قراءة نقدية في مذكرات محمد فايق مهندس الاعلام الناصري

أمانة في السرد و اجتناب للنقد

(1)

29/1/2024

لفتني الأستاذ سليمان بختي، مدير دار “نلسن” للنشر، عندما زرته في بيروت أوائل الخريف الفائت الى كتاب مذكرات محمد فايق، وزير الإرشاد القومي (الإعلام) في عهد الرئيس جمال عبد الناصر بعنوان “مسيرة تحرُّر”، فأخذت نسخة منه قرأتها تالياً في لندن. قرأتها، بل استمتعت بقراءتها، وإن لم أجد فيها جديداً غير معروف. ذلك أن كتب المذكرات والسير الذاتية للعاملين في أي شأن عام، وليس فقط في الشأن السياسي، تكتسب أهميَّة خاصَّة عندما تأخذ منحى نقدياً من خلال التجربة، لأنَّ اجتناب المنحى النقدي يعطي انطباعاً بأن كلَّ ما حدث لا غبار عليه، ولا شائبة تشوبه، على الرغم من النتائج الكارثية البينة غير الخافية على أحد.

أنا شخصياً لم أتعرف على محمد فايق، لكنني عرفته من بعض الزملاء المصريين الذين تعاطيت معهم في بيروت وفي لندن، أمثال أحمد بهاء الدين، ورجاء النقاش، وصلاح عيسى، وفيليب جلاَّب، ومحمود السعدني، وعبد المجيد فريد، وأحمد عبد المعطي حجازي، وأحمد حمروش، وغيرهم. عرفته من غير أن أتعرف عليه، ولذلك حرصت على قراءة مذكرات محمد فايق وعلى أن أكتب عنها لأنها تغطي أهم مرحلة في التاريخ العربي الحديث، خصوصاً من أواسط القرن العشرين الى اليوم الذي نحن فيه ونعيش في إطار ذيوله وتداعياته.

من الواضح في الكتاب أن محمد فايق نجح نجاحاً باهراً في المهمة التي أوكلت اليه لتنسيق الدعم المصري لحركات التحرر الإفريقية، من الجزائر الى جنوب إفريقيا. ومن حقه أن يعتزَّ بتلك المهمة، التي تعاطى فيها مع أكبر الزعماء الأفارقة الذين قادوا بلدانهم الى الاستقلال الوطني والتخلص من الاستعمار الأجنبي. والواقع أن المهمة الإفريقية التي قام بها محمد فايق بتكليف من عبد الناصر، جعلت من مصر قطب الرحى في القارة الإفريقية، وتوافد اليها جميع زعماء الحركات الوطنية الإفريقية طلباً للمشورة والدعم.

نجاح محمد فايق في مهمته الإفريقية، من خلال حماسه للعمل الوطني الدؤوب، وقدرته على التواصل وبناء أسس الثقة مع الآخرين، هو الذي جعل الرئيس جمال عبد الناصر يُسند اليه وزارة الإرشاد القومي بهدف تنشيط وتحديث الوسائل الإعلامية الشعبية للدولة المصرية وأهمها في ذلك الوقت الإذاعة والتلفزيون. وفي كتاب مذكراته يشرح محمد فايق بالتفصيل خطته لإعادة هندسة المسار الإعلامي المصري، وهو المسار الذي داهمته هزيمة حزيران / يونيو 1967، فهزَّته وانتقصت من مصداقيته، لكنها لم تسقطه، فأسقطه تالياً أنور السادات الذي انتقم من محمد فايق بسجنه عشر سنوات بالتمام والكمال، وهو ما سأتناوله في مقال لاحق.

كان محمد فايق أحد المقربين من الرئيس عبد الناصر، الذي كان يأنس بمشورته عندما يحتاج اليها، لأنه كان أهلاً لثقته، بعد نجاحه الملحوظ في مهامه الإفريقية التي كانت كلُّها تقريباً محفوفة بالمخاطر ومعرَّضة للانتكاس والفشل. وقد يكون هذا من العوامل التي جعلته يجتنب الخوض في القضايا الإيديولوجية المثيرة للجدل، سواء تلك المتعلقة بالوحدة مع سوريا، أو تلك المتعلقة بالقضية الفلسطينية، أو بالصراع مع السعودية في اليمن، أو حتى في النواحي الرمادية المتعلقة بمرتكزات السياسة الخارجية في زمن الحرب الباردة. وفي أغلب الظن أنَّه أخذ هذا المنحى كي يتجنب الكتابة النقدية الجديَّة لمسار الأمور باتجاه الهزيمة المزلزلة في الحرب مع إسرائيل عام 1967.

ولذلك فإنَّ كتاب مذكرات محمد فايق يختلف، من هذه الناحية، اختلافاً جذرياً عن كتاب صلاح نصر، مدير المخابرات الناصرية لعشر سنوات (1957 – 1967)، بعنوان “عبد الناصر وتجربة الوحدة”، لأن كتاب صلاح نصر يتناول بالبحث مسائل إيديولوجية معقَّدة، مثل القومية العربية ومفاهيمها المختلفة عن مفهوم عبد الناصر، ومثل الأفكار غير الواقعية التي كانت في ذهن عبد الناصر عن الولايات المتحدة الأميركية.

فقد جاء في كتاب صلاح نصر، على سبيل المثال: “حقيقة الأمر، كان هناك عنصرٌ من التفاهم الإيديولوجي بين عبد الناصر والأميركيين والبريطانيين في بداية الثورة، أساسه تصميمٌ مشترك على سد الطرق في وجه أي ثورة اجتماعية حقيقية. لكن هذا التعاون المأمول لم يُكتب له التوفيق، لا لأنَّ عبد الناصر لم يقتنع به، ولكن لأنَّ عبد الناصر لم يجد أي سند للفكرة في الرأي العام المصري”. (صلاح نصر، “عبد الناصر وتجربة الوحدة”، القاهرة، “منشورات الوطن العربي”، كانون الثاني / يناير 1976، الفصل الأول بعنوان: “عبد الناصر والولايات المتحدة” الصفحة 14).

ويمكن القول إنَّ كتاب مذكرات محمد فايق هو كتاب تقني لمسلسل نشاطه في الحقل العام، أو بمثابة روزنامة لذلك النشاط من العمل الإفريقي، الى العمل الإعلامي، ثم من سجون السادات الى مجال النشر، والعمل في مجال الدفاع عن حقوق الإنسان من خلال عمله التأسيسي في المجلس القومي لحقوق الإنسان.

لكن المحطات التي حدَّدها محمد فايق في مسيرته في كتاب مذكراته بعنوان “مسيرة تحرُّر” تصلح لتكون مجالات لمزيد من البحث في تأطيرها الفكري والإيديولوجي، لأنه من غير الممكن أن تنقلب تلك المسيرة في الاتجاه المعاكس، حيث كان محمد فايق من أبرز ضحايا ذلك التوجه المعاكس، لو لم تكن هناك ثغرات عضوية في مسيرة الثورة المصرية من الأساس.

(صدر كتاب مذكرات محمد فايق بعنوان “مسيرة تحرر” في بيروت في شهر تموز / يوليو 2023

عن “مركز دراسات الوحدة العربية

حقوق الإنسان… رسالة حياة

(2)

31/1/2024

كان بإمكان محمد فايق أن يجد لنفسه موقعاً في نظام أنور السادات، لكنه آثر أن يستقيل من الوزارة، كما جاء في مذكراته، لأنه أيقن أن السادات عازم على انتهاج سياسة مخالفة، بل مناقضة، لسياسة عبد الناصر التي تفانى فايق في سبيلها، وأعطاها زهرة شبابه. فالمحكمة التي اختار أنور السادات قضاتها ومحققيها بنفسه، بغية إصدار أحكام مسبقة، ومشدَّدة، بحق الرموز الناصريَّة الأساسية، أقيمت خصيصاً لإبعاد الناصريين، وإزالة آثار الناصرية، أو اجتثاثها إذا أمكن.

وحتى عندما قضى محمد فايق سنته الخامسة في السجن، فتح له السادات باباً للخروج والتعاون معه، شرط أن يقدم له اعتذاراً علنياً. لكن فايق رفض هذا العرض مؤثراً قضاء سنوات خمس أخرى في السجن بعيداً عن أهله وعياله، وحتى عن أصدقائه وزملائه القدامى الذين كان معظمهم في السجون.

والسجون المصرية، سواء في المرحلة الناصرية، أو في المرحلة الساداتية، وربما الى اليوم، ليست نزهة. ذلك أن جميع نزلاء تلك السجون، والكتاب العرب والأجانب الذين كتبوا عن معاملة السجناء فيها، يجمعون على قساوة القائمين عليها، وفي حالات كثيرة أدى تعذيب السجناء الى إصابتهم بتشوهات نفسية وجسدية عميقة، وأحياناً الى وفاة بعضهم.

وربما بسبب تجربته الطويلة في السجن، كتب محمد فايق في مذكراته، أنه بعد انتخابه مفوضاً لحقوق الإنسان في الاتحاد الإفريقي عام 2009: “كان وجودي مفوضاً في لجنة حقوق الإنسان، شيئاً مستحباً عندي، حيث كنت أجمع بين العمل الإفريقي الذي أحببته، وحقوق الإنسان التي أصبحت رسالة حياتي بعد خروجي من السجن”. وفي مكان آخر يقول “إن الديموقراطية حقُّ من حقوق الإنسان، وإن الديموقراطية كانت هدفاً من أهداف ثورة 23 يوليو، لكنها لم تكتمل”. قال ذلك ولم يشرح أو يفسر كيف كانت الديموقراطية من أهداف الثورة المصرية، وما هي المعوقات التي جعلتها لا تكتمل.

ولسنا ندري ما إذا كان محمد فايق، خلال مهماته العسكرية أو خلال مهماته السياسية بعد ذلك، على علم بما كان يجري في سجن أبو زعبل، وفي سجن الليمان، أو على علم بفنون “التشريفات” التي كان حراس السجن يمارسونها على السجناء كلَّ صباح. ربما كان انشغاله بالشؤون الإفريقية قبل تسلمه وزارة الإرشاد القومي، حائلاً دون الاهتمام بالشؤون المصرية الداخلية، أو ربما لم يخطر بباله أن أجهزة عبد الناصر الأمنية يمكن أن تقوم بمثل هذه الأعمال. أو ربما لم تكن قد تبلورت لديه قضية حقوق الإنسان التي جعلها رسالة حياته بعد خروجه من السجن.

أليس غريباً أو مستغرباً أن يكون الزعيم اليوغوسلافي المارشال تيتو، والزعيم السوفياتي نيكيتا خروتشوف، هما اللذان طرحا على عبد الناصر شطط أجهزته الأمنية في تعذيب السجناء الشيوعيين واليساريين في دولة اعتبراها صديقة أو حليفة؟

تيتو فاتحه بمقتل المفكر الاشتراكي الأستاذ شهدي عطية تحت التعذيب القاسي في إحدى “التشريفات”، وخروتشوف فاتحه بمقتل القائد الشيوعي اللبناني فرج الله الحلو في أحد أقبية التعذيب التي كان يُشرف

عليها في دمشق عبد الحميد السراج، الحاكم بأمر عبد الناصر في الإقليم الشمالي من الجمهورية العربية المتحدة. واحد في مصر مات بتشريفة التعذيب، والآخر في سوريا بمغطس التذويب.

لم يقل عبد الناصر لتيتو وخروتشوف بأنه لا علم له بالأمر، بل وعدهما بالتحقيق في الأمر، ومنذ ذلك اليوم توقفت جميع آلات التعذيب في الإقليمين الجنوبي والشمالي.

هناك احتمال شبه مؤكد أن الوزراء في حكومة عبد الناصر، لا يعرفون شيئاً عما تفعله الأجهزة الأمنية، خصوصاً الأجهزة السرية منها، المتعلقة بأمن الدولة، أو النظام الحاكم فيها. وفي تقديري أن محمد فايق بالذات لم يكن يعلم شيئاً عن وقوع تلك الحالات، إلاَّ ربما بعد انكشافها.

بعد شهرين من وفاة عبد الناصر كتب رئيس تحرير “الأهرام” محمد حسنين هيكل مسلسلاً من أربع حلقات بعنوان “قصَّة المعركة الأخيرة” تناول فيها بالهجوم حزب البعث العراقي، فاتهمه بأنه يسعى الى “سرقة دور مصر في النضال العربي”، جازماً بأن العراق لن يكون في مقدوره قيادة النضال العربي “لا في الطبيعة، ولا في الطبع”، على حد قوله. في ذلك الوقت خلال الأيام الأخيرة من عام 1970، كنت رئيساً لتحرير جريدة “الكفاح” البيروتية لصاحبها آنذاك رياض طه، نقيب الصحافة اللبنانية، فكتبت تعليقاً مسلسلاً من أربع عشرة افتتاحية متواصلة، غايتها الرد العقلاني على هيكل، بالمحادثة وليس بالمهاترة، في إطار سليم للبحث يتعلَّق بالقضايا القومية، وليس في الإطار الدعائي لأغراض سياسية.

وعندما وضعت كتاب سيرتي الذاتية بعنوان “علامات الدرب” قبل أكثر من عشر سنوات، كان هذا الموضوع من جملة القضايا التي أعدت النظر اليها في ضوء التجربة ومستجداتها، فأشرت الى أن ما كتبه الأستاذ هيكل في ذلك الوقت، قبل نحو نصف قرن، ربما كان من أهدافه تقديم أوراق اعتماد للنظام المصري الجديد بقيادة أنور السادات. ويُستدل من كتاب مذكرات محمد فايق الذي نحن بصدده، أن محمد حسنين هيكل كان على علم ودراية، قبل أي شخص آخر، بأن أنور السادات ينوي التخلص من الناصريين في الحكم وفي الدولة، وأن أنور السادات أبلغ هيكل بذلك على طريقته مع تعليل منطقي للأسباب الموجبة.

وفي ذلك يقول محمد فايق: “بدأت أتأمل الموقف، وهنا تذكرت ما قاله السادات لهيكل من قبل، إنه إذا حارب بأعوان عبد الناصر وانتصر، فسيذهب الفضل كله إليهم، وإذا هُزم، فستكون الهزيمة مسؤوليته وحده” (الصفحة 223).

وفي خلاصة شاملة عن أهمية مذكرات محمد فايق، على الرغم من اجتنابه الخوض في المسائل الإيديولوجية كما ورد في المقال السابق، يتبيَّن أن السيد فايق كان منسجماً في عمله وأدائه مع قناعاته التي أودت به الى السجن، فهو واحد على المسرح الإفريقي، وعلى المسرح الإعلامي، وعلى مسرح حقوق الإنسان.

وبالنسبة الى المعلقين والباحثين الراغبين في “استنباش” تاريخ مصر خلال القرن الماضي، فإن كتاب مذكرات محمد فايق يصلح ليكون خارطة طريق للتعمق في البحث، ومن هنا يكتسب أهميته الاستدلالية، لأنه ليس سيرة ذاتية تضع كاتبها في مواجهة العالم، ولا هو كتاب تاريخ يُغني عن البحث التاريخي.

عبد الناصر و المشير عامر :

العلاقة الكارثية

(3)

2/2/2024

لعلَّ من أهم المقاطع في كتاب مذكرات محمد فايق، هو المقطع الذي تناول فيه ما أسماه “العلاقة الكارثية بين جمال عبد الناصر والمشير عبد الحكيم عامر” (المقطع السادس من الفصل التاسع الصفحات 200 – 202). وبقدر ما كانت تلك العلاقة كارثية، بسبب الهزيمة المدويَّة أمام إسرائيل في حرب حزيران / يونيو 1967، بقدر ما كانت حميمية بينهما. فقد وصف محمد فايق علاقة عبد الناصر مع المشير عامر بأنها “رفقة سلاح وصداقة” وفوق ذلك قال إن المشير عامر كان الى عبد الناصر “توأم روحه”.

وكان من الطبيعي، والحالة هذه أن يداريه ويقف على خاطره، بل يقف مكتوف الأيدي بالنسبة الى تمسُّك المشير بالقرار العسكري، مما أحدث ازدواجية خطيرة في النظام المصري، بحيث أصبحت القيادة السياسية التي مثَّلها الرئيس عبد الناصر في واد، والقيادة العسكرية التي مثلها المشير عامر في واد آخر، مما أوجد مناخاً لحالة انقلابية عالجها عبد الناصر بالتراجع عن قرارات تتعلق بالمؤسسة العسكرية. بل إن عبد الناصر، حسبما نقل عنه محمد فايق، وصف تلك الحالة بأنها ” انقلاب نصفي”.

لكن أطروحة الانفراد بالقوات المسلحة من قبل المشير عامر، تضعف عندما يؤكد من جهة ثانية أنها كانت حالة عمومية من ناحية القيادات العسكرية، منذ العدوان الثلاثي على مصر في عام 1956. ففي المقطع ذاته من مذكراته يقول محمد فايق: “على الرغم من الانتصار المصري بفشل العدوان الثلاثي (بريطانيا – فرنسا – إسرائيل) في عام 1956، فإن هذا الانتصار كان سياسياً، أما عسكرياً فقد كان أداء القيادات العسكرية متواضعاً، واتضح عدم كفاءة هذه القيادات، وبخاصة قيادات السلاح الجوي، وعلى رأسها قائد السلاح الجوي محمد صدقي محمود، ولم تُتَخذ أي إجراءات وقتها لتغيير تلك القيادات، أو حتى محاسبتها

وتعليله الغامض “للتطنيش” عن المحاسبة اللازمة، هو أيضاً بحاجة الى تعليل. في ذلك يقول محمد فايق إن غضَّ النظر عن محاسبة القيادات العسكرية في حرب 1956، كان “كي لا تنتقص من النصر الذي تحقَّق بجلاء القوات المعتدية”. فالقيادات التي كان من المفترض محاسبتها في حرب 1956 بقيت كلها في مواقعها حتى حرب حزيران / يونيو 1967، وعلى يدها وقعت الهزيمة النكراء للجيش المصري في تلك الحرب.

هناك شيء في هذه العلاقة الكارثية بين الرجلين لا يستقيم بالنظر اليه من زاويته الوطنية، ومن حيث نتائجه الفادحة على الشعوب العربية، وهي نتائج ما تزال تجرجر أذيالها حتى اليوم. أي أن تكون الصداقة الحميمة بين قائدين كبيرين سبباً للهزيمة أو مبرراً لها.

وقد حاول محمد فايق أن يعطي لعبد الناصر أسباباً تخفيفية، بالقول إنه حاول أن يقصي المشير عامر من موقعه في قيادة القوات المسلحة بعد الانفصال السوري عن الجمهورية العربية المتحدة، باقتراح تعيينه نائباً لرئيس الجمهورية، لكنه لم يفلح في إقناعه.

ويقول محمد فايق إن المشير عامر كان العضو الوحيد في مجلس الرئاسة، وهو مجلس تشكل في أعقاب الانفصال السوري، الذي اعترض على مشروع التنظيمات العسكرية بهدف إقصاء القيادات التي ظهر عدم كفاءتها وطال بقاؤها في مواقعها، ومنها أيضا أن تكون ترقية الضباط من رتبة عقيد وما فوق من اختصاص مجلس الرئاسة. عندئذ غضب المشير وسافر الى مرسي مطروح حيث بدأ كبار الضباط يزورونه. ويقول محمد فايق: “وظهرت تحركات داخل القوات المسلحة تشير الى أن هناك نوعاً من التذمر. هنا أدرك عبد الناصر خطورة الموقف، حيث ظهرت قدرة عبد الحكيم عامر على تحريك الجيش وولاء القيادات العسكرية له شخصياً، وبذلك أصبح عبد الناصر في موقف بالغ الصعوبة، فإما أن يتراجع عن قراراته لتجنيب البلاد ذلك من خلال كارثة الانقلاب، وأملاً في أن يستطيع معالجة الموقف بعد ذلك”.

وأود هنا أن أعرض رواية، كنت فيها شاهداً، تعطي وجهة نظر مختلفة من جانب المشير عامر. فقد زرت القاهرة من بيروت عندما انتقلت اليها رئيساً لتحرير مجلة “الصياد”، المعروفة جيداً في مصر آنذاك لكونها كانت “ناصرية” في زمن عبد الناصر، وكان ذلك في أواخر عام 1982. وخلال تلك الزيارة أبلغني الزميل الراحل فيليب جلَّاب أنه حادث السيدة برلنتي عبد الحميد، أرملة المشير عبد الحكيم عامر، وأبلغها عن وجودي في القاهرة، وعرض لها من أكون وماذا أمثل، واقترح أن نقوم بزيارة خاصة لها في منزلها فرحبت بذلك، وقضينا عندها سهرة امتدت أكثر من ثلاث ساعات. كانت وحدها في المنزل مع ابنها عمرو من المشير، فسلم الشاب عمرو علينا لكنه لم يجلس معنا.

وقد كتبت ملياً عن تلك السهرة في كتاب سيرتي الذاتية “علامات الدرب”، لكنني أريد هنا أن أركز فقط على جانب “العلاقة الكارثية” بين زوجها المشير عامر و”توأم روحه” جمال عبد الناصر، حسب توصيف محمد فايق. لم أكن أعرف السيدة برلنتي من قبل، لكنني كنت أعرف أنها سيدة مثقفة، وفنانة مرهفة الأحاسيس، وقد أبلغتنا أنها مدينة بثقافتها الى الدكتور محمد حسين هيكل، الذي كان من كبار الحقوقيين في مصر، وهو أحد أعضاء لجنة الثلاثين التي وضعت دستور مصر المستقلة عام 1923، كما تقلد منصب وزير المعارف ثلاث مرات بين 1938 و1943، ثم انتخب رئيساً لحزب “الأحرار الدستوريين” حيث بقي في رئاسة الحزب المذكور حتى ثورة تموز / يوليو 1952، التي قامت بحل جميع الأحزاب السياسية القائمة آنذاك.

طبعاً، في لقاء تعارفي من هذا النوع من اللياقة عدم الدخول مباشرة في المواضيع الحساسة، فسألتها في البداية عن أعمالها الفنية، ومن خلال هذا الحديث أخبرتني عن الدكتور محمد حسين هيكل. لم تكن تلك السهرة من قبيل الحديث الصحافي التقليدي، فلا أنا حضَّرت أسئلة، ولا هي كانت ربما في هذا الوارد، وما كان معدَّاً للنشر في المجلة التي كنت رئيس تحريرها. ثم سألتها عن علاقتها مع الرئيس أنور السادات، فأجابتني بكل صراحة أنه هو اتصل بها بعد شهر من توليه الرئاسة بعد وفاة عبد الناصر، واستدعاها الى مكتبه. وقالت لي إنه رحَّب بها “شبه باكٍ” (أسفاً على وفاة زوجها المشير) وقال لها عن ابنها عمرو: “دا عمرو ابن أخويا، وانا ملزم بيه، دا ابن أخويا”. ثم قالت إن تلك كانت المقابلة الوحيدة والأخيرة، وإن السادات لم يصدق بوعده لها، فلم تراجعه أو تقابله مرة ثانية.

ثم سألتها عما شاع عن زواجها السري من المشير عامر لجهة أن أحداً من القادة المصريين كان يعرف شيئاً عن الغياب المفاجئ للمشير عن السمع والبصر، فهزَّت برأسها وقالت لي: “هل تصدق أن وزير الحربية وقائد القوات المسلحة يغيب أسبوعاً عن البلد ولا أحد من القادة يعرف مكانه، خصوصاً جمال عبد الناصر”.

وعندما قالت إن أركان النظام كذبوا في مسألة زواجها، خطر لي أنها تنشد القول بأنهم كذبوا أيضاً في مسألة انتحاره بعد هزيمة 1967، لكنها لم تقل ذلك مباشرةً، أو كأنها كانت تقرأ ما يجول في خاطري من هذه الناحية، فقالت: “لقد دفع المشير ثمن حبه وولائه لصديقه جمال عبد الناصر، وتحمَّل عنه عثرات كبيرة. فقد حمَّلوه مسؤولية الانفصال السوري، عندما كان مسؤولاً عن سوريا ولم يقل شيئاً. فقد كان عبد الناصر يتجاوزه بالتعاطي المباشر مع عبد الحميد السراج من وراء ظهره. فهل تعتقد بأنهم كانوا أبقوه في منصبه بعد الانفصال السوري لو أنه كان بالفعل مسؤولاً عن الانفصال؟”

واستطردت تقول بعد ذلك:” ثم حمَّلوه مسؤولية ما آلت اليه حرب اليمن ولم يقل شيئاً، بينما المسؤول عن ذلك المداخلات السياسية المتناقضة والمترددة في الشأن اليمني، وكان من الطبيعي أن يدفع الجيش ثمن تلك المداخلات. وأخيراً حمَّلوه مسؤولية الهزيمة أمام القوات الإسرائيلية وخسارة سيناء في حرب يونيو / حزيران بعد ذلك، فلم يعد بمقدوره أن يتحمَّل”.

وتعليقاً على ما قالته بهذا الخصوص، كتبت في كتاب سيرتي الذاتية “علامات الدرب” ما يلي: “هذه العبارة الأخيرة من كلامها (كلام برلنتي) حمَّالة أوجه. وتساءلت بيني وبين نفسي ما إذا كان المقصود بذلك أن الكيل قد طفح فحاول المشير أن يقلب الأوضاع فتخلصوا منه، أم أنه يئس وانهار تحت طائلة المسؤولية عن تلك الكارثة التي لم تنته فصولها بعد، فاختصر المشوار بوضع حد لحياته؟ لكن برلنتي في تلك السهرة، على الرغم من لهجة المرارة التي كانت تتحدث بها، بقيت منصفة لرجال الثورة المصرية عندما سألتها عن رأيها فيهم بصورة عامة. فقالت إنهم جميعا وطنيون لا غبار على وطنيتهم، بل هم من غلاة الوطنيين، لكنهم كانوا متعلقين بالسلطة بأظافرهم وأنيابهم. كان لديهم شبقٌ مرضيٌّ للسلطة بحيث أنهم كانوا مستعدين أن يفعلوا أي شيء من أجلها.

هذه مطالعة مختلفة عن مطالعة محمد فايق. هو يقول إن عبد الناصر تحمل إخفاقات المشير عامر بسبب صداقته اللصيقة به، والسيدة برلنتي عبد الحميد قالت على مسمعي في القاهرة إن عبد الناصر استخدم صداقته للمشير علاَّقة علَّق عليها إخفاقاته السياسية، بصفته صاحب القرار النهائي في كافة الأمور.

وفي موضوع نتائج تلك “العلاقة الكارثية”، حسب تعبير محمد فايق، أي أن تكون وفاة المشير عامر نتيجة يأسه وانتحاره، أم نتيجة محاولة انقلابية فاشلة، يشير فايق الى أنها كانت محاولة انقلابية. بل هو تحسَّب للمحاولة عندما توجه الى بيت عبد الناصر يوم إعلان الهزيمة، فطلب من الفريق أول محمد فوزي أن يُرسل كتيبة عسكرية لحراسة مبنى الإذاعة تحسُّباً لقيام قوات المشير عامر باحتلالها.

ومع ذلك، فإن ظروف تلك المرحلة ما زالت بحاجة الى مزيد من البحث والتدقيق.

تنظيم سري” في مواجهة الجيش “

(4)

5/2/2024

  من المعروف أنَّ جمال عبد الناصر كان ضدَّ الأحزاب السياسية، وقد ظهر ذلك عندما أقدم مجلس قيادة الثورة، فور الانقلاب على نظام الملك فاروق يوم 23 تموز / يوليو 1952، على حل جميع الأحزاب السياسية العاملة في مصر حينذاك. بل إن الشرط الأول لعبد الناصر على السوريين الذين كانوا يفاوضونه على إقامة الوحدة المصرية – السوريَّة أواخر عام 1957، أن يجري حلُّ الأحزاب السوريَّة كافَّة ومن غير استثناء، قبل الاتفاق على أي شيء آخر.

لكن عبد الناصر، بعد انفصال سوريا عن دولة الوحدة بعد نحو ثلاث سنوات فقط من قيامها، شعر بضرورة نوع من التنظيم يشكل إطاراً للحكم من خلاله. ولهذا طوَّر فكرة “الاتحاد الاشتراكي” لكي يكون هذا الاتحاد هو الإطار المطلوب. ومع ذلك، فإن عبد الناصر ظلَّ يساوره القلق من ألاَّ يستطيع “الاتحاد الاشتراكي” تشكيل الإطار المطلوب، لكونه حالة بيروقراطية، يمكن أن تشكل عبئاً إضافياً على البيروقراطية الحكومية المتضخمة والمترهلة.

ويروي محمد فايق أن عبد الناصر فاتح رئيس وزراء حكومة الصين الشعبية، شو إن لاي، بموضوع التنظيم السياسي في الدولة، وخصوصاً إزاء الجيش. وقد جرى هذا الحديث مع الزعيم الصيني بداية صيف عام 1965، عندما زار القاهرة ليتحادث مع عبد الناصر، قبل سفرهما معاً الى الجزائر تلبية لدعوة الرئيس أحمد بن بلَّة لحضور قمة الدول الآسيوية والإفريقية المقرَّر عقدها في العاصمة الجزائرية. لكن في هذه الأثناء، أي في الوقت الذي كان فيه شو إن لاي في القاهرة، وقع انقلاب قائد الجيش الجزائري، هواري بومدين، ضد بن بلَّة، فبقي الزعيم الصيني أحد عشر يوماً في مصر، قضى خلالها إجازة في الإسكندرية مع عبد الناصر، لأن الحكم الجديد في الجزائر ألغى المؤتمر. وكان الوضع آنذاك حسَّاساً، ليس فقط بسبب الانقلاب الجزائري، إنما لوجود خلافات عميقة بين الصين والاتحاد السوفياتي على قضايا عدَّة من بينها القمة الإفريقية – الآسيوية.

ويقول محمد فايق في مذكراته إنه كان من الطبيعي أن يهتمَّ جمال عبد الناصر اهتماماً خاصاً بالزعيم الصيني، صديقه منذ مؤتمر باندونغ عام 1956 (المؤتمر التأسيسي لمنظومة الحياد الإيجابي وعدم الانحياز)، الذي ساعده على عقد صفقة السلاح التشيكي، كما ساعده وفتح له الطريق الى الدول الآسيوية. وكانت مصر من ناحيتها، أول دولة عربية وإفريقية تعترف بجمهورية الصين الشعبية، وتقيم معها علاقات ديبلوماسية منذ عام 1956. وأكد محمد فايق أنه خلال تلك الزيارة الطويلة للزعيم الصيني الى مصر حضر شخصياً جميع المحادثات واللقاءات التي تمت بينهما.

يقول محمد فايق، حول موضوع التنظيم السياسي، إن عبد الناصر أبلغ شو إن لاي قائلاً: “إننا لم نستطع بناء تنظيم سياسي قوي بسبب الجيش (وفي رأي محمد فايق أنه كان يقصد بذلك عبد الحكيم عامر)”. وأضاف: “عندما أنشأ الاتحاد الاشتراكي ’ منظمة الشباب‘ عبَّر عبد الحكيم عامر عن قلقه الشديد، بخاصًّة أن علي صبري كان أميناً عاماً للاتحاد الاشتراكي، واضطر عبد الناصر إلى إبعاد علي صبري عن أمانة الاتحاد”. وأكد محمد فايق أن هذا ما جعل عبد الناصر يلجأ الى بناء “التنظيم السري”، من غير أن يفصح شيئاً عن ماهية هذا التنظيم السري، أو عن مبادئه، أو هيكليته، سوى القول إن تلك المحاولات كانت “للاستقواء على عبد الحكيم عامر في الجبهة الداخلية بتنظيمات سياسية مدنية لم تكتمل”.

يُخيًّل للقارئ من خلال هذا الكلام، أنَّ عبد الحكيم عامر كان هو الرجل الأقوى في النظام المصري، وأن عبد الناصر كان الطرف الأضعف الباحث عن وسائل تنظيمية في المجتمع المدني يستطيع بها مواجهة الجيش، أو الاستقواء عليه.

وتبقى مسألة التنظيم السياسي بطبيعته الحزبية مادة للنقاش، وسوف تبقى الى أمد طويل في المستقبل في ظل الحكم الفردي، حيث تكون السلطة في يد أفرادٍ قليلين، أو الحكم الانفرادي حيث تكون السلطة في يد فردٍ واحد. وكان الصحافي محمد حسنين هيكل، المقرَّب من عبد الناصر، قد فتح نقاشاً من هذا القبيل بعد الانفصال السوري، عندما حاول أن يلامس الثغرات التي أدَّت الى الانفصال من الناحية التنظيمية، بطرح عدم إمكانية نجاح وحدة عربية بين قطرين أو أكثر، من غير أن تكون هناك “حركة وحدوية” في الأقطار الساعية الى الوحدة فيما بينها أو الراغبة في ذلك. ومن ذلك الوقت وحتى الآن لم تكن في العالم العربي حركة بهذه المواصفات غير ” حزب البعث العربي الاشتراكي” الذي عمل عبد الناصر ونظامه في سوريا ومصر على تهشيمه وتهميشه، بالإضافة الى الخلل العضوي في التركيبات التنظيمية لحزب البعث ذاته.

أما فكرة التنظيم السياسي، السري أو العلني، في الحكم الفردي، فهي محكومة بالفشل مسبقاً لأنها فكرة فوقية لا تستطيع أن تتجاوز كونها جهازاً إدارياً من أجهزة الدولة. فالتنظيم السري الذي راود عبد الناصر ليستقوي به على الجيش، أو ليوازي به القوات المسلحة، لن يكون، في أحسن الأحوال، أكثر من “جهاز أمني”، أو جهاز مخابراتي. فالحركات السياسية الأصيلة القادرة على التفاعل مع المجتمع لا تنبت إلاَّ من تحت. وقد سبق أن قامت في مصر حركات من هذا النوع أبرزها “حزب الوفد” و “حركة الإخوان المسلمين” بصرف النظر عن الفوارق بينهما، من حيث إن “حزب الوفد” كان حزباً مدنياً نخبوياً،

و”حركة الإخوان المسلمين” كانت حزباً دينياً شعبياً.

فالحاجة الى “التنظيم” أو “الحزب”، حتى بالنسبة الى نظام فردي يقوده زعيم له كاريزما جاذبة، أو تتحكم به نرجسية مميزة، ليست مسألة “ديكور” للزينة مكمل لنرجسية الزعيم، بقدر ما هي مسألة ديمومة. فالزعيم الكاريزمي قصير العمر، ولو طال عمر حكمه. أما الحركة أو الحزب أو التنظيم فلهم حياة متجددة، حتى لو فشلوا، لأن سمة التجدد في الحركات الأصيلة تجعلها طويلة البقاء. فهي تستطيع أن تنهض من كبوتها، وتستطيع أن تجدد شبابها وكوادرها، أو حتى تستطيع أن تؤسس نفسها من جديد.

.وفي المقابل، فإنَّ الحركة النازلة من فوق تنتفي في داخلها القدرة على المعارضة أو الاعتراض، وتبقى مؤلفة من شخص واحد ولو بلغ عديدها مليون عضو. وبالتالي، فإنَّ أحزاب، أو تنظيمات،

أو حركات الرجل الواحد، هي حركات فارغة، أو مفرغة، تسقط بسقوط واضعها، أو تموت بموته

هل فقد عبد الناصر ثقته بعدم الانحياز

(5)

7/2/2024

لافت للنظر أن محمد فايق في كتاب مذكراته لم يعطِ حيزاً ملحوظاً للحديث عن حركة عدم الانحياز التي انطلقت من مؤتمر باندونغ في إندونيسيا، حيث كان ذلك المؤتمر أول منصَّة لانطلاق نجوميَّة الزعيم المصري على الصعيد العالمي. هذا مع العلم أن فايق، بقرار من رئيس الجمهورية، أصبح مسؤولاً عن الشؤون الآسيوية إضافة الى مسؤوليته عن الشؤون الإفريقية. كما نقل ما قاله له عبد الناصر عند تكليفه بهذه المهمة يحرفيته، وهو: ” اللي عملته في إفريقيا نريد نعمله في آسيا”، وذلك في سياق حديث طويل عن أهميَّة آسيا، من حيث مواجهتها التحدي الحضاري نفسه الذي تواجهه إفريقيا من جانب الغرب.

لكن محمد فايق في هذا السياق ركَّزَ على نقطتين: الأولى، توثيق العلاقة بين عبد الناصر والزعيم الصيني شو إن لاي، وما أدَّت اليه من حصول مصر على أسلحة جديدة من المنظومة السوفياتية. وفي مؤتمر باندونغ، كما تشير مصادر أخرى (غير مذكرات محمد فايق)، كان شو إن لاي هو الذي اقترح أن يكون عبد الناصر رئيس لجنة الصياغة للبيان النهائي لمؤتمر باندونغ.

أما النقطة الثانية، وربما الأهم من المنظور العربي، على الرغم من أن محمد فايق لم يتوسع بها في النص، بل شرحها في حاشية من خمسة أسطر في أسفل الصفحة 105، فهي نجاح عبد الناصر في إبعاد إسرائيل عن المؤتمر، مع أنها كانت مدعوة اليه بصفتها دولة آسيوية. ويقول محمد فايق في شرح هذه النقطة في الحاشية رقم 13: “عند التحضير للمؤتمر الإفريقي – الآسيوي، الذي عُقد في باندونغ في عام 1955، دُعيَت إسرائيل بوصفها دولة آسيوية، فاعترض الرئيس عبد الناصر بوصفها دولة توسعية تحتل أراضٍ ليست لها، وطردت مليون فلسطيني من ديارهم، وترفض عودتهم على الرغم من قرارات الأمم المتحدة، وطلب منظمو المؤتمر من إسرائيل أن تعلن استعدادها لعودة اللاجئين الذين أُبعدوا عن ديارهم كي تحضر المؤتمر (وقد تم ذلك بإيحاءٍ من عبد الناصر). ورفضت إسرائيل إعطاء هذا الإعلان أو التصريح، وعلى هذا الأساس سُحبت الدعوة التي كانت وُجِّهت اليها”.

وأودُّ في هذا السياق أن أعرض واقعة جرت في لندن عام 1977، عندما انتقلت مجلة “الدستور” اللبنانية، لصاحبها ورئيس تحريرها علي بلوط، الى العاصمة البريطانية وأنيطت بي نيابة رئاسة التحرير. في ذلك الوقت كان يكتب في المجلة بعض الصحافيين المصريين وأبرزهم محمود السعدني (كان السعدني يومئذ يكتب مسلسلاَ بعنوان “حمار من الشرق”). في تلك الأثناء زارنا في مكاتب المجلة السيد عبد المجيد فريد، الذي عمل لفترة في مكتب الرئيس جمال عبد الناصر، حاملاً معه ملفاً يتضمن محاضر وملاحظات قال إنه جمعها خلال عمله في مكتب الرئيس المصري. وقد جاء بذلك الملف بغية نشره في “الدستور” بالاتفاق مع صاحب المجلة الذي أعطاني الملف وطلب مني أن أقرأه، وأن أقسمه الى حلقات، من أجل تسهيل نشره. وهذا ما تم فعلاً تحت عنوان “أوراق عبد الناصر”.

كانت تلك الأوراق التي حملها عبد المجيد فريد الى لندن، قيمة ومفيدة، لكنها بالنسبة الي لم تكن في جزء كبير منها تحمل جديداً، إلاَّ ربما في التفاصيل. لكن محضراً فيها يعود الى الفترة الأخيرة من حياة عبد النصر لفتني لأنه يُستشفُّ منه عبارة نقد تدلُّ على شيء من الندم على الانخراط في حركة عدم الانحياز، بل لفكرة عدم الانحياز أصلاً. وقوام تلك الفكرة التي لم يركز الزعيم المصري عليها كثيراً، فجاءت بشكل عبارة عابرة، أنه من غير الممكن الحياد بين الإمبريالية وبين حركة الشعوب الساعية الى التحرر، بمعنى أن الحياد بين الظلم والعدل هو في واقع الأمر انحياز الى الظلم.

وقد لفتتني الفكرة عطفاً على أحاديثي السابقة في بيروت منتصف الستينات من القرن الماضي مع خوان لاشين، الزعيم العمالي البوليفي (من أصل لبناني من منطقة جزين)، حول “التردد الثوري”، وهو ما كتبت عنه ملياً في كتاب سيرتي الذاتية “علامات الدرب” (الفصل التاسع من القسم الثالث، الصفحات 413 – 432 بعنوان “على خط بارليف”)، وقد سألته في سياق تلك الأحاديث، عن رأيه في الثورة المصرية، فقال لي إن طريقها مسدود لأنها تُشبه الثورة المكسيكية، من حيث تردُّدها وعدم قدرتها، أو رغبتها، على الحسم. ووجدت هذه الفكرة العابرة في أوراق عبد الناصر متوافقة تماماً مع فكرة خوان لاشين عن الثوريين المترددين الذين يُقدمون خدمة مجانية للإمبريالية من حيث يتصورون أن التردد موقف إيجابي.

وفي أواخر العام الفائت صدر في بريطانيا وأميركا كتاب جديد بالإنكليزية عن سيرة عبد الناصر للمؤلف البريطاني المقيم في لبنان أليكس رويل، بعنوان “نحن جنودك”، قال فيه إن عبد الناصر عاد من باندونغ رجلاً آخر، تحوًّل الى أيقونة في آسيا وإفريقيا، والى بطل في مصر والعالم العربي. حتى علاقته مع زملائه في الثورة تغيرت بعد باندونغ، وبعد استقباله في القاهرة استقبال المنتصر لدى عودته من المؤتمر. فلم يعد أحد منهم يناديه باسمه الشخصي كالسابق، بل صار اسمه “الريس” أو “سيادة الرئيس”. وإذا دخل عليهم في القاعة فلم يعد مألوفاً، أو مسموحاً، أن يبقى أحدهم جالساً في مقعده جري العادة، فصاروا إذا دخل يقفون احتراماً وإجلالاً. من اليوم الأول بعد عودته من باندونغ، نشأت تقاليد جديدة في التعامل معه، وأخذت الأمور منحى أكثر جديَّة من ذي قبل.

وقد أثبت كتاب رويل الجديد (له كتاب سابق في عام 2017 عن “شعر الخمر للشاعر العباسي أبي نواس”)، أنه على الرغم من صدور عشرات الكتب عن عبد الناصر، هناك دائماً شعور لدى الباحثين بأن الموضوع ما زال بحاجة الى كتاب جديد.

فهناك نقطة ما زالت جديرة بالبحث، وهي حقيقة العلاقة بين جمال عبد الناصر وخليفته أنور السادات. فقد كان السادات أشبه بالمبعد، أو المنفي، لفترة طويلة. لكن عندما شعر عبد الناصر بوطأة اشتداد مرضه، وأيقن أنه لن يستطيع تحمل ما هو مطلوب من مصر بموجب مبادرة روجرز الأميركية، التي كان أعلن قبوله بها، أعاد تأهيل السادات، وعينه نائباً للرئيس، وأخذ يأنس اليه فيزوره كل يوم تقريباً في منزله زيارة صديق. أو باختصار، عبد الناصر هو الذي اختار خليفته في حياته. أو ربما اختاره ليسير على النهج الذي اتخذه السادات، ولا يستطيع هو أن يتخذه. ولمست من بعض الزملاء المصريين خلال الزيارتين اللتين قمت بهما الى مصر، بعد زيارتي الى سيناء المحررة في عام 1974، زيارة في عام 1983، وأخيرة في عام 1998، أنهم يميلون الى هذا التصور.

وهذا يستدعي الحاجة الى كتاب جديد عن عبد الناصر يضعه باحث مجرد من الهوى.

:مصر بين موسكو و واشنطن

أحبُّ الأعداءِ و أبغضُ الأصدقاء

(6)

9/2/2024

لم يتحدث محمد فايق في كتاب مذكراته عن طبيعة علاقات عبد الناصر مع واشنطن، ومع موسكو، خلال تعاطيه معهما في مرحلة الحرب الباردة. بل هو تحدث عن علاقة أنور السادات مع أميركا أكثر مما تناول علاقة عبد الناصر معها بأي درجة من العمق، ناهيك بالنقد. ففي المراحل الأولى التي انتهت بالعدوان الثلاثي (التواطؤ الدولي بين بريطانيا وفرنسا وإسرائيل عام 1956)، اكتفى بجملة واحدة قال فيها: “اضطرت القوى المعتدية الى الانسحاب بعد إنذار الاتحاد السوفياتي، وضغط الولايات المتحدة برئاسة دوايت أيزنهاور (1953 – 1961)، الذي لم يكن راضياً عن مؤامرة العدوان الثلاثي. كانت هذه الأسباب الرئيسية التي أجبرت القوات المعتدية على الانسحاب”.

أما عن أنور السادات، من حيث رؤيته للعلاقات الدولية، فيقول: “كان أنور السادات يجري وحده اتصالات مع المسؤولين الأميركيين، من دون أن يُطلع عليها أحداً من المسؤولين المصريين، وكان بعض الاتصالات يتم بمساعدة الاستخبارات الأميركية (سي آي ايه) الموجودة في السفارة الإسبانية في القاهرة التي أوكل اليها رعاية المصالح الأميركية بعد قطع العلاقات مع الولايات المتحدة”. وهذا المقطع لم يكتبه محمد فايق، بل اقتبسه من كتاب “مصر من ناصر الى حرب أكتوبر (تشرين الأول)” للديبلوماسي الروسي فينوغرادوف!

أما فايق بعد ذلك، كتب بقلمه هو: “لكن السادات في هذا الوقت، الذي كنَّا نستعدُّ لبدء معركة تحرير سيناء، كان يحاول أن يكسب ثقة الأميركيين بأي حال من الأحوال، أملاً في أن تضغط الولايات المتحدة على إسرائيل لإعادة سيناء من دون ضرورة للحرب، حتى لو كان الثمن تغيير تحالفاته الرئيسية لتكون مع الولايات المتحدة الأميركية، استناداً الى ما كان مقتنعاً به ويردده دائماً بأن أميركا تملك 99 في المئة من أوراق القضية الفلسطينية والشرق الأوسط”. وفي رأي محمد فايق أن السادات أراد بذلك أن يتملَّص من القرار الذي اتخذه مجلس الدفاع القومي بأن تبدأ الحرب مع إسرائيل في ربيع عام 1971 (وهو قرار اتُّخذ في حياة جمال عبد الناصر).

كذلك يتحدث محمد فايق عن تعويل السادات على زيارة وليام روجرز، وزير الخارجية الأميركي الى مصر في بداية أيار / مايو 1971، بحيث أنه أقال علي صبري من مناصبه قبيل وصول روجرز الى القاهرة للتدليل على صدق نياته تجاه الولايات المتحدة. وكان علي صبري في ذلك الوقت ما زال مسؤولاً عن العلاقات المصرية – السوفياتية. ويقول فايق أيضاً إن السادات، قبل زيارة روجرز، كان قد أبلغ جوزف سيسكو، مساعد وزير الخارجية الأميركي، في زيارة سابقة عن عزمه على التخلص من المجموعة الناصرية المتشددة في الدولة. كذلك أبلغ الأميركيين عن عزمه على التخلص من الوجود السوفياتي في مصر من خبراء عسكريين ومدنيين.

لكن محمد فايق لا يتحدث مطلقاً عن العلاقات المصرية – الأميركية قبل أنور السادات، مكتفياً بنقل عبارة واحدة من خطاب عبد الناصر في الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك، وصف فيها وعد بلفور لليهود بإقامة وطن لهم في فلسطين، بأنه “أعطى ما لا يملك لمن لا يستحق”.

ربما كان محمد فايق لا يدري أن وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية قدَّمت الى عبد الناصر شخصياً مبلغ سبعة ملايين دولار فتبرع بها لبناء برج القاهرة. وهو لم يتطرق قط الى رغبة عبد الناصر في التفاهم مع واشنطن خلال رئاسة أيزنهاور، وما كانت الشروط الأميركية، أو ما كانت عليه النظرة العامة للرئيس عبد الناصر الى الولايات المتحدة، على غرار ما كتب صلاح نصر مدير الاستخبارات المصرية العامة لعشر سنوات متواصلة (1957 – 1967).

لقد أكَّد صلاح نصر أنَّ عبد الناصر أخفق في تصوره لأميركا، بمعنى أنَّ صورة أميركا في ذهنه لم تكن واقعية. كان عبد الناصر يتصوَّر، حسب تشخيص مدير استخباراته، أنَّ أميركا دولة تقدمية قوية، بلا أطماع استعمارية، بعيدة عن مكائد السياسة الأوروبية، فاعتبرها ملجأً لآمال الشعوب الصغيرة. لكن عبد الناصر، حسب صلاح نصر، عاد فاكتشف بالتجربة أن الأمر ليس كذلك عندما تضاربت سياسته مع مصالحها.

هناك روايات متعددة حول إمكانية التمويل الأميركي لمشروع السد العالي، وهو أول احتكاك سلبي حاسم لعبد الناصر مع واشنطن. لكن الرواية التي تُنسب الى سامي شرف، سكرتير عبد الناصر للمعلومات، تضع اللوم على السفير المصري في واشنطن أحمد حسين، حيث وصل الأمر الى حد اتهامه بأنه كان يميل الى الجانب الأميركي. وحسب هذه الرواية، أن السفير أحمد حسين أوهم وزير الخارجية الأميركي جون فوستر دالس، أن عبد الناصر يرغب في صداقة أميركا. لكن دالس وجد تضارباً بين هذه الرغبة المزعومة ومنطق المساومة بشأن التمويل الأميركي لمشروع السد العالي بوضعه في موازنة العروض الأخرى المتاحة وفي طليعتها العرض السوفياتي.

والمعروف عن جون فوستر دالس أنه كان يرفض رفضاً قاطعاً أن يتعاطى أصدقاء أميركا، أو طالبو صداقتها، مع الفريقين الدوليين بمنطق المساومة. وهذا ما قاله بوضوح للسفير المصري أحمد حسين ومؤداه: “إذا جاء بلد وأبلغنا أنه في وضع مساومة جيد، وإن لم نعطه ما يريد فسوف يحصل عليه من خصومنا، فلا يهمنا مثل هذه العلاقة”.

بل كان دالس شديد القسوة على السفير أحمد حسين عندما ألمح هذا الأخير الى أن الرئيس عبد الناصر يحرص على صداقة أميركا، لكنه لا يستطيع أن يجاهر بذلك كما تريد واشنطن، لأنه يخسر شعبياً في مصر. فقال دالس للسفير المصري عندئذ: “إذا كان عبد الناصر يحرص على الصداقة مع أميركا، فإنه يجب أن يكون مستعداً ليدفع ثمناً محلياً لقاء هذه الصداقة”.

أما رواية سامي شرف فإنها تضع فهم لقاء عبد الناصر بسفيره في واشنطن وما دار فيه من حديث في إطار مختلف. بمعنى أن شرف توخى أن يلقي ظلالاً من الشك بعلاقة ما للسفير أحمد حسين بالأميركيين. فقد كان عبد الناصر يُدرك في قرارة نفسه أن الأمر لا يخرج عن حدود المناورة، وأن أميركا لن تقدم على المساهمة في تنفيذ المشروع، وتمسك أحمد حسين بموقفه وبمحاولاته للتفسير والتبرير، وبعد أن استمع له عبد الناصر مطولاً بادره قائلاً: «حسناً سأعطيك الفرصة لكي تثبت شيئاً من أجل مصر يا أحمد، تروح لدالس وتقول له إنك قبلت بجميع شروطه، ثم لاحظ رد فعله، ومنشوف ايه حايجري بعد كده”.

وأسقط في يد أحمد حسين، واستفسر من الرئيس عما إذا كان لا يريد أن يعدل من الشروط الأميركية فقال له عبد الناصر: “لا تعديل في الشروط، وأنت مفوَّض تفويضاً كاملاً ومعاك (كارت بلانش)، لكنه أوصاه ألاَّ يفعل شيئاً يسيء الى سمعة مصر وكرامتها، وقال له: “إن السبب الموجب لذلك هو أننا لن نحصل على السد العالي من الأمريكان”.

وأتذكر الآن جلسة في بيروت مع الوزيرين العراقيين طارق عزيز وعامر عبد الله من الحزب الشيوعي العراقي بعد اتفاق إنهاء الحرب الكردية بقيادة الملا مصطفى البارزاني في شمال العراق، وتشكيل حكومة جبهة وطنية في بغداد مطلع عام 1970، حيث دار الحديث عن مواقف الدول العربية في الحرب الباردة بين أميركا والاتحاد السوفياتي، فقال عامر عبد الله: “إن الدول العربية تتصرف على أساس أن أميركا هي أحب الأعداء، والاتحاد السوفياتي أبغض الأصدقاء”!

:عن لبنان

َأخفى القبيحَ و أظهرَ الحسن

(7)

12/2/2024

كان الوسط الصحافي اللبناني، خلال الحقبة الناصرية، يعرف مدى اهتمام جمال عبد الناصر بما تنشره صحف بيروت، وكان الملحق الصحافي المصري في العاصمة اللبنانية، أنور الجمل، أنشط إعلامي في العاصمة اللبنانية، بين جميع الملحقين الآخرين، عرباً وأجانب. كان لأنور الجمل حضور، وكان له نفوذ، وكان له أسلوب متميز في العلاقات العامة. طبعاً، كان رأسماله الأول الدعوة الناصرية، لكن الدعوة على أهميتها، تلزمها دعاية أيضاً، والدعاية يلزمها مال، فكان أنور الجمل ينفق على الدعاية بمقدار قليل لأنه لم يكن بتصرفه مال كبير، بينما أصحاب المال الكبير كانوا ينفقون عن سعة ومن غير طائل.

لسنوات عديدة بقي أنور الجمل على المسرح الإعلامي اللبناني النجم الأول. ومع أنه بقي في الخدمة خلال عهد أنور السادات، فقد أفل نجمه لأن الدعوة الساداتية كانت ممجوجة وغير مقنعة من جهة، ولأن الدعاية بالمال الكبير انتقلت مصادرها الى أهل البترودولار.

بل إن الدعوة والدعاية الناصرية، في أواسط الستينات من القرن الماضي، ضعفتا كلتاهما عندما دعا عبد الناصر الى مؤتمر القمة الأول في القاهرة، تحت شعار وحدة الصف. وهنا تنفست الصحافة الناصرية في بيروت الصعداء لأن بعض أصحاب الصحف اللبنانية المحسوبين على عبد الناصر اشتاقوا الى المال الكبير، فاتخذوا من وحدة الصف معبراً الى الصف الآخر. وأذكر عندما كنت أعمل في دار الصياد في عام 1964، كان عميد الدار الراحل الأستاذ سعيد فريحة في مكتبه، وقد بلغه نبأ دعوة عبد الناصر الى مؤتمر القمة، فمررت به بمحض المصادفة فوجدته يكاد يرقص طرباً لذاك الخبر، وقال لي: “لقد انتظرت هذه اللحظة طويلاً. لو لم يدعُ عبد الناصر الى هذا المؤتمر، لكنت أنا سأفعل ذلك”.

وفي محطات عديدة من مذكراته، يذكر محمد فايق وقائع، لا أهمية لها في السياق العام للمواضيع الأساسية، غايتها إظهار مدى اهتمام جمال عبد الناصر بالشؤون اللبنانية. ويؤكد محمد فايق، ما كنا نعرفه في الوسط الصحافي اللبناني من أن عبد الناصر كان يحرص على قراءة الصحف اللبنانية كاملة كلَّ يوم، وكانت تصله كلَّ يوم. كان يقرأ الجرائد اللبنانية بنسخها الورقية المباعة في الأسواق، وليس من خلال التقارير أو الخلاصات المختصرة.

ففي المقطع الرابع من الفصل التاسع بعنوان “عبد الناصر والصحافة اللبنانية” يقول محمد فايق إن الإعلام عند عبد الناصر كان هواية، ويضيف: “وبالتالي كان على وزير الإعلام أن يكون أكثر متابعة، ولم يكن الأمر سهلاً في الأيام الأولى لتوليَّ وزارة الإعلام”. ويقول فايق إن الرئيس عبد الناصر كان يتصل به هاتفياً نحو الساعة الخامسة مساءً ويتحدث عن الصحف اللبنانية، فيسأل على سبيل المثال: “هل قرأت عمود ميشال ابوجودة؟ فأجاوب بالنفي، فيقول لي اقرأه لأنه مهم. هل قرأت مقالة فلان؟ فأجاوب بالنفي، فيقول هذه المقالة تحتاج الى الرد عليها”، الى درجة أن الوزير محمد فايق اعترف في مذكراته بأنه شعر بالتقصير وهو يجاوب بالنفي، الى أن اكتشف أن الصحف اللبنانية تصل الى عبد الناصر يومياً كاملة، بينما هو كان يقرأ خلاصات عنها لا وجود فيها لما يهتم به الرئيس. وقد اضطر محمد فايق الى إجراء ترتيب يمكنه من الحصول على الصحف اللبنانية قبل وصولها الى الرئيس. ويقول بعد وصول تلك الصحف اليه: “وفي أول يوم وجدت أن قراءة الصحف اللبنانية تحتاج الى وقت كبير، فهي كثيرة جداً، وبدأت أتساءل: لماذا الصحف اللبنانية؟ وكيف يستطيع الرئيس قراءة هذا الورق كله؟”.

وقد أبلغني أحد الزملاء أنه كان ضمن وفد صحافي زار الرئيس عبد الناصر يتقدمه رياض طه نقيب الصحافة الراحل، وكان محمد حسنين هيكل، رئيس تحرير جريدة “الأهرام” حاضراً، فقال له عبد الناصر: “بص يا أستاذ هيكل وشوف الصحافة اللبنانية كلها شباب ازاي

والمعروف أن عبد الناصر كان يمحض رياض طه ثقته ومحبته، الى درجة أن اصطحبه معه الى اجتماع توقيع اتفاقية الوحدة بين مصر وسوريا، فكان الوحيد الذي وقف وراء عبد الناصر، وهو ليس مصرياً وليس سورياً.  

ولم يقتصر الاهتمام بلبنان على الصحافة والصحافيين، بل شمل أيضا الفن والفنانين. وفي تقديم كتاب مذكرات محمد فايق يقول كاتب التقديم، أحمد يوسف أحمد، باعتزاز، أن أول عمل قام به محمد فايق بعد تعيينه وزيراً للإرشاد القومي هو استقباله للسيدة فيروز في مكتبه. وفي مكان آخرمن الكتاب نشر محمد فايق صورته مع فيروز في مكتبه، وكتب عنوان الصورة رقم 18 “محمد فايق مع الفنانة الكبيرة فيروز في أول مقابلة له بعد تعيينه وزيراً للإرشاد القومي – أول أيلول / سبتمبر 1966

بل إن عبد الناصر نفسه كان له مثل هذا التوجه. وفي هذا يقول محمد فايق، إنه كان أول وزير مصري زار دمشق بعد الانفصال، وإنه قبل مغادرته العاصمة السورية، أرسل في طلب الفنانة اللبنانية الكبيرة صباح، لأنه قبل ذهابه الى دمشق قابل الرئيس عبد الناصر للوقوف على أي توجيهات معينة، فكان الأمر الوحيد الذي طلبه منه هو أن يحاول إعادة الفنانة صباح وحل مشكلاتها، حيث إن “بتوع الجمارك طفشوها” كما نقل عن لسان الرئيس. وعبَّرت صباح عن فرحتها وامتنانها بهذه الرسالة، وعادت الى القاهرة لتتألقَ من جديد، كما كانت دائماً، على حد قوله.

هذا هو الوجه الحسن من الرأي الناصري عن لبنان. أما الوجه الآخر المعتم والذي ليس بالحسن، فلا يقاربه محمد فايق لا من قريب ولا من بعيد. ويجدر هنا إعطاء محمد فايق “منفعة الشك”، على قول الإنكليز، لأنه قبل تعيينه وزيراً للإرشاد القومي، كانت له مهام كثيفة خارج مصر، خصوصاً في إفريقيا، ولم يكن على تماس مع مجريات الأمور في لبنان.

ففي عام 1958، بدأت الأجهزة الأمنية الناصرية في سوريا حملة تدخُّل كثيفة في لبنان، جرى خلالها اغتيال الصحافي المعروف الأستاذ نسيب المتني، وبهذا الحادث انطلقت “الثورة” ضد الرئيس كميل شمعون بتسليح سوري، وسبق ذلك تأليب متواصل للمعارضة بحجة منع كميل شمعون من تجديد ولايته، وباتهامه بأنه ينوي الدخول في حلف بغداد. وقد كانت حملات عبد الناصر السياسية والإعلامية ضد حكم نوري السعيد في بغداد شديدة للغاية، بحيث أسهم ذلك في إطاحة النظام الملكي الهاشمي هناك، وإعلان النظام الجمهوري مكانه، مما دفع الولايات المتحدة الى إنزال قوة كبيرة من مشاة البحرية (المارينز) على شاطئ الأوزاعي في الضاحية الجنوبية من بيروت.

وعندما تسلم العاهل السعودي فيصل بن عبد العزيز الحكم، بعد إبعاد شقيقه الملك سعود بن عبد العزيز، عام 1964، عكف على إقامة حلف إسلامي مضاد لعبد الناصر، وقد تولى الصحافي اللبناني كامل مروة، صاحب جريدة “الحياة”، مهمة الترويج لهذا الحلف، مما أدى الى اغتياله في مكتبه يوم 16 أيار / مايو 1966، من قبل شخص ينتمي الى تنظيم ناصري لبناني. وتندَّر بعض اللبنانيين يومئذ بالزعم أن برقية تعزية بوفاة كامل مروة وردت من القاهرة، قبل حدوث الاغتيال!

لعلَّ محمد فايق لم يكن على علم بكل ذلك، لأنه لم يتم تعيينه في منصب وزاري إلاَّ في شهر أيلول / سبتمبر 1966، أي قبل أربعة أشهر من اغتيال كامل مروة. ولهذا لم يتطرق الى ذلك في مذكراته، أو على الأرجح لم يكن على علم بكل ما جرى في تلك الحقبة من التوتر العام في لبنان والمنطقة، لأنه لم يكن في دائرة اهتماماته الرسمية في ذلك الوقت.

Post Comment