
عرفات الى دولة ديموقراطية علمانية في فلسطين، يعيش فيها اليهود والمسلمون والمسيحيون على قدم
المساواة، بقوله: “إن إسرائيل هي هذه الدولة لأنها تتسع لليهود والمسلمين والمسيحيين… وللملحدين أيضاً
إشارةً، الى أن الدولة التي يدعو اليها عرفات لا تتسع لهؤلاء، أو على الأقل لا يستطيع أن ينادي بالاتساع
لهم علناً، ليؤكد على طريقته، أن إسرائيل هي الحلُّ الأخير بما هي عليه الآن. ومع ذلك، أصرَّ السرطاوي
على إمكانية التغيير من خلال التحالفات الداخلية في إسرائيل.
لكن الخلوص الى هذه النتيجة، سواء في كتاب كوبان، أو في الفكر الفلسطيني السائد، لا يحل التناقض بين
الخصوصية الفلسطينية والشمولية العربية، وهو تناقضٌ امتد الى الأرض المحتلة عام 1948، بطبيعة
الحال، كما هو واضحٌ من عرض الكاتبة لحركة “الأرض”، ثم لحركة “أبناء البلد”، تجسيداً لوعي هؤلاء
الفلسطينيين، الذين تطلق عليهم الكاتبة اسم “عرب إسرائيل”، بهويتهم الفلسطينية كنتيجة لاتساع حركة
المقاومة الفلسطينية في الخارج من جهة، وللدور الحاسم الذي لعبه الحزب الشيوعي الإسرائيلي (راكاح)
من جهة ثانية، قبل وبعد انفضاض “الجبهة الوطنية، التي وجد العمل الفلسطيني طريقه من خلالها لإثبات
وجوده داخل إسرائيل.
من حسن الحظ، أن مؤلفة الكتاب عادت بالتفصيل الى بدايات حركة “فتح” من خلال مجلة “فلسطيننا”،
الصادرة في بيروت في نهاية الخمسينات، أي قبل عشر سنوات تماماً على إعلان الحركة عن نفسها
بتعيين ياسر عرفات ناطقاً رسمياً باسمها. في تلك المرحلة، كنت لا أزال طالباً في الجامعة الأميركية في
بيروت، وقد التقيت، مع الصديق منح بيك الصلح حينئذ، بعض مؤسسي تلك المجلة ممن لمعت أسماؤهم
في الحركة الفلسطينية فيما بعد. وفي ذلك الوقت، كانت حركة القومية العربية، ممثلة بالبعثيين،
والناصريين، و”حركة القوميين العرب”، في عزِّ تألُّقها. وكان واضحاً أن مؤسسي “فلسطيننا”، الذين هم
مؤسسو “فتح”، يحملون نبرةً مختلفةً، أو لهجةً، وربما لغةً أخرى.
قلت إنه من حسن الحظ، أن الكاتبة فتحت ملفَّ “فلسطيننا”، لأن تلك المرحلة، في اعتقادي، طُمست الى
حدٍّ بعيد، من حيث مدلولاتها الإيديولوجية. وكذلك الأمر بالنسبة لنشرة “ثأر”، التي كان يُصدرها
الفلسطينيون في “حركة القوميين العرب” في الجامعة الأميركية تحت شعار “دم، حديد، نار”. وإذا شئنا
أن نبحث عن سبب أساسي لطمس تلك البدايات، فإننا لا نجد سوى تغيُّر المدار الفلسطيني، خصوصاً بعد
حرب حزيران (يونيو) 1967، كما تؤكد ذلك مؤلفةُ الكتاب.
سواء كان الأمر يتعلَّقُ بتعاظم موجة القومية العربية، في ذلك الوقت، أو بالنزعة التكتيكية الواضحة في
العمل الفلسطيني، فإن الفكر الأول في الحركة الفلسطينية، لم يكنْ مناقضاً تماماً للفكر القومي، بل إن عدداً
غير قليل من مؤسسي “فتح”، نشأ بين الحركات والأحزاب القومية. كما أن “حركة القومية العربية”، لم
تكن متجاهلة للخصوصية الفلسطينية، أو غافلة عن أهميتها في العمل القومي. ففي تقديري، أن المنادين
بالوحدة العربية، والمنادين بفلسطين أولاً، لم يكونوا على تناقض نهائي، من حيث الهدف، بقدر ما كانوا
على اختلاف في الاجتهاد حول السلوك السياسي والعسكري. ذلك أن الحركة الفلسطينية، منذ البداية،
ومن خلال ما عبَّرت عنه “فلسطيننا”، اعترفت بأن الفلسطينيين لا يستطيعون بلوغ هدفهم وحدهم، وأن
الهدف المباشر للكفاح الفلسطيني المسلح، هو إقحام الجيوش العربية في الحرب ضد إسرائيل بصورة
فعَّالة، لأنَّ الجيوش العربية وحدها قادرة على منازلة إسرائيل، والحركة الفلسطينية هي طليعة محركة
للصراع.
لكن الكاتبة تقول، على لسان قادة الفلسطينيين، إنهم ما لبثوا أن أدركوا خطأ هذا التصوُّر، بعد هزيمة
الجيوش العربية في حرب 1967، فتراجعوا عنه، مؤثرين العمل السياسي والديبلوماسي لنيل هدفٍ أدنى
من تحرير فلسطين تحريراً كاملاً!
بل إن هزيمة 1967، كانت تمثِّل افتراقاً عن التصوُّر القومي الكامن في الحركة الفلسطينية في بداياتها.
والكتاب يلحظُ ذلك في أكثر من فصل من فصوله. فقد كان التصوُّر الأساسي للحركة الفلسطينية، ممارسة
العمل العسكري ضد إسرائيل، مع إقامة “شبكة” من الدعم الشعبي العربي، في جميع البلدان العربية. لكن
هذا لم يتحقَّق لأن طفرة الإقبال على العمل الفدائي، بعد هزيمة 1967، حالت من دون التنظيم السياسي
المتقن على الصعيد العربي، كما تقول المؤلفة.
إلاَّ أن المرحلة السابقة لحرب 1967، لا تجد في الكتاب تفسيراً للعداء الذي استحكم بين عبد الناصر،
وبين “العاصفة”، قبل الإعلان عن حركة “فتح” صراحةً، الى درجة أن وسائل الإعلام الناصرية اتهمت
القائمين بالعمليات الفدائية ضد إسرائيل، بأنهم عملاء “حلف السنتو” (منظمة المعاهدة المركزية).
إذ إنه من غير المعقول أن تكون هذه الحركة قد وضعت نفسها في وضع الأداة، التي يطمح اليها خصوم
عبد الناصر لتحطيمه، ولا من المعقول أن يكونَ الأمرُ مجرَّدَ سباق على الزعامة الفلسطينية، بعدما أقام
مؤتمر القمة العربي الأول، الذي دعا اليه عبد الناصر في 1964، “منظمة التحرير الفلسطينية” برئاسة
أحمد الشقيري.
الأقرب الى المعقول، هو أن السباق في تلك المرحلة، كان على الأولويات، لأن مؤتمر القمة العربي
الأول، شكَّلَ مفترقاً أساسياً في العمل العربي. ذاك المؤتمر الذي وُلدت فيه “منظمة التحرير الفلسطينية”،
ربما أثَّر تأثيراً سلبياً على الحركة الفلسطينية السريَّة، التي عُرفت باسم “العاصفة”، ثم “فتح”، والتي
برزت ملامحها النظرية في مجلة “فلسطيننا”، قبل خمس سنوات من ذلك، باستعجال ظهورها الى العلن
قبل استكمال أدواتها النظرية والسياسية والعسكرية.
هذا الاستعجال، هو الذي أعطى الانطباع الخاطئ بأنَّ الهمَّ الأول لتلك الحركة، هو توريط عبد الناصر
والدول العربية في حربٍ مع إسرائيل قبل الأوان. لكن من الفلسطينيين من يقول إن استعجال الحركة
الفلسطينية مردُّهُ الى تباطؤ الدول العربية في مواجهة إسرائيل، وخاصةً بعدما أبلغ عبد الناصر أهالي
غزة أنه ليست لديه خطَّة لتحرير فلسطين. على أن هذا لا يشكِّلُ دليلاً قاطعاً، لأن عبد الناصر لم يكن
مضطراً الى البوح بخطَّته، إذا كانت لديه مثل هذه الخطَّة!
الواقع أن مؤتمر القمة العربي الأول، ينبىءُ بتصوُّرٍ ما، إن لم يكن ينبىءُ بخطة كاملة. فقد حقَّقَ هذا
المؤتمر إنجازات مهمَّة ليس أقلُّها تأسيس منظمة التحرير الفلسطينية. فالقيادة العربية الموحَّدة، التي
أنشئت أيضاً، بقيادة الفريق علي علي عامر، بدعوى حماية المشاريع العربية لتحويل روافد نهر الأردن،
ردَّاً على المشروع الإسرائيلي بتحويل مياه نهر الأردن، باشرت فعلاً بإقامة شبكة دفاعية عسكرية
عربية، للردِّ على أي عدوان إسرائيلي.
هذا المفترق الذي لم تتناوله مؤلفة الكتاب إلاَّ عَرَضاً، قد يكون هو المفترق الحاسم الذي أدَّى، في النهاية،
الى انهيار التصوُّر العربي العام، من خلال القيادة الموحدة وأولويات عبد الناصر، والى انهيار التصوُّر
الفلسطيني الأصلي، من خلال استعجال العمل الفدائي، بفعل التناقض الزمني بين الحركتين. فعندما أثارت
جريدة “الأحرار” البيروتية في 1965، وكان يرأس تحريرها الأستاذ جان عبيد، الذي يعمل الآن
مستشاراً لدى الرئيس أمين الجميل لشؤون العلاقات مع سوريا، قضية مقتل الفدائي جلال كعوش،
المنتمي الى “فتح”، تكشَّف من خلال تلك القضية أن الدول العربية الحدودية مع إسرائيل، كانت مهتمة
غاية الاهتمام بمنع التسلل عبر الحدود بأمرٍ من القيادة العربية الموحدة، لأن تلك القيادة لم تكن راغبة في
الدخول بمواجهة عسكرية مع إسرائيل نتيجة لعمليات التسلل غير المسموح بها رسمياً، قبل استكمال
استعداداتها الدفاعية.
إن العمل العربي المشترك، من خلال القيادة العربية الموحَّدة، ومن خلال منظمة التحرير الفلسطينية، كان
في الواقع يتَّجه نحو ملامح خطة للمواجهة العسكرية على مدى أطول مما كانت تبتغي القيادات الفلسطينية
الجديدة. ويبدو أنَّ ملامح تلك الخطة تقوم على الموقف الهجومي سياسياً تجاه الولايات المتحدة الأميركية،
وعلى الموقف الدفاعي العسكري تجاه إسرائيل. لكن ذلك لم يكن مفهوماً في حينه، بل فُهمَ على أنه تأجيل
جديد للمعركة مع إسرائيل، فبدا العمل الفدائي الفلسطيني، وكأنه بالفعل خطة مضادَّة لإجهاض هذا
التأجيل باستعجال المعركة.
من الأدلة على هذا التطور، وهو ما أغفلت الكاتبة ذكره، أن الولايات المتحدة في تلك المرحلة بالذات،
بدأت لأول مرة بالتسليح المباشر لإسرائيل، عن طريق ألمانيا الغربية، مما حمل الدول العربية في عام
1965 على قطع علاقاتها مع بون.
لكن المصالحة التي تمَّت بين العمل الفدائي، وبين الأنظمة العربية بعد هزيمة حزيران (يونيو) 1967،
والتي أدَّت الى تسليم منظمة التحرير الى التنظيمات الفدائية، بقدر ما كانت تُمثِّلُ تراجعاً من الطرفين عن
سياساتهما السابقة، سياسة التأجيل من جانب الأنظمة، وسياسة التعجيل من قبل العمل الفدائي، مثَّلت في
الوقت ذاته، مظهراً من مظاهر المنافسة الفلسطينية على المنظمة. وقد قلنا سابقاً، إنه من غير المعقول أن
يكون السباق على المنظمة هدفاً أساسياً للحركة الفدائية الفلسطينية من البداية، ولو أنَّ وصول الحركة الى
المنظمة، قد تم فعلاً ليعطي مثل هذا الانطباع. فهو نتيجة جانبية للتطورات، أكثر مما هو سبب لها، على
الرغم من صعوبة التفريق بين الأسباب والنتائج، في تلك المرحلة المزدحمة بالتناقضات السياسية
والفكرية.
الملفت للنظر، على صعيد التوجُّه الدولي، أن الحركة الفدائية ومنظمة التحرير، كلتيهما، اتجهتا نحو
الصين الشعبية في البداية. فالحركة الفدائية ذهبت الى بكين أولاً، عن طريق الجزائر، ثم ذهب الشقيري
الى هناك على رأس وفد فلسطيني رسمي، وهو ما وثَّقته الكاتبة جيداً في كتابها.
أذكر أنه عندما عاد الشقيري من الصين، وكنت في حينه أعمل في جريدة “الأنوار” البيروتية، أننا نشرنا
في “الأنوار” جانباً من محادثات الوفد الفلسطيني مع الصينيين، حصلنا عليه من أحد أعضاء وفد
الشقيري، تحت عنوان رئيسي في الصفحة الأولى: “ماذا قال ماو تسي تونغ للفلسطينيين”. وقد كان من
الطبيعي، في ذلك الوقت، أن يتَّجه الفلسطينيون الى الصين، باعتبارها الجهة الدولية الوحيدة، في حينه،
التي كانت تأخذُ من المسألة الفلسطينية، والصراع العربي – الإسرائيلي، موقفاً أكثر جذريَّةً من غيرها،
وأقرب بالتالي، الى المنطلق الأساسي للحركة الفلسطينية الداعية الى تحرير فلسطين.
لكن هذا أيضاً، ظهر على أنه من قبيل المنافسة الفلسطينية على زعامة العمل الفلسطيني. وما ساعد على
إظهاره بهذا المظهر، فيما بعد، تغيُّر طبيعة علاقات الصين الدولية، بعد انتهاء “الثورة الثقافية”، والذي
توافق مع تغيُّر في طبيعة علاقات منظمة التحرير، بعد استيلاء الحركة الفدائية عليها. كذلك، لا يمكن أن
نُسقط من الحساب، عنصر المنافسة الفلسطينية، الذي اتخذ في أحيان كثيرة، شكلَ المزايدة.
كذلك، تُذكر المزايدة الفدائية على القمة العربية الأولى، وعلى منظمة التحرير، من الأسباب الرئيسية
لهزيمة حزيران (يونيو) 1967، وتُذكر أيضاً المزايدة الثورية، داخل الحركة الفدائية عام 1970، على
أنها من الأسباب الرئيسية للصراع الأردني – الفلسطيني، الذي انتهى بخروج الفدائيين من الأردن. وقد
ركَّزت الكاتبة على الشق الثاني من الموضوع، ووثَّقته جيداً، في سياق استعراضها للجبهة الشعبية
لتحرير فلسطين، ربما لحصر الموضوع في الإطار الفلسطيني، وربما لأنها عاصرت تلك الحقبة أكثر
مما عاصرت الحقبة السابقة.
في موضوع الجبهة الشعبية، يتراءى لي أن الكاتبة أخفت شيئاً من الانحياز المسبق، بوضع الجبهة، نسبة
الى أصولها في “حركة القوميين العرب”، على هامش التيار العام للحركة الفلسطينية. فحركة القوميين
العرب، بشكل عام، والدكتور جورج حبش بشكل خاص، لم يدخلا في السباق لاقتطاع نصيب في الحركة
الفلسطينية، بل كانا فيها من البداية، على الرغم من تغيُّر لبوس هذا الفصيل، من حركة قومية، الى حركة
يسارية ماركسية، الى حركة فلسطينية ضمن التوجُّه الفلسطيني الوطني القطري، سواء بوجهها المتطرف
المزايد، أو بوجهها المعتدل المساوم. فقد كان الهمُّ الفلسطيني، هو أساس شرعية “حركة القوميين
العرب”، ومن ثمَّ “الجبهة الشعبية”.
لكن الحركة، ومن ثمَّ الجبهة، كانتا دائماً مسبوقتين قبل أي سباق. “حركة القوميين العرب” كانت، في
العمل القومي، مسبوقةً من “حزب البعث”، وفي العمل اليساري الماركسي، كانت مسبوقةً من شتى
أشكال الحركات الشيوعية، وفي العمل الفدائي الفلسطيني، كانت مسبوقةً من “فتح”. ولهذا، كانت “الجبهة
الشعبية” تبدو دائماً وكأنها فاقدة لمبرر وجودها، مع أنها لم تكن يوماً خارج التيار العام للحركة الوطنية
الفلسطينية، حتى من قبل ظهورها كقطب آخر، موازٍ لحركة “فتح” في العمل الفلسطيني.
على أنَّ عدم ارتقاء القوميين العرب السابقين الى المرتبة الأولى، سواء في العمل القومي، أو في العمل
اليساري، أو في العمل الفلسطيني، لا ينتقص من أساس شرعيتهم الأصلية في العمل الفلسطيني أولاً.
المرة الوحيدة التي حاولت فيها السيدة كوبان وضع “حركة القوميين العرب” في المرتبة الأولى، هي
ذكرها للمرحلة التي قادت فيها الحركة جمعية “العروة الوثقى” في الجامعة الأميركية، يوم قادت تلك
الجمعية مظاهرات بيروت ضد حلف بغداد في عام 1955، مما أدَّى الى طرد عدد كبير من طلاب
الجامعة، كنت أنا شخصياً واحداً منهم، لكن الظروف شاءت أن أكون أحد القلائل الذين لم يلبوا دعوة
الرئيس جمال عبد الناصر للالتحاق بجامعة القاهرة، مؤثراً العودة الى الجامعة الأميركية بعد سنتين، ولم
أكن في عداد “حركة القوميين العرب”.
هذه الواقعة التي ركَّزت عليها مؤلفة الكتاب، على الرغم من أهميتها، لا تشكل مركزاً قيادياً أو طليعياً
لحركة القوميين العرب خارج الحرم الجامعي، أو حتى في داخله، لأنَّ المزاج الشعبي العربي العام كان
في هذا الاتجاه، سواء في لبنان، أو في سوريا، أو في العراق، أو في مصر، أو حتى في المملكة العربية
السعودية والأردن. لكن طبيعة الحياة السياسية في لبنان، وطبيعة الشارع البيروتي على الخصوص، من
شأنها أن تُعطي لأي حركة عاملة، وزناً أكبر من وزنها الحقيقي في بقية الأقطار العربية. فلبنان، كان
بطبيعته، مركز الاستقواء على بقية العرب، وعلى إسرائيل أيضاً، وربما على الدول الكبرى. وقد يكون
هذا من أهم أسباب تدميره، لتدمير هذه الخاصية فيه.
يصحُّ هذا على “فتح”، كما يصحُّ على “حركة القوميين العرب”، والجبهة الشعبية، منذ تأسيس مجلة
“فلسطيننا” أواخر الخمسينات، الى معركة بيروت في عام 1982. ولعل خسارة الفلسطينيين للبنان،
ولبيروت بالذات، لا يمكن تعويضها حتى بإقامة دولة فلسطينية مستقلة في الضفة الغربية أو في الأردن.
وحتى في صعود العلاقة الفلسطينية المميزة مع سوريا وهبوطها، في التلاقي أو في التناقض، كان لبنان
هو الذي يعطي الحركة الفلسطينية عنصر التكافؤ في هذه العلاقة.
فالصورة العربية والعالمية، لحركة “فتح”، والحركة الفلسطينية، هي صورة “فتح اللبنانية. إذ على
الساحة اللبنانية، من دون غيرها، تعملقت الحركة الفلسطينية، وتحجَّمت إسرائيل، مع أن العمليات الفدائية
التي شُنَّت من خارج لبنان، كانت أشدَّ ضرراً بإسرائيل ماديَّاً، من العمل العسكري المنطلق من الأراضي
اللبنانية. ومع أن مرحلة الوجود الفلسطيني في لبنان، تحتاج الى أكثر من كتاب بحد ذاتها، فهذا لا يُعفي
أي كاتب في الموضوع الفلسطيني، بمن فيهم مؤلفة هذا الكتاب، من التعمُّق بفشل الحركة الفلسطينية في
فهم الحقيقة اللبنانية، بدلاً من تبرير هذا الفشل.
لا يكفي أنْ يُقال إنَّ الحركة الفلسطينية لم تكن راغبة في المشاركة بالحرب اللبنانية، من ضمن توجُّهها
العام بعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول العربية، إنما اضطرت الى ذلك اضطراراً، أو دُفعت اليه
دفعاً. ذلك أن شكل الوجود الفلسطيني في لبنان، كان من الأسباب الرئيسية للحرب، سواء شاركت الحركة
الفلسطينية فيها أم لم تُشارك. فالموضوع الأساسي ليس في نقطة المشاركة التي ركَّزت عليها السيدة
كوبان أكثر مما يجب.
لكن الكتاب في مجمله، جدير بالقراءة والتمعُّن، لأنه بالفعل محاولة جديَّة لاستيعاب المشكلة الفلسطينية
بظروفها الصعبة، وتشعُّباتها المتداخلة، وخاصَّةً أنه يؤرخ لها حتى وقت متأخر جداً، يمتد الى ما بعد
الخروج الفلسطيني من بيروت. وربما كان موضوع العلاقات الفلسطينية – الأميركية، هو الأكثر عمقاً
في تحليل العلاقات الدولية للحركة الفلسطينية، لا سيما أنَّ السياسة التي رسمها هنري كيسنجر، هي التي
لا تزال سارية على الرغم من تغيُّر الإدارات الأميركية ومعالجتها للموضوع. فهي ترتكز على الحلول
الجزئية المنفردة، إذا كان لا بدَّ من الحلول، وعلى عدم التعاطي مع العرب ككتلة واحدة، بل مع كل دولة
على حدة.
مما لا شك فيه أيضاً، أن الكتاب يُعطي صورة واضحة عن العمل الفلسطيني المجهول، داخل الأرض
المحتلة، في مرحلته الأولى بعد حرب 1948، وفي مرحلته الثانية بعد حرب 1967. وقد كانت السيدة
كوبان نافذة، وشفَّافة جداً، في استقرائها لانتقال مركز الثقل في العمل الفلسطيني بعد لبنان الى الأرض
المحتلة.
فماذا كان يمكن أن تكون عليه الصورة الفلسطينية، والعربية، والعالمية، لو أنَّ هذا التطور كان البداية، لا
النهاية؟
حتى هذا السؤال، يبقى في إطار التجريبية!
Post Comment