29/1/2024
لفتني الأستاذ سليمان بختي، مدير دار “نلسن” للنشر، عندما زرته في بيروت أوائل الخريف الفائت الى كتاب مذكرات محمد فايق، وزير الإرشاد القومي (الإعلام) في عهد الرئيس جمال عبد الناصر بعنوان “مسيرة تحرُّر”، فأخذت نسخة منه قرأتها تالياً في لندن. قرأتها، بل استمتعت بقراءتها، وإن لم أجد فيها جديداً غير معروف. ذلك أن كتب المذكرات والسير الذاتية للعاملين في أي شأن عام، وليس فقط في الشأن السياسي، تكتسب أهميَّة خاصَّة عندما تأخذ منحى نقدياً من خلال التجربة، لأنَّ اجتناب المنحى النقدي يعطي انطباعاً بأن كلَّ ما حدث لا غبار عليه، ولا شائبة تشوبه، على الرغم من النتائج الكارثية البينة غير الخافية على أحد.
أنا شخصياً لم أتعرف على محمد فايق، لكنني عرفته من بعض الزملاء المصريين الذين تعاطيت معهم في بيروت وفي لندن، أمثال أحمد بهاء الدين، ورجاء النقاش، وصلاح عيسى، وفيليب جلاَّب، ومحمود السعدني، وعبد المجيد فريد، وأحمد عبد المعطي حجازي، وأحمد حمروش، وغيرهم. عرفته من غير أن أتعرف عليه، ولذلك حرصت على قراءة مذكرات محمد فايق وعلى أن أكتب عنها لأنها تغطي أهم مرحلة في التاريخ العربي الحديث، خصوصاً من أواسط القرن العشرين الى اليوم الذي نحن فيه ونعيش في إطار ذيوله وتداعياته.
من الواضح في الكتاب أن محمد فايق نجح نجاحاً باهراً في المهمة التي أوكلت اليه لتنسيق الدعم المصري لحركات التحرر الإفريقية، من الجزائر الى جنوب إفريقيا. ومن حقه أن يعتزَّ بتلك المهمة، التي تعاطى فيها مع أكبر الزعماء الأفارقة الذين قادوا بلدانهم الى الاستقلال الوطني والتخلص من الاستعمار الأجنبي. والواقع أن المهمة الإفريقية التي قام بها محمد فايق بتكليف من عبد الناصر، جعلت من مصر قطب الرحى في القارة الإفريقية، وتوافد اليها جميع زعماء الحركات الوطنية الإفريقية طلباً للمشورة والدعم.
نجاح محمد فايق في مهمته الإفريقية، من خلال حماسه للعمل الوطني الدؤوب، وقدرته على التواصل وبناء أسس الثقة مع الآخرين، هو الذي جعل الرئيس جمال عبد الناصر يُسند اليه وزارة الإرشاد القومي بهدف تنشيط وتحديث الوسائل الإعلامية الشعبية للدولة المصرية وأهمها في ذلك الوقت الإذاعة والتلفزيون. وفي كتاب مذكراته يشرح محمد فايق بالتفصيل خطته لإعادة هندسة المسار الإعلامي المصري، وهو المسار الذي داهمته هزيمة حزيران / يونيو 1967، فهزَّته وانتقصت من مصداقيته، لكنها لم تسقطه، فأسقطه تالياً أنور السادات الذي انتقم من محمد فايق بسجنه عشر سنوات بالتمام والكمال، وهو ما سأتناوله في مقال لاحق.
كان محمد فايق أحد المقربين من الرئيس عبد الناصر، الذي كان يأنس بمشورته عندما يحتاج اليها، لأنه كان أهلاً لثقته، بعد نجاحه الملحوظ في مهامه الإفريقية التي كانت كلُّها تقريباً محفوفة بالمخاطر ومعرَّضة للانتكاس والفشل. وقد يكون هذا من العوامل التي جعلته يجتنب الخوض في القضايا الإيديولوجية المثيرة للجدل، سواء تلك المتعلقة بالوحدة مع سوريا، أو تلك المتعلقة بالقضية الفلسطينية، أو بالصراع مع السعودية في اليمن، أو حتى في النواحي الرمادية المتعلقة بمرتكزات السياسة الخارجية في زمن الحرب الباردة. وفي أغلب الظن أنَّه أخذ هذا المنحى كي يتجنب الكتابة النقدية الجديَّة لمسار الأمور باتجاه الهزيمة المزلزلة في الحرب مع إسرائيل عام 1967.
ولذلك فإنَّ كتاب مذكرات محمد فايق يختلف، من هذه الناحية، اختلافاً جذرياً عن كتاب صلاح نصر، مدير المخابرات الناصرية لعشر سنوات (1957 – 1967)، بعنوان “عبد الناصر وتجربة الوحدة”، لأن كتاب صلاح نصر يتناول بالبحث مسائل إيديولوجية معقَّدة، مثل القومية العربية ومفاهيمها المختلفة عن مفهوم عبد الناصر، ومثل الأفكار غير الواقعية التي كانت في ذهن عبد الناصر عن الولايات المتحدة الأميركية.
فقد جاء في كتاب صلاح نصر، على سبيل المثال: “حقيقة الأمر، كان هناك عنصرٌ من التفاهم الإيديولوجي بين عبد الناصر والأميركيين والبريطانيين في بداية الثورة، أساسه تصميمٌ مشترك على سد الطرق في وجه أي ثورة اجتماعية حقيقية. لكن هذا التعاون المأمول لم يُكتب له التوفيق، لا لأنَّ عبد الناصر لم يقتنع به، ولكن لأنَّ عبد الناصر لم يجد أي سند للفكرة في الرأي العام المصري”. (صلاح نصر، “عبد الناصر وتجربة الوحدة”، القاهرة، “منشورات الوطن العربي”، كانون الثاني / يناير 1976، الفصل الأول بعنوان: “عبد الناصر والولايات المتحدة” الصفحة 14).
ويمكن القول إنَّ كتاب مذكرات محمد فايد هو كتاب تقني لمسلسل نشاطه في الحقل العام، أو بمثابة روزنامة لذلك النشاط من العمل الإفريقي، الى العمل الإعلامي، ثم من سجون السادات الى مجال النشر، والعمل في مجال الدفاع عن حقوق الإنسان من خلال عمله التأسيسي في المجلس القومي لحقوق الإنسان.
لكن المحطات التي حدَّدها محمد فايق في مسيرته في كتاب مذكراته بعنوان “مسيرة تحرُّر” تصلح لتكون مجالات لمزيد من البحث في تأطيرها الفكري والإيديولوجي، لأنه من غير الممكن أن تنقلب تلك المسيرة في الاتجاه المعاكس، حيث كان محمد فايق من أبرز ضحايا ذلك التوجه المعاكس، لو لم تكن هناك ثغرات عضوية في مسيرة الثورة المصرية من الأساس.
(صدر كتاب مذكرات محمد فايق بعنوان “مسيرة تحرر” في بيروت في شهر تموز / يوليو 2023 عن “مركز دراسات الوحدة العربية