ارشيف من نافذتي
العراقي الغامض
قراءة متأخرة في عقل صدام حسين
(16)
الخليجي
سَنَتَها، في أواسط سبعينيات القرن الماضي، حّوَّلَ المطرُ دَربهُ عن المنطقة شبه الصحراوية المُحاذية لحدود المملكة العربية السعودية.
الجفافُ، أكلَ الأرضَ العاشبة، فأصبحت مجدبة، والعيون، التي كانت فوَّارة، باتت شحيحة، نزَّازة.
لعَنَ رعيان تلك القرى والبوادي الماء، والقدر، والأرض المُشَقّقة، ووصلت شكواهم الى آذان صدّام حسين، “نائب الرئيس” وقتها، فاستدعى خبراء الجيولوجيا، والمياه، والري، وسألهم المشورة، فأشاروا عليه حَفرَ آبارٍ ارتوازية لاستخراج الماء الزلال من جوف الأرض.
لم يُكَذِّب “السيد النائب” خبرًا، أعطى الأوامر، فتوجّهَ الفنّيون مع آلات الحفر إلى تلك المنطقة. وفي غضونِ أيام، كان الماءُ يتدفّقُ من بَطنِ الأرض عذبًا، سقى الناس، والمواشي، والأرض العطشى… فأصبح اسم “السيد النائب” يملأُ أفواه وقلوب سكان تلك النواحي.
في القاطع السعودي، كان الرعيان يراقبون ما كان يجري ويدور، وعندما استُخرِجَ الماء، هرعوا بمواشيهم، ونوقهم، لتنهل من الماء العراقي الزلال.
نظرَ العراقيون إلى المُتَوَجِّهين نحو ديارهم، بتبرُّمٍ واشمئزاز، ورفضوا أن يُقاسمهم جيرانهم الماء. والتلاسُن، تحوَّلَ الى مُشادَّات، واشتباكات بالعصي والنبابيت.
استشكلَ الأمرُ على السلطات الأمنية، فحارت كيف التعامُل مع الرعيان السعوديين، فأوصلت الإشكال إلى صدّام حسين، فأفتى وأمَر: ” لا تمنعوهم… قولوا لهم: إننا حفرنا الآبار لنا ولكم”.
تَصَرُّفُ صدّام حسين، يومها، ليسَ لفَضِّ المشكلة، إنما أراد، وهو يطمح الى الرئاسة والسلطة المُطلَقة، أن يُوَطِّئ الدَربَ إلى الخليج، وإرسالَ إشاراتٍ إلى السعوديين أنّهُ حريصٌ على ودّهم، وعلى أفضل العلاقات معهم، ومن خلالهم، مع الدول الأخرى في المحيط الخليجي.
وهكذا كان… فالتواصُل ظلَّ يربط العلاقات، بين الرياض وبغداد، حتى في أحلك الفترات.
***
لقد لمستُ بنفسي، سنة 1969، مدى حرص بغداد على التوادِّ مع الرياض، وعدم تعكير صفو العلاقات معها.
فقد قُرَّ الرأي، على إعادة إصدار “الأحرار”، التي كانت مُتَوَقِّفة، كوسيلة فكرية وإعلامية “لحزب البعث”، تكونُ قريبةً من ميشال عفلق، الأمين العام للقيادة القومية، الذي كان مُقيمًا في بيروت في هاتيك الأيام. وقد زكّاني عفلق لتلك المهمّة، فحوَّلتُ “الأحرار” من جريدة يومية الى مجلّةٍ أسبوعية.
ونحنُ نُحَضِّرُ لإصدارِ العدد الأول، تَجَمّعَت لدينا معلومات عن “محاولةٍ انقلابية” ضدّ الملك فيصل بن عبد العزيز، فنشرنا تحقيقًا مُسهَبًا، مُتخَمًا بالمعلومات من داخل البيت السعودي، عن تلك المحاولة، احتلَّ الغلاف وكان عنوانه: “واشنطن تُعِدُّ الأمير فهد لحُكمِ السعودية”.
بعد صدور العدد، الذي تناقلت موضوع غلافه غير وكالة أنباء عربية ودولية، تناهى إليَّ استياء المسؤولين في بغداد من الموضوع، وكُلِّفَ أحدهم، هو اليوم صار عند ربّه، أن يُبلِغَني ما تراه القيادة في بغداد: “كان من الأجدر أن تتصدّرَ المجلّة، في عددها الأول، مقابلة مع “الأستاذ ميشال”، أو مع الرئيس البكر، لإظهار هويتها، وشدِّ انتباه الحزبيين إليها”.
ظننتُ أنَّ بساطَ البحثِ حول العدد الأول قد طُوي، وأنَّ استياءَ القيادة وامتعاضَها قد محته الأيام، إلّا أنَّ ظنّي لم يكُن في محلّه.
في مطلع صيف سنة 1970، انعقدت في طرابلس الغرب، بدعوةٍ من العقيد معمر القذافي، الذي لم يَكُن قد مضى تسعة أشهر على إطاحته الملك إدريس السنوسي، قمّة عربية مُوَسَّعة، وتلتها قمة دول المواجهة، شارك فيهما الرئيس جمال عبد الناصر، (توفي بعد ثلاثة أشهر من القمّتين)، والرئيس أحمد حسن البكر، الذي التقيته مع رياض طه، نقيب الصحافة اللبنانية آنذاك، في قصر الأمير الرضا السنوسي ولي العهد السابق، وكان مقرَّ إقامته المُخَصَّص له من الحكومة الليبية … سألتُ الرئيس البكر ما إذا كان وقته يَتَّسِعُ لإجراءِ مقابلةٍ معه للمجلة، فبادرني على الفور: “تأخَّرتَ كثيرًا…”
ثم استدرك: “وقتي الآن ضيِّق، فبعد اجتماعات القمّة، سأُغادِرُ إلى الجزائر في زيارةٍ رسميَّة. لكن بإمكانك أن تُرسِلَ لي إلى بغداد أسئلة مكتوبة لأجيب عنها”.
فهمتُ، وقد وصلتني الرسالة من أوّل كلمتين: “تأخّرتَ كثيرًا”، فلا هو، ولا مَنْ معه في القيادة السياسية، تناسوا ذلك التحقيق الذي رَؤوا أنه أحرجَ بغداد أمام الرياض.
كانَ الوفدُ العراقي إلى قمَّتَي طرابلس ملفتًا، لأنه ضمَّ نائبَي الرئيس، حردان التكريتي وصالح مهدي عماش، إلى جانب وزير الخارجية الدكتور عبد الكريم الشيخلي، تاركين صدَّام حسين على رأس الدولة في بغداد، حيث أتاحَ له ذلك، في غفلة، التخلُّص من هؤلاء المسؤولين الكبار.
إنَّ تشكيلَ الوفد العراقي إلى طرابلس الغرب، على هذا النحو، يطرحُ أسئلةً لها معنى في تلك الظروف، حيث من المفترض أن يبقى أحد نائبَي الرئيس في البلاد ليقوم مقام الرئيس الغائب. وأول هذه الأسئلة، هو ما إذا كان البكر، في تلك المرحلة، على تواطؤٍ مع صدّام حسين للتخلُّص من منافسيه الثلاثة، كما حدث بالفعل، أو ما إذا كان البكر يريد ترفيع صدام الى نيابة الرئاسة، فوفَّر له تلك الفرصة.
***
“حبلُ الودِّ” بين الرياض وبغداد، لم ينقطع، لا بعد غزوة الكويت، ولا عندما تجمّعت على أرضِ المملكة العربية السعودية، جيوش ثلاثين دولة بينهم دول عربية، في تحالُفٍ غير مسبوق، لمحاربة عراق صدّام حسين، حرَّضت عليه مارغريت ثاتشر، رئيسة الحكومة البريطانية، وانقادَ إليها جورج بوش الأب، رئيس الولايات المتحدة.
لكن ما كان في الظاهر غير ما كان في الباطن. في العلن كانت الحملات الإعلامية على أشدِّها، وراحت صحفُ البلدَين تتفنَّنُ في “الردح”، على الطريقة التي كانت سائدة في زمن جمال عبد الناصر.
مُشادَّاتٌ، ونبشُ تواريخ، وتجريحٌ في العلن، تُقابلها اتصالات ولقاءات بالخفية. وقد استمرت تلك “الازدواجية” بعد العمل العسكري العراقي ضد الإمارة الصباحية، وبعد الهجمة الدولية، وهزيمة العراق!
الطرفُ السعودي الذي “هندس” تلك “الديبلوماسية السرّيَة”، إذا ما جاز التعبير، هو ذاته الذي بَلوَرَ التفاهُم بين البلدين، قبل، وأثناء الحرب الضروس ضد إيران (1980 – 1988)، يتقدّمه الأمير عبد الله بن عبد العزيز (ولي العهد وقتئذ)، ويضم الأمير سلطان بن عبد العزيز (وزير الدفاع)، الذي زار بنفسه شبه جزيرة” الفاو”، بعد إخراج القوات الإيرانية التي احتلتها في المرحلة الأخيرة من الحرب، وتعهَّد بإعادة إعمارها، والأمير تركي الفيصل (مدير الاستخبارات).
كان الأمير عبد الله، يُحمِّل نائبه في “الحرس الوطني”، عبد العزيز بن عبد المحسن التويجري، رسائل إلى المسؤولين العراقيين، فكان الشيخ المحنَّك، يتردَّد على العراق، ويُقابل صدّام حسين، الذي أنس له. وفي مرَّاتٍ رافق الشيخُ وليَّ نعمته الأمير عبد الله، في رحلات الصيد، التي كان يقوم بها في البادية العراقية، لم يغب عن لقاءات الأمير مع صدام حسين، بحضور طارق عزيز.
أما على الطرفِ العراقي، فقد كان صدام حسين يُشرف بنفسه على تلك “العلاقات السرّية” التي كان يُحرِّكُ فيها كلًّا من برزان التكريتي، خصوصًا بعدما انتقلَ إلى “جنيف”، ليكون ممثل العراق في المقر الأوروبي للأمم المتحدة، وطارق عزيز الذي كان أبرز المسؤولين العراقيين العارفين بتلك العلاقات، والمُخطّطين لها، وهو الذي أقنع صدام حسين بالمضي في مساعيه للتفاهم مع السعوديين، “لأنَّ في يدهم مفتاح الخليج”، انطلاقًا من نظرية “تفاهم الضرورة”، التي مَحْوَرَ سياسة العراق الخارجية حولها، وسبعاوي ابراهيم الأخ الآخر غير الشقيق للرئيس العراقي، الذي كان يتردد على الرياض، والاجتماع بالأمير تركي الفيصل.
حدثَ، بموافقة صدَّام حسين، أن طلبَ برزان التكريتي لقاء الأمير عبد الله بن عبد العزيز في “جنيف”، وبعدما تبلغ الملك فهد بهذا الطلب، سمح لولي عهده بمقابلة المسؤول العراقي، فكان اللقاء في فندق “أنتركونتينتال”.
***
كان العراقيون في كل مباحثاتهم السرّية مع السعوديين، يطرحون، أنَّ مَنعَ الحرب، يكمُن في تفاهمٍ سعودي-عراقي حول مستقبل المنطقة. فقد كان صدام حسين يعتبر أنَّ العراق “دولة خليجية”، وإنَّ ما يمنعه من ذلك حرمانه الإطلال على بحر الخليج، كما خطَّط له السير بيرسي كوكس، ورفض الكويتيون تصحيحه برسم حدود الواجهة البحرية بعد نيلهم الاستقلال. (كما مرَّ في فصل “المُنظِّر”).
وحرصُ صدام حسين، على الوجه الخليجي للعراق، جعله يَتَفَهّمُ مُبرّرات قيام” مجلس التعاون الخليجي”، فتوجّه إلى الخليجيين قائلًا: “نحن ممتنون، إذا أردتم التعاون، والأفضل أن تكونوا مُتَّحدين، لأنَّ في ذلك قوةً لنا”.
إمعانًا في خطب ودِّهم، وصف إقامة مجلس التعاون الخليجي بأنه “عملٌ عقلاني”. واستدرك، كأنه عرف أنه لن يُقبَلَ في صفوفهم: “إننا نبارك الاتحاد من دون أن نكون فيه، وقد باركنا به”.
أراد صدام حسين أن يكونَ “سيف الخليج”، وليس كما كان الشاه “شرطي الخليج”، فالشرطي يأمر، ويُهيمن، وحامل السيف يُدافع.
في دردشة صريحة مع أحد الزملاء اللبنانيين في لقاءٍ بينهما في بغداد، أسرَّ طارق عزيز، أنَّ المباحثات التي دارت بالخفية، مع السعوديين، كانت دانية القطاف، لولا تدخّل إسرائيل، “المُتفاهمة” مع طهران، التي وجدت في التوافق العراقي-السعودي ما يتهدَّدُها، ويشكل قوَّةً ضاربةً في وجهها، فحرَّضَ الإسرائيليون الولايات المتحدة للضغط على الرياض لقطعِ حبلِ الودِّ، وسرّعت في التحضير للهجمة على بغداد.
لكن على الرُغم من كل ذلك، ظلَّ هذا المسار مُستَمرًّا من الغزو العراقي للكويت، إلى الاحتلال الأميركي للعراق، وإسقاط نظام صدام حسين.
***
لقد اتَّضحَ، منذ البداية، أنَّ انقضاضَ صدام حسين، سنة 1979، على “ميثاق العمل القومي”، بين بغداد ودمشق، الذي وقَّعه البكر وحافظ الأسد، كانت غايته أن يكونَ “العراق دولة خليجية”. ففي الخيار بين “سوريا” و”الخليج”، اختار صدام حسين “التوجُّه الخليجي”، لأنه كان مُزمِعًا على محاربة إيران دفاعًا عن دول الخليج، ولتصوُّره الذي لم يكن يُخفيه، بأنَّ سوريا تقف في الصف الإيراني، وكانت لديه معطيات كافية لتأكيد صواب ما ذهب إليه.
هذا التصوّر العراقي، الذي استحوذَ على سياسة صدام حسين، بالنسبة إلى إيران وأطماعها في الخليج (ومنه العراق)، نكره، وتنكَّر له، الخليجيون، ولم يعترفوا به، ولذلك أسبابٌ منها خوفهم من “طبيعة” النظام العراقي، وعدم ثقتهم بقيادة صدام حسين. فقد اعتبر السفير عبد الله بشارة، أول أمينٍ عام لمجلس التعاون الخليجي، أن توجُّه صدام حسين هو من الأساليب “غير الأخلاقية”، وجعل الابتعاد الخليجي عنه من الأسباب الموجبة لإقامة “مجلس التعاون الخليجي”.
ويُمكن استخلاص ما قاله عبد الله بشارة، بما مفاده: “إن فكرة تأسيس مجلس التعاون الخليجي، جاءت من استياءٍ تولَّدَ لدى قادة الخليج، من الأساليب غير المعتادة، وغير الأخلاقية، التي اتبعها بعض العواصم، لتأمين الموافقة الخليجية على البرنامج الذي وضعته بغداد ضد مصر (الساداتية)، فضلًا عن نجاح الثورة الإيرانية، وما رافقها من صخبٍ ثوري، شعاراتي، موجَّهٍ ضد الخليج، وانفجار الحرب العراقية–الإيرانية في أيلول (سبتمبر) 1980، والوضع المتوتر بين سلطنة عُمان واليمن الجنوبي، والتبدّلات التي شهدتها الساحة الدولية، على أثرِ غزو الاتحاد السوفياتي لأفغانستان، والتهديد الذي رافقه لاستقرار باكستان”. (“مجلس التعاون الخليجي: دواعي التأسيس من وجهة النظر الرسمية”، عمر الحسن، بحثٌ في كتاب “مسيرة التعاون الخليجي: التحديات الراهنة، والمخاطر المستقبلية”، الدار العربية للعلوم ناشرون، بيروت، 2015).
نقطتان مهمّتان في هذا الكلام، واحدة ظاهرة، وأخرى مُستترة، وكلتاهما تُنكران أي دور للعراق في الخليج: الظاهرة منهما، هي التنديد بمساعي بغداد لتشكيل حالة عربية رافضة للصلح المنفرد مع إسرائيل، ومحاولتها إرغام دول الخليج على السير في هذا النهج. أما المستور، فهو نكران “خليجية العراق” جملةً وتفصيلًا… وبالتالي، التنكر للمقاصد العراقية المعلنة بأنَّ حرب صدام حسين ضد إيران الخمينية، كانت غايتها الدفاع عن الخليج”.
الدارسون لموضوع العراق والخليج، في المراحل اللاحقة لاحتلال الجيش العراقي للكويت، لا يستطيعون تَجاهُلَ وجهة النظر المُتَضَمِّنة بين السطور في عرض عبد الله بشارة للأسباب الموجبة التي أملت تأسيس “مجلس التعاون الخليجي”. لكن هذا الاستدلال يبقى وحيد الجانب، ما لم يقفوا على وجهة النظر العراقية حول المسألة الكويتية، ليس في عهد صدام حسين فقط، إنما في السياق التاريخي السابق له.
حتى تصوُّر صدام حسين للمسألة (كما مرَّ أيضًا في فصل “المنظِّر”)، قبل خمس سنوات من الحرب مع إيران، كان يرفضُ أمرين لا يعترف بهما الخليجيون:
الأول، هو أنه لا يضع إشكالية رسم الحدود مع الكويت، في “الإطار التوسُّعي” لبلاده.
والثاني، أنه لا يريد التشبُّث بالماضي، (أي المسعى العراقي في العهود السابقة لضمِّ الكويت الى العراق). لقد كان بالفعل يُريدُ حلًّا واقعيًا، هو في نظره، الحلُّ المتمِّمُ لخليجية العراق. أما الخليجيون فقد كانوا عازمين من البداية رفض إضفاء أيّ صفة خليجية على العراق، كما كان يتوخّى صدام حسين، من بداية عهده.
***
على الرُغمِ من صَدِّهم مساعي صدام حسين، فقد حاول الخليجيون، مُجاملته بإجراءٍ شكليٍّ لا قيمة فعلية له، وهو الموافقة على مشاركة وزير الإعلام العراقي في اجتماعات وزراء إعلام الدول الخليجية، وهم عندما سمحوا بذلك، كانوا يعرفون أنَّ المشاركة في اجتماعاتٍ إعلامية، لا تُضفي عليها صفة سياسية جادة ومُلزِمة.
صادف ذات يوم في العام 1983، أن التقيتُ وزير الإعلام العراقي لطيف نصيف جاسم (الدليمي)، فسألته عن مشاركته في اجتماعات وزراء إعلام الدول الخليجية، وماذا يبحثون فيها، ففاجأني بالقول: .”إنني أخجل أن أقول ما هي الأشياء التي كانوا يتحدثون، أو يتسامرون بها”.
قلتُ مُستغَرِبًا: “ألا يتحدّثون بالسياسة؟”.
ردَّ هازئًا: “لا بالسياسة، ولا حتى بالإعلام. كل الحديث عن “الونسة”، و”السفر وتوابعه”، وما الى ذلك!”.
هذا يعني أنَّ الدول الخليجية، المؤسِّسة لمجلس التعاون، ليست جادَّة حتى بتطوير المجلس في اتجاه التعاون الفعلي المُثمِر. فقد عرض الملك السعودي عبد الله بن عبد العزيز، في القمة الخليجية المُنعقدة في الرياض في العام 2011، مشروعًا لتحويلِ مجلس التعاون إلى “اتحاد” بين الدول الأعضاء، فلم يلقَ استجابة.
وفي قمة 2013، جرت محاولةٌ جديدة لتقديم العرض السعودي، فرفضت سلطنة عُمان هذا العرض رفضًا مُطلقًا، وأعلنت أنها ستنسحب من المجلس إذا تحوَّلَ إلى “اتحاد”!
على أنَّ الرفضَ العُماني، لم يكن بغير تعليلٍ منطقي. فقد قال وزير خارجية سلطنة عُمان آنذاك، يوسف بن علوي: “إن المجلس فشل في بناء منظومة اقتصادية حقيقية، فكيف سينجح في الاتحاد؟”.
***
تبيَّنَ بالدليل القاطع، أنَّ الخليجيين ما كانوا في أيِّ يومٍ، قبل صدام حسين، وفي أيامه، ومن بعده، يرغبون في قبول العراق دولة خليجية. وكما ثبت، في شتّى مراحل “مجلس التعاون الخليجي”، أنهم لم يكونوا أيضًا راغبين في تطويره إلى قوةِ إقليميةٍ متَّحدةٍ، لئلّا تُسيطرُ عليه المملكة العربية السعودية، المؤهّلة لتحمُّل مثل هذه المسؤولية.
فعندما اقترحَ العراق، مشروعًا أمنيًا يتضمّنُ خطةً للدفاع عن الدول الخليجية المُعرَّضِ أمنها للاهتزاز، كجُزءٍ من تشكيل قوة ردع عربية، لم يترك الخليجيون حجّةً إلّاَ وطرحوها لرفض كلِّ ما يتعلق بالموضوع. منهم مَن أثار مسألة التفاوت الاقتصادي بين العراق والدول الخليجية، ومنهم مَن تذرَّعَ بتفاوت الأنظمة السياسية، ومنهم مَن شكَّك بنيّات النظام البعثي في بغداد، وآخرون بالخوف من نشوء صراع سعودي–عراقي على زعامة الخليج، وما إلى ذلك…
ظنَّ بعضُ العراقيين الذين جاؤوا إلى السلطة في بغداد، على محملٍ أميركي، بعد إطاحة صدام حسين ونظامه، أنَّ وجودَ العراق والخليج معًا تحت المظلة الأميركية، يُشكلُ ظرفًا مؤاتيًا للدخول في الفضاء الخليجي، فعادوا خائبين:
إبراهيم الجعفري، رئيس مجلس الحكم الانتقالي، في السنة الثانية من الاحتلال الأميركي (2004)، طالبَ بالانضمام الى “مجلس التعاون الخليجي”، فلم يردّ عليه أحد.
وزير النفط آنذاك، إبراهيم بحر العلوم، اجتهدَ في صياغةِ تعبيرٍ لطيف “لتطرية” الأجواء، سمَّاه “الوطن الخليجي الموحَّد”، فزاد في الطين بلَّة!
بعد أربع سنوات من تلك المحاولة البائسة، تحت الراية الأميركية، تقدّمَ وزير الدفاع الأميركي، روبرت غيتس، المدير السابق لوكالة الاستخبارات المركزية، باقتراحٍ الى دول الخليج بضمِّ العراق الأميركي إلى مجلسهم، مُعلِّلًا ذلك بأنَّ دعمَ دول الخليج للعراق يُساعد على احتواء إيران، فلم يُعيروه بالًا. كانت الحجة أنهم لا يريدون التورُّطَ في أيِّ نزاعٍ بين العراق وإيران.
في العام 2019، شكَّلت الحكومة العراقية ما أسمته “لجنة الحوار الاستراتيجي مع مجلس التعاون الخليجي”، بمُنطلقات تؤكّدُ أنَّ حكومة بغداد حينها تسعى إلى “الانفتاح على المحيط الإقليمي والدولي”، وأنَّ “العراق يلعب دورًا محوريًا في الحفاظ على الأمن والسلم الإقليمي والدولي، وتعزيز الاستقرار في المنطقة، إلى جانب مواقفه الرامية إلى خلق التوازن فيها”.
كما ناقشت اللجنة الإجراءات والأنشطة المُقتَرَحة المُتَّفَق عليها بين الجانبين، والمُثبَتة في خطة العمل المشترك (2019 – 2024)، التي تركزت على “المشاورات السياسية حول قضايا المنطقة، والتعاون في مكافحة الإرهاب والتطرّف، ودراسة فُرَص ومعوّقات التبادل التجاري، بالإضافة إلى جُملةٍ من الأنشطة الأخرى”.
دخلت البلبلة في أذهان الخليجيين لأنَّ الدعوةَ العراقية تلك جاءت بعد يومٍ واحدٍ فقط من استضافةِ بغداد اجتماع وزراء خارجية مصر والأردن، الذي أكد على “العُمقِ العربي للعراق”، مما ذكَّرهم بما قام به صدّام حسين، مع الملك حسين وحسني مبارك وعلي عبد الله صالح، بتشكيل “مجلس التعاون العربي”، الذي اعتبره الخليجيون موازيًا لمجلسهم، وأنه يضمُّ دولًا مُفلِسة طامعة بأموالهم!
والحقيقة، أنَّ “مجلس التعاون العربي”، كان فكرةً طرحها الملك الحسين بن طلال، على الرئيس العراقي، وتقضي بإنشاءِ ما سمَّاه “الفيلق العربي”، لكن صدام حسين اقترح اسم “مجلس التعاون العربي”، لكيلا يُفهَم بأنَّ للتجمُّع طابعًا وأهدافًا عسكريَّة.
على الرُغم من قُصرِ عمر هذا المجلس، فقد تمَّ عقدُ 17 اجتماعًا رسميًا على مستوى القمة، وعلى مستوى وزاري في سنة ١٩٨٩ وحدها…
مع ذلك كرًّرَ وزير الخارجية العراقي في العام 2021، فؤاد محمد حسين، طلب الحوار الاستراتيجي مع “مجلس التعاون الخليجي”، شارحًا أهدافه، وأوّلها ما كان الخليجيون ينفرون منه على الدوام، وهو “عقد اتفاقية استراتيجية متكاملة مع مجلس التعاون الخليجي”، (أسامة مهدي، موقع “إيلاف”، لندن، 17 أيلول/سبتمبر 2021).
في محصلةِ الأمر: إنَّ العراقَ غير مقبول في النادي الخليجي، تحت أيِّ رايةٍ جاءها، وإنَّ كلَّ عراقي، في نظر الخليجيين، مهما تغيَّرَ جلده، فيه شيءٌ من صدام حسين، من قبل ومن بعد!
العراقي الغامض
قراءة متأخرة في عقل صدام حسين
(15)
صدَّام بين عفلق …والإسلام
21/8/2024
مات ميشال عفلق.
ضجَّت بغداد، ناحت صحفها على مؤسس “البعث”، نُكِّسَت الأعلام، ألغي الاحتفال بإعادة إعمار شبه جزيرة “الفاو”. لبست الشوارع رايات سود، وآيات من الذكر الحكيم، يصدح مرتلها في الراديو، وعلى شاشة التلفزيون، مرفقة بصور “الرفيق المؤسس”، لوحده مرَّات، ومع “سيادة الرئيس القائد” في مناسبات رسمية.
ثمة من رفض أن يصدق ما سمع عمن قرأ نعي القيادتين القومية والقطرية، أن ميشال عفلق نطق بالشهادتين، ومات على دين النبي العربي… وهو كتب ذلك بخط يده، وأكد الناعون، أن الرجلَ وقَّع ما كتب، وأقرَّ به، مضيفاً “أحمد” على اسمه!
سار الخبر مساره، يطرق الابواب والآذان، ويتمدد على صفحات الجرائد وفي الحناجر. انتظر الكلُّ نشر الرسالة بخط يد الرجل، فما نُشرت، ولا أعضاء القيادة القطرية رأوا الرسالة رأي العين، على مزاعم أحد منهم، كان انشق عن القيادة، والحكم، و”البعث”، و… ترك العراق.
فطوبى لمن آمن ولم يَرَ!
اشتدت العلة عليه وازداد وهن القلب، فأشار طبيبه الخاص بضرورة إجراء عملية جراحية عاجلة للقلب المتعب.
في اواسط حزيران / يونيو سنة 1989 أقلعت طائرة خاصة من مطار بغداد الدولي، على متنها ميشال عفلق وزوجته. وحطت في مطار “شارل دو غول” حيث كان بانتظارهم السفير العراقي، فنقلوا الى المستشفى العسكري “فال-دو-غراس”، في الدائرة الخامسة من العاصمة الفرنسية، الذي يُسمَّى “الصندوق الأسود لصحة الزعماء”، (تأسس في 1796.5.19، وهو المستشفى العسكري الأبرز في العالم، محاطٌ بالكتمان، تحت إمرة وزارة الدفاع وقائد الجيش الفرنسي، تكلفة الليلة الواحدة فيه 1900 يورو).
لم يتجاوب القلب العليل، المتعب، لمبضع الجرَّاح. توقف نبضه، وذهب حامله في صدره الى ربه في 23 من حزيران(يونيو)1989.
الطائرة التي حملته الى باريس عادت به الى بغداد، وهذه المرة كان صدام حسين بانتظاره.
كان ميشال عفلق على مشارف الثمانين من سنيه.
***
لم تمر الأيام الثلاثة، قبل الجنازة، على صدام حسين كباقي الأيام. كان يتحضَّر للاحتفال بإعادة إعمار “الفاو”، فجاءه النبأ المحزن ليغير كلَّ شيء، فالأقدار رسمت خطوطها، وأدرك أن عليه التعامل معها بحنكة… ذلك أن وفاة عفلق، كادت أن تربكه، وتشكل له معضلة، كان في غنى عنها، وعن تبعاتها، وهو الخارج للتوِّ من حرب طويلة، دامية ومدمرة، مع الايرانيين… فحسم أمره، واستخدم الحادث الجلل، ليزيح الغمة عن صدره والاحراج، وليسمح له بالرد على كل من نال من “إسلامه”، و”قوميته”، وعَيَّرَهُ بانتسابه الى فكر وعقيدة “مُشركٍ”، كما كان الإعلام الإيراني يصف ميشال عفلق، فإذا بهذا “المُشرك” يُشهر إسلامه، ويموتُ على دين النبي الكريم، وها هو يُصلَّى عليه، ويُدفن، على سنَّة الرسول.
ففي حمأة النزال الدامي، شنَّت أبواق النظام الايراني الإعلامية، وفي مقدمها “إطلاعات”، و”كيهان”، حملات صوَّبت عليه، وعلى “إسلامه” وحكمه. وما لم يُكتب في الجرائد، ما كان يغيب عن عظات الإمام آية الله الخميني، ولا عن تصريحات علي أكبر هاشمي رفسنجاني، الذي كان عُيِّنَ، في آخر أيام الحرب، قائداً أعلى للقوات المسلحة الإيرانية، (كان رفسنجاني وراء “تَجرُّع الإمام السم”، بموافقته على قرار مجلس الأمن الدولي الذي أنهى الحرب سنة 1988).
يوم الجنازة المهيبة، التي تليق بالزعماء والرؤساء، كان أشرف على تنظيمها بنفسه، مشى “سيادة الرئيس” محاطاً بأعضاء القيادتين القطرية والقومية، ومجلس قيادة الثورة، وعائلة الراحل، وممثلين رسميين عن مصر، ولبنان، والجزائر، ومئات المشيعين من كل أطراف المحافظات العراقية.
حمل صدام حسين النعش الى مثواه، وأهَلَّ الترابَ على الحفرة، التي أنزل فيها التابوت الخشبي، ولم يمض كثير وقت، حتى نُقل الجثمان الى ضريح بقبة زرقاء، وبناء مزخرف، أشبه بأضرحة الأولياء الصالحين ومزاراتهم، أقامه صدام حسين في الحديقة الغربية لمقر القيادة القومية الكائن في تقاطع “شارع الكِندي” مع “طريق القادسية” السريع.
في ذلك الضريح، أودع صدام حسين رسالة ميشال عفلق، (على ما قال ابنه إياد)، ومع “الرفيق المؤسس”، دَفَن “البعث”.
يومها أدرك صدام حسين بأنه أمام واقع جديد، يسمح له بإعلان جمهوريته “دولة إسلامية”، ومعه، بشهادة “الأشراف”، إعلان نسبه “الهاشمي الحسيني”، الى سلالة النبي الأعظم، والقرابة الى الإمام علي بن أبي طالب!
(تابعت رغد بنت صدام حسين تثبيت نسب والدها باستصدار شهادة نسب من “نقابة الأشراف” في لندن). بذلك أظهر صدام حسين نفسه أنه أرفع مقاماً من أعدائه الإيرانيين، وأوزن من سائر الحركات الإسلامية، من “الإخوان المسلمين”، و”الأزهريين”، و”المرتدين عن القومية العربية”، التي هي الأخرى ماتت بموت صوتها الأول جمال عبد الناصر.
هو الآن، فوق رئاسة العراق، وفوق الصدارة العربية، ويمتد بنظره الى العالم الإسلامي حاملاً راية “الله أكبر” مخطوطة بدمه، وبخط يده.
كأن الدولة العباسية ولدت من جديد، لتبقى الى مئات السنين.
***
لم يكن الإيرانيون، وحدهم، من كانوا يعيرون صدام حسين، “بقلَّة إسلامه”، على قول الشاعر العباسي أبي نواس!
فقد ضُرِبَ من بيت أبيه، ومن المقربين منه.
زعم حسن العلوي، وهو كاتب بعثي عراقي، أنه كان من الذين وثق بهم صدام حسين، وصادقهم، وقرَّبهم منه، وأَسَرَّ له بمكتوم صدره، فتسلم رئاسة تحرير مجلة “ألف باء”، ثم عين مديراً لوكالة الأنباء العراقية، إلا أن قربه من “سيادة الرئيس”، لم يحمه من العقاب، فكُفت يده عن الوكالة، ونُفي خارج العراق، لينضمَّ الى صفوف المعارضة ضد “صديقه” ونظامه.
في حديث تلفزيوني، ذكر حسن العلوي، ما مفاده، وننقل بعضه، كما جرى التداول به:
قلت لصدام حسين في ذات يوم: لخاطر الله، لماذا لا تصبح أنت أمين سر الحزب، ونتخلص من “هذا الاسم؟”.
قال لي: “من هو”؟
أجبته: “ميشال عفلق”.
رد عليّ مستفسرا: “اشبيه ميشال عفلق؟”.
قلت: “اسم أجنبي، هو زعيم حزبنا، ولكن بلدنا بلد إسلامي، ونحن أهل الدولة العباسية، وعاصمتها بغداد، هل نقبل واحد مثل ميشال عفلق يقودنا “اشلون يصير”، من هارون الرشيد الى ميشال عفلق، ما تصير هذه، من فيصل الأول الى ميشال عفلق، اشلون يصير، ما تصير هذه، من حمورابي الى ميشال عفلق، ما تِرْهَمْ، ما تصير”….
بعد انفصال سوريا عن مصر، في أعقاب خلاف جمال عبد الناصر مع شركائه البعثيين في دولة الوحدة (الجمهورية العربية المتحدة)، وقع في اليمن انقلاب عسكري أطاح الإمام البدر، بقيادة عبد الله السلال، الذي أصبح رئيساً للجمهورية اليمنية في كنف عبد الناصر وقواته المسلحة.
في خطاب له، تعرَّض الرئيس السلال الى موضوع: “استهجان أن يكون ميشال عفلق قائداً عربياً”، داعماً بذلك حملة عبد الناصر ضد البعثيين، الذين جاءوه لتجديد تجربة الوحدة، ثلاثية هذه المرة، بضم العراق اليها، فقال السلال:
!”ميشال … ما لنا ولهذا الاسم”
ويُخبر من كان حاضراً مجلس العقيد معمر القذافي، في خيمته بطرابلس الغرب، أنه قال هازئاً
. “أميشال وقائد مسيرة البعث العربي؟”
وربَّ سائلٍ: هل هؤلاء رفضوا ميشال عفلق، لأنه اسم أجنبي أم لأنه مسيحي؟
والجواب: لأنه كذلك!
ففي الوسط العربي القومي، المسلم وحده له الحق في تعاطي السياسة، وبكلامٍ جازمٍ قاطعٍ: إن “مسألة الذميَّة”، ألغيت شفوياً، وبقيت في القوانين.
***
“أسلم” ميشال عفلق، أم لم يُسلم، ليس أمراً مهماً في الشكل. لكنه بالنسبة الى صدام حسين كان ضرورة سياسية حيوية، لانعطافته الإسلامية، من خلال “حملته الإيمانية”، فهو لا يستطيع إعلان دولته “جمهورية إسلاميَّة”، يحمل علمها الوطني عبارة “الله أكبر، من دون “أسلمة البعث”. فهو كان يريد “جمهورية العراق الإسلامية”، في مواجهة “جمهورية إيران الإسلامية”. في تصوُّره:
!”إسلام عربي أصيل”، في وجه “إسلام فارسي هجين”
ملفتٌ أن توجُّه صدام حسين بالنسبة الى تعامله مع ميشال عفلق، في نهايته، يتناقض مع تعامل البعثيين السوريين الأوائل في بدايته. فقد قال جلال السيد أحد أوائل البعثيين في سوريا:
“اخترنا ميشال عفلق لرئاسة الحزب لكونه مسيحياً، مع أنه يوجد من هو أكفأ منه للرئاسة… لكننا، قصدنا بذلك عنواناً لعلمانية الحزب”.
بصرف النظر عن شكلية، وإشكالية، إشهار ميشال عفلق إسلامه، فإن الإطار النظري لأفكاره المعلنة، بقي يلفُّه الالتباس، على جدلية “العروبة والإسلام”، منذ أن ألقى محاضرته المشهورة، “في ذكرى الرسول العربي”، على مدرج جامعة دمشق، يوم الخامس من نيسان (أبريل) من عام 1943، قبل أربع سنوات من تأسيس “حزب البعث”.
قد يكون أن إشهار صدام حسين إسلام ميشال عفلق، حسم الجدل فيما يتعلق بالهوية الشخصية للرجل، لكنه قطعاً لم يحسم جدلية الالتباس بين العروبة والإسلام.
في كتاباته الأولى في أواسط ثلاثينات القرن الماضي، قدَّم ميشال عفلق صورة عن الأزمة التي تنشأ بين المجتمع وقائده، أو رسوله، الذي يحمل لهم أفكاراً تفوق قدرة الجماهير على فهمها وإدراكها. وقد يكون تأثر في ذلك بالتوجهات الفلسفية السائدة وقت وجوده في جامعة السوربون، وأبرزها مُمثَّلٌ بالفيلسوف الوجودي الأول، الدانماركي سورين كيرغارد، الذي وضع كتابات نقدية حول “الديانة المنظمة”، وعن “المسيحية” وفلسفة الدين. (عاكسها لاحقاً جان – بول سارتر في مفهوم “الوجودية الإلحادية”).
أما التوجه الآخر، فهو ما جاء به الفيلسوف الفرنسي هنري بيرغسون في كتابه “المنبعان للأخلاق والدين” (1932)، الذي أثار ضجة في الأوساط الثقافية الباريسية، باعتباره مناقضاً لعلمانية الدولة الفرنسية.
قد يكون عفلق في كتاباته الرمزية الأولى، (متأثراً بمدرسة أندريه جيد، قبل أن ألهى نفسه عن الاشتغال بكتابة القصة وقرض الشعر، الى الاشتغال بالسياسة)، فاستبق ما سيواجهُ لاحقاً من فجوة بين أفكاره وفهم الآخرين لها، الى أن وقع “في الأسر الإسلامي” على يد صدام حسين، لاعتبارات لا علاقة لها بالدين على الإطلاق، بل بدافع سلطوي محض.
مما لا شك فيه، أن محاضرة ميشال عفلق “في ذكرى الرسول العربي”، أسيء فيها الفهم، وأسيء فيها القصد، كما أن مفاهيمها المزدحمة بالمصطلحات، كانت “فوق مفهومية” عامة الناس، وخارج إطار الحركية الحزبية، لأنه طرح المسألة في إطار “التجدُّد الإسلامي”، وليس جعل “البعث” إسلاماً جديدا، لأنها ألقيت قبل سنوات من تأسيس “حزب البعث”، كما شاع في مرحلة الوصول الى السلطة. فقد قال في محاضرته تلك:
“إن حركة الإسلام، المتمثلة في حياة الرسول الكريم، ليست، بالنسبة الى العرب حادثاً تاريخياً فحسب، تُفسَّر بالزمان والمكان، وبالأسباب والنتائج، بل إنها، لعمقها، وعنفها، ووسعها، ترتبط ارتباطاً مباشراً بحياة العرب المطلقة، أي أنها صورةٌ صادقةٌ، ورمزٌ كاملٌ خالدٌ، لطبيعة النفس العربية، وممكناتها الغنية، واتجاهها الأصيل، فيصحُّ، لذلك، اعتبارها مُمكنة التجدُّد دوماً في روحها، لا في شكلها وحروفها. فالإسلام هو الهزَّةُ الحيويةُ، التي تحرِّك كامن القوى في الأمة العربية، فتجيش بالحياة الحارة، جارفةً سدودَ التقليد وقيود الاصطلاح”.
هنا وقع كثيرون في الالتباس، كما يظهر من تفسير قدَّمه عبد البر عيون السود، أحد أوائل المقربين من ميشال عفلق، فقال:
“إن إعجاب عفلق بالحركة التاريخية للإسلام كان قوياً لدرجة أن “البعث” يجب أن يعيد على نحو جديد هذه التجربة الإنسانية”.
هذه العبارة تساوي القول بأن “البعث هو الإسلام الجديد”، لو لم يستدرك عيون السود موضحاً:
.”وبعبارة أخرى، فإن “البعث”، في أساسه، يستطيع أن يستلهم تلك التجربة العظمى”
هناك فروق كبيرة، بين أن “يستلهم من تجربة الإسلام”، وبين “أن يجدد تجربة الإسلام القديمة”، وبين “إعادة التجربة على نحو جديد”، أو “الممايزة بين محمد والمحمديين”، وما الى ذلك، بحيث راكمَ المفسرون لأطروحة عفلق، في محاضرته عن “ذكرى الرسول العربي”، جملة من التناقضات والالتباسات يصعب تفكيكها، خصوصاً في ضوء التجربة البعثية في السلطة، لا سيما في العراق حيث واجهت امتحاناً قاسياً لم تُفلح فيه.
على الجانب الآخر، من النقاش حول “العروبة والإسلام”، أي من جانب العرب غير المسلمين، هناك مفكرون توصلوا الى استنتاج باستحالة “قبولهم التام”، في الإطار الإسلامي، على الأقل كما كان الوضع في أواخر سني الدولة العثمانية.
في هذه الجدلية، يتساءل أنسي الحاج، رحم الله روحه:
“هل تكون مجاراة الأكثرية المسلمة في إسلامها، هي الصورة الفضلى لممارسة المسيحية اليوم في العالم العربي؟”.
أما ” عفلق والإسلام ” فقد كان للكاتب والشاعر الراحل، فيه مقالٌ حول كتاب “علامات الدرب”، الذي اشتمل على سيرتي الذاتية، نشره في “جريدة الأخبار” البيروتية في 30 من آذار (مارس) سنة 2013 جاء فيه ما مفاده:
“…عن اعتناق أو عدم اعتناق عفلق للإسلام، الأمر الذي ما زال ملتبساً لمعظم المهتمّين، يقول الفرزلي، الذي تحاور مع عفلق في الموضوع مراراً في بيروت، إنّ الأخير في كلامه على الإسلام «لم يكن يقصد هذا الإسلام القائم بكلّ تفرّعاته ومدرجاته وطقوسه، بل كان يعتبر هذا الإسلام في واقعه الراهن مرضاً من الأمراض العديدة المستشرية في الأمّة. فالإسلام عنده هو الحالة المحمّديّة التي استنهضها الرسول العربي في روح الأمّة (…) أمّا الإسلام الراهن فهو صيغة للعيش في الماضي، ولا تعبّر عن مستقبل الأمّة (…) كان عفلق يحلم بأن يكون البعث العربي الاشتراكي هو الإسلام الجديد ليؤدّي الرسالة التي عبّر عنها في مرحلة سابقة دين محمد. فالإسلام له ما قبله في التعبير عن روح الأمّة، وسوف يكون له ما بعده، بل تَجَسَّد فيه من ضمنه ما بعده في فترات معيّنة، وكان يعتبر أنّ البعث هو واحدٌ من هذا الما بعد من ضمنه”.
(…) ويختم الفرزلي بالقول: «إنّ إسلام ميشال عفلق هو هذا الذي فهمته منه، سواء صحّ أم لم يصحّ ما ادّعاه نظام صدّام حسين عن اعتناقه الإسلام تبريراً لجنازة إسلاميّة على الطقوس البغداديّة، لأنّ ذلك يبقى في الشكل ولا يلامس الجوهر”.
ويمضي أنسي الحاج في مقاله:
“يخرج سليمان الفرزلي بانطباع مؤلم هو أنّ عفلق كان يعيش غربةً روحيّة داخل حزبه. ويخرج القارئ بانطباع أشدّ إيلاماً هو أنّ عفلق كان يعيش غربةً روحيّةً داخل حزبه وداخل أمّته. وقد لا نبالغ إذا قلنا وداخل ذاته. بصرف النظر عن إسلامه أو عدمه. غربةُ المثاليّ الحالم في واقعٍ فظّ وانتهازيّ، وغربةُ المفكّر والمُنظّر في جغرافيا من الدسائس والدبّابات. لا نعتقد أنّ هناك بين عقائديي العالم العربي مَن انتشرت عقيدته وحكمت أكثر من “البعث” ولا مَن كان منفيّاً في انتصاره أكثر من ميشال عفلق”.
في المحصلة، إن إعلان صدام حسين المتأخر عن تحوُّل عفلق من المسيحية الى الإسلام، هو إعلان أن الإسلام هو كل العروبة، وهذا يعني أن “البعث” هو حزب ديني، وليس حزباً علمانياً، وأنه “حزب إسلامي”، وليس “حزباً عربياً”، وأن الإنسان العربي، هو “المسلم” فقط، وأن الخيارات المتاحة للعرب “غير المسلمين”, هي أن يعتنقوا الإسلام، أو أن يرحلوا عن البلاد، أو أن يبقوا ذميين، ومواطنين من الدرجة الثانية، عرضة لشتى أنواع المضايقة، والاضطهاد.
إسلام عفلق معناه، أنه لا مكان في العالم العربي لغير المسلمين!
***
لم يكن قد مضى وقت طويل على انتماء صدام حسين الى “البعث”، عندما برزت “المسألة الإسلامية” في السياسة العراقية. ظهرت تلك المسألة بأوجه متباينة في فترة التوتر بين “دولة الوحدة” في دمشق، بقيادة جمال عبد الناصر، وبين جمهورية عبد الكريم قاسم في بغداد. فالتدخل الفاضح الذي قامت به أجهزة عبد الناصر وعبد الحميد السراج في شؤون العراق الداخلية، عبر محاولة الانقلاب التي قادها من الشمال العقيد عبد الوهاب الشوَّاف، في الثامن من آذار (مارس) 1959، أطلق موجة من الاضطراب المتطرف تصدَّره الشيوعيون في عرضٍ جامحٍ لقوتهم، باسم الدفاع عن الجمهورية.
أعمال القتل والانتقام التي تلت محاولة الشواف، أطلقت في العراق موجة من ” العنف والعنف المضاد”، استمرت الى اليوم، فصار اللجوء الى القسوة والعنف وسيلة سياسية، للحكم وللمعارضة، منذ ذلك الحين. حتى أن عبد الكريم قاسم استفظع ما حدث، وساوره الخوف من “المد الشيوعي”، الذي تمادى واستفحل باسم الدفاع عنه، فلجأ الى شَقِّ صفوف الشيوعيين، وتسليط أجهزة الأمن عليهم… لإضعافهم.
بهذا التصرف، ساعد قاسم، الحركة البعثية والقومية المعادية للشيوعيين، ربما عن غير قصد منه، أو لخطأ في التقدير، أو ربما لاعتقاده أنه يستطيع أن يقيم توازناً بين الفريقين لصالحه، فيحكم من خلالهما، يقوي جماعة ويضعف جماعة حسب الظروف. لكن ذلك الأسلوب انقلب وبالاً عليه.
بحكم وجودي في “العمارة”، جنوب العراق، مدرسا لدى وزارة المعارف، كنت شاهد عيان على الوضع العراقي الناشئ. من المعروف أن “العمارة” تسكنها غالبية شيعية، وموئل للشيوعية الراديكالية، بحيث يمكن القول بأن “الحركات القومية العربية” كانت شبه معدومة. فتقاسم الشيوعيون المجتمع الشيعي، مع أتباع الحوزة الدينية في” النجف” الى جانب قلة قليلة من “المثقفين العروبيين”، الذين يوالون الحركات القومية، لكنهم ليسوا ناشطين أو فاعلين فيها.
في تلك المرحلة من تمايز عبد الكريم قاسم عن الشيوعيين، أصدر المجتهد الأكبر في “الحوزة النجفية”، السيد محسن الحكيم فتوى تقول: “الشيوعية كفرٌ وإلحاد”.
لفتني أن تلك الفتوى طُبعت على ملصقات جدارية، تَمَّ توزيعها في جميع أنحاء البلاد. وقد عرفت، أن الأجهزة الأمنية لنظام عبد الكريم قاسم، قامت بتوزيع تلك الفتوى على نطاق واسع، كما راحت تلاحق الشيوعيين وأنصارهم، وكان منهم أساتذة في” ثانوية العمارة”، وفي المدارس المتوسطة، ودور المعلمين والمعلمات.
أيقنت، وقتها، أن تلك الحملة، تمت بالتنسيق بين الزعيم قاسم، وبين” مرجعية النجف”، ولم تمضِ أشهر قليلة، حتى وقع الانقلاب العارفي – البعثي، فشكَّل البعثيون كتائب من “الحرس القومي”، قامت بالتنكيل بالشيوعيين بتصرُّفات انتقامية دموية، مما كاد يوصل العراق الى شفا حرب أهلية مدمرة. وفي ذلك الوقت، أي في مطلع صيف 1963، بعد انتهاء العام الدراسي، غادرت العراق، قبيل انقلاب عبد السلام عارف على شركائه البعثيين.
لا بدَّ من الإشارة هنا الى أن غلواء” الحرس القومي البعثي” في الانتقام من الشيوعيين، جعلهم واقعياً حلفاء للتوجهات الإسلامية، سواء منها التابعة لحوزة “النجف”، أو تلك التابعة للتيار القومي الناصري، و”جماعة الإخوان المسلمين”، وقلة من المشايخ السنَّة الأزهريين. ومما لا شك فيه أن البعثيين، ومنهم بعض المجاهرين بإسلاميتهم، استفادوا من المنعطف الذي اتخذه عبد الكريم قاسم ضد الشيوعيين، واستفادوا أيضاً من تجاوب القيادات الدينية، الشيعية والسنية، معه. فلو تُرك الأمر، للحرس القومي البعثي، حسب مساره الانتقامي بالعنف، لربما كان العراق انحدر الى التفتت والاحتراب الداخلي.
لكن أحداً لا يستطيع أن يُنكر أن ذلك التحوُّل تمَّ تحت راية فتاوى مرجعيات دينية متجذرة. هذا كان أول لباس ديني (وربما طائفي) لحزب “البعث” غطّى به رداءه العلماني الفضفاض.
ليس شيئاً بسيطاً أو عابراً، أن يعود “البعث” القهقرى الى أربعينات القرن الماضي، ليستعيد “جدلية العروبة والإسلام”، التي ظنَّ ميشال عفلق أنه وضَّحها في محاضرة “ذكرى الرسول العربي” عام 1943.
يحار المراقب، أو الدارس لظاهرة “حزب البعث” في العراق، عندما يواجه هذا التناقض الغامض بين الفكر والممارسة، خصوصاً تحت رئاسة صدام حسين.
لفهم ذلك التناقض، لا بدَّ من العودة الى الأدبيات البعثية، السورية والعراقية، في مطلع ثمانينات القرن العشرين، وفي بدايات الحرب العراقية – الإيرانية. بعد أقل من سنتين على حرب “قادسية صدام ضد إيران الإسلامية”، جاء في بيان المؤتمر التاسع لحزب البعث (1982) حول الموضوع الديني، قوله:
“إن الظاهرة الدينية ظاهرة انقسامية، وليست توحيدية للشعب العربي، في حين أن حركة القومية العربية أثبتت قدرتها، في الخمسينات والستينات، على حشد كل الشعب العربي، بكل أديانه وطوائفه، في النضال ضد القوى والدوائر الامبريالية في بلدان العالم الثالث، وضد المصالح الاستعمارية، والأخطار الصهيونية. كذلك، فإنَّ الظاهرة الدينية في العصر الراهن، هي ظاهرة سلفية ومتخلفة، في النظرة وفي الممارسة، وهي تأتي في عصر سمته الأساسية، وشروط التقدم والقوة فيه، تقوم على العلم والتكنولوجيا، وخلق الثروة، واستخدامها استخداماً كاملاً، وتوزيعها على أسس عادلة”.
يسأل قارئ هذا البيان، كيف يستقيم تحليله، ويسري مفعوله، مع توجُّه صدام حسين بعده بوقت قصير الى احتضان الخيار الديني، والسعي الدؤوب الى تظهيره بكل لبوس ديني متاح؟
حقيقة الأمر أن هناك شيئاً غير مفهوم، وما زال محفوفاً بالغموض الى اليوم، لناحية التناقض بين القول والفعل، مما يضع المسألة ضمن ثلاثة احتمالات لا رابع لها:
إما أنها مؤشر على صراع داخلي في “حزب البعث” الحاكم بين جناحين؛
وإما تقسيم للأدوار للتعمية والتضليل؛
وإما محاولة لتسعير الخلافات الحزبية بغية مغادرة “الفكرة البعثية” نهائياً والى الأبد.
في حال أرجحية الاحتمال الثالث، يكون صدام حسين قد “اجتث البعث”، قبل أن تخطر الفكرة للمندوب السامي الأميركي، فيما كان الرئيس العراقي متوارياً.
والمحير أيضاً، أن “البعث” جزم في بيانه، أن الظاهرة الدينية لا يمكن بالنتيجة إلاَّ أن تكون “طائفية تعصُّبية”، والأهم من ذلك اعترف بوجود “رفاق” يعتبرون “التدين” بديلاً أخلاقياً أو عقائدياً عن” حزب البعث العربي الاشتراكي”. فلنقرأ ما جاء في هذا الشأن، وردُّ الحزب عليه (خلال المؤتمر التاسع):
“إذا كانت مفاهيم وممارسات التديُّن قد اعتُبرت من قبل بعض الرفاق، بديلاً أخلاقياً أو عقائدياً عن “حزب البعث العربي الاشتراكي”، وسبيلاً لحل المسائل الجوهرية في الحياة، فلماذا اختاروا حزب البعث العربي الاشتراكي؟ ولماذا بعد أن قطعوا شوطاً طويلاً في الحزب، يريدون فرضها عليه، أو إشاعتها فيه، من دون أن يكون لذلك أساس في عقيدة الحزب، وفي تقاليده؟”.
لعل خلاصة مطالعة الحزب هذه، هي أجرأ ما فيه، لأنها دانت السائرين في الاتجاه الديني (بديلاً عن العقيدة البعثية)، واعتبرتهم “متآمرين”، و”مشبوهين”، و”غير أهل للقيادة”.
أيكون أن القائلين بهذا الكلام، أرادوا تجريد صدام حسين من أهليته للقيادة، خصوصاً بعدما ظهرت إخفاقات عسكرية على الجبهة مع إيران؟
هذا سؤال ما زال بحاجة الى إجابة، خصوصاً، أن صدام حسين بعد تلك الفترة كان متوجساً من مخططات، سواء داخل “البعث”، أو داخل القوات المسلحة، فراح يُصَفِّي الأشخاص، الحزبيين والعسكريين، الذين كان يُرجح في إطار هواجسه، أن لديهم استعداداً للحلول محله!
النتيجة، أو الخلاصة، تأتي في خاتمة البيان الختامي للمؤتمر:
“إن النضال ضد انحرافات الظاهرة الدينية، هو اليوم في مقدمة المهمات، التي يتعين على حركة الثورة العربية خوضها، وإن الذي لا يدرك هذه المهمة، يكون إما سطحيَّاً أو عاجزاً عن التحليل العميق للأمور، وبالتالي، لا يصلح للقيادة، أو هو مشبوه، ومتآمر، يريد تقويض الكيانات العربية، وتقسيمها بين الكتل الدولية”.
إن الصراع مع إسرائيل والصهيونية يتقدَّم راهناً على الجدلية حول العروبة والإسلام، وجوهر الصراع يكمن في أن إسرائيل تصرُّ على أنها “دولة يهودية”، حتى ولو حكمها علمانيون، وبالتالي فإنه “لا يفلُّ الدولة الدينية” سوى دولة، أو دول، أو حركات دينية مضادة.
فهل هي مجرد مصادفة أن تتقدم الحركات الإسلامية وحدها لمواجهة الدولة اليهودية في فلسطين المحتلة؟!
العراقي الغامض
قراءة متأخرة في عقل صدام حسين
(14)
المُؤمِنُ
راكعٌ، يرفعُ يديه للدعاء، وقد أدى الركعة الثانية، كما فرضت السننُ الرواتبُ لصلاة المغرب، تنعكس على قسمات وجهه رقة نفس، هادئة، متلطفة، متوسلة، فالرجل يجيد الاختباء وراء الصلاة.
على خصره بيت من الجلد البني اللون، يُخفي مسدَّس “طارق”، الذي لا يفارقه حتى في الصلاة، التي حرمها الله على من يقدم عليها وهو مسلح، (بدأ تصنيع هذا النوع من المسدسات في بغداد سنة 1981 بترخيص وتعاون مع “بيريتا” الإيطالية، وقد سُمي “طارقاً” تيمُّناً بطارق بن زياد، الذي فتح إسبانيا سنة 711 من الميلاد).
لم تقتحم عين الكاميرا الزجاجية البصَّاصة، خلوة صلاة “الرئيس المؤمن” عنوةً، أو على غفلة منه، إنَّما كانت تراه، وتطبعُ صورته، برضاه، فهو أراد، بعدما استمكنت منه فكرة “الحملة الإيمانية”، أن يتوجها بهذه الصورة، فنشرتها صحف الداخل، وهلَّلت لها صحف الخارج، التي تقتات من مائدة بغداد ونظامها.
ليس غريباً تصرُّفُ صدام حسين هذا، فهو متأهبٌ لكل الظروف التي تسنح له، ليبقى قابضاً على ناصية الحكم، سيداً مهاباً ومسموعَ الكلمة، وعندما استشعر أن الظرف هو ظرف “الدعوة” و”الرجعة” الى الدين، حاول مزاوجة الفكر القومي مع الفكر الإسلامي. فوقع في الالتباس والتناقض، فلم يخدم الفكرة القومية ولم يأتِ بالنفع للفكرة الإسلامية، وكاد أن ينفضَّ البعثيون القدامى من حوله، وهُمُ المتشبعون من فكرة العلمانية في الحزب، ويعتبرون ان الفكر الديني فكر متخلف.
***
لم يُعرف عن صدام حسين في طفولته، ولا عندما بلغ الحلم، وتعرُّفه على “البعث” وفكره وعقيدته، أنه كان لا يقوم عن سجادة الصلاة، مغرقاً في التدين وإقامة الفروض.
الا أن ترعرعه في بيئة خاله خير الله طلفاح، جعله يكتسب ثقافة عربية بدائية، وفهماً سطحياً للدين، لكن بإيمان صادق، لا يستفسر، ولا يتجشم عناء التوغُّل في فقه الدين وأصوله.
لم تكن “البيئة الطلفاحية”، بعيدة عن الإطار العام لفكر “حزب البعث”، على الأقل لجهة المواءمة بين “العروبة” و”الإسلام”. وكان هذا الأمر مريحاً لصدام حسين، فهو توجَّسَ، خلال مرحلة تعرُّفه على الحزب، أن يؤدي أي تفسير لأفكار” البعث” الى تناقض نافر بين “العروبة” و”الإسلام”.
لذلك، لم يغادر “النزعة الإسلامية”، التي تنغلُ في عقله وتستحوذ على تفكيره، حتى بعدما أصبح في صفوف “البعث “… فتلك النزعة، كانت ساكنة في نفسه منذ صغره، وملجأ آمناً، في كنف بيئته العشائرية الحاضنة.
استمر الصراع الداخلي، الفكري والنفساني، يتأجج في تصرُّفات ومسلكية صدام حسين، وقد جهد كثيراً فيما بعد، قبل بلوغه السلطة العليا، ليطابق بين “عقيدته البعثية”، كمناضل حزبي، وبين “عقيدته الإسلامية” كرجل مؤمن.
في مرحلة من مراحل عمله الحزبي، وجد صدام حسين نفسه على نقيض مع بعض القياديين الأوائل، في “حزب البعث”، فهؤلاء كانوا يميلون الى “العلمانية “غير “الإلحادية”، خلافاً للشيوعيين المنافسين لهم، الذين كانوا في أدبياتهم يجاهرون بالإلحاد.
وهذا يُفسر غوامض عديدة، في المرحلة الملكية، وفي المرحلة الجمهورية الأولى، حيث كان الحزب الشيوعي العراقي أوسع انتشاراً، وأصلب عوداً، وأوسع ثقافةً، من حزب البعث الوليد.
من تلك الغوامض، وجود حركات علمانية “إيمانية” منافسة للحركة الشيوعية الإلحادية؛
ومنها ايضاً، أن الحركات العلمانية “الإيمانية”، التي سادت بين “القوميين العرب”، غير البعثيين، خصوصاً الذين هم من بقايا “الثورة العربية الكبرى”, (ثورة الشريف حسين ضد الأتراك العثمانيين المستحوذين على “الخلافة الإسلامية” خلال الحرب العالمية الأولى)، كانت في جوهرها حركات إسلامية، يمكن وصفها بأنها “معتدلة”، من حيث انفتاحها على الأديان الأخرى، وإن كانت حاولت أن تماشي الأوروبيين (الإنكليز)، في المظهر الديموقراطي العلماني.
كان صدام حسين يعايش تلك النزعات المتناقضة، والمتنازعة، التي كانت تؤثر في الحياة الفكرية والسياسية، سلباً وإيجاباً، ولم تسعفه الالتباسات، والتناقضات في التوجهات البعثية، بالنسبة الى “المسألة الإسلامية”، فظل فكره يتأرجح بينها كلها.
***
لماَّ بدأ صدام حسين يعد العدَّة، لمواجهة، إيران في الميدان، وجد أنه لن يستطيع خوض غمار تلك التجربة الدامية، والمدمرة، بسلاح عقائدي ملتبس، فراحت تظهر على تفكيره، وتصرفاته، مظاهرُ “تديُّن”، من الناحية الشعائرية، لم يكن يُعرها بالاً من قبل، بل كان يتجنبها بدوافع أمنية “شخصية”.
حدث “افتراق” ملحوظ بين صدام حسين “المؤمن”، وبين “القيادة القومية” لحزب “البعث”، حيث رأت تلك القيادة خطر “النزعة الدينية” المستجدة في صفوف المحازبين، خشية أن يتم الشرخ بين هؤلاء وبين المتمسكين بعلمانية الحزب، وعقيدته التي ناضلوا على هديها، وأسروا في سبيلها.
لكن صدام حسين مضى في غيِّه، ودمج في الأساس العقائدي للحرب ضد “الجمهورية الإسلامية” في إيران، “القومي بالإسلامي”، بحيث بقي الجانب الديني المستجد فيه مختفياً في السنوات الأولى من الحرب وراء القناع القومي المتطرف نسبياً، الى درجة “الصراع العنصري” بين العرب والفرس، وأعلن عن هويته الإسلامية من خلال طرح ذلك الصراع، وكأنه صورة طبق الأصل، إسماً وفعلاً، من الفتح العربي الإسلامي لبلاد فارس في القرن السابع الميلادي، بقيادة سعد ابن أبي وقَّاص، وأطلق على تلك الحرب اسم “قادسية صدام”، أو “القادسية الثانية”، باعتبار أن قادسية سعد هي الأولى، وقادسية صدام هي الثانية!
لقد أدرك صدام حسين، قبل اندلاع الحرب مع إيران في أواخر عام 1980، أنه لا يستطيع أن يخوضها من غير “غطاء عقائدي”… وأيقن، بما لا يرقى الى الشك، أنه بغير “الغطاء الإسلامي” المضاد، لن تُبرَّر تلك الحرب… ولذلك، حرص من البداية على الربط بين حربه على” إيران الخمينية”، وبين حرب الإسلام، في بداية نشأته، على” إيران الكسروية، الساسانية، الزرادشتية”. بل هو في تلك المرحلة الأولى من الحرب، لامس تقمُّص “الحالة النبوية”!
لذلك، لم يُعِرْ صدام حسين بالاً لما حذَّرت منه “القيادة القومية”، وتخوف منه بعض أعضاء “القيادة القطرية”، بل تعمَّد مخالفة التحذيرات كلها، بالتركيز، فقط، على الجانب “الإيماني – الإسلامي”.
إن الوثائق، المتاحة للتداول، تثبت أنه خلال النصف الأول من الثمانينات، كان صدام حسين، في اجتماعات “القيادة القطرية”، واجتماعات “مجلس قيادة الثورة”، يظهر بصورة “المربي” أو “الواعظ”، متحدثاً مع رفاقه في القيادتين، وشارحاً، مستشهداً بالصحابة حيناً، وبكتب السيرة، أحياناً أخرى، ما كان يُحب أن يسميه ” المجتمع النبوي”، وكيف أنه الأنموذج الصالح الوحيد، الذي يجب أن يُحتذى به!
مع ذلك كله، ظلًّ صدام حسين، في الشكل، على الأقل، يراعي الرفاق في” القيادة القومية”، حيث حرص، في كل أحاديثه تجنُّب استخدام كلمة “إسلامي”، مكتفياً بترداد كلمة “الدعوة الإيمانية”، أو “الحملة النبوية” كما جاء في كثير من أحاديثه التي نقلتها الصحف العراقية في هاتيك الأيام.
قلَّة من البعثيين، ومن المراقبين، ومن عامة الناس، لاحظوا المرمى” الوسطي” في التوجه العقائدي المستجد للرئيس العراقي، وغايته تمييز نفسه، وبلاده، عن الحالات الإسلامية الناشطة على جانبيه:
الحالة الإسلامية الخمينية الشيعية في إيران، والحالة الوهابية السلفية في المملكة السعودية.
***
إنّ “التوجه الوسطي”، الذي اعتمده صدام حسين في حملته الإيمانية، كان هزلاً فاجعاً، وبليَّة، هي من نكد الدنيا، وسوء طالع الشعب العراقي….
هذا التوجُّه، قرَّبه، أكثر فأكثر، من الممارسات السائدة في “إيران الخمينية”، وهي “أخلاقية” متشددة من قبل أجهزة أمنية بصورة “شرطة أخلاقية”، لضبط سلوكيات المجتمع، خصوصاً، كل ما يتعلق بالنساء ومسلكهن، مع تزايد أعداد الأرامل واليتامى، بفعل الحرب التي طال أمدها، واشتد أوارها، بسبب من تدخلات خارجية لها مصلحة في إطالتها.
لم تختلف ممارسات ” نظام صدام حسين” المجتمعية (في الإطار الإسلامي)، لا عن ممارسات” نظام الخميني”، ولا عن ممارسات النظام الوهابي السعودي، عبر “المطاوعة”، أو رجال “هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر”، فبلغ التشابه بين الأنظمة الثلاثة حدَّ التطابق.
بلغت “الحملة الإيمانية ” ذروتها عندما بدأت النتائج المجتمعية السلبية لحروب صدام في إيران والكويت تظهر وتتفشى. فتشكلت، برعاية “الرئيس المؤمن”، كتائب أمنية عرفت باسم “فدائيي صدام”، كأداة تنفيذية للحملة الإيمانية، وللنهج الجديد لمراقبة، وضبط، تصرفات وسلوكيات العراقيين.
لقد أحدثت “الحملة الإيمانية” التي كانت في جوهرها، حملة مفتعلة، تماشياً مع الضرورة السائدة في المنطقة، حينذاك، “ازدواجية اجتماعية مركَّبة”، شملت النظام العدلي، والدولة، والحزب، والعائلة، …
فظهر نظام صدام حسين في تلك المرحلة بحالة انفصامية، مَثَلهُ مَثَل الغراب الذي حاول تقليد مشية الحجل، فنسي مِشْيَتَه، ولم يُتقن مشية الحجل!
هذا الوضع المستجد يستدعي الدرس المتأني، ابتداء من فرز ما هو أصلي وحقيقي، وبين ما هو مصطنع ومفتعل بحكم الضرورات السياسية المتعلقة بأمن النظام وديمومته.
على الصعيد العدلي، بدأ “حكم القانون”، المتمثل تاريخياً بقانون العقوبات البغدادي، يتراجع لتحلَّ مكانه أحكام الشريعة الإسلامية، ولو بصورة انتقائية واستنسابية، فصدرت تعليمات رئاسية بمنع ” بيع الخمور” في العلن، ومعاقبة مستهلكيها في حال ضبطهم متلبسين، بالسجن، أو الجلد في الساحات العامة، للاتعاظ، وكذلك بالقضاء على حياة الليل، إن في الملاهي الغنائية، أو المسارح الترفيهية، الجادة منها أو الهزلية، الناقدة للأوضاع القائمة في البلاد.
كذلك، جنح النظام، في حلته الإسلامية المستجدة، الى اقرار تطبيق عقوبات لم تألفها بغداد من قبل، مثل بتر الأطراف للسارقين، أو الرجم للزانية، والحكم بجلد المخالفين للأنماط المجتمعية الجديدة والمتشددة. الأفدح من ذلك كله، خصوصاً في السنتين الأخيرتين من حكم صدام حسين، أن كتائب “فدائيي صدام” (ترأسها فترة من الزمن عدي بكر الرئيس)، راحت تُعمل سيوفها برقاب مخالفي قواعد السلوك الإسلامية، خصوصاً قطع رؤوس النسوة المتهمات بممارسة الدعارة. وقد أحصت منظمات حقوق الإنسان الدولية خلال تلك الفترة قتل 200 شخص بتهم مسلكية مختلفة، في مدينة بغداد وحدها. وقد يرتفع هذا العدد في المناطق العراقية الأخرى، والمرجح أن تلك الإجراءات كانت لأغراض “ترهيبية”، لمنع تفشي الفساد الاجتماعي الناتج من تداعيات الحروب على اختلافها.
على صعيد التربية والتعليم، صار حفظ القرآن إلزامياً لطلبة المدارس، ومن المرحلة الابتدائية حتى الثانوية، كانت دروس القرآن مفروضة كمادة أساسية في التعليم، وأخذت الدراسات الإسلامية حيزاً أوسع في المناهج المقررة، بحيث تجاوزت الدراسات والبحوث العلمية العصرية التي كانت متفوقة في زمانها قبل الحرب مع إيران. وراحت وزارة الثقافة، تنشط في اصدار النشرات والدراسات الدينية، التي حلت مكان الدراسات الادبية، والثقافية، والعلمية والفنيّة. كما زادت في البث التليفزيوني، ساعات الأحاديث الدينية.
الى جانب ذلك كله، أمر صدام حسين بإنفاق مبالغ طائلة على ترميم المساجد السنّية المتداعية، وبناء مساجد جديدة (أكبرها وأفخمها مسجد “أم القرى”)، على الرغم من الضائقة الاقتصادية، التي كانت تضرب البلاد، من جرَّاء الحصار الدولي المفروض عليها منذ حرب الكويت… وتخصيص الميزانيات الطائلة لترميم وبناء الجوامع، كان على حساب تلبية حاجات العراقيين، من المساكن والمدارس، وهم الذين ذاقوا الأمرين، قبل الحروب التي دفعهم إليها النظام، فشاركوا فيها صاغرين، وعندما اشتد الحصار عليهم، مات آلاف منهم، من سوء التغذية وشح الدواء.
ومضى “الرئيس المؤمن” في أسلمة البلاد، فأمر بتأسيس أول “مصرف إسلامي” يعمل بطريقة “غير ربوية”، أي أنه لا يدفع فوائد على الودائع، ولا يتقاضى فوائد على القروض، شأن المصارف التجارية الحرَّة، التي كان الإسلاميون يُطلقون عليها اسم “مصارف الكفَّار”. وقد خَصَّهُ، برأسمال كبير بلغ أربعة مليارات دينار، بدعم من الدولة ومن “مصرف الرافدين”، أقدم مصرف تجاري في العراق تأسَّس خلال الحرب العالمية الثانية (1941).
***
لم تكن “الحملة الإيمانية” بعد الحرب، محاولة التواصل الأولى لنظام صدام حسين مع التوجهات الإسلامية. فقد بادر وهو يستعد لنزال إيران، الى مراسلة الإمام الشيعي محمد باقر الصدر، عارضاً عليه التفاهم على ما يتمناه الإمام ويُرضيه، لقاء وقف حملة العداء للنظام في الأوساط الشيعية والحوزة النجفية.
رفض الإمام المبادرة، وردَّ عليها برسالة فجَّة اعتبرها صدام حسين مهينة لشخصه وتتعرض بشدة لحكمه، فقرر التخلص منه بتصفيته الجسدية، مع شقيقته زينب المعروفة باسم “بنت الهدى”، فألقي القبض عليهما وأودعا السجن، وجرى قتلهما فيه، يوم التاسع من نيسان / أبريل من عام 1980، قبل خمسة أشهر فقط من بدء الحرب مع إيران، وقبل 23 سنة، بالتمام والكمال، من الاحتلال الأميركي في التاسع من نيسان / أبريل من عام 2003!
كما جرَّب صدام حسين، التصافي والتفاهم مع “الشيعة”، حاول أيضاً التخابر مع “السنيَّة السياسية”، فقام سنة1993، بمبادرات باتجاه “جماعة الإخوان المسلمين”، وغيرها من الحركات والتنظيمات الدينية، فاسترضاها بأن منحها هامشاً من حريَّة النشاط، شريطة أن تبقى تحت نظره وسيطرته، فإذا خرجت قياداتها عن الخط المرسوم لها، واشتطت متجاوزة الحد والهامش المتاح لها، عاد الى التنكيل بها وبأعضائها، ومحازبيها، كإجراء سياسي لوضع الأمور في نصابها الصحيح، وليس رفضاً لتوجهاتهم الدينية!
أقدم صدام حسين على “أسلمة نظامه”، من غير الاعتراف بذلك لقاعدته الحزبية، التي ظل كثيرون فيها متمسكين بعلمانيتهم، ومفاهيمهم الأصلية للحالات الدينية المشخَّصة سابقاً في أدبياتهم الحزبية، من زمن الصراع الحاد مع الشيوعيين في عهد عبد الكريم قاسم.
قد يكون السبب الأبرز، الذي جعله حذراً تجاه القاعدة الحزبية، خشيته من تفسيرهم لانعطافاته الإسلامية بأنها “استسلام” للإسلام السياسي الإيراني، والسعودي الوهابي، و”جماعة الإخوان المسلمين”. ولم يخطر، وقتذاك، لكثيرين من البعثيين ظنٌ آثم، بل فسَّروا ما كان يقوم به صدام حسين، على أنه رسالة منه الى الأميركيين مؤداها، كما قال لي أحدهم، وكان من البعثيين القدامى:
“إذا كانت غايتكم أن تسود الأنظمة الإسلامية وتحكم في المنطقة، فأنا على أتم الاستعداد لتحويل العراق الى دولة إسلامية شرط أن تكون تحت سيطرتي”!
وكان الله بالسر عليماً.
عزة إبراهيم الدوري، أحد القياديين البارزين، في القيادتين القومية، والقطرية، وكذلك في “مجلس قيادة الثورة” كان موضع ثقة صدام حسين فقرَّبه منه، وائتمنه على القليل والكثير، وأوكل إليه الإشراف على تنفيذ “الحملة الإيمانية” بكل تشعباتها… وكان الدوري معروفاً بتدينه وتشدُّده، لانتمائه الى “الطريقة النقشبندية الصوفية”، فاستخدم هذا التفويض للترويج لتلك الطريقة، فأسس فيما بعد، من أتباعها، “فرقة جهادية ” لمقاومة الاحتلال الأميركي، وإسقاط الحكومة العراقية التي نصَّبها “المحتلون”، لكونها “عميلة وطائفية”، حسب تعبيره.
وتحت مظلة “الطريقة النقشبندية الصوفية”، بقي عزة إبراهيم الدوري، “الوحيد” الذي لم تطله يد قوات الاحتلال الأميركي، ومات ميتة طبيعية، خلافاً لرفاقه في القيادة السياسية والحزبية.
***
كان الرمز الأهم “لدولة صدام حسين الإسلامية”، أنه كتب بدمه وبخط يده عبارة “الله أكبر” على العلم الوطني العراقي، وهو العلم الذي تقرَّرت ألوانه بعد “ثورة العشرين” ضد الإنكليز (1921)، مستمدة من قصيدة للشاعر الوطني العراقي المعروف صفي الدين الحلي وفيه يقول:
بيضٌ صنائعُنا، سودٌ وقائعُنا،
خضرٌ مرابعُنا، حمرٌ مواضينا
الملفت في الأمر، أن حكم الاحتلال الأميركي بقيادة بول بريمر، لم يستطع أن يُقر غير علم صدام للعراق الجديد، مع أنه حاول جاهداً أن يفعل ذلك. فقد عرض على مجلس الحكم العراقي الذي شكله من المتعاونين مع الاحتلال، تصميماً لعلم جديد يضم خطين أزرقين من فوقُ ومن تحتُ، قال إنهما يرمزان الى نهري دجلة والفرات، لكنهم لم يتجرأوا على إقراره لكون اللون الأزرق شبيهاً بالعلم الإسرائيلي. وأخيراً، رسا الأمر على استبقاء علم صدام، مكتفين بإزالة آثار الرئيس العراقي منه، بتغيير أحرف كتابة عبارة “الله أكبر” عليه. ويمكن القول، تبعاً لذلك، إن طيف صدام حسين ما زال يرفرف فوق العراق، الى اليوم، وربما ظلَّ مرفرفاً الى الأبد!
هذه الحادثة ليست تفصيلاً بسيطاً في المسار العراقي بعد الاحتلال الأميركي، ولم تكن كذلك قبله في أوساط “حزب البعث”، وفي أوساط عائلة صدام حسين، وربما في داخل عقل “الرئيس المؤمن” نفسه.
فقد سمح لابنه البكر عدي إصدار جريدة سمَّاها “بابل”، وشكلت من عددها الأول الذي كان صدر في 31 من آذار/ مارس سنة1991، نمطاً صحافياً لم يألفه العراقيون، فقد كانت صاحبة ميسم خاص في كتابة التعليقات والمقالات، الناقدة بشدة للمسؤولين في الحكم، ولم توفر أحداً إلا وأعملت القلم به وبإخفاقاته، وكانت تلك المقالات والتحقيقات على صواب في أحيان كثيرة. وقد استغرب المراقبون السياسيون، كيف يُسمح لتلك الجريدة، بالانتقاد الحاد للمسؤولين، والاقتراب من القيادات الحزبية المرموقة.
زادت حيرة المراقبين هؤلاء، عندما بدأت “بابل” بشن حملة مركزة، مناهضة وقاسية، ضد “الدعوة الإيمانية” التي أطلقها أبو عدي، وتُعدِّدُ مضارَّها على مكونات البلاد، ومخالفتها للعقيدة الحزبية المعتمدة للبعث تاريخياً، (قُتل عدي مع أخيه الأصغر قصي وابنه مصطفى، في الثالث والعشرين من تموز / يوليو سنة 2003، بغارة شنَّها الأميركيون على بيتٍ كانوا مختبئين فيه بحي البريد في مدينة الموصل).
فسر بعضهم تلك الحالة، بأنها من طبائع صدام حسين في “توزيع المآثم” على الرفاق في القيادتين القومية والقطرية ومجلس قيادة الثورة. وراح بعضهم الآخر، يفسر تلك “الازدواجية” بأنها محاولة “طمأنة” من صدام حسين الى بيئته البعثية، ورفاقه الحزبيين، بأنه لما يزل ملتزماً مبادئ الحزب، لكن الظرف السياسي الاقليمي يدفع به الى “المناورة” باستخدام الغطاء الديني!
الى أي حد يمكن اعتماد هذا التبرير، لا يستطيع أحدٌ أن يجزم، لأنه من غير الممكن تصديق أو تكذيب أي شيء لصدام حسين يدٌ فيه، وهو الملفَّع بالغوامض من بدايته الى نهايته… وحتى ما بعد نهايته.
لاقى، برزان إبراهيم التكريتي، الأخ غير الشقيق لصدام حسين، والمدير الأسبق لجهاز الاستخبارات العامة، ابن أخيه، فمضى بدوره، يُحذِّر الرئيس، من مغبة التعاون مع الإسلاميين، والوثوق بهم، فهم “لا يؤتمن جانبهم، ومن طبعهم الغدر”، ثم إن العراق لا يمكن أن يتحول الى “دولة دينية”، تقيم الحد حسب الشريعة الاسلامية، فهو مهدُ الحضارات، التي غيَّرت وجه العالم، ومتعدِّد الطوائف التي تتجانس وتشكل العراق العصري.
ولم يُبعد الدكتور سعدون حمادي، رئيس المجلس الوطني، نفسه عن معارضة حملة الرئيس الإيمانية، فسجَّل امتعاضه من هذا التوجُّه المستجد، واعتبره خطراً على الوحدة الوطنية، لأنه يضعها تحت ضغط فرض الدين على الحياة العامة، وعلى كل المكونات غير الإسلامية. وكان سعدون حمادي يرفض مجرد التفكير بتحويل الحزب والدولة الى ما يُشبه “الدولة الإسلامية”، معتبراً أن ذلك “يتجانس” مع الفكر الديني المرفوض الذي أطلقه حسن البنا، مؤسس “جماعة الإخوان المسلمين” في مصر.
ويثور في البال سؤال: كيف تجاسر الدكتور سعدون حمادي، وعارض، واعترض، ورفض، هو الذي لم يُعرف عنه خلال مسيرته السياسية في الحكم، أنه أقدم على ذلك؟
ألا يكون صدام حسين، هو الذي طلب ما قيل، ووافق عليه، لاجتناب نقمة البعثيين العلمانيين؟
***
إن ما يحير المراقب لتفكير وتصرفات صدام حسين، مطالعته حول “البعث والدين” حيث كتب جازماً: “إن حزبنا ليس حزباً دينياً، ولا ينبغي أن يكون كذلك”!
فإذا كان الرئيس العراقي مؤمناً بما كتب، وبما جزم، بأن “البعث” ليس حزباً دينياً ولن يكون، فالسؤال الذي يفرض نفسه في هذا السياق، هو:
لماذا، إذن، أعلن عن اعتناق ميشال عفلق، الأمين العام للحزب، الإسلام، بعد وفاته في شهر حزيران / يونيو من عام 1989، بعد سنة من توقف الحرب مع إيران، وأقام له جنازة إسلامية في بغداد؟
طبعاً، لا يستطيع صدام حسين أن يفعل غير ذلك، وهو خارج لتوه من حرب مع الجمهورية الإسلامية، ويسعى الى التصالح معها، بعدما كان أعلن، على طريقته، أن جمهوريته أيضاً جمهورية إسلامية!
لم يكن ذاك التصرُّف مستغرباً على الذين عرفوا صدام حسين عن كثب. فهو في مسألة البقاء في السلطة، لا يحلل ولا يحرم… يفعل أي شيء لهذه الغاية، فهكذا جبله الله، وأفعال الله لا تعلل!
حتى أن بعض الحزبيين العراقيين، الذين عرفوا ميشال عفلق سابقاً، تساءلوا متعجبين مستغربين:
“دخلنا الحزب وكان اسمه ميشال، ووصلنا الى الحكم أول مرة وكان اسمه ميشال، وطردنا من الحكم، وسُجِنَّا، ولوحقنا، وكان اسمه ميشال، وعدنا الى الحكم وكان اسمه ميشال… فماذا عدا مما بدا حتى صار اسمه “أحمد” فجأة”؟”!
بعد مضي أكثر من عقدين على الاحتلال الأميركي للعراق، وإطاحة نظام صدام حسين، و”اجتثاث” “حزب البعث” منه، يبرز سؤال: هل هناك جدوى من إعادة فتح هذا الملف؟
جوابي، أنه لا يجوز أن تُطوى حوادث تلك الحقبة، من غير درسها ومناقشتها، لأنها تشكل جزءاً أساسياً من تاريخ العرب المعاصر، ولأنها أيضاً لم تكن مجرد سجلٍّ للإخفاقات، والتناقضات، والخلافات، والصراعات، والحروب، بل هي أيضاً مدرسة سياسية، وفكرية، رفيعة الشأن، فيها إنجازات ثقافية، وعلمية، وإنمائية باهرة.
وأقول أخيراً، إنه لو كانت لا تستحق الدرس والتأمل، لما رأينا تهافت الكتاب في الغرب على إصدار عشرات الكتب والدراسات، التي، على أهميتها، ما زالت مقصرة عن بلوغ كنهها، وفهم مضامينها.
! (الحلقة التالية يوم الأربعاء المقبل بعنوان: “صدام بين عفلق و… الإسلام)
العراقي الغامض
قراءة متأخرة في عقل صدام حسين
(13)
المُحَاصَرُ
ينتشرُ خبرُ غزو العراق للكويت. تَضُجُّ شعوب الخليج أمام هذا الواقع الجديد، الذي فرض تناسي ما بينهم من حزازات، ومناكفات، وتآمر بالخفية… فهم ما كانوا يوماً، على رأي واحد، يظهرون للملأ ما لا يضمرون، وبعضُهم ليس بينه وبين آل الصباح مودة.
الحادث الجلل هذا، جعلهم يطرحون الصوت، يستجيرون بالغريب البعيد، لردع الجار القريب!
تولت مارغريت ثاتشر، سيدة بريطانيا الحديدية، الزمام. انقاد إليها الرئيس الأميركي جورج بوش الأب، فأرغمته، منذ البداية، على ما لم يكن، في قرارة نفسه وحسب ما ذكر فيما بعد، يرغب به ويريده… أرغمته على الحرب.
في السادس من آب/ أغسطس سنة 1990، اليوم الرابع لغزو الكويت، التأم “مجلس الأمن الدولي”، أصدر القرار 661 الذي قضى بفرض عقوبات اقتصادية خانقة على العراق، لإجبار صدام حسين على سحب عسكره من الإمارة الصباحية.
القرار كان قاسياً، جائراً، ظالماً، سيء النيَّةَ، غايته تجويع شعب بأكمله، لتجريد شخص واحد من سلطته!
ثلاث عشرة سنة رزح العراقيون تحت نير وضيم الحصار، (رُفع الحصار وأُلغي القرار 661 في 22/5/2003 بعد غزو الأميركيين، ومن حالفهم وتآلف معهم، لبلاد الرافدين الذي بدأ في 9/4/2003)، الذي لامس حدود الإبادة الممنهجة… يتضح ذلك جليَّاً، من مراجعة القرارات الدولية، بشأن العقوبات الاقتصادية. فمنذ تأسيس “منظمة الأمم المتحدة”، بعدما وضعت الحرب الكونية الثانية أوزارها سنة 1945، كانت العقوبات التي تُفرض على الدول، في المنازعات المختلفة، تستثني الغذاء، والدواء، والحاجات الأساسية للسكان… إلا في الحالة العراقية، حيث شمل القرار 661 الحظر على المواد الغذائية، والأدوية، والحاجات الأساسية، والضرورية.
صدام حسين المُحاَصَر، ظلَّ يُعاندُ، ويكابِرُ، ويسعى لاختراق الحصار، بكل ما أوتي، وما كان في متناول يديه، فأطلقت تلك المرحلة الصعبة، والقاسية، أحسن ما في صدام حسين، واسوأ ما فيه أيضاً، على قولة أبي نواس:” خير هذا بشر ذا”!
***
بعد ربع قرن على “غزوة” دولة الكويت واحتلالها، لمَّا تزل أسبابها غيرَ جليَّة، فالجدلية السائدة في سردية الاحتلال، طمستها، وغطتها، “المظلومية الكويتية”، فكان من الطبيعي أن يفشل صدام حسين في إقناع عالمٍ، أصَمٍّ ومُصمِّمٍ، بأنَّ العراق هو “المظلوم” وليس “الظالم”… لذلك، لم يعدم وسيلةً في كسر طوق الحصار الخانق على البلاد والعباد، إلاَّ لجأ إليها وانتهجها.
مدَّ اليد الى “المهربين” عبر الحدود، من كل جانب، لتزويد البلاد المحاصرة بالمواد الغذائية الضرورية، والحصول على الأدوية، التي قضى شِحُّها على الآلاف من الأطفال، والنساء، والمعوقين، والعجزة، والمسنين.
وقد وجد صدام حسين، أنَّ “ميناء العقبة” الأردني، على البحر الأحمر، المنفذ الوحيد المتاح أمامه، فكان التفاهم مع الحسين بن طلال على تصدير كميات من النفط الى عمَّان، بأسعار تفضيلية، لقاء فتح الحدود البرية، لإدخال البضائع المستوردة. وفي الوقت ذاته، على الرغم من الخصومة بين “البعثين” الحاكمين، في بغداد ودمشق، غضَّت السلطات السورية الطرف عن دخول البضائع إلى العراق، عبر معبر “التنف”.
في منتصف التسعينات من القرن الماضي، تأمنَّ لصدام حسين خط إمداد إضافي مهم في شمال العراق، فقد قامت قوات الزعيم الكردي الكاكا جلال الطالباني، بدعم ومؤازرة إيران، باحتلال المنطقة العائدة الى خصمه التاريخي مسعود البارزاني، ومنها عاصمته “أربيل”، فاستجار البارزاني بصدام حسين، الذي أنجده على الفور بقوة ضاربة من “الحرس الجمهوري”، قوامها نحو 30 ألف جندي، أعادت له ما انتُزِعَ منه.
كسب صدام حسين، في تلك الحملة المفاجئة، فوائد ومنافع أخرى، لها أهمية سياسية قصوى. فقد أجهزت قواته، التي أوفدها لنجدة البارزاني في شمال العراق، على مكاتب “وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية”، وكذلك على أعداد من رجال المعارضة العراقية، الذين اتخذوا من المناطق الكردية، المنفصلة وقتذاك عن بغداد، مراكز لنشاطاتهم السياسية المعادية للنظام في الداخل.
***
منذ أسابيع الحصار الأولى، قام صدام حسين، خِفيةً، بتدمير ترسانة ” أسلحة الدمار الشامل” تدميراً كاملاً، من غير أن يُعلن عن ذلك، أو يترك وراءه سجلات وقيوداً تدل على وجود مثل تلك الأسلحة في الأصل، أو أنه أزالها ودمرها… وظل الأمر محصوراً في قلة قليلة، من المسؤولين العسكريين، الذين ضربوا بدورهم حول ذاك التصرف طوقاً من التكتم.
لقد افترض صدام حسين، أن أجهزة الاستخبارات الدولية، وفي مقدمها ” وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية”، تعرف ما يجري داخل العراق، والأجهزة الدولية، بدورها، افترضت أنه يُخفي تلك الأسلحة وما زال يُطوِّرُها في السر. وما رسَّخَ هذا “الافتراض”، حرصُ الرئيس العراقي خلال سنوات الحصار الطويلة والمريرة، الظهور بمظهر “القوي”، الواثق والمتمكن من قدراته العسكرية، فلبس وجه “لاعب البوكر”، الذي لا تُفَسَّرُ ملامحه، ولا يُعرف إنْ كان يُخادع أم لا. وهذا التشبيه، هو لمسؤول عراقي، من الصفوة المقرَّبة من صدام حسين، ذكره لصحافي لبناني زاره خلال الحصار.
والحقيقة، أن صدام حسين المُحاصر، كان يخشى أن يبدو ضعيفاً، “فتنهشه الكلاب”، كما قال صديق عراقي، التقيته في لندن سنة 1998، فكتبتُ، من فحوى ما دار بيننا، في جريدة “الميزان”، التي أصدرتها في لندن مع مجموعة من زملاء المهنة، وترأستُ تحريرها، مقالاً عنوانه “أبو المعارك”، ها هنا مقطع منه:
“مما لا شك فيه، أن الرئيس العراقي تستهويه المعارك الكبرى، ويُقبلُ عليها غير هيَّاب، مهما كانت النتائج. فهو، من هذه الناحية، يمكن وصفه بأنه “أبو المعارك”، لأنَّ عينه دائماً على التاريخ، بصرف النظر عن دروسِهِ وعِبَرهِ، ولا فرقَ عنده، في ذلك، بين المعارك الكبرى الطاحنة، وبين التشييد والعمران. إنه يبغي، كما يبدو، أن يتركَ خلفه معالم لا تُمحى، لا من الأعيان، ولا من الأذهان”.
(“الميزان”، بروفيل “أبو المعارك”، المجلد الثالث، العدد السابع، الصفحة 16، تموز / يوليو 1996).
ما يؤكدُ كلامي هذا، حديث كان لي مع “السيد الرئيس”، قبل سنوات عشر من غزوه الكويت، إذ قال:
“أليس الذين شيَّدوا هذه الحضارات العظيمة في بلادنا من العراقيين مثلنا؟ فإذا كان العراقيون القدماء قد فعلوا ذلك، فإن بمقدور العراقيين الآن، أن يفعلوا مثله وأحسن منه”.
إن المراجعة المتأنية لمسار التطور الذي شهده العراق، خلال فترة وجود صدام حسين في موقع متقدم في السلطة، ثم في فترة رئاسته، تُبّين مدى التطور النوعي في مراحل، وأساليب الإنتاج التي نقلت العراق من مدار متخلف، الى مدار أرفعَ شأناً، وقدراً، إنْ في الصناعة، أو الزراعة، في الإدارة، أو في الثقافة والتعليم….
وكان واضحاً لكلِّ ذي عقلٍ، أن المسار الإنمائي المتصاعد، والمنجزات التي حققها النظام البعثي، كانت من الأهداف الأساسية في المخططات التي توافق عليها المعتدون بعساكرهم على العراق سنة2003، لتدميره، واستكمال احتلاله وإذلاله.
كان صدام حسين، في وجهه التقدمي، يشعر ويفكر، ويصدِّقُ شعورَه وتفكيرَه، بأنه يكتب التاريخ بصُنعِ التاريخ. فكأنه انتدب نفسه لاستئناف المسيرة الحضارية القديمة للعراق، من حيث بلغتها في الدولة العباسية، أو ربما في الدولة البابلية!
منذ تأميم النفط، في الأول من حزيران / يونيو 1972، بلغت المداخيل النفطية الواردة الى الخزانة العامة في بغداد أرقاماً غير مسبوقة، وترافق ذلك مع “اتفاقية الحكم الذاتي لكردستان العراق”، ثم إنهاء التمرد الكردي بالاتفاق مع شاه إيران، بحيث أن تلك الفترة من السلم الداخلي، المدعومة بتفاهم مع “الجار الإيراني”، على قِصَرِ المدة الزمنية لدوامه، شكلت منطلقاً لواقع جديد، اقتُلِعَ قبل تجذُّره.
بسحر ساحر، انقلب الفائضُ الطافحُ في الموارد الى شحٍ فاضح، فتقلصت أموال الاستثمار، وارتفعت المديونية، وتفاقمت خدمتها. وقد ظهرسنة 1993، أي بعد خمس سنوات من انتهاء الحرب مع إيران، وثلاث سنوات من حرب الكويت، أن الديون المترتبة على العراق بلغت 101 مليار دولار، مقسمة على النحو التالي:
35مليار للدول الغربية (أميركا وأوروبا الغربية)؛
40 مليار دولار للدول العربية (دول مجلس التعاون الخليجي)؛
11 مليار دولار للكتلة الشرقية (الاتحاد السوفياتي السابق، وكتلته في أوروبا الشرقية)؛
15 مليار دولار لخدمة تلك الديون (فوائد متراكمة وجارية على مجمل تلك الديون)؛
لذلك، ليس من المستغرب أن يكون ردُّ فعل صدام حسين، على “حشر” الكويت له بمطالبته بسداد ديونه، في ذات الوقت الذي عمدوا فيه الى خفض أسعار النفط الى أدنى مستوى هبطت اليه منذ سنوات، على نحو ما حدث.
***
إن الظروف الصعبة، والقاسية، التي كان يمرُّ بها، لم توقف صدام حسين عن المناورات السياسية، كما فعل في توسعة مجاله لكسر الحصار الجائر، سواء في الجوار الإقليمي، أم في قرع طبولِ الحربِ من جديد. فحرَّك قوات من الجيش العراقي باتجاه الكويت مرَّةً أخرى، وكأنه “يمازح” الأميركيين ووكلائهم الكويتيين، بأن أنيابه ما زالت حادَّةً وجارحة، لمجرَّد أن يُكشِّرَ عنها!
لكن المناورة الأهم، تلك التي استهدف بها المملكة السعودية، معبراً عن امتعاضه من “تراجع” الملك فهد عن التفاهم معه قبل غزوة الكويت، ثم سماح العاهل السعودي للقوات الأميركية وحلفائها، بالتجمع في مملكته للانقضاض عليه بعدها، الى جانب تضايقه من السياسة النفطية، التي انتهجتها السعودية خلال الحصار الدولي، الرافضة للحد من الإنتاج النفطي، بغية رفع أسعاره المتدنية، على الرغم من انقطاع النفط العراقي. فقد رأى صدام حسين أن التصرف السعودي، هو المسبب في إصرار الأميركيين على إبقاء الحظر على النفط العراقي.
السعوديون، من جهتهم، برَّروا سياستهم تلك، بحجَّة أن المحافظة على حصتهم في أسواق النفط، أهم من رفع الأسعار، فاعتبرتها القيادة العراقية “حجة مفتعلة”، وأن السعوديين يعملون على إطالة أمد الحظر والحصار، لأن عودة العراق الى الأسواق العالمية تشكل مأزقاً لهم!
بعد سماح الأمم المتحدة للحكومة العراقية، ببيع كميات محدَّدة من النفط، بموجب قرار مجلس الأمن 986 سنة 1995، وسُمِّي وقتها “برنامج النفط مقابل الغذاء”، وسَّع صدام حسين من هامش المناورة المتاح له، ببيع كميات إضافية من النفط في “السوق السوداء”، وتقديم “كوبونات” بكميات قليلة الى الدول الفقيرة الصديقة للعراق، والى شخصيات سياسية وإعلامية متعاطفة معه.
***
في أواسط تسعينات القرن الماضي، رَوَّجَ الأميركيون، أنهم يتخوفون من اندلاع ” حرب خليجية ثالثة”، وهذه المرة، بين العراق والسعودية، (في جريدة “الميزان”، نشرنا وقتذاك، رسماً كاريكاتورياً بريشة الفنان المبدع الراحل، علي عثمان، الذي سار ذكره برسوماته على صفحاتها كل مسار، وصف فيه تلك المنازلة الوهمية بين صدام حسين والملك فهد، بأنها بين “السيف المثلوم والكيس المفخوت”).
(“الميزان”، المجلد الثاني، العدد 7، نيسان / أبريل 1995، بعنوان: “حرب الخليج الثالثة بين العراق والسعودية”).
كانت تلك “مناورة صوتية”، أطلقها الأميركيون، لترسيخ تحكمهم بالسوق النفطي العالمي، وكان الرأي السائد في التحليلات السياسية لتلك الفترة، يشير الى أن تلك التوقعات مردُّها الى رغبة واشنطن في استمرار الحظر والحصار على العراق. وقد أبلغني الزميل الراحل سعيد أبو الريش (واضع كتاب “صدام حسين: سياسة الانتقام”)، نقلاً عن الصحافي الأميركي جيم هوغلاند (الكاتب والمحلل السياسي في جريدة “واشنطن بوست”)، أن خلاصة الموقف الأميركي: “تقليل قابلية العراق لاستعادة قدراته القتالية في وقت قريب، وإفساح الوقت الكافي للسعودية لبناء أكبر قدر ممكن من القابلية العسكرية”، (أي إرغام الرياض على تزويد ترسانتها بالسلاح الأميركي)!
وقد سبق لجيم هوغلاند أن كتب سنة 1994 مقالاً ملفتاً في “واشنطن بوست” ما مفاده:
“إن على الأميركيين، في يوم من الأيام، أن يُقيموا تمثالاً لصدام حسين، تقديراً لكل ما فعله، الأمر الذي عزَّز الدور الأميركي في العالم”!
***
إنَّ برنامج “النفط مقابل الغذاء”، ما زال يستدعي إعادة البحث فيه من الناحية “الجرمية”، فهو يُشكل دليلاً قاطعاً على” النيَّات الجرمية” وراء الدفع الأميركي للمنظمة الدولية لإحكام الحصار ضد العراق، ويُشكِّلُ أيضا اعترافا صريحاً بأن الحصار الدولي، كان فعل “إبادة جماعية”…
تنبَّه الأميركيون الى ذلك، وتعجلوا في طرح، وإقرار، فكرة أن يباع مقدارٌ من النفط العراقي، بإشراف الأمم المتحدة، يكفي ليُشرى بثمنه الغذاء، للتخفيف من تفاقم المجاعة في بلد يحتضن اثنين من أكبر الأحواض المائية في العالم: دجلة والفرات… وبعدما حصد الموت آلاف العراقيين.
إلاّ أن برنامج “النفط مقابل الغذاء”، أوجد بؤراً للفساد لم تكن منظورة. وقد لفتُّ النظر إليها، سنة 2000، فكتبت في مجلة “الحدث”، (كان يصدرها في باريس، ويرأس تحريرها الزميل الراحل قصي صالح الدرويش)، نقلاً عن رجال أعمال، لهم مكانتهم التجارية، بأن عمليات “النفط مقابل الغذاء” تشوبها الرشاوى والتنفيعات. وبعد صدور المقال، بعثت الأمم المتحدة بكتاب رسمي الى رئيس التحرير، تدافع فيه عن سمعة موظفيها، بالقول إن عملهم يجري “بكل أمانة وشفافية”، وطلبت نشر هذا التوضيح في العدد التالي من المجلة، وهكذا كان.
بعد أسابيع قليلة، من رد الأمم المتحدة هذا، انتشرت على نطاق واسع أخبار الفساد في صفقات النفط مقابل الغذاء، بحيث اضطرت الأمم المتحدة الى فتح تحقيق رسمي كُلف برئاسته، بول فولكر، الحاكم السابق لبنك الاحتياط الفدرالي الأميركي (البنك المركزي). وقد أدين بعض موظفي الأمم المتحدة بجني أموال غير مشروعة من خلال عملهم في برنامج “النفط مقابل الغذاء”. لكنني ما زلت الى اليوم، أعتقد بأن التحقيق الذي أجراه بول فولكر كان هامشياً وسطحياً، مكتفياً بإدانة الصغار لحماية الكبار!
ويذكر الذين عايشوا تلك الفترة، من وجهة الحرص على الأمانة والعدالة، كيف كان، رجل الاعمال كوجو أنان، نجل كوفي أنان، أمين منظمة الأمم المتحدة العام، يستغل سلطة أبيه في تمرير الصفقات التجارية من خلال برنامج الأمم المتحدة بشأن العراق.
***
دخل بيل كلينتون، سنة 1993، المكتب البيضاوي في “البيت الأبيض”، ومعه ملف الأزمة الخليجية، فانتهج، حيال العراق وإيران، سياسة ملتبسة، فحواها “تجميد الوضع” في البلدين، على ما رسا عليه عند مجيئه الى الحكم، فأطلق أنطوني لايك، مستشاره للأمن القومي، ما سمَّاه، “سياسة الاحتواء المزدوج للعراق وإيران”.
قضت تلك السياسة بالاستمرار في محاصرة البلدين، ليس بالحرب المعلنة، كما فعل جورج بوش الأب، ومن بعده ابنه، بل في إطار “اللاحرب واللاسلم”، بغية إضعاف كلٍّ من العراق وإيران، وتهميشهما، ومنعهما من التلاقي، كما حدث بين صدام حسين والشاه محمد رضا بهلوي في عام 1975.
لكن فريقاً وازناً في الولايات المتحدة، منه “المحافظون الجدد” في” الحزب الجمهوري”، وبعض الأوساط الصناعية في “الحزب الديموقراطي”، زد عليه “اللوبي الصهيوني”، كان يرى أن سياسة “الاحتواء المزدوج”، لا تقف على ساقين، وهي بعيدة عن منطق الأمور، فإذا كانت الغاية المنشودة هي “إزاحة صدام حسين”، فإن الحوار مع إيران شرطٌ لازمٌ!
هذا هو الأساس الذي قامت عليه تالياً مفاوضات أميركا والدول الغربية مع إيران وأدت الى “الاتفاق النووي”، الذي عاد دونالد ترامب خلال رئاسته (2017 – 2021) فانسحب منه، وأوقف العمل به.
لكن بيل كلينتون، عندما كان ينوء تحت ثقل الضغوط التي تُمارس عليه، من أجل تعجيل بلوغ الهدف المطلوب بإزاحة صدام حسين، كان بين الحين والآخر، يرشق العراق برشقة من” صواريخ كروز”!
***
لقد أدَّى هبوط أسعار النفط، في مطالع سنة 1996، الى تفاقم الأزمة الاقتصادية، في السعودية و”دول مجلس التعاون الخليجي”، فقررت دوائر التخطيط الجيو – سياسي في واشنطن، أن ترفع الأسعار بصورة مفتعلة لنجدة الرياض، بالدرجة الأولى، على الرغم من معارضة الصناعيين والمستهلكين الأميركيين لهذه الخطوة. لكن الأساس الذي قام عليه قرار استمرار الحظر والحصار على العراق، بقي ساري المفعول بتعليله الأصلي، وهو أن عودة العراق الى أسواق النفط تشكل مأزقاً للسعودية.
والحقيقة أن “المأزق السعودي”، ليس مردُّه الى هبوط أسعار النفط وعائداته، فحسب، إنما بسبب من عدم قدرة الرياض على تحمُّل ما يترتب عليها بفعل “ضعف” العراق. وكان أن اختصر أحد المحللين تلك الحالة، بأنها “عراقٌ ضعيفٌ عبءُ سعوديٌّ”!
إنه لا بدَّ من فهم المغزى العميق للقرار الأميركي الذي أخذ بعين الاعتبار الاحتياجات الخليجية، من أجل فهم ما جرى فيما بعد خلال رئاسة جورج بوش الابن، وما انتهى اليه الى احتلال العراق، وإطاحة نظام صدام حسين. وأيضاً، لفهم تطور المقولة السائدة قبل ارتفاع الأسعار، من أنَّ “العراقُ الضعيفُ عبءٌ سعودي، والعراقُ القويُّ همٌّ إيراني”، بحيث أن “الجمهورية الإسلامية ” في طهران، خلال تلك المرحلة، طالبت بالسماح للعراق باستئناف تصدير الكميات المقرَّرة من النفط سابقاً، فيما الأسعار على ارتفاع، حتى لا يؤدي نزول كامل إنتاج النفط العراقي الى الأسواق في وقت لاحق الى خلخلة فيها وفي الأسعار.
فالحجة الظاهرة، أو المعلنة، هي أن رفع أسعار النفط في حينه يُخفِّف من الضائقة المالية في دول الخليج المنتجة للنفط، ومن التململ والاحتقان السياسي والشعبي فيها، مما يهدد أمن واستقرار تلك المنطقة، وينعكس ذلك سلباً على كل دول العالم، وخصوصاً على أميركا وحلفائها الأوروبيين.
تلك الحجة كانت مطمئنة للخليجيين، لكنها لم تكن مقنعة للصناعيين وللمستهلكين في الغرب، الذين ارتفعت فواتير استهلاكهم للطاقة بصورة غير مفهومة وغير متوقعة.
لكن الأهم من ذلك، أنه يفسر “جدلية النفط والسلاح”، من زاوية تجاوزها لانعكاسات سلبية على الأوضاع الاقتصادية والسياسية للدول الصناعية (وتحديداً تلك المصنعة للأسلحة).
إن الحجة الأميركية، المطروحة داخلياً أمام الفئات المعترضة على تلك السياسة، تفيد بأنه بوجود أموال فائضة في بيوت مال الحكومات الخليجية، (نتيجة الارتفاع المفتعل في أسعار النفط)، يجعلها قادرة على رصد ميزانيات لشراء المزيد من الأسلحة، مما يعفي حكومات الدول الصانعة للسلاح في الغرب من تسريح عشرات الآلاف من العاملين في مصانعها، والحد من تفاقم البطالة.
على أن حجة الإقناع الحقيقية، أفدح من هذا التعليل. فقد اعتبرت الإدارة الأميركية، أن ما يدفعه المستهلكون الأميركيون من زيادة في أسعار النفط، يجب أن ينظروا اليه باعتباره دعماً غير مباشر لصناعة السلاح المُتْعَبَة بعد انتهاء الحرب الباردة مع الكتلة السوفياتية. فهي، بالتالي، تَعتبرُ بصريح العبارة، أن على عاتق المواطن الاميركي، الأكثر استهلاكاً للطاقة في العالم، يقع تمويل صناعة السلاح!
بذلك، سمحت الإدارة الأميركية لنفسها أن تقرر تلك الزيادة، من غير سؤال أو جواب، شاء المواطن الاميركي أم أبى!
فكم يتشابه هذا التصرف الأميركي، بطريقة صدام حسين العشائرية الفظة، في إقحام العشيرة كلها بتنفيذ أحكام الإعدام البغيضة، (كما مرَّ معنا)، لتعميم الذنب فينزاح العبء عن كاهل المسؤول الحقيقي!
***
لعل من أبرز التناقضات التي لازمت صدام المحاصر، جنوحه الى العنف الشديد، في التعامل مع معارضيه، كما حدث أثناء الانتفاضة الشيعية ضده في أعقاب حرب الكويت، (وربما بغض نظر من القوات الأميركية الموجودة هناك، حيث سمح له الأميركيون باستخدام طائرات الهليكوبتر ضد المنتفضين عليه في الجنوب). وكذلك القسوة الدامية في تعامله مع أقاربه وأهل عشيرته، كما حدث في حالة قتل مدير الاستخبارات السابق الدكتور فاضل البراك، في مطالع التسعينات، أو في حادثة قتل صهريه حسين وصدام كامل، بعد فرارهما الى الأردن في أواسط التسعينات، فتم تنفيذ “قانون العشيرة” في مجزرة موصوفة تشبه مجزرة “قاعة الخلد” بحق مجموعات قيادية في حزب البعث الحاكم، فور اعتلائه سدة الرئاسة، كما مرَّ سابقاً.
لا توجد الى الآن، رواية مؤكدة وموثوقة حول إعدام فاضل البراك. فقد خرج الرجل الى التقاعد، حسب الأصول، في عام 1989، ليعينه صدام حسين مستشاراً رئاسياً، وهو منصب فخري في جوهره. وقد بلغني، خلال تلك الفترة، أن البراك انصرف الى الاهتمام بمزرعته، كما كان يتمنى في آخر لقاء لي معه في بغداد خريف عام 1985.
التهمة التي وجهت اليه، تبريراً لاعتقاله ثم إعدامه، كانت “التعامل مع استخبارات ألمانيا الشرقية”، وهي تهمة غير قابلة للتصديق، نقضها صدام حسين نفسه فيما بعد. فهو كان يعرف أن مواقف البراك المعادية للحركات الشيوعية، معلنة، وموثقة، في كتابه “أضواء على الحركة الشيوعية في العراق”، (باسم مستعار هو “سمير عبد الكريم”).
بعدما تعرَّض فاضل البراك لمضايقات من الدائرة العشائرية المحيطة بصدام حسين، جرى اعتقاله بعد الاحتلال العراقي للكويت.
لم أعلم بإعدام فاضل البراك إلاَّ بعد مدة، ومن خلال نشرة إنكليزية، غير مخصصة للبيع، تصدر باللون الأزرق، عن مجلة “إيكونوميست” البريطانية، بعنوان “فورين ريبورت”، وفيها خبر موسع عن إعدام البراك، والتهم الموجهة اليه.
وحدث أن زارني الزميل الراحل غسان زكريا، ناشر ورئيس تحرير مجلة “سوراقيا”، الذي كان يعرف علاقتي بالبراك، فطلب مني، وألحَّ، أن أكتب رأيي في قضيته، فكتبت مقالاً طالبت فيه الرئيس صدام حسين باعتذار علني من عائلة فاضل البراك، ومن أصدقائه وعارفيه، عن قرار اعتباطي لا يمت الى الحقيقة بصلة.
بعد أسابيع على نشر المقال، جاء من أخبرني أن الرئيس العراقي تراجع عن التهمة المغرضة والملفقة ضد البراك، واعتبره من “شهداء الغضب”!
إن في هذا الكلام اعترافاً نادراً من قبل صدام حسين بأن “الغضب” طبعٌ متأصلٌ فيه، وفي هذه الحالة لم يكن يستحق المعالي، على قول عنترة بن شداد، رمز الفروسية العربية، قبل الإسلام:
لا يعرف الحقدُ من تعلو به الرتبُ
ولا ينالُ العلى مَنْ طبعُهُ الغضب
لكن ذلك، في رأيي، لم يكن يرقى الى مرتبة الاعتذار المطلوب.
***
بعد سنوات خمس على إعدام فاضل البراك، وقعت فصول مأساة حسين وشقيقه صدام كامل، المحفوفة بالغرائب من أولها الى آخرها.
هما شابان شقيقان، لا يملكان مؤهلات عالية، لكنهما متزوجان من ابنتي الرئيس العراقي. عيَّن صدام حسين صهره حسين كامل، زوج ابنته الكبرى رغد، في مناصب تنفيذية رفيعة، منها وزارة التصنيع الحربي، والإشراف على تطوير قوات الحرس الجمهوري.
لذلك كان خروج الأخوين مع عائلتيهما من العراق وطلبهما اللجوء السياسي الى الأردن، محيراً للمراقبين، وهو أمرٌ في ذلك الوقت يكاد لا يُصدَّق، لولا موافقة العاهل الأردني الملك حسين بن طلال على منحهما حق اللجوء السياسي، وإسكانهما “قصر الهاشمية”، وهو واحدٌ من القصور الملكية المخصصة لاستضافة رؤساء الدول.
أن يهرب أقوى رجل في الدولة، بعد الرئيس، مع عائلته، وعائلة شقيقه، هو أمر ينطوي على “حبكةً” ما تجعل تصديقه صعباً. لكنه، مع ذلك، حدث. وكان من نتيجته، بعد استجواب حسين كامل في العاصمة الأردنية، من أجهزة استخبارات دولية، أنه أفشى معلومات عن تصنيع الأسلحة بصفته الوزير المختص، مما أدى الى تجديد عمل المفتشين الدوليين، بعدما أعياهم البحث عن أسلحة الدمار الشامل، وكانوا على وشك اختتام التحقيق وإعلان خلو العراق من تلك الأسلحة المزعومة.
هناك روايات انتشرت في حينه للأسباب المحتملة للهروب العجيب للشقيقين حسين وصدام كامل، ثم رجوعهما الغريب الى العراق ليلقيا مصيراً مفجعاً، ترمَّلت فيه ابنتا الرئيس، وتيتَّم أحفاده، منها:
أن حسين كامل كانت لديه مخاوف من أن يقوم عدي، النجل الأكبر لصدام حسين، وشقيق زوجته بقتله، بعدما قام بإطلاق النار على عمه وطبان التكريتي، وزير الداخلية، فأصابه في رجله. فما كان منه إلاَّ أن هربَ لينجو بحياته، ويأمن على عائلته.
ورواية أخرى مفادها أن حسين كامل، لمس وجود مساعٍ خارجية للبحث عن بديل لصدام حسين في قيادة العراق، فاعتبر نفسه صاحب أولوية، بصفته صهر الرئيس، أو “الداماد”، كما كانوا يسمون صهر السلطان في الدولة العثمانية، وهو عادةً الرجل القوي في السلطنة، لأنه بإمكانه أن يصل الى السلطان في أي وقت. وقد أكد هذه الرواية العاهل الأردني الحالي، عبد الله الثاني بن الحسين، في كتاب سيرته بعنوان: “فرصتنا الأخيرة: السعي الى السلام في زمن الخطر”، حيث كتب:
“في تقديري، أن ما دار في ذهن حسين كامل، هو أن الغرب سيسارع إلى احتضانه، وأن الولايات المتحدة ستوظف نفوذها وقوتها لتنصيبه قائداً للعراق. ومن الواضح أنه كان واهماً”.
في مؤتمره الصحافي بعد وصوله الى عمان، طرح حسين كامل نفسه أنه “معارض للنظام”، ويسعى الى تغييره، فاستثار بذلك المعارضة العراقية الحقيقية، التي رفضته، ورفضت التعاطي معه، ومنهم من اعتبر هروبه من العراق مسرحية خادعة من إخراج صدام حسين نفسه، غايتها اختراق المعارضة الخارجية والقضاء عليها.
الفصل الثاني من تلك المأساة جرى في بيت صدام حسين، حين أعطى الأمان لصهريه الشقيقين، وعفا عنهما، وسمح لهما بالعودة الى بغداد بعدما يئسا من إقناع أحد في الخارج بجدوى احتضانهما، وكأنه ينفض يديه من مصيرهما المحتوم.
أبرأ صدام حسين ذمته تجاه صهريه، لكن ما العمل إذا كان “قانون العشيرة” يقضي بغسل العار الذي ألحقاه بها بسفك دمهما، مع والدهما وآخرين، في هجوم عشائري على المنزل الذي تواجدوا فيه.
لم يبدِ صدام حسين أي أسف، ولم يذرف دمعة عليهما، كما فعل عندما أرسل “الرفاق” الى حتفهم في “قاعة الخلد”، ودموعُهُ تجري على خدَّيه!
هو بذلك اتقى الشماتة من الفريق الآخر في عائلته، الذي كان معارضاً لزواج حسين كامل من ابنة الرئيس، لأنهم يعرفون أنه ليس أهلاً لها، ولا يستحق أن يرتقي الى ما ارتقى اليه.
على هذا النحو كانت طريقة صدام حسين في الاعتراف بأخطائه. على الأٌقل في قضية مصرع صهريه، لم يتذرع بأنهما من “شهداء الغضب”، بل مضيا في العرف العشائري الى “سجلِّ الخونة”!
***
أدار صدام حسين أزمة الحصار الدولي، ومنها أزمة التفتيش عن “أسلحة الدمار الشامل”، من قبل مفتشي الأمم المتحدة، إدارة جيدة بأعصاب باردة. فقد كانت أشبه بأفلام “القط والفأر” (طوم أند جيري)، في أفلام الصور المتحركة الأميركية … مماحكات لا تنقطع، ومحاولات لا عد لها ولا حصر، لتجاوز تأثيرات الحصار على النظام الحاكم، وعلى الشرائح الشعبية من المواطنين، من استرضاء المهربين، (بدلاً من سجنهم كما في السابق)، الى مختلف فنون الرشوة المباشرة، وغير المباشرة، لكل من يساعد على تخفيف الحصار.
كان أحياناً يقسو على الصرَّافين، بتحميلهم علناً مسؤولية التضخم من جراء التلاعب بسعر “صرف الدينار”، ومن جهة ثانية، يَحضُّهم على جمع أكبر مبالغ ممكنة من العملات الأجنبية المفقودة لدى الدولة.
كان الرئيس العراقي المُحاصر، يهتم بأدق التفاصيل، ليكتشف من خلالها أسهل وأنسب الطرق للتحايل على الحصار. بل هو وجد الوقت الكافي ليتفرغ لكتابة الشعر والرواية.
بالنسبة الى كتابة الشعر، اعترف بأنه لن يكون شاعراً، لأن ملكة الشعر ليست فيه… كل ما في الأمر، أنه تعتريه أحاسيس شعرية، تراوده في أحايين كثيرة، فيحاول أن يُلبسها أحرفاً وكلاماً منظوما ًولا يستطيع، والحقيقة أن قسوته المعروفة، وغلظته في التعاطي مع من يواجهه، لا يمكن أن تُخفيها الأحاسيس الشعرية المرهفة والرقيقة، وقد أدرك “سيادة الرئيس” أنه لن يكون في عداد الشعراء الذين ينبض الشعر فيهم من ساعة مولدهم.
ومع ذلك، فقد كان يحترم الشعراء، ويكرمهم، ويحضر لساعات المهرجانات الشعرية، خصوصاً مهرجان الشعر الشعبي الذي كان يداوم فيه من أوله الى آخره. ويقال إن حظه مع الشعر الشعبي كان أفضل من حظه مع الشعر الفصيح المقفى، وشاع في بغداد أنه امتدح نسبه بأبيات ملفتة منها قوله:
ليَ اعمامٍ على الجودة مشاهير
ليَ خوالٍ على الهيجا مغاوير
أما انكبابه الثقافي الجدي فكان على كتابة الرواية، حيث يستطيع أن يأخذ مداه، بإعطاء خياله المجال الفسيح في التعبير بكلام موسَّع، لا يستطيع أن يعبر عنه شعراً بكلمات قليلة مقطوفة من دوحة الأدب الرفيع. فقد أراد أن يكون في عداد المثقفين من كتَّاب وشعراء، فكان له شرف المحاولة، بل كان له احترام ذاته، واحترام المثقفين الذين حاول أن يجاريهم، بأنه لم يضع اسمه على أي من الروايات التي نُسبت اليه.
في تلك المرحلة التي هددت حياته ونظامه وشعبه، راح يبحث عن طريق يعطيه رفعةً فوق رفعة السلطة، وسط صراع في داخله بين الرقة، والعذوبة، المتمثلتين في الأدب، وبين القسوة، والبطش، المتمثلين في السلطة.
ربما كان يتخيل، ويتمنى، أن يتوافق النقيضان في شخصه، فغلبت عليه متطلبات السلطة، التي كان من الممكن أن يتخلى عنها طوعاً، أو أن يتصرَّف بمقتضيات الأدب داخلها، لو كان متمتعاً بما يلزم من مواهب الأدباء والشعراء!
العراقي الغامض
قراءة متأخرة في عقل صدام حسين
(12)
المُنَظِّرُ
.لم تكن دمشق قد ابتعدت عن “بعث عفلق”، بالقدر الذي كانت فيه مستثمرة، سياسياً، للحزب ومؤسسه.
.“فتحت، سنة 1963، ذراعيها للرفاق، الذين أتوها من الأقطار كافة، حيث للبعث وجود وحضور، وعقدوا “المؤتمر القومي السادس
.اثنان، بين رفاق العقيدة والحزب، سيكون لهما في تاريخ العراق، صولات وجولات، سيظل يُحكى ويُكتب عنهما.
كان يعرفه، معرفة اسم، لا معرفة وجه، وما كان طارق عزيز، التقاه قبل ذلك المؤتمر. وصدام حسين اللاجئ الى دمشق بعد محاولة اغتيال عبد الكريم قاسم، ما كان سمع عن الشاب العراقي، الموصلي المنبت، الذي سبقه الى .الحزب
دار كلام بين الإثنين، وطال، وطاول هموم “الحزب”، و”الأمة”، والحكم في العراق.
جذب طارق عزيز انتباه صدام حسين، بثاقب فكره، وتفوُّق مداركه، جدليٌّ قويُّ الحجة، فتصادقا، وتوثقت العرى بينهما.
تدور الأيام، دورانها المتعجل، ويصبح صدام حسين رئيساً للجمهورية، ويجذب طارق عزيز إليه، في القيادة القطرية، ثم القومية، و”مجلس قيادة الثورة”، ووزارة الإعلام، ووزارة الخارجية، في حرب إيران، وفي غزوة الكويت، وحرب “عاصفة الصحراء” لتحريرها من عسكر بغداد، والى السجن، وحتى… الموت.
***
أواخر سنة 2010، وفي ردهة تابعة للمحكمة التي أدانته، وقضت بإعدامه، حكى طارق عزيز عن “صديقه” صدام حسين، في مقابلة سجلها معه النائب في البرلمان، سنتها، علي مهدي الدباغ، (كانت المقابلة المسجلة مؤلفة من جزأين، ولم تُنشر وتُبث، إلا سنة 2012)، فقال: إنه ” ذكي، عقله لمَّاح ونيِّر، ويعمل باستمرار على تطوير نفسه، فكان يقرأ كثيراً”.
كان صدام حسين في نظر طارق عزيز: “قائدٌ ومفكرٌ، لكنه عنيفٌ وشديدٌ أيضاً في عنفه، وهو ضعف بسبب ضعف ثقافة المحيطين به، لكنه كان يسمع لأهل “الثقافة العالية”، فكان يسمع لطارق عزيز، ولم يكن هذا الأخير يخشى أن يقول له ما يفكر به، وما يراه.
والحقيقة، كما تناقل كثيرون، كان طارق عزيز، الوحيد في القيادة القطرية، الذي تجاسر وعارض غزو الكويت. يومها، دخل اعتراض “صديقه” أذن صدام حسين اليمنى، وخرج من اليسرى!
، على أن طارق عزيز، أخذ على صدام حسين، وقوعه خلال حكمه في “الكثير من الأخطاء والعثرات
وسببها طموحه الى الزعامة العربية” (أو فلنقل عقدة جمال عبد الناصر)، فوصوله الى سدة رئاسة الجمهورية، بدا لصدام حسين، مجرد خطوة الى هدف أعلى، وأوزن، وأهم، ثم ان المقربين منه، وأبرزهم طه ياسين رمضان، وعزة إبراهيم الدوري، كانوا شحيحي الثقافة والمعرفة، وبعضهم الآخر وصفهم طارق عزيز بأنهم، حسب ما يقال بالإنكليزية، (يس مان) “أمرك سيدي”. كما أن أقاربه بالدم، من أشقاء، وأولاد عمومة، وخؤولة، الذين أعطاهم مناصب مفصلية في الأجهزة الأمنية، وفي الدولة، كانوا بالكاد يفكُّون الحرف، “تافهين أميين”!
***
في ذروة تألقه، بعد خروجه من الحرب مع إيران، كان صدام حسين طامحاً لبدء مرحلة جديدة في مسيرته، وأخذ يتصور في عقله، دور العراق المركزي في المنطقة العربية. وهذا التصور ألغى من مخيلته توقه السابق لبلوغ “الرئاسة”، التي ما عادت تستحوذ عليه، أو تملأُ خياله. الآن، تصوَّر نفسه زعيماً عالياً متعالياً، فوق الرئاسة والرؤساء، وحتى فوق السياسة والأحزاب، وبدأ يشعر أن شيئاً ما لا يستطيع أن يُعبِّر عنه بطلاقة، يعتمل داخل عقله، ونفسه، ووجدانه، ولا يملك ما يكفي من المفردات في اللغة، لإلباسه التعابير الصحيحة، بغية إخراجه للملأ العراقي والعربي.
الآن، تطلُّ صورة صدام حسين المُفَكّر والمُنَظّر، الذي لا يستطيع، بحكم نشأته، وضحالة ثقافته الأساسية، أن يكون مُفكراً، يَتَمَتَّع بكل ما يؤهله، عن استحقاق وجدارة، بأن يكون مفكراً عميق البحث، ومُنظراً مفوَّهاً بالكلمة المطلقة، فهو لا يعرف شيئاً كثيراً من الفلسفة، ومن الآداب الكلاسيكية القديمة، باستثناء ما كان اطَّلع عليه من قدامى البعثيين السوريين، وهم قلة قليلة…
لم تكن في “حزب البعث”، الذي شبَّ عليه في العراق، قامات فكرية، يستطيع أن ينهل منها معارف سامية. ولذلك لازمته العشائرية، والبداوة، الى رمقه الأخير، قبل أن يصرخ في وجه الشامتين به والحبل يطوِّقُ عنقه قائلاً لهم: “هاي هي المرجلة”!
في نهاية المطاف بقيت “المرجلة”… فوق الفلسفة!
***
لقد اجتهد صدام حسين في طرح مسائل نظرية وفكرية يشعرُ بها ولا يستطيع أن يشرحها أو يفسرها، فظلت مجرد شذرات فكرية ونظرية نبيهة، تنبئ بأصالة مطموسة، ومغموطة. لتظهير هذه الفكرة، الى جانب تصوراته لبعض القضايا الحساسة، كما سمعتها منه، كان لا بد من الرجعة الى “دردشة” رحلة العودة بالطائرة من موسكو الى بغداد، يوم 14 نيسان / أبريل 1975، بعد زيارة استمرت عدة ساعات فقط، (نشرتها في العدد 342 من جريدة “بيروت” بتاريخ 17 نيسان / أبريل 1975).
في مقطع من حديثه، أراد “السيد النائب” أن يُنظِّر لنمط جديد في العلاقة مع موسكو، تختلف نوعياً عن العلاقات السوفياتية السائدة مع أقطار عربية أخرى، وربما تقصد الاستفاضة في ذلك ليغطي على الانطباع، الذي تولَّد لدى عدد من المراقبين المتتبعين، بأن قصر مدة الزيارة ينبئ بفشلها، فقال:
“علاقتنا بالاتحاد السوفياتي علاقة غير تقليدية. إننا متفقون معهم على تبادل الزيارات، من حين الى آخر، على مستوى عالٍ، وقد أصبح هذا تقليداً”.
تسأله، كيف لعلاقة أن تصبح تقليداً وتكون علاقة غير تقليدية؟ فيرد:
“إننا لا نستطيع أن ننطلق من كوننا عراقيين فحسب. إننا نتحرك بصفتنا عرباً. وفي أحاديثنا مع الأصدقاء السوفيات نعتمد الصراحة في أفكارنا وآرائنا”.
تراه يفكر أن اعتماده “مبدأ الصراحة” يقتضي “صراحة محسوبة” في شرح “مفهوم الصراحة”، فيقول:
“إن نمط العلاقات بيننا وبين الاتحاد السوفياتي هو نمط حديث العهد. وهو نمط شريف في التعامل، فيذكر الصديق صديقه في كل الظروف. ومن هذه الناحية، فإن علاقتنا مع الأصدقاء السوفيات ليست علاقة آنيَّة لا في حسابات النتائج ولا في حسابات الأسباب”.
هنا، تبدو عليه الخشية من الدخول في متاهة نظريَّة، فيتعجل الابتعاد عن تلك الحافَّة بكلام معهود في الخطاب العربي العام، ليعيد تشكيل صورة ما يرمي اليه في واقع الأمر، فيصف تلك العلاقة بقوله:
“إنها علاقة استراتيجية بعيدة المدى. وقد لمسنا من الشواهد التفصيلية أن الأصدقاء السوفيات يتجاوبون معنا، وأنهم حريصون كل الحرص على استقرار العلاقات وتطويرها. فنحن نشترك معاً في الموقف ضد الاستعمار، والصهيونية، والاستغلال”.
كأنه شعر بعد هذا الكلام أنه ما زال ناقصاً، فيستكمل الفكرة من خلال شرحها بالمقارنة، فيزيد:
“لفهم هذا النمط الجديد من التعامل مع الاتحاد السوفياتي، لا بد من المقارنة مع الأنماط الأخرى التي تعوِّد عليها الاتحاد السوفياتي منذ بدء علاقاته مع الدول العربية. فقد اعتادوا على نمطين من التعامل: أحدهما يقوم على العداء السافر لهم في كل الأحوال، والآخر يقوم على الابتزاز”.
في قناعتي، أنه توقف عن التوسع حتى لا يعطي أمثلة تجلب له المتاعب في مسيرة صعوده على سلم السلطة والأفكار، كما رسمها لنفسه. هو على الأرجح افترض أن سامعه يعرف ما قصد: النمط السعودي – الخليجي، والنمط الناصري – السوري.
***
يحورُ “السيد النائب” ويدورُ حول الفكرة ذاتها، وكأنه استنفد مقدرته المحدودة على التجريد النظري، فينتقل الى الكلام السياسي السطحي، أو ينكأ جراح انقسامات سياسية، ويخلط ذلك بعبارة أو اثنتين لهما “صفة فكرية”، ليبدو وكأنه يقول شيئاً جديداً من خلال الحديث عن القديم. فيرد على النمط العربي المستهلك بقوله:
“أما نحن، فتقوم علاقتنا معهم (أي مع السوفيات) على الصداقة والتكافؤ، مع احترام النفس. ومن الطبيعي أن يستفيد الصديق من صديقه، وأن يفيده. شرط أن تكون هناك موازنة بين الاستفادة والإفادة. وأن تكون العلاقة متوازنة، لا يعني أن يكون هناك توافق بين الأمرين، إنما يعني إذا مال ذراع الموازنة لصالحهم اليوم، فيجب أن يميل لصالحنا بعده… وهكذا”!
شرحه هذا يوشك أن يدخله في متاهة جديدة، فيرجع الى تكرار مقولة سابقة، حيث استطرد قائلاً:
.”إننا لا ننظر الى علاقتنا مع الاتحاد السوفياتي بمنظار قطري، شأننا في كل الأمور”
بعد هذا الكلام، تشعر بتردُّده، خشية إعطاء الانطباع بأنه ينظر الى كل الأمور” نظرة قطرية” باستثناء العلاقة مع الاتحاد السوفياتي، فتعجَّلَ الاستدراك:
“أقصد أن تحالفنا مع السوفيات هو تحالف بعيد المدى، بمعنى أنه إذا خفَّت مبررات التحالف القطري، تبقى مبررات التحالف القومي قائمة. فنحن لا توهمنا، ولا نتوهم، أن الاتحاد السوفياتي يمكن أن يكون عربياً، أو يمكن أن يكون بديلاً عنا. لا أحد يمكن أن يكون بديلاً عنا”!
لكي يؤكد إيضاح فكرته، ضرب مثلاً يتعلق بتأييد السوفيات لمؤتمر السلام العربي – الإسرائيلي في جنيف، بقوله:
.”إن للسوفيات رأيهم في ذلك، ونحن لنا رأينا”
***
كلام صدام حسين عن الاتحاد السوفياتي على هذا النحو، بمزيج من النظري والعملي، المبدئي والبراغماتي، يوحي بأن هناك لغة مشتركة بينهما يفهمها السوفيات كما يفهمها هو. أما الحال مع الأميركيين، خصوصاً خلال الحرب مع إيران، أو بعد ذلك خلال غزوة الكويت، فتوحي بالنقيض من ذلك. أي أنه لم تكن بينه وبين الأميركيين لغة مشتركة لا يدانيها أي سوء فهم. بل على العكس من ذلك، أساءت الأجهزة الأميركية فهم لغة صدام حسين، وظلَّ هو متوجساً من سوء نياتها، ومقتنعاً بأنها تسعى الى إضعافه، وإسقاط نظامه إذا ما أمكنها ذلك.
تشير الوثائق العراقية الموجودة في حوزة الأميركيين، الى أن صدام في اجتماعات “مجلس قيادة الثورة”، كان دائماً يوجه الحديث نحو “وجود مؤامرة أميركية – بريطانية” ضد نظامه، مقتنعاً بأن أجهزة استخباراتهما، لديها “معلومات وافية عن الوضع الداخلي في العراق، تبني عليها تآمرها”.
أما ستيف كول الذي تفحص كل الوثائق المتعلقة بالموضوع، يرى في كتابه “فخُّ أخيل”، أن صدام أعطى الاستخبارات المركزية الأميركية، والاستخبارات البريطانية الخارجية “كفاءةً وتقديراً أكبر بكثير مما تستحقان في واقع الأمر. فالبريطانيون، والأميركيون، كانوا “يجهلون”، أكثر مما كانوا “يعلمون” عن الداخل العراقي المغلق. والأميركيون، على ألأخص، أساءوا فهم ما كان يقوله صدام حسين، وهو بدوره أساء فهم إشاراتهم، حيث اعتبر عدم اعتراضهم على ما يقول بأنه من قبيل الموافقة. وقد لازمته هذه العقدة حتى في المعتقل، حيث قال لمسؤول أميركي: “إذا كنتم غير راغبين في دخولي الى الكويت، فلماذا لم تقولوا لي ذلك صراحةً”، (في إشارة الى قول السفيرة غلاسبي له قبيل دخوله الى الكويت عنوةً، بأن بلادها لا تعنيها خلافات الحدود بين الدول العربية).
***
اللغة العربية، بطبيعتها، حمَّالة أوجه، فكيف إذا ما قيلت الفكرة، في معرض شرحها أو تبسيطها، بتعابير مختلفة، كما يُفهم من حديث صدام حسين لنا في الطائرة، حول العلاقات مع موسكو. فقد ردد الفكرة التنظيرية الواحدة بعدة أوجه من التعبير في معرض شرحها، من حيث اعتبر أنه يبسطها لتسهيل فهمها، وفي واقع الأمر زادها تعقيداً وبلبلةً في ذهن سامعيها.
أما عندما تكون الأسئلة التي يجيب عنها مباشرة، وتتعلق بالحوادث والمسائل المتداولة، بعيداً عن محاولات التنظير، فإنك تسمع منه كلاماً واضحاً، قاطعاً، لا لبس فيه. فيعود رجل سياسة، وليس قائداً، ومفكراً، ومُنظراً، فوق السياسة، وبما هو أرقى منها.
طُرحت عليه، خلال تلك “الدردشة”، أسئلة عديدة في تلك الأمور، منها: ما تداولته الصحافة العالمية عن وجود قاعدة بحرية سوفياتية في “أم قصر”، وسؤال آخر، عن أن العراق بصدد استئناف علاقاته مع واشنطن، وأن موسكو متضايقة من علاقات العراق مع بعض الدول الغربية، ثم أن الاتفاق العراقي – الإيراني، (اتفاق الجزائر مع الشاه قبل شهر من هذا الحديث في الطائرة)، يهدف الى إبعاد القوى الخارجية من الخليج… فكانت أجوبة صدام حسين عنها كلها، واضحة، وقاطعة، وموثَّقة.
حول وجود قاعدة سوفياتية في” أم قصر”، نفى أن يكون العراق قد سمح بإقامة مثل هذه القاعدة، مشيراً الى أن بعض الصحافيين الأميركيين زاروا تلك المنطقة ولم يشاهدوا أي قاعدة، وقال لنا:
“أي صحافي منكم يمكنه أن يذهب الى هناك ويرى بنفسه. نحن لا نُخفي شيئاً. فإذا اقتنعنا بإقامة قاعدة للسوفيات فإننا نقيمها، ونعلن ذلك على الملأ في الإذاعة والتلفزيون، فلا السوفيات طلبوا ذلك، ولا نحن نقبل”.
بهذا كان نائب الرئيس العراقي يشير الى ما كتبه الصحافيان الأميركيان روبرت نوفاك ورولاند إيفانس اللذان زارا” أم قصر”، فأسكتا بذلك كل الأبواق الأميركية المروجة لموضوع القاعدة السوفياتية. والمعروف أن نوفاك وإيفانس كانا يكتبان معاً، وينشران ما يكتبان في معظم الصحف الكبرى في أميركا، من خلال تقرير سياسي كانا يعدانه، ويحظى باهتمام دولي.
قوله “نحن لا نخفي شيئاً” يسري على ما قبل رئاسته. أما خلال رئاسته فقد ظل يخفي ما تردد عن امتلاكه أسلحة الدمار الشامل، طوال فترة الحصار الدولي على العراق، منذ احتلاله الكويت حتى سقوط نظامه بفعل الاحتلال الأميركي، مع أنه دمر ما كان يملك من تلك الأسلحة، من غير أن يعلن عن ذلك، كي لا يظهر ضعيفاً أمام أعدائه، وخصوصاً الإيرانيين!
وهذا بالذات ما قاله طارق عزيز لأحد الزملاء اللبنانيين الذين التقوه إبان الحصار، وتمنَّى عليهم، وقتها، عدم نشره.
***
عندما كان صدام حسين يتحدث في مثل هذه القضايا، يحاذر أن يقع في التناقض، فيستدرك بالتوضيح فوراً. فقد تابع الحديث في موضوع السفن الحربية من منطلق ” السيادة الوطنية” حيث قال:
.”أما بالنسبة الى دخول السفن السوفياتية الى موانئنا، فهو أمر يتعلق بالسيادة العراقية”
حين شعر أن هذا التصريح يمكن أن يُفهم منه أن دخول السفن السوفياتية الى الموانئ العراقية يشكل انتهاكاً للسيادة الوطنية، عطف على قوله السابق التصريح التالي:
.”إن السفن السوفياتية، وغيرها من سفن الدول الصديقة، يمكنها أن تدخل الموانئ العراقية في أي وقت”
ثم قال:
“إن حزب البعث العربي الاشتراكي هو الذي يقرر سياسة العراق، وينفذها بالطريقة التي يراها مناسبة، في ضوء المصلحة القومية”.
لقد استخدم صدام حسين مصطلح “المصلحة القومية”، وتجنَّب استخدام عبارته السابقة “السيادة الوطنية”. وعندما سئل عن الوضع السوفياتي حيال الشؤون الداخلية في العراق، لكي يوضح الحدود بين “المصلحة القومية” و”السيادة الوطنية”، قال:
“إننا نطلع أصدقاءنا السوفيات على قضايانا الداخلية، ولكننا لا نناقش حولها، وهذا واضح كل الوضوح في معاهدة الصداقة والتعاون مع الاتحاد السوفياتي التي مضى على توقيعها ثلاث سنوات (1972)”.
***
كعادة منه، عندما يتحدث عن الإشكاليات مع النظام السوري لا يُخفي صدام حسين، في “دردشة” الطائرة، تبرُّمه من نظام حافظ الأسد، ومع أنه كان يشعر أحياناً بأنه استخدم عبارات قاسية ولاذعة في وصفه، فإنه كان يزين كلامه في معظم الحالات، ومنها حديثه المرير تجاه دمشق بشأن حبس مياه “الفرات”، الذي كان موضوعه في رأس جدول زيارته لموسكو. فقد أجاب عن سؤال بهذا الخصوص، وكأنه يردُّ على غلاة العراقيين الذين تجاوزوا الحد باتهام الرئيس السوري بتعابير قاسية مثل “العمالة”، و”الخيانة”، وما الى ذلك، بنوع من “التنظير المخرجي” بقوله: “ما من حاكم يختار العمالة، لكنه من الممكن استدراجه اليها”!
هو يجيد هذا النوع من “التنظير المخرجي”، في المآزق السياسية، لأنه يتعلق بالمشادة الحركية، التي تمرَّس بها في العمل الحزبي والسياسي، لكنه أقصر باعاً في التنظير الفكري، بسبب من ضعف ثقافته الأساسية، وبالتالي فإنه من الطبيعي أن يكون تنافره مع الرئيس السوري حافظ الأسد، وحيد الجانب من حيث كونه خلافاً سياسياً في الدرجة الأولى، لأنه من غير المعروف عن الأسد أنه مارس التنظير في كلامه. بل إنه مارس السياسة وكأنها معركة عسكرية في إطار اختصاصه، فكان ذلك من أسباب ديمومة نظامه، بينما صدام حسين لم تكن له مثل هذه الميزة، كما مرَّ معنا في فصل “المتنافران”.
رد صدام حسين على سؤال “حبس مياه الفرات”، بفتح ملف “سوابق” النظام السوري، وتعدادها، من المزايدات على الرئيس جمال عبد الناصر، وتوريطه في حرب حزيران / يونيو (1967)، الى موقفهم من العراق في معركة تأميم النفط، ثم مساندتهم للتمرد الكردي في شمال العراق، “مما أدى الى مقتل عدد غير قليل من الشيوخ والنساء والأطفال”، كما قال، وأخيراً تنكرُّهم لما أبداه الجيش العراقي من بسالة في الدفاع عن دمشق في حرب تشرين الأول / أكتوبر (1973)، ثم حبسهم لمياه “الفرات”.
تتخذ جدلية صدام حسين بشأن نظام حافظ الأسد، منحى “المهاترة السياسية”، لامست في مقاطع منها حدود “التنظير” من غير توسُّع أو تفصيل، لأن مهارته في هذا المجال تنحصر في إطلاق العناوين الملفتة، حيث الخوض في تفاصيلها من غير أساس معرفي، يبدد وهجها، لأن “الوهج” هو المبتغى كإطار لإبهار السامعين. أي محاولة قطف ثمار سياسية شهية من شجرة ركيكة الجذور”!
لذلك، أسجل، موثقاً حرفية كلام صدام حسين في الموضوع السوري، الذي مضى عليه حتى الآن قرابة نصف قرن، وهي مسافة زمنية غير قصيرة، تبدلت خلالها أمور كثيرة، بما فيها موقف صدام حسين من النظام السوري، حين بادر الى مصالحته في أيام ضيقه، وسط الحصار الدولي الخانق المضروب على العراق في منتصف تسعينات القرن الماضي، وصولاً الى زوال الاتحاد السوفياتي نفسه، ومعه زوال صدام حسين ونظامه.
: تابع نائب الرئيس العراقي كلامه في الموضوع السوري، فقال يومها
“إن الأمر ليس خلافاً على اقتسام مياه الفرات. قسمة المياه معروفة ومقرَّرة في القوانين الدولية. إنه إجراء تعسفي من قبل الحكم السوري، قام به من غير أن تكون له حاجة في المياه المحبوسة. ولو كنا نعرف أن الشعب العربي في سوريا بحاجة الى هذه المياه، فإننا لا نتوانى لحظة واحدة عن إعطائها. فقد أعطينا ما هو أغلى من الماء، أعطينا الدم والمال، في الوقت الذي بخل فيه حكام دمشق بماء الشرب على جيشنا، وهو يقاتل الى جانبهم”.
ثم قال:
“الشعب السوري يستطيع أن يأخذ منا كلَّ شيء، أما حكام دمشق فإننا لا نثق بهم. كيف نثق بأناس من هذا النوع، بأناس يقولون إن الجيش العراقي انسحب من المعركة تاركاً دمشق تحت رحمة الصهاينة. الجيش العراقي هو الذي خفَّ الى نجدتهم بكل ما أوتيَ من وسائل وقوة. هذا الكذب ليس مسموحاً به”.
***
ظلَّ يستطرد، عن دمشق الأسد، حانقاً ولم يترك لسامعيه مجالا لمقاطعته، أو تغيير الكلام بأسئلة أخرى، ملحاحة، كانت تدور في أذهاننا… فهو كان يرغي ويزبد وكأن الأمر على قاعدة “قطع الأرزاق من قطع الأعناق”. بدا لنا، ونحن نسمعه، شخصاً آخر بلحظة من الزمن. كأنه يريد الانتقام، وهو معلق في الهواء على جناح الريح ولا يستطيع حتى أن يقوم عن كرسيه. ومع ذلك ظلَّ متماسكاً لم يتلعثم بكلمة، كأنه يقرأ في كتاب. ثم سكن فجأة، وراح يتكلم بنبرة هادئة كأنه يؤاخذ نفسه لشروده في الحديث، فقال:
“إن المشكلة بالنسبة الى حبس مياه الفرات لم تعد مشكلة إنقاذ المزروعات، فهذه المزروعات قد قضي عليها. المشكلة الآن هي إنقاذ الألوف من البشر الذين لم تعد في متناولهم مياه صالحة للشرب. فالمياه الموجودة في مجرى النهر، بعد عملية الحبس، هي المياه المرتجعة، وهذه مياه آسنة ومالحة”.
ثم انقلب مزاجه من جديد وراح ينطق كلامه بنبرة عالية، فقال متوعداً:
“إننا لن نسكت على هذه الجريمة. لن نسمح لأحد أن يميت شعبنا. إن حكام دمشق يتحدثون كثيراً عن تحرير الجولان، لكن الذي يريد تحرير الجولان لا يقول ما قاله في الجيش العراقي، ولا يفعل ما فعلوه بمياه الفرات. كيف يحررون الجولان ويميتون العراقيين الذين دافعوا عنهم. الذي يريد تحرير الجولان يجب أن يفرح، وأن يقيم الأعراس في دمشق، لانتهاء الجيب العميل في شمال العراق”.
وعاد من جديد الى الاستطراد في هذا الموضوع في “إطار تنظيري” أو “شبه تنظيري” فقال:
“إن الاختبار القومي ليس في القتال من أجل تحرير الجولان. فهذه هي مسؤوليتهم، لأنهم هم الذين فرَّطوا فيه، وليس كثيراً أن يقاتلوا من أجله. بل من الطبيعي أن يفعلوا ذلك، فلماذا يمنِّنون الأمة العربية بأنهم يريدون تحرير الجولان؟ إن مسؤولية أي حاكم، حتى لو كان حاكماً رجعيَّاً، أن يقاتل لاسترداد أرضه المحتلة. وفي التاريخ أمثلة كثيرة على ذلك”.
لم يذكر مثالاً واحداً يؤيد ذلك، لكنه أكمل “تنظيره” حول “الاختبار القومي” فقال:
“الاختبار القومي هو أن تدافع عن الأراضي العربية خارج حدودك. فهل هو موقف قومي أن يمد الحكم السوري يد العون الى الجيب العميل في شمال العراق، ولم تجف بعد دماء الجنود العراقيين على أرض الجولان؟”.
انتفض وعدل جلسته على كرسي الخيزران غير المريح، وهو مقعد اضطراري بسبب من ألم في ظهره، وكأنه انتبه أنه يحكي مع نفسه، فقال مخاطباً الصحافيين:
“لا تتصوروا أن هناك حاكماً يخطط لكي يصبح عميلاً. العميل هو مجرد وكيل. أما الحاكم الذي يصبح في موقع العمالة، فإنه يتورط فيها تدريجاً، خطوة في إثر خطوة، وموقفاً إثر موقف، فنحن ضد كل خائن ولا نتساهل في ذلك”!
شعر أنه تسرع في النطق بهذه العبارة، فتوخى أن يستطرد لتجليسها، وهو يحاول تجليس مقعده غير المريح، فتابع كلامه قائلاً:
“نحن مع الأشقاء إذا كانوا في صف الأهداف القومية. ولنا مصلحة في كل بلد عربي يقدم الحد الأدنى للقضية القومية، ولو كان ما يقدمه بنسبة واحد في المئة فقط”.
بهذا الكلام، كان يطرح الموضوع بشعور أن السوريين اغتاظوا من اتفاقه مع شاه إيران قبل ذلك بنحو شهر، مما أدى الى انهيار التمرد الكردي، وكأن ذلك الاتفاق هو الذي حملهم على مضايقة العراق عن طريق “حبس مياه الفرات”. هو لم يقل ذلك، بل كان مجرد استنتاج من قبلنا، من خلال سرديته للموضوع، واستطراده فيه بالتفصيل الممل.
وأتاح لنا، أن نتكلم قليلاً في أمور أخرى، لكن الوقت بات ضيقاً لاقترابنا من الهبوط، فعاد صدام حسين الى شخصية “المربي” و “المنظر” بالكلام المقتطف الذي لا يحتمل الإطالة، وفي موضوع من اختياره وكأنه أراد أن يبتعد عن الحديث في مواضيع جديدة لا يتسع لها الوقت. وبعد كل ذلك راح يُنظِّر في مسألة “الوحدة”، وكأنه يخطبها من السوريين تصحيحاً لسرديته السلبية السابقة التي استفاض في رشقها، فقال:
“إن أمنيتنا هي إقامة الوحدة، ولكن الأماني تكون خائبة إذا لم تكن مستلزماتها موجودة، فالوحدة تقوم عندما تتوفر شروطها. ونحن نناضل من أجل أن تقوم. إننا لا نركض وراء السراب، ولذلك لا نتحدث عن الوحدة من غير مستلزماتها، والنضال من أجل تلك المستلزمات هو من أجل تقصير الزمن لإقامة الوحدة”.
(إننا كمراقبين نسأل كيف يستقيم ذلك مع انقلاب صدام حسين على “ميثاق العمل القومي”، والمسعى الوحدوي بين سوريا والعراق عام 1979، في أحلك اللحظات القومية، الناشئة من خروج مصر عن الصف العربي باتجاه الصلح المنفرد مع الكيان الصهيوني).
***
بعدما استغرق حديث صدام حسين عن سوريا معظم الوقت، مرَّت المواضيع عن الخليج، أو بالأحرى عن المملكة السعودية والكويت المجاورتين للعراق، قصيرة مقتضبة، لكنها تلقي بعض الضوء على ما جرى تالياً في حرب “عاصفة الصحراء” بعد احتلاله الكويت صيف عام 1990.
سألناه على عجل عن علاقات العراق مع السعودية، وما إذا كانت الوفود بين البلدين تعبِّر عن تطورات جديدة في العلاقات، فقال:
“إن مسألة الوفود ليست بالأمر الجديد، الشيء المطلوب، بصرف النظر عن اختلاف الأنظمة، أن يكون هناك تضامنٌ في الحد الأدنى، ولكن مع التميُّز. أما الشيء الثابت، فهو أن الأشقاء في السعودية بدأوا يتفهمون وجهة نظرنا في المسائل القومية”.
ثم أعلن لنا أن الأمير فهد بن عبد العزيز سيزور العراق في فترة ليست بعيدة (كان الأمير فهد قد أصبح ولياً للعهد قبل ثلاثة أسابيع فقط من رحلة صدام حسين الى موسكو، أي في 25 آذار / مارس من عام 1975، بعد تسلم الأمير خالد مقاليد الحكم نتيجة اغتيال الملك فيصل بن عبد العزيز في ذلك الوقت).
كان المقطع الأخير من “الحديث الطائر” مع “السيد نائب” عن “تأشير الحدود” مع الجارة المتعبة الكويت، وهي المسألة التي قصمت ظهر البعير، بلغة أهل البادية. هذا المقطع، على اختصاره بكلمات قصيرة، هو في نظري أبلغ ما قال في حديثه طوال الرحلة. شرح موضوع تأشير الحدود في إطار “غايته الاستراتيجية”، أو “القومية” حسب تعبيره، وليس “التوسعية” كما رُمي لاحقاً عندما أخرجه الكويتيون عن طوره. هو يبتغي موطئ قدم في المياه العميقة لتكتمل صفته كدولة خليجية حُرم منها عمداً. وحبذا لو يقرأ جميع العرب هذا المقطع الأخير، لوضع ما حدث للعراق من جراء المسألة الكويتية في إطاره التاريخي الصحيح. فقد قال بالحرف:
“نحن لم نرث حدوداً محدَّدة مع الكويت واختلفنا عليها. ورثنا الحدود الجنوبية سائبة ومتداخلة مع الأراضي الكويتية. ونحن لم نكن نريد أن نؤشِّر الحدود حتى لا يُتَّهم حزب البعث، وهو الحزب الذي يناضل من أجل إزالة الحدود، بأنه يريد تأشير الحدود. من هنا نشأت عند الكويتيين بعض الأوهام، ولذلك اتخذنا قراراً بتأشير الحدود من مبررات قومية. وهذه الروحية نفسها يجب أن تحتضن موقع خط الحدود. وعلى هذا الأساس قدَّمنا للكويتيين مقترحات متتالية حول الطريقة التي يجب أن يجري عليها تأشير الحدود، أي تأشير العراق كدولة خليجية، بشكل يمكِّنه من تأدية مهامه الوطنية والقومية في هذه المنطقة، (قصد بذلك أن يُصبح العراق دولة بحريَّة مكتملة العدة من خلال الوصول الى المياه العميقة التي حُرم منها عمداً)، ونحن بانتظار الإجابة الكويتية لنؤشر الحدود. لا نريد التشبث بالماضي، (قصد بذلك مطالبة النظام الملكي الهاشمي، والنظام الجمهوري القاسمي، بضم الكويت الى العراق)، ولكننا نأخذ الأمر الواقع بإطاره القومي ومفاهيمه القومية، بمعنى أننا لا نريد التوسع، ولكننا لا نريد التفريط بمسؤولياتنا القومية والوطنية”.
***
:ساد، يومها، القول بأن العراق لم يعد يهتم بشؤون الخليج، بعد إنهاء خلافاته مع إيران، فعلق “السيد النائب
!”إنه نفس المنطق المتجني الذي كان يقول في الماضي إن العراق لا يهتم بشؤون الخليج لانشغاله بمشاكله مع إيران”
كان يمكن لصدام حسين أن يكون مُنظِّراً من الطراز الأول، لو كان على ثقافة عالية، ومع ذلك ظلَّ يحاول الخوض في السياسة من منطلقات فكرية، على قدر فهمه لها، الى النهاية، وصولاً الى حبل المشنقة، وملاحظته حول مفهوم المرجلة”. ومن هنا تكتسب عبارة طارق عزيز أهميتها التفسيرية في حديثه مع علي مهدي الدباغ، من أن صدام حسين “كان يستمع الى أهل الثقافة العالي”.
.لكنه، مع الأسف، لم يغادر عشائريته لتنفتح أمامه أبواب الثقافة
العراقي الغامض
قراءة متأخرة في عقل صدام حسين
(11)
الغازي
سليمان الفرزلي
سَوىَّ الجنرال بيرسي زكريا كوكس، المقيم السياسي البريطاني في الخليج، من وضع نظارته على أرنبة أنفه، مسح بعينيه خارطة كبيرة، رُسمت بدقة لمنطقة الخليج، ضغط بأصابعه على قلمٍ حبرُه أحمر قاني، رفعه مرَّات الى الخارطة، وتردَّد مرَّات، فهو كان في قرارة نفسه يعرف أنه بشحطةٍ من القلم المحبوس بين إصبعيه، سيقرر مصير أمم، ودول، وما سيأتيه، قد يكون ذريعة لصراعات ظاهرها “الحدود”، و”جوهرها ” الوجود.
في نجد، كان سلطانها، عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود، يرهصُ متهيئاً لقرار بيرسي كوكس، في تركيب حدود المنطقة، وهو ظنَّ أن الجنرال الإنكليزي سينصفه، ويعطيه ما تمنَّاه، ويراه حقه… خصوصاً أنه كان يثق بصديقه النقيب وليام إيرفن شكسبير، الذي قدمه الى الجنرال كوكس، فجلس مرَّات الى الحديث معه. وكان النقيب شكسبير قد أتاه سنة 1914 من محمية الكويت، الى “الخفسة”، قاطعاً 33 ميلاً في الصحراء، على مدى 19 يوماً، ليعقد معه اتفاقاً وثَّق العلاقات بين بريطانيا والسلطان السعودي، فلازمه، وخاض الى جانبه معاركه كلها، الى أن قضى في معركة “الجرب”، التي كتب عنها أمين الريحاني، في “ملوك العرب”, واصفاً كرَّ وفرَّ النقيب شكسبير فيها.
:في طريقهما الى الأمير السعودي، قال النقيب شكسبير للجنرال كوكس
.”إن الرجل الذي سنقابله، هو زعيم بدوي، داهية، من الممكن أن يُصَعِّبَ علينا تحقيق مأربنا في المنطقة، وبسط سيطرتنا على قبائل الجزيرة”.
إلاَّ أنَّ الجنرال كوكس، كان يرى مصلحة بريطانيا، وحدها، وكل ما يعزز بسط هيمنتها، وسيطرتها عليها بعد ترتيب المنطقة، ورسم الحدود بين دولها، لم يكن في تصوره، أنَّ أحداً يستطيع مواجهة، وتحدي سلطة بريطانيا العظمى، أو يتجرأ على ذلك.
في “ميناء العقير”، يوم الثاني من كانون الأول / ديسمبر سنة 1922، مدَّ الجنرال كوكس يده على الخارطة، أمام أسياد الملأ الخليجي، وبشحطة من قلمه الأحمر، رَتَّبَ الحدود المتنازع عليها بين “نجد”، والعراق، والكويت، فوقعوا على البروتوكولات التي وضعها الجنرال كوكس.
وقف الملك عبد العزيز، أمام تلك الخارطة، والى جانبه الأديب اللبناني أمين الريحاني، (فيلسوف الفريكة، كما كان يدعى)، مشى بعينيه على الخط الأحمر، وبكى من الخيبة والغضب، حتى اخضَّلت لحيته، التفت الى الجنرال بيرسي، الذي لم يُظهر أي تأثُّر، وقال له
.”لقد أعطيتَ نصف مملكتي الى آل الصباح”
روى هذا المشهد الكولونيل هارولد ديكسون، الضابط الإداري البريطاني في الكويت والخليج، في كتابه القيم “الكويت وجاراتها” (وضعتُ نصَّه العربي عام 1963 بتكليف من الصديق الراحل الدكتور بشير الداعوق مؤسس “دار الطليعة” للنشر).
***
أقام الخط الأحمر، الذي رسمه الجنرال كوكس، منطقتين محايدتين: واحدة بين سلطنة نجد ومحمية الكويت، وأخرى بين العراق وسلطنة نجد. وقتها، لم يكن لشيوخ آل الصباح أي رأي في مسألة الحدود، فقد كان الضابط البريطاني جون مور هو صوت الكويت المسموع.
وهذا الخط الأحمر “اللعين”، كما سماه سلطان نجد، رسَّخ البغضاء والعداوة، بين سلطنة نجد ومحمية الكويت، كما توسَّعَ التنازع والتخاصم، فطاول العراق والكويت.
في ثلاثينات القرن الماضي، احتدم النزال الدامي بين “الإخوة” في السعودية وفي الكويت. واشتد القتال في “الجهرة”، وكانت الغلبة لمقاتلي الملك السعودي، الذين جندلوا في الميدان ما يزيد على ألفي مقاتل كويتي.
إلاً أن الملك عبد العزيز، لم يكتفِ بذلك، فضرب حصاراً على الكويت، استمر من سنة 1923 الى سنة 1937.
أما العراق، فقد غبن الجنرال كوكس حقَّه، والأغلب على الظن أنه كان عن عَمَد، فحرم بلاد الرافدين من المياه العميقة في بحر الخليج، وظلَّ العراق، على تعاقب السنوات، والعهود، والحكام، وصولاً الى صدام حسين، يبحثُ عن منفذ باتجاه البحر، يسمح له بإقامة مرافئ بحرية تجارية كبرى.
والأهم من ذلك كله، أن خط الجنرال كوكس الأحمر حرم بغداد من إنشاء قاعدة عسكرية بحرية، لمواجهة الأخطار الآتية من البحر.
***
إن الصراع الأول والأكبر في الخليج، سبق “بروتوكولات العقير” وخطها الأحمر، واستمر بعدها. وكان بين السعوديين والآخرين، ومنهم العراق.
فالعداء السعودي القديم للكويت وشيوخها، كان في الواقع جزءاً من الغزوات العشائرية و”الإخوانية” النجدية على الحواضر العراقية. فكما تعرضت الكويت لتلك الغزوات، تعرَّضت لها أيضاً كربلاء، والنجف، وسامراء وغيرها من المناطق الحدودية مع نجد. بل يمكن القول إن الهجمات “الإخوانية” السعودية من نجد على الكويت، جرت باعتبارها جزءاً من “الحالة العراقية”.
الغزوات النجدية، تلك، في الكويت والعراق، كانت في غالبيتها غزوات عشائرية، شبه توسعية، بحثاً عن المراعي والمياه، لكن مفاوضات “العقير” تشير بغير لبس الى أن عبد العزيز آل سعود، طالب من البداية بأن يجري رسم الحدود على “الخطوط العشائرية” المتعارف عليها قبل تحديدها بالخط الأحمر. لكن المفوض الجنرال كوكس رفض ذلك، وجعله غير قابل للتفاوض.
فالمسألة الكويتية، في الحساب السعودي القديم، تدخل في باب “التوسع”، أما بالنسبة الى العراق والعراقيين، فإنها تدخل في باب “الحقوق الوطنية”. لهذا، فإن معظم الحكومات المتعاقبة في بغداد منذ عشرينات القرن الماضي، دأبت على المطالبة والمناداة بضم الكويت الى العراق، استناداً الى ما كان عليه الأمر في الزمن العثماني، قبل مجيء الإنكليز الى سواحل الجزيرة العربية، باعتبار أنها ضرورة أمنية للمصالح البريطانية في شبه القارة الهندية. وتبعاً لذلك، كانت تلك المناطق في الجزيرة العربية تابعة الى “حكومة الهند” وليس الى” حكومة لندن”. ولم تكن نظرة الحكومتين الى تقرير الأمور هناك، نظرة واحدة متطابقة في بعض الأحيان، فلم يكن بالضرورة أن تسري الأمور هناك كما تقررها لندن!
كانت حركة الملك غازي بن فيصل الهاشمي في بغداد، أولى المساعي الجدية لتوحيد الأقطار العربية، ومنها ضم الكويت والمناطق الشرقية من نجد الى العراق. وقد تأثر غازي بأفكار جده الشريف حسين، شريف مكة، الداعية الى توحيد العرب الخارجين من الإمبراطورية العثمانية في دولة واحدة، واستعادة الخلافة الإسلامية الى أصلها العربي.
سنة 1936 أنشأ الملك غازي في دار ملاصق لقصر “الزهور”، مقر إقامته في بغداد، إذاعة تجريبية كاحتياط لإذاعة بغداد الرئيسة، وحولها الى منبر لنصرة القضايا العربية، وتوحيد أقطارها، و”صوتاً لليقظة القومية والحماسة العربية ووسيلة لتنوير الأذهان وإثارة العزائم”، (من مقال “ديموقراطية الملك” – جريدة “الاستقلال” 2/4/ 1939)، وعيَّن غازي عليها فريقاً من الأحرار. وبعدما أخذت تتجمع في عهد الملك الهاشمي الشاب الأسباب التي أدت الى توتر العلاقات مع الكويت، بدأت الصحف العراقية، وأبرزها جريدة “الاستقلال”، و”الإخاء الوطني”، و”الكرخ الأسبوعية”… تطالب بالتدخل لانتشال أوضاع الكويت الثقافية والاجتماعية، وبدأت تلك الصحف تتحدث عن الروابط التاريخية، التي كانت سائدة بين البلدين، علة اعتبار أن إمارة الكويت كانت امتداداً للعراق من النواحي السياسية والاجتماعية والجغرافية.
أدَّت إذاعة “قصر الزهور” دوراً في تأليب الرأي العام الكويتي على شيوخ آل الصباح، وعمَّت التظاهرات في الكويت التي ترفض الحماية البريطانية، وتناشد الجيش العراقي لإنقاذها. في كانون الاول / ديسمبر سنة 1938، صوَّت عشرة أعضاء، من مجموع أربعة عشر عضواً في المجلس التأسيسي الكويتي، للانضمام الى العراق، فما كان من أمير الكويت إلاَّ أن حلَّ المجلس، وأصدر حكماً بالإعدام على بعض المعارضين.
راح تفكير الملك غازي، بعد ذلك، يتَّجه نحو ضرورة التدخل العسكري في الكويت، بدفع قطعات من الجيش نحوها، وأراد أن يعتمد عنصر المباغتة وفرض الأمر الواقع في تنفيذ هذه الخطة، فقرَّر عدم مفاتحة الحكومة، وأن تتم العملية بأوامر مباشرة منه فقط، فأبلغ علي محمود الشيخ علي، “متصرف البصرة”، أن يتهيأ لضم الكويت الى العراق، وفي الوقت نفسه أوعز الى الفريق حسين فوزي، رئيس أركان الجيش بدفع قطاعات عسكرية بغية احتلال الكويت.
لم يشاطر السياسيون الملك الهاشمي الشاب، في خطته، واعتبروها مغامرة كبيرة، لأنها ستهدد مصالح الانكليز البترولية في الامارة الكويتية، مما قد يعرض العراق الى الخطر، خصوصاً بعد التحذير الذي صدر عن الحكومة البريطانية، من أن أي محاولة لضم الكويت بالقوة، سيحمل الحكومة البريطانية، على التدخل بأسرع ما تستطيع وبالقوة العسكرية المطلوبة”.
لكن حكم الملك غازي في العراق لم يدم طويلاً، فقد لقي حتفه في حادث سيارة بعد اعتلائه عرش أبيه بست سنوات وأسبوعين (من 21 آذار / مارس 1933 الى 4 نيسان / أبريل 1939). ويعتقد كثيرون من العراقيين أن الحادث كان مفتعلاً، بسبب من مواقفه السياسية الاستقلالية، ومنها المطالبة بإنهاء الوصاية البريطانية على الكويت وضمها الى العراق.
كان الملك غازي، في السياسة العراقية الداخلية، يميل الى القوى الوطنية والقومية، خصوصاً في صفوف الجيش. وقد عيَّن أحد كبار السياسيين الوطنيين في بغداد، رشيد عالي الكيلاني باشا، مديراً لديوانه، ويشاع أنه هو الذي حرَّضه ضد الإنكليز، وفتح له قنوات اتصال مع ألمانيا الهتلرية. والمعروف أن الكيلاني بعد سنتين من مصرع العاهل العراقي، ترأس الحكومة التي تشكَّلت عام 1941 فور الانقلاب الذي قام به نفرٌ من الضباط الوطنيين في الجيش العراقي. وقد قمع الإنكليز ذلك الانقلاب بالقوة، وأعدموا بعض قادته من ضباط الجيش، بتهمة أنهم مدفوعون من الألمان، الذين كانوا يطمحون الى السيطرة على النفط العراقي، وإحياء المشروع المقترح قبيل الحرب العالمية الأولى، بإنشاء خط للسكك الحديد بين بغداد وبرلين!
تلك كانت أول محاولة عراقية جديَّة لاسترجاع الكويت الى “حضن الوطن الأم”، حسب التعبير العراقي السائد في تلك الأيام.
***
سنة 1961، بعد أسبوع واحد من إعلان استقلال ما سموه “دولة الكويت”، عقد عبد الكريم قاسم مؤتمراً صحافياً، طالب فيه بتلك الإمارة، مهدداً باستخدام القوة، معتبراً أن الإمارة الصباحية، كانت جزءاً لا يتجزأ من العراق، وتم اقتطاع هذا الجزء من قبل “الإمبريالية الغربية”، حسب تعبيره، فهزَّ العالم العربي، ثم أجرى مناورة عسكرية كان الهدف منها إضفاء طابع الجديَّة على المطالبة بالكويت.
قامت قيامة “جامعة الدول العربية”، وطالبت بالتدخل لمواجهة تهديدات عبد الكريم قاسم، الذي لقي معارضة شديدة، من طرفين نقيضين: الرئيس المصري جمال عبد الناصر، والعاهل السعودي الملك سعود بن عبد العزيز، ولكل منهما سببه الخاص:
جمال عبد الناصر كان يعتبر عبد الكريم قاسم خصمه الأول في المشرق العربي، منذ ابتعاد الثورة العراقية بقيادته عن الحركة التوحيدية التي أطلقها الرئيس المصري باتجاه سوريا، ونتج عنها قيام “الجمهورية العربية المتحدة” بين الإقليمين السوري والمصري. وقد تدخلت أجهزة عبد الناصر السورية تدخلاً فعالاً في الشأن العراقي، خلال حكم عبد الكريم قاسم، الأمر الذي تسبب بوقوع حوادث دامية في شمال العراق، وكادت تشمل كامل الخريطة العراقية، لولا الحسم، والشدة التي ضرب بها قاسم “القوى الناصرية”، بدعم مكشوف من الشيوعيين. وكان لا بد بعد ذلك كله أن يرسل الرئيس المصري فرقة من جيشه الى الكويت، لحمايتها من أي “غزو” عسكري عراقي ينوي عبد الكريم قاسم القيام به.
أما السعودية فقد كانت تعتبر الكويت جزءاً من منطقة نفوذها في الخليج (مع أن الكويتيين كانوا يمقتون ذلك).
تلك المرحلة كانت محفوفة بالغموض على الصعيد الدولي، ولم تتكشف غوامضها إلاَّ بعد انهيار الاتحاد السوفياتي وفتح الأرشيف السري، بما ينبئ عن تناقضات جوهرية بين ما هو معلن، وبين ما هو مستور. ففي الوقت الذي كان فيه عبد الناصر ينكل بالشيوعيين في مصر وسوريا، وبينما كانت موسكو تعارض بشدة قيام “الجمهورية العربية المتحدة”، نسج مدير الاستخبارات السوفياتية في ذلك الوقت، ألكساندر شيليبين (وهو من قدامى الستالينيين)، خطة أقنع بها رئيس الحكومة نيكيتا خروتشوف، قضت بحمل عبد الناصر على التدخل الى جانب التمرد الكردي في شمال العراق، بهدف زعزعة المصالح النفطية الغربية في المنطقة، لقاء وعدين خطيرين يتناقضان مع السياسات السوفياتية المعلنة: الأول، يقضي بتسليح الجيشين، الأول والثاني في “الجمهورية العربية المتحدة” بأحدث الأسلحة السوفياتية, أما الوعد الثاني، وربما الأهم، فقد كان تأييد الاتحاد السوفياتي لضم الجزء غير الكردي من العراق الى الوحدة السورية المصرية!
لسبب من الأسباب، لم تتحقق تلك الخطة، ويمكن أن يُستدل من تصريحات الزعيم السوفياتي نيكيتا خروتشوف، خلال وجوده في مصر لتدشين المرحلة الأولى من السد العالي في أسوان مطلع عام 1964، أنه ربما كانت للكويت علاقة بذلك. فقد أحرج خروتشوف مضيفه عبد الناصر، عندما أطلق بحضوره حملة تشهير بدولة الكويت، وأميرها، بقوله: “إنه أسهل على المرء أن يأكل الملح من أن يصافح شيخ الكويت”، مطلقاً عليه نعتاً قذراً!
ربما كان ذلك من باب النقد العلني للرئيس المصري بسبب من نصرته للكويت عندما طالب بها عبد الكريم قاسم، خصوصاً أن للزعيم السوفياتي سوابق من هذا النوع، ومع عبد الناصر بالذات، عندما عاتبه محتجاً على قتل أجهزته في سوريا للمناضل الشيوعي اللبناني فرج الله الحلو.
***
صدام حسين تميَّز عن سابقيه في حكم العراق، بأنه أقرن القول بالفعل عندما أقدم على غزو كامل دولة الكويت، وأعلن ضمها رسمياً الى العراق يوم الثاني من آب / أغسطس من عام 1990. بل هو تعدى الأراضي الكويتية التي سيطر عليها الى منطقة “الخفجي” السعودية (التي كانت جزءاً من المنطقة المحايدة بين سلطنة نجد والكويت، كما رسمها بالخط الأحمر السير بيرسي كوكس)، وبوجود كامل قوات التحالف الدولي التي تجمعت هناك لانتزاع الكويت من القوات العراقية!
كان صدام حسين، بعد سنة من توقف الحرب مع إيران، قد عقد مع العاهل السعودي الملك فهد بن عبد العزيز “معاهدة عدم اعتداء” بين بلديهما، ولذلك فإن اقتحام القوات العراقية في الكويت لمنطقة “الخفجي” السعودية الغنية بالنفط، كان ملفتاً ومستغرباً، ومنافياً لما جاء في تلك المعاهدة. لكن القول الساري في الأوساط الديبلوماسية، في حينه، يشير الى أن المقصود الضمني من المعاهدة المذكورة هو “اقتسام الكويت بين العراق والسعودية”، وأن صدام عندما رأى أن الملك فهد نكث بالمعاهدة، (التي ينكر السعوديون وجودها)، قرر اقتحام منطقة الخفجي، في محاولة رمزية لإعادتها الى الكويت “المستعادة” الى الحضن العراقي ولو بالغصب!
أخذها صدام حسين غصباً، ولأسباب ليست مؤكدة الى اليوم، على الرغم من وجود عدد من الشواهد والقرائن تشير اليها. وليس خافياً أن الرئيس العراقي الراحل كان يمقت حكام الكويت، ويصفهم بنعوت أشد استعلائية وتحقيراً من تصريح خروتشوف في حضرة عبد الناصر. بل هو كان أشد قساوة ووضوحاً بحقهم وهو في المعتقل الأميركي يواجه المحاكمة في محكمة الاحتلال!
إن المعروف والسائد من حكاية مغامرة صدام حسين بغزو الكويت، هو في غالبيته من جانب واحد بسبب من الهيمنة الغربية على الإعلام العالمي، الذي كان دأبه بعد توقف الحرب العراقية مع إيران عام 1988 “شيطنة” صدام حسين، ومحاولة تهميشه، وإبقاء العراق ضعيفاً، فقيراً، متسولاً، يلعق جراحه وهو سائر في طريق الموت البطيء!
بعد غزوة صدام للكويت، لم يُسمع صوتٌ، ولو همساً، عن الأسباب الموجبة التي “حشرته”، وأخرجته عن طوره، بحيث تعامى عن كل نصح، وأسكت كلَّ صوت دعاه الى التعقل.
في 15 تموز/ يوليو سنة 1990 أرسل طارق عزيز، وكان وزيراً للخارجية، رسالة الى الشاذلي القليبي، أمين عام جامعة الدول العربية، تتضمن إشارة واضحة “بأن حكومتي الكويت والامارات قامتا بعدوان مباشر على العراق والأمة العربية، وان العراق يسجل امام الجامعة العربية حقَّه في استعادة المبالغ المسروقة من ثروته النفطية…”( قدرها صدام حسين في خطاب في 16 تموز/ يوليو 1990 بما يزيد على 14 مليار دولار).
وما قالته جريدة ” القادسية”، لسان حال الجيش العراقي، تعليقاً على رسالة طارق عزيز الى الشاذلي القليبي، يضيء على جانب من أسباب الغزوة الغاصبة:
“إننا نعلم ومعنا كل العالم، (تكتب “القادسية”)، بأن الكويت والامارات ليستا بحاجة الى أموال أو رؤوس اموال حتى تقوما بزيادة انتاج النفط أو تخفيض أسعاره. فالتحصيل الحاصل، وهو تدبير مؤامرة جديدة ضد العراق، أو خنق اقتصاده، ومورده الرئيسي، الذي هو النفط، وصولاً الى تحقيق الهدف المرسوم لهم، وهو تركيع العراق اقتصادياً، وعرقلة دوره القومي وهذا ما يسعى له أعداء الأمة العربية…”.
أبلغني المصرفي العراقي الراحل صبيح محمود شكري، أنه رتَّبَ زيارة لرئيس الحكومة البريطانية الأسبق إدوارد هيث الى بغداد لمقابلة الرئيس العراقي بعد احتلال القوات العراقية للكويت، فأجرى السياسي البريطاني المخضرم، محادثة مطولة مع صدام حسين، نصحه خلالها بسحب جيشه من الداخل الكويتي، الى حزام أمني في الأراضي الكويتية على الحدود العراقية، محدداً منطقة “المطلاع”… والتفاوض بالوساطة، عن طريق طرف ثالث مقبول منه، حول مطالبه من الكويت لقاء الانسحاب الكامل، وهو إجراء من شأنه أن يبعد شبح الحرب الشاملة… إلا أن صدام حسين لم يقبل بهذا الاقتراح.
كانت لديه قناعة راسخة، من ناحية حتميَّة الحرب، مستبعداً أي حلٍ للمشكلة بطريقة أخرى، نابعة من يقينه، حسب الوثائق العراقية التي استولى عليها الأميركيون بعد احتلالهم بغداد (أي بعد 13 سنة على احتلال صدام للكويت)، بأن الأميركيين وحلفائهم عازمون على تدميره، وتدمير جيشه، وتمزيق العراق، وإضعافه الى الأبد، “لأن الصهيونية هي التي تتحكم بالقرار الأميركي”!
ما من شك في أن الطريقة التي اقتحم فيها صدام حسين الكويت، كانت قاسية وشديدة، مهما قيل في الأسباب الموجبة لردع الصلف الكويتي. لكن هذا هو صدام حسين الذي لا يحتمل المزاح واللعب معه، وكان على الكويتيين أن يعرفوا ذلك، وأن يتداركوه.
من جهة ثانية، ألقى غضبه من الكويتيين، وعليهم، غشاوة على عينيه فما عاد ميَّز بين عدو وصديق، خصوصاً أنه لم يجد أي نصير كويتي له، حتى من خصوم آل الصباح الحاكمين، وبالأخص في صفوف “حزب البعث الكويتي” الموالي سابقاً للعراق. لم يقبل البعثي الكويتي فيصل الصانع، وكان نائباً في مجلس الأمة، أن يشكل حكومة كويتية موالية له، فاحتجزه صدام حسين وأعدمه مع رفقاء آخرين. وقد كتبتُ، وقتها، أكثر من مقال في نقد واستنكار تعامل الرئيس العراقي مع فيصل الصانع، وهو صديق قديم لي، منذ أن كان يدرس في باريس في أواخر ستينات القرن الماضي.
لكن الغريب في الأمر، أن عدم تعاون أي من السكان المحليين معه لم تكن تجربته الأولى، فقد واجه الحالة ذاتها من قبل، عند احتلاله لمنطقة “خوزستان” العربية في إيران، من بداية الحرب العراقية – الإيرانية، مع أنه كانت في تلك المنطقة سابقاً حركة تمرد على الحكم الإيراني تُسمى “جبهة تحرير عربستان”. تماماً كما جرى في الكويت تالياً، لم يجد له في “المُحمَّرة” أي نصير عربي!
إذن، ما هي تلك الأسباب التي أخرجت صدام حسين عن طوره، ودفعته الى الغزوة المدمرة؟
***
السبب الأهم، قناعة صدام حسين الراسخة أن الأميركيين، وضعوه أمام خيارين صعبين، بتدبير وتخطيط من “الحركة الصهيونية”، التي تدير وتتحكم في قرار واشنطن:
إما أن يبادر الى محاربة نظام الخميني في طهران، وإلاَّ فإن العراق سوف يواجه حالة من التمزُّق، بفعل الثورة الإسلامية في إيران، يمكن أن تتطور الى حرب أهلية ساحقة ينهار العراق بفعلها ويتشظَّى!
فهو عندما عقد اتفاقية الجزائر مع شاه إيران عام 1975، الذي أدى الى انهيار التمرد الكردي المدعوم من إسرائيل في شمال العراق، أيقن أن الشاه “خرج عن طاعة الصهيونية”، لا سيما أنه قبل ذلك وضع حداً لتحكم شركات النفط الأجنبية بأسواق الطاقة، وصولاً الى تأميم تلك الصناعة. يومئذ، أدرك صدام حسين أن الشاه محمد رضا بهلوي بات “في دائرة الخطر”، لا سيما أنه جاهر من على شاشات أميركية، بالحديث الصريح عن “آليات التحكم الصهيوني” بقرارات الدول الغربية!
أما التفكير الآخر في عقل صدام حسين، كان يتركز على أن الحرب بين إيران والعراق، لا تكفي لتعطيل تأثير هاتين القوتين الإقليميتين في الخليج.
صحيح، أن الحرب أضعفتهما، لكنها لم تُخضعهما. وبالتالي، كان لا بد من فرض عزلة صارمة عليهما، بالإضافة الى حصار مطبق، وحرب اقتصادية من وراء الستار، خصوصاً في موردهما الأساس، أي النفط الخام.
في هذا المنحى، مضى الشيخ علي خليفة العذبي الصباح، وزير النفط الكويتي، ليُغرق الأسواق بنفط رخيص جداً، من أجل هدف سياسي هو حرمان العراق وإيران من مداخيل وافية للنهوض من ضنك الحرب، التي جرت إطالتها عن عمد للغاية ذاتها.
وقد سار الوزير الكويتي في هذا الاتجاه على خطى وزير النفط السعودي الأسبق أحمد زكي اليماني، على عهد الملك فيصل بن عبد العزيز، (قبل عزله من قبل الملك فهد)، الذي أطلق ما اصطلح على تسميته في ذلك الوقت “حرب الأسعار”.
فوق ذلك، تقدمت الكويت الصف الخليجي لمطالبة العراق بسداد ديون عليه للحكومة الكويتية، فور أن وضعت الحرب العراقية – الإيرانية أوزارها. صحيح أن صدام حسين في احتلاله الكويت كان غاصباً، لكنه في ساعته أخذ منحى انتقامياً، ضارباً عرض الحائط بحسابات الربح والخسارة. فقد كان يعلم أن خطوته الغاصبة تلك، سوف تكلف الكويت ودول الخليج، في أي مورد وردت، حرباً أو سلماً، أضعاف أضعاف ما لها من ديون على العراق.
***
قد يكون أن ما أغرى صدام حسين في غزوه للكويت، تقلب الوضع السياسي الداخلي في الإمارة الصباحية، من حيث المشادة الدائمة بين الحكومة ومجلس الأمة، الأمر الذي أدى في مراحل مختلفة الى حل المجلس وتعطيل الحياة النيابية لفترات طويلة. وربما كان يتصور، أن فريقاً معارضاً على الأقل يمكن أن يواليه، وهذا خطأ فادح في التصور، لا يضاهيه سوى سوء الفهم بينه وبين سفيرة الولايات المتحدة، آبريل غلاسبي، قبيل دخوله الى الكويت.
في الحقيقة أن الوضع الداخلي في الكويت لم يكن على ما يرام، خصوصاً من الفترة الممتدة من منتصف السبعينات حتى الغزو العراقي. وقد لاحظتُ ذلك بنفسي يوم كنتُ في الكويت من أواخر 1976 وحتى منتصف 1977.
حدث خلال تلك الفترة أن كان وزير النفط الكويتي عبد المطلب الكاظمي في مهمة خارجية، ولدى عودته كان في استقباله في المطار وزير الإعلام آنذاك الشيخ جابر العلي. لفتتني تلك البادرة لأنه لم يسبق أن أقدم شيوخ العائلة الحاكمة على مثل هذه المراسم لشخصيات من عامة الشعب!
لفتني أكثر من ذلك، أن الشيخ جابر ألقى كلمة ترحيب بالكاظمي تحدث فيها عن أهمية التمسك بالوحدة الوطنية والحفاظ عليها، لا سيما أنه لم يكن معروفاً لأحد من خارج الكويت أن فيها “مشكلة وحدة وطنية”. وقد شدَّ ذلك انتباهي، كون عبد المطلب الكاظمي شيعي المذهب، وهذا قبل الثورة الخمينية في إيران بثلاث سنوات!
في أثناء وجودي في الكويت خلال تلك الفترة القصيرة، حدث أن تأسست مجموعة استثمارية، هي “مجموعة الشارقة”، طرحت أسهمها للاكتتاب العام، وسُمح فيه لجميع المقيمين في الكويت، شمل غير الكويتيين، لأول مرة في سجل الشركات الكويتية. وعندما نُشرت لوائح أسماء المساهمين، تبين أن هناك عدداً من شيوخ العائلة الحاكمة اشتروا أسهما في تلك المجموعة، فثارت ثائرة الشيخ جابر العلي ذاته، وألغي الاكتتاب.
ربما كان دافع الشيخ جابر العلي، أن ذلك من شأنه أن يُخل بالعقد الاجتماعي بين العائلة الحاكمة وعموم الكويتيين، باعتبار أن دخول الشيوخ في التجارة يشكل توجهاً لمنافسة التجار، الذين هم القوة الثانية الفاعلة بعد العائلة الحاكمة.
لذلك رفع الصوت بما معناه: “نحن حكام ولسنا تجاراً”!
***
استطاع الرئيس الأميركي جورج بوش الأب، بتشجيع من مارغريت ثاتشر رئيسة الحكومة البريطانية، بصفتهما “قائدين للعالم الحر”، تشكيل تحالف دولي، عسكري وسياسي، ضمَّ أكثر من 30 دولة، بجيوشها وأساطيلها، تحت يافطة: “معركة تحرير الكويت”.
تجمع هذا الحشد العالمي كله في المملكة السعودية، تحت إمرة جنرال أميركي هو نورمان شوارز كوف، وقائد اسمي هو الجنرال السعودي خالد بن سلطان.
لكن هذا الحشد العالمي كله، ما كان ليستطيع أن يفعل شيئاً، لولا القناع السياسي لضمان “شرعيته العربية”، التي من دونها يُصبح هو الآخر قوة احتلال غاصبة. فاتجهت الأنظار لتأمين “الشرعية العربية” الى دمشق، لإقناع الرئيس السوري حافظ الأسد بالمشاركة بقوات سورية في الحشد العالمي (بشروط مغرية ومميزة)، فاقتنع. وكانت حجته في ذلك، الدفاع عن استقلال دولة عربية شقيقة، كما فعل جمال عبد الناصر من قبل في زمن عبد الكريم قاسم!
ضمن جورج بوش ما كان يصبو اليه. إلا أنه بقيت هناك مسألة حساسة، يمكنها من الناحية الإعلامية والدعائية أن تفسد كل شيء، بما في ذلك إمكانية المشاركة السورية، وهي استبعاد إسرائيل من الحشد العالمي، مع أنها في واقع الأمر عصبه الخفي، خصوصاً أن صدام حسين عمل قصارى جهده لإقحام إسرائيل في تلك المعمعة، فأطلق بضعة صواريخ على تل أبيب.
على مضض “اقتنعت” إسرائيل بأن تتنحى جانباً، ومع ذلك فإن اللوبي الصهيوني في أميركا أسقط جورج بوش في انتخابات الرئاسة التي فاز فيها بيل كلينتون، على الرغم من انتصاره المؤزر في “عاصفة الصحراء”، وعلى الرغم من أنه حمل الأمم المتحدة على إلغاء قرار سابق اتخذته باعتبار الصهيونية “شكلاً من أشكال العنصرية”!
تحت نظر جورج بوش الأب ارتكبت القوات الأميركية مجزرة بشعة بقصفها قوافل الجيش العراقي المنسحبة من الكويت، وهي ليست في وضع قتالي، مما أنزل بالقوات العراقية المنسحبة خسائر بشرية ومادية ترقى الى “جرائم الحرب”، لو كانت هناك عدالة دولية. وعندما ظهرت الصور الأولى التي كشفت حجم وبشاعة تلك المجزرة، أمر جورج بوش بسحب تلك الصور، وإتلافها، لئلا تستثير الرأي العام العالمي.
سنتها، وخلال الحملة الانتخابية أطلق كلينتون في وجه خصمه العبارة الصاعقة التي ذهبت مثلاً: “إنه الوضع الاقتصادي… أيها الغبي”!
يومها أيضاً، ذهب كبير الحاخامين اليهود في نيويورك الى البيت الأبيض لتهنئة المرشح الفائز بيل كلينتون، فقال له، كما جاء في صحيفة “هيرالد تريبيون”: هل سألت نفسك لماذا أنت وليس غيرك؟”!
على أنقاض رئاسة جورج بوش اليتيمة، أطلق أنطوني لايك، مستشار الأمن القومي لخليفته كلينتون، سياسة “الاحتواء المزدوج”، أي حصار إيران والعراق كليهما.
كان كلينتون آخر مسؤول عالمي التقاه الرئيس السوري حافظ الأسد في جنيف عام 2000 (قبل وفاة الرئيس السوري بعد ثلاثة أشهر فقط). وعندما سؤل كلينتون عن مجريات لقائه مع الرئيس السوري،، قال: “لقد بحثنا مستقبل سوريا لربع القرن المقبل”!
***
قبل انطلاق معركة تحرير الكويت بأيام، عقد القائد الأميركي الجنرال شوارزكوف مؤتمراً صحافياً حول استعداداته وتوقعاته. وفي ذلك المؤتمر الصحافي، أعلن أنه سوف يطبق “خطة هنيبعل” في الحرب. لكن أحداً من الصحافيين الحاضرين لم يكلف نفسه عناء السؤال عمَّا هي تلك الخطة، (ربما لكيلا يبدو جاهلاً)!
حتى أن المراقبين من الخارج لم يتوقفوا عند عبارة “خطة هنيبعل”، أو شرح معناها. فمرت هكذا كأنها مجرد عبارة في الهواء لا معنى لها!
من المؤكد أنه قصد بما قال عن تطبيق “خطة هنيبعل”، حصر المعركة بشقها العسكري، بمعنى أنه توخى “تحرير الكويت” فقط، وعدم المضي في الزحف الى أبعد من ذلك، أي الى بغداد لإطاحة نظام صدام حسين.
ذلك أن القائد القرطاجي هنيبعل، في الحرب البونية الثانية مع الرومان، استطاع أن يهزم الجيش الروماني في معركة “كاني” (جنوب شرق إيطاليا) يوم الثاني من آب / أغسطس من عام 216 قبل الميلاد، لكنه لم يتابع انتصاره بالزحف على روما.
ويمكن القول بأن إقدام جورج بوش الابن على احتلال العراق، خلال فترة رئاسته الأولى، وإطاحة نظام صدام حسين، هو خطوة تكميلية لخطة هنيبعل الناقصة التي، فيما بعد، أسقطت قرطاجة ذاتها ودمَّرتها!
المسألة الأخرى الغامضة في تلك الحرب، هي حرق آبار النفط الكويتية كلها دفعة واحدة، وهو الحريق الذي أخمده الخبراء الأميركيون وغيرهم، لكن فعله المرتجى في أسواق النفط العالمية قد تم، لأنه أحبط خطة “حرب الأسعار” التي أشعلها وزير النفط الكويتي، بعدما حققت أغراضها!
اتهم صدام حسين وجيشه بأنهم هم الذين أشعلوا الآبار الكويتية، وهي تهمة يصدقها جميع الناس الذين لا يعرفون مداخل ومخارج الصناعة النفطية وسياساتها، وهي قابلة للتصديق لدى هؤلاء لأن سمعة صدام حسين الانتقامية تجعلها كذلك. لكن المرجح أن العراقيين، عسكراً وخبراء نفط، لا يعرفون مواقع تلك الآبار كلها، وليست لديهم القابلية التكنولوجية لتحديد مواقعها من الجو، ولا إمكانية إشعالها كلها دفعة واحدة، كما حصل.
المعلومات الدقيقة والمؤكدة حول تلك المواقع لا يعرفها كل المعرفة سوى الذين اكتشفوها وحفروها ووضعوا خرائطها. والسير بهذا المنطق يؤدي الى الاستنتاج بأن الذي أطفأ النار هو الذي أشعلها!
العراقي الغامض
قراءة متأخرة في عقل صدام حسين
(10)
المُتنافران
سليمان الفرزلي*
نَقَلَ مَنْ سَمِعَ عَمّن حَضَرَ، أن جمال عبد الناصر، في بعض مجالسه في القاهرة، زمن كانت “الوحدة” مع دمشق قد فُضَّت، والوُّد مع “البعث” انقطع، سأل مستغرباً، كيف أنَّ بلدين جارين، يحكمهما حزب واحد، وعقيدة واحدة، يتناحران، ويتعاديان، ويدير الواحد ظهره الى الآخر، بدلاً من الانصهار في “اتحاد”، أو “وحدة”.
طاف بعينيه على وجوه من حوله، فرأى عيوناً ضائعة، حائرة، وأفواهاً مقطَّبة، فغيَّر الحديث.
لم يتكلم جمال عبد الناصر، يومها، على البديهة، فعندما تخلَّى عن المشروع الذي عرضه عليه البعثيون السوريون سنة 1963، بإقامة “وحدة ثلاثية” تضم مصر، والعراق، وسوريا، في دولة واحدة، كان يظنُّ أن خروجه من ذاك المسعى، لعدم وجود اتصال بري بين مصر والهلال الخصيب، يمكن أن يسهِّل التلاقي الاتحادي بين دمشق وبغداد.
إنَّ السؤال الذي طرحه الرئيس المصري، دار على شفاه وألسنة المشتغلين في الفكر السياسي، والمسائل “الجيو- سياسية”، وكانوا على حسن السمعة في مجالاتهم، ونزل على كثير من دراساتهم، ومقالاتهم، وحتى الكتب… إلا أنَّهم، حاروا جواباً، أو قل إنهم ذهبوا مذاهب عدة في تفسير البُعاد، والقطيعة، بين البلدين الجارين، وبين “البعثين”: “بعث” فصَّله العراقيون على مقاسهم، و”بعث” استخدمه السوريون لتحقيق طموحاتهم، في الحكم، والتفرد فيه. خصوصاً، أنه قبل الوحدة مع “مصر الناصرية”، في خواتيم خمسينات القرن الماضي، كانت مفاضلة قطاع واسع من الأحزاب السياسية السورية، باستثناء “البعث”، بين التلاقي مع بغداد، أو مع القاهرة، فاختاروا الأخيرة البعيدة، على الأولى الجارة القريبة!
أول ما يتبادر الى ذهن الذين، تناولوا أسباب التنافر بين دمشق وبغداد، ويطرقُ مسمعك، أن مقتضيات الامساك بالسلطة، والانفراد بها، كان يحتم الابتعاد عن المنطلقات القومية الأساسية لحزب “البعث”، الأمر الذي عَمَّقَ تبعات الاستفراد بالسلطة، ورسَّخَ النفور، والبعاد، الى حد القطيعة بين البلدين و”البعثين”، فأصبحوا، “من ورائهم بُرزخ الى يوم يبعثون” (المؤمنون 100)!
هذا واقع لا يختلف عليه اثنان، إلا أن هناك ما هو أدهى: “فقدان الكيمياء البشرية”، بين حافظ الأسد وصدام حسين، والشعور بعدم الراحة، والثقة… وهذا ما عمَّقَ الهوة، ولم يسهل التلاقي والتفاهم.
لذلك، كان حافظ الأسد يميل الى التعاطي، ويفضل التخابر، مع أحمد حسن البكر، من رئيس الى رئيس، ومن عسكري الى عسكري، متجاوزاً صدام حسين، وكان بعدُ “نائباً للرئيس”، ولا يعترف به مساوياً له لا بالصفة السياسية، ولا بالصفة العسكرية… ولم يتغير أي شيء في رأي أو تصرفات الرئيس السوري، حتى بعدما صفَّى صدام حسين “الضالعين” فيما سمَّاها “المؤامرة السورية”، وأزاح أحمد حسن البكر، وقبض على أعنَّة الحكم في عاصمة الرشيد.
راح التنافر يأخذ منحى ما كان بين “الحالة الأموية” في دمشق، و”الحالة العباسية” في بغداد، وكان أن قارب صدام حسين مرة، هذه المقارنة، من باب الصراع بين معاوية بن أبي سفيان، وعلي بن أبي طالب، تاركاً للتاريخ، وحده، أن يحكم بينه وبين حافظ الأسد، حول من هو “علي”، ومن هو “معاوية”!
***
لم تكن الدنيا تتسع لحافظ الأسد وصدام حسين. إن كانت “غريزة الفردانية”، كما سماها أرسطو، التي تقوم على حساب مفهوم الدولة، تجمع بينهما، وإن كان العنف، والاستئثار، وتوظيف السلطة لخنق الإرادات، وتغييب المعارضين، والتنكيل بهم، والتضييق عليهم بكل الوسائل، سمات يشتركان فيها… إلا أن “التركيب الشخصي” لكل منهما، يختلف في العمق بينهما.
كان حافظ الأسد جندياً، درس فنون القتال، واحترف، وتدرج في الرتب والمراتب، الى الأعلى والأهم، بينما بقي صدام حسين يعاني من عقدة نقص، في مسيرته الى القمة، بأنه لم يكن جنديا، وما خاض حرباً، ولا شارك في قتال. وقد لا مست آبريل غلاسبي، سفيرة الولايات المتحدة لدى بغداد، (التي قاد سوء فهم صدام حسين لها الى غزو الكويت)، هذه العقدة، فشبهته بالشاهنشاه محمد رضا بهلوي:
“نحن نعلم أنه لم يقاتل دقيقة واحدة، وأنه لم يدخل الجيش على الإطلاق، ولم يكن يعرف شيئاً عن الجيوش، لكنه على غرار شاه إيران، كلما ازداد عظمة اعتبر أنه ازداد معرفة، فأصبح فجأة خبيراً بالمعدات العسكرية، والإصلاح الزراعي، والثقافة وبكل شيء آخر”…
إلا أن آبريل غلاسبي اعترفت لصدام حسين “بالهيبة”، ووصفتها بأنها “هيبة ترويضية”، لأي متحدث معه، وعزت ذلك الى “جهله”. ومضت تكتب:
“إنه كان جاهلاً لدرجة لا تُصدَّق على الرغم من أنه لم يكن رجلا غشيما”. أو بتعبير آخر: كان “غاشماً وليس غشيماً”، وعندما تجرأ على الوقوف في وجه الولايات المتحدة، في وقت كانت كفة التوازن العالمي راجحة لها، بعد تفكك وانهيار الإتحاد السوفياتي، ردعته، بالقوة الغاشمة الأعظم في العالم.
لقد بقيت “البداوة” و”العشائرية” من السمات الطاغية في شخصية صدام حسين على الرغم من أنه حاول إخفاء ذلك بالمظهر الخارجي “المتفرنج”، بتصميم ملابسه، وربطات العنق، والقبعات الكلاسيكية، الموقعة من أشهر بيوتات الأزياء الأوروبية، وسيجاره الكوبي الفاخر. وفي الوقت ذاته كان حريصاً على عدم الانغماس في تلك العادات، بقوله ذات يوم، إنه لا يريد لأي عادة أن تتحكم به.
***
“إن صدام حسين الأقدر على التآمر، بينما حافظ الأسد الأقدر في التخطيط”.
كانت آبريل غلاسبي على صواب، الأول أداته السيف والخنجر، والثاني قفازات مخملية، وقدرة فائقة على الاحتمال، وذكاء خارق، ونفس طويل في التفاوض. فقد دامت مفاوضات الأسد مع هنري كسينجر 136 ساعة في 12 لقاءً خلال شهر واحد.
في كتاب مذكراته “سياسة الديبلوماسية”
The Politics of Diplomacy
يرسم جيمس بيكر، وزير الخارجية الأميركية الأسبق، صورة أخرى للرئيس حافظ الأسد، تبين مدى الاختلاف، والتعارض بين الرئيس السوري ونده الرئيس العراقي، فيروي ما حدث معه في لقاء الرئيس الأسد في 23 من نيسان/أبريل سنة1991 برفقة إدوارد دجرجيان، سفير واشنطن لدى دمشق، وصار يُعرف بأنه: “ديبلوماسية فقع المثانة”، أو “ديبلوماسية المبولة”!
وصف بيكر ذلك اللقاء بأنه ” أصعب، وأشق مفاوضات أجريتها على الإطلاق، ووجدت أن مفاوضاتي الطويلة مع السوفيات للحد من التسلح، أسهل بكثير”!
استغرق الاجتماع مع الأسد يومها، تسع ساعات وستاً وأربعين دقيقة، من دون انقطاع، في غرفة يصفها جيمس بيكر بأنها: “خانقة، لا تطاق، لا يسري فيها سوى النُذُر القليلة من الهواء المكيف، بنوافذ مغلقة، مغطاة بستائر سميكة، زيتونية اللون”.
ويخبر أيضا:
“بعد ست ساعات على بدء اللقاء، ألحَّ نداء الطبيعة على السفير دجرجبان، بينما كان الأسد يسهب في مستطيل الكلام، ويزيد، ويعيد، عن “اتفاقية سايكس- بيكو”، وتبعاتها، وأثارها السيئة، والسلبية في المنطقة”…
ويتناول الوزير الأميركي الكلام:
“ازداد موقف السفير دجرجيان حرجاً، فكتب لي على قصاصة ورق صغيرة، ظننت أنه يريدني أن أثير مع الرئيس الأسد قضية سياسية، ففاجأني بجملة: “هل يمكنني الذهاب الى دورة المياه”؟
ويمضي جيمس بيكر:” بعد أكثر من ساعة على عودة السفير دجرجيان، سحبت منديلاً أبيض اللون، ولوَّحت به للرئيس الأسد، وأعلنت استسلامي، وقلت: عليَّ أن أذهب الى الحمَّام”!
***
كان “البعث”، بالنسبة الى صدام حسين وحافظ الأسد، غطاءً مثالياً، لإخفاء المرتكزات الحقيقية للسلطة، لا سيما وأن الحزب، بمفهومه الأصلي، أو التأسيسي، لم يعد موجوداً في الواقع، لا على الصعيد القومي، ولا على الصعيد القطري، إلاَّ كإطارٍ هيكلي في خدمة السلطة القائمة وأهدافها المضمرة.
إنه إطار من ثلاثة أقانيم، هي أشبه بالثالوث “المقدس”: السلطة المطلقة، والإمساك بالحكم بأي ثمن، والغطاء العقائدي”.
ليس أدلَّ على الفارق بين البعث السوري والبعث العراقي، من أن الأول استمر في الحكم بعد انقلاب 8 شباط 1963، الى اليوم، بصورة متواصلة، بينما البعث العراقي أُسقط مرتين: المرة الأولى، على يد شريكه السابق عبد السلام عارف عام 1963، بدعم من عبد الناصر، والثانية، على يد الاحتلال الأميركي، الذي جعل من “اجتثاث البعث” نهجاً مستداماً للسلطة التي أقامها في بغداد على أنقاض نظام صدام حسين.
انعقد المؤتمر القومي السادس لحزب البعث، في خريف عام 1963 بحضور ميشال عفلق، وغيره من المؤسسين القدامى، بمن فيهم بعض أعضاء القيادة العراقية المطرودين من بلدهم، أو اللاجئين في الخارج، بعد انقلاب عبد السلام عارف. ومن الطبيعي أن هؤلاء لم تكن كلمتهم مسموعة، شأن رفاقهم السوريين المتربعين على كرسي الحكم، وبمفردهم من دون أي شريك.
ما ناله البعثيون العراقيون الداعمون بقوة في ذلك المؤتمر للقيادة القومية للحزب، وعلى رأسها ميشال عفلق، لم يتعدَّ وعداً بإقرار مبدأ “الاتحاد الفدرالي” الكامل بين سوريا والعراق، (في حال عودة البعث الى السلطة في بغداد)، وكلُّ ما عدا ذلك جرى في اتجاهات مغايرة، تحت عنوان مختصره: “التخلي عن المبالغة في تقديم الشأن القومي على الشأن الوطني (القطري)”، لأن ذلك من شأنه أن يؤدي الى مغامرات طائشة، وغير محسوبة، أو حتى صبيانية. وهذا انتقاد مبطَّن للقيادات العراقية التي شاركت في الانقلاب على عبد الكريم قاسم وما لبثت أن خسرت الحكم، بفعل تهورها وطيشها!
الملفت أن حافظ الأسد تسلح بهذا التعليل عندما قلب نظام صلاح جديد بعد التدخل العسكري السوري الفاشل في حوادث “أيلول الأسود” 1970، بين الجيش الأردني والفصائل الفلسطينية.
أما الاتجاه المغاير الآخر في المؤتمر السادس، فهو الجنوح الى اليسار في الشأن القطري، الى درجة اتهام القيادة القومية التاريخية للحزب، ممثلة بميشال عفلق، بأنها “يمينية”، وتحت هذه اليافطة جرى تالياً انقلاب صلاح جديد على تلك القيادة القومية مطلع عام 1966.
بهذه المبالغة اليسارية للبعث في سوريا، تسلح حافظ الأسد في انقلابه عليها أواخر عام 1970. وكان ملفتاً في أعقاب المؤتمر القومي السادس، أن حمود الشوفي، الذي كان من أقطاب التيار اليساري المغالي في ذلك الاتجاه، هو الذي انتُدب لتلاوة البيان الختامي للمؤتمر!
بين “القومي” و”القطري”، وبين “اليمين” و”اليسار”، جاءت عودة البعث العراقي الى السلطة عام 1968، بقيادة أحمد حسن البكر وصدام حسين، في نظر المهتمين بشؤون الشرق الأوسط، في العالم العربي وفي الخارج، وتبنيها لميشال عفلق، قبل أن يتبناها هو، وكأنها لابسة الثوب “اليميني”، المزركش بشعارات قومية.
ومع ذلك، فإن حافظ الأسد لم يقطع شعرة معاوية، لا مع ميشال عفلق، ولا مع نظيره العراقي أحمد حسن البكر (كما مرَّ)، وصولاً الى المحاولة الاتحادية التي انقضَّ عليها صدام حسين، انقضاض الكواسر، في لحظة اكتمال بلوغها.
***
من البداية، ناصب صدام حسين العداء لحافظ الأسد، مع أن مسألة التدخل في الصراع الأردني – الفلسطيني، وقتذاك، تحكي حكاية أخرى.
ففي عام 1970، طوى حافظ الأسد صفحة التدخل في الأردن، فانسحبت القوات السورية بعد فشلها بفعل تعذر الغطاء الجوي لها، (لامتناع الأسد بصفته وزيراً للدفاع وقائداً لسلاح الجو عن التدخل قبيل أيام من انقلابه على شركائه السابقين “اليساريين” في الحزب).
في الوقت ذاته، قررت القيادة العراقية سحب الجيش المرابط في “الجبهة الشرقية” (قوات صلاح الدين)، في بداية الاشتباكات الأردنية الفلسطينية، خلافاً لما كان يتوقع معظم البعثيين الموالين للعراق، وكذلك كثيرون من العرب.
لذلك، اعترف طارق عزيز لميشال عفلق، وكنت حاضراً في قصر الرشيد، يوم 7 نيسان / أبريل من عام 1975 (كما مرَّ)، بأن التراجع الوحيد الذي اضطرت اليه القيادة العراقية في مسيرتها هو الانسحاب من الأردن، لأن طارق عزيز، الإعلامي العتيق، يعرف أن الاعتراف بالخطأ أسلم من نكرانه. ولهذا اضطر صدام حسين الى زيارة بيروت متنكراً لتبرير الأمر أمام ميشال عفلق في حينه، ولتهدئة ردود الفعل السلبية داخل التنظيمات الحزبية خارج العراق.
لم يؤخذ التدخل السوري، في ظل قيادة صلاح جديد، على محمل الجد… ولذلك، أحدث انقلاب حافظ الأسد ارتياحاً كبيراً في سوريا، فجاء الانسحاب السوري غير ملحوظ، وكأن تلك القيادة عادت من تلك المغامرة مهزومة، وتستحق ما حلَّ بها، بفعل مزايداتها الادعائية!
من ذلك الوقت، بدأ صدام حسين يُطلق مواقف عدائية ضد الرئيس السوري حافظ الأسد، الذي ظل سابقه بخطوة في المواقف الكبرى، كما جرى في الأردن، وتالياً كما جرى في بغداد ذاتها، عندما وقع الرئيس السوري الأسد مع نظيره العراقي أحمد حسن البكر “ميثاق العمل القومي”، الذي انقلب عليه صدام وعلى السائرين فيه انقلاباً أشبه بمجزرة محمد علي باشا لمماليك مصر في “القلعة”!
***
حقيقة القول، بأن التنافر بين صدام حسين وحافظ الأسد، أقدم عهداً من وصول صدام الى الرئاسة في بغداد، وربما يعود الى ما قبل وصول البعثيين الى الحكم عام 1968، أي الى قبل عشر سنوات من توقيع “ميثاق العمل القومي”. هناك من يعزو ذلك التنافر الى مداولات المؤتمر القومي السادس للحزب في دمشق عام 1963.
ففي عام 1975، نشأت أزمة بين سوريا والعراق، بسبب من مياه نهر الفرات. وقد اتهم صدام حسين، وكان “نائباً للرئيس”، حافظ الأسد بأنه حجز في بحيرة السد التي تحمل اسمه (سد الطبقة) في محافظة “الرقة”، كميات من مياه الفرات أكبر مما يحق له، بهدف الضغط على الحكم البعثي المنافس في بغداد. وقد شنَّ الإعلام العراقي حملات مريرة على الأسد، بتوجيه من صدام حسين، حيث بلغت حدَّ “التخوين”.
وصادف أن كنت في بغداد آنذاك، وقمت بزيارة الى طارق عزيز في مكتبه بوزارة الإعلام، فأبلغني أن “السيد النائب” سيقوم بزيارة خاصة ومفاجئة الى موسكو، لعقد لقاء مع القيادة السوفياتية، ملمحاً أنها تتعلق بالخلاف مع سوريا حول مياه الفرات، وسألني ما إذا كنت أرغب في الانضمام الى الوفد الإعلامي، وفي عداده الصحافيان اللبنانيان أسعد المقدم، وعلي هاشم، فقبلت.
في العادة أن الزيارات الرسمية تستغرق ثلاثة أيام، لكن تلك الزيارة الى موسكو دامت أقل من 24 ساعة، لأن اللقاء الأول الذي جرى في قصر الضيافة بين نائب الرئيس العراقي، ورئيس الحكومة السوفياتية أليكسي كوسيغين، لم تأتِ بنتائج إيجابية.
في صالون الطائرة الخاصة التي أقلت الوفد العراقي، دارت “دردشة” بين الصحافيين وصدام حسين،
حول الزيارة، ومشكلة انحباس مياه الفرات. فسألت “السيد النائب”، عن جدوى الحملات الإعلامية التي تصف ممارسات حكم البعث السوري “بالخيانة”، فيما هي مشكلة غير سياسية، وإن كانت لها، ربما، نتائج أو أهداف سياسية، فقال:
!” ما من حاكم يختار الخيانة، لكن من الممكن استدراجه اليها”
نشرت ما دار في هذه الدردشة، في اليوم التالي، على صفحات جريدة “بيروت” التي كنت أرأس تحريرها. حدث ذلك بعد يومين فقط من تردي الوضع في لبنان بفعل انفجار بوسطة عين الرمانة يوم 13 نيسان /أبريل من عام 1975. فقد وقع ذلك الانفجار ونحن في موسكو، وعلمت به من الزميل أسعد المقدم الذي استقاه من مكالمة هاتفية مع مكتبه في بيروت. هو يومٌ مشهودٌ لا يُنسى، أن ينفجر لبنان ونحن برفقة صدام حسين في موسكو، وفي حلقه مرارة من حافظ الأسد، ومن القيادة السوفياتية في آنٍ معاً!
جرت الزيارة الخاطفة لصدام حسين الى موسكو، بعد شهر واحد فقط من اتفاقية الجزائر بينه وبين شاه إيران (6 آذار / مارس 1975)، ويمكن التقدير بأن احتدام الخلاف بينه وبين حافظ الأسد، وما استتبعه من حملات إعلامية، كان من نتائج تلك الاتفاقية، لكون الفريقين كانا يطلبان ودَّ الشاه في ذلك الوقت. لكن الافتراق الحاسم، جرى بعد الثورة الخمينية، فخالفها صدام وحالفها الأسد.
***
عام 1982، قرَّر صدام حسين إغلاق خط انابيب النفط العراقي عبر سوريا، (من كركوك الى بانياس)، بسبب من تأييد الرئيس السوري حافظ الأسد لإيران في الحرب مع العراق، وبقي هذا الخط مقطوعاً الى ما بعد وفاة الرئيس الأسد عام 2000، فتم تشغيله الى حين في بداية عهد نجله بشار الأسد، إلاَّ أن الأميركيين في غزوهم للعراق عام 2003، قصفوه وعطلوه، وبقي معطلاً الى اليوم.
لقد بلغ الخلاف والتنافر بين الرئيسين العراقي والسوري، ذروته بعد احتلال العراق لدولة الكويت صيف 1990، عندما انخرط الرئيس السوري في التحالف الدولي الذي شكله الرئيس الأميركي جورج بوش الأب، لصد العراق و”تحرير” الكويت. وذهب الأمر بالأسد أن شكل فرقة عسكرية وازنة، انضمت الى التجمع الدولي العسكري في المملكة السعودية.
أما في زمن الحصار الدولي على العراق، عندما قام صدام حسين بفتح مسارب المهربين (“القشاقجية”، حسب التعبير العراقي)، فاستدعى المهربين المحترفين عبر الحدود، وخاطبهم قائلاً:
“هذا يومكم فلا تدعوا شعبكم يُذل ويموت جوعاً”…
فقد لانت الأمور بين الطرفين بمبادرة من صدام حسين، وكان ذلك في صيف سنة 1995.
لم يغلق حافظ الأسد باب دمشق في وجه صدام حسين، عندما جاء يطرقه، لإعادة تطبيع العلاقات بين البلدين. إلا أن الرئيس السوري ظل حذراً لأنه لم يكن واثقاً من غاية الرئيس العراقي من هذا الانفتاح.
لذلك، في رسالة غير مباشرة بعث بها صدام حسين الى حافظ الأسد، أكد له فيها أن الغاية لا تتعلق بموضوع الحصار الأميركي المفروض على العراق، بل “بمسألة الأمن القومي للأمة العربية”. أراد فتح صفحة جديدة، ونسيان المرحلة السوداء، التي أعقبت انقضاضه الدامي على “ميثاق العمل القومي”.
تلك المرحلة كانت بالغة الحساسية بالنسبة الى الفريقين، لأسباب إقليمية تتعلق بالتوجهات الأردنية المستجدة نحو الاتفاق مع إسرائيل، وبالتوجهات التركية نحو بناء مزيد من السدود، مما يؤثر سلباً على الموارد المائية لكل من سوريا والعراق.
بل إن صدام في إحدى رسائله عرض على الرئيس الأسد لقاءً سرياً بينهما على الحدود للتفاهم على كل الأمور العالقة وجاهياً!
هل تمَّ الاجتماع بين المتنافرين؟ … لا أدري!
(“حلقة الأربعاء المقبل بعنوان “الغاصب)
العراقي الغامض
قراءة متأخرة في عقل صدام حسين
(9)
المُحَارِب
10 / 7 / 2024
سليمان الفرزلي*
تنقضي الأشهر الأولى من حكم صدام حسين، سهلةً يسيرةً، وكما خطَّط.
فبعدما تخلَّصَ ممن ظن أنهم متآمرون على العراق، ومتواطئون مع دمشق، بدأ بتمكين من يواليه في المراكز الحسَّاسة، فعزل، وعيّن، وسجن، ونفى… وبعدما حصَّن الداخل، التفت الى الجوار، الى إيران، التي كان يعتبرها، دائماً، “شوكة في خاصرة العراق”. لذا، لم تغفل عينُه عنها، لا في دربه الشائكة والدمويَّة الى السلطة، ولا بعدما أطبق على الحكم، وراح يوطِّد سلطته المطلقة ويحصِّنها.
حتى في أيام الودِّ والتصافي، كان يتعامل مع طهران على مضض، “تعامل الضرورة”، كما سمَّاها مرة طارق عزيز في إحدى افتتاحياته في جريدة “الثورة”.
في سنة 1975، شارك بصفته “نائباً للرئيس”، في أعمال مؤتمرٍ نفطي في الجزائر، فعقد، مع الشاهنشاه محمد رضا بهلوي “اتفاقية ترسيم الحدود” بين البلدين، في منطقة” شط العرب” جنوب العراق، (وُقِّعت في 6/3/1975)، كان من نتيجتها أن قطع الشاه إمداد المتمردين الأكراد، في شمال العراق، بالمال والعتاد، فانكسرت شوكة الملا مصطفى البارزاني، الذي كان قادَ التمرُّدَ على بغداد.
في تلك الحقبة، كانت طهران مربط فرس دمشق أيضاً، ومركز جذب للرئيس حافظ الأسد، الذي زارها مع زوجته، خاطباً بدوره ودّ الشاه، فأولم له وأكرم وفادته.
لقد بدا واضحاً، للمراقب، المتتبع، لما كان يجري ويدور وقتها، أن لكل من دمشق وبغداد، في خطب ود الشاه، غايةً وسبباً: دمشق سعت الى الجالس على عرش الطاووس من أجل التوازن مع تركيا. وبغداد من أجل إنهاء التمرد الكردي والتوازن مع الأتراك أيضاً.
جهد صدام حسين على إبقاء، فضلى العلاقات مع الشاه، فعندما بدأت نقمة الإمام الخميني تتعاظم في إيران من خلال “كاسيتات التحريض”، التي كان يرسلها من النجف في العراق الى الداخل الإيراني، أوفد الشاه زوجته الشاهبانو فرح ديبا الى بغداد، لتطلب من صدام حسين إبعاد الخميني من النجف، فنزل عند رغبة الشاه، إمعاناً في تأكيد صفو العلاقات.
إلاً أن فرح ديبا عادت بعد أيام، حاملة رسالة أخرى من الشاه، طلب فيها وضع الخميني “تحت المراقبة والحراسة” في العراق، ومنعه من السفر. عندها شعر صدام حسين وكأنه يعمل لدى الشاه… فرفض
عملاً بقاعدة بيلاطس البنطي: “ما كُتب قد كُتب”!
***
كان صدام حسين يدرك خطورة “المفترق الوجودي” الذي وُضع فيه.
رأى، من جهة، أن “تفاهم البكر- الأسد”، يشكل خطراً على وجوده في السلطة. وعبر الحدود، من جهة ثانية، “ثورة المارد الشيعي” تشكل خطراً وجودياً حقيقياً، ليس على العراق وحده، إنما على الخليج، الذي وعد الخميني بتصدير ثورته الى دوله، فبدأت تصرفاتُه، وخطبُه، خلال دورانه على المحافظات، تُفصِحُ عن سيرورة أخرى مختلفة، في نظرته الى إيران.
إذا كان صدام حسين نجح في تقويض مشروع البكر – عفلق في التصالح، والتقارب، ثم الاتحاد مع دمشق، فإنه ظلَّ ينتظر، وعينه مُحمَرَّةٌ، السانحة لملاقاة الخميني وعسكره في الميدان.
في الأول من نيسان/أبريل سنة 1980 أتته الفرصة على طبق “حزب الدعوة” الموالي لإيران.
صباح ذلك اليوم كانت “الجامعة المستنصرية “على موعد مع “الندوة الاقتصادية العالمية”، التي نظَّمها “الإتحاد الوطني لطلبة العراق”، مع “رابطة الطلبة الآسيويين”, على أن يفتتحها طارق عزيز، الذي كان يومها نائباً لرئيس مجلس الوزراء، الى جانب عضويته في مجلس قيادة الثورة.
ما أن دخل القاعة، حتى أقدم الشاب سمير مير غلام، وهو من التابعية الإيرانية، بإلقاء قنبلة عليه، فارتمى أرضاً، وأصيب في كسر في ذراعه اليسرى، بينما تلقى كثيرون في أجسادهم شظايا انفجار تلك القنبلة.
كان صدام حسين، وقتها، في قضاء “الصويرة”، القريب من الحدود مع إيران، حيث يقطن عدد كبير من المتجنسين الإيرانيين. خطابه في الناس هناك، وكان لم يتلقَّ بعد خبر ما جرى في “الجامعة المستنصرية”، امتزجت نبرته بالإنذار، والوعيد، وحسن النية:
“إن شعب العراق لا يريد أن يعادي أي دولة إلا إذا هي اشتهت معاداته، وإلا إذا توهمت أنه بإمكانها أن تنتهك سيادة بلدنا… عند ذلك فللأمر حسابٌ آخر”!
لقد كانت أهمية هذا الخطاب، أنه قيل في أقرب منطقة مجاورة لإيران.
شعر صدام حسين، بأن قنبلة “الجامعة المستنصرية” فرصَتَه، التي كان ينتظرها، فانبرى الى تعبئة الرأي العام العراقي، وتحضيره لما سيقدم عليه.
ففي صباح 2 من نيسان/ابريل سنة 1980، (اليوم التالي لحادثة “الجامعة المستنصرية”)، وقف صدام حسين في المكان الذي انفجرت فيه القنبلة، وأطلق القسم، الذي ردَّدته وسائل الإعلام العراقية، المسموعة، والمقروءة، والمرئية، على مدى ايام متتالية:
.”والله، والله، والله، إن الدماء الطاهرة التي سالت في الجامعة المستنصرية، لن تذهب سدى”
ألهب هذا القسم العراقيين حماسةً، وهذا ما كان يصبو إليه، فقد تمكن من الاستفادة، الى اقصى ما يمكن من الحادث المأساوي، بحيث عَبّأ العراقيين، وجعلهم يستعدون لكل شيء، ولتقبُّل أي شيء.
***
حَسَبَ صدام حسين، أو هكذا أوحى إليه كتبة التقارير، أن إيران، في مستهل ثورة الإمام الخميني، تعيش حالة من الفوضى، والضياع، ولم تنتظم للإمام بعد، أمور الدولة، وأن الجيش الذي دربه الشاه وجهَّزه بأفضل، وأحدث العتاد، البرية والبحرية والجوية، تفكَّك، وضَعُفَ… فاعتبر أن الفرصة قد سنحت لمنع تأثير الثورة الاسلامية على النسيج العراقي، والقضاء على فكرة “تصدير الثورة” الى الخليج ودوله.
لقد كان “أمن الخليج” مسألة حيوية بالنسبة الى صدام حسين. ففي خطاب له يوم 23 من نيسان/ابريل سنة 1980، خلال “مهرجان الشعر الشعبي”، وجَّه إنذاراً، وتحذيراً للإمام الخميني، دفاعاً عن الخليج، قال:
“لا يستطيع أن يمتدَّ بعنصريته الى أية ذرَّة تراب، ورمل، من أرض الوطن، والخميني يعرف انه لا يستطيع أن يمرَّ الى الخليج العربي إلاَّ على جثث العراقيين”.
هذه مسألة باقية على الزمان، لأن الثمن الذي دفعه العراق كان باهظاً جداً، ولا يستطيع الخليجيون نكران ذلك، وهي بالتالي، مسألة ما زالت بحاجة الى نقاش صريح وشفَّاف.
***
بين صياح الناس، وهتافاتهم، وحماستهم، دعماً له، ينتشي صدام حسين، ظنَّ أن ذاك أول الغيث، وهذه بداية تحقيق الهدف في اقتلاع “الشوكة الإيرانية” من خاصرة العراق.
مرت الأيام، بعد حادثة “الجامعة المستنصرية” (وبعدها، حادثة إلقاء قنبلة على مشيعي ضحايا تلك الحادثة، في 5 من نيسان/ أبريل سنة 1980)، مُدلهِمَّة، مشحونة، حبلى بالتوقعات، وعلامات الاستفهام.
في خطبه، وتصريحاته، ولقاءاته، أخذ صدام يغيِّر من لغته، فبدأ يقول كلاماً في الإمام الخميني، وفي “العنصرية الفارسية” لم يقله من قبل، بحيث بدت حملته، من هذه الناحية، كأنها “عنصريَّة عربية” ضد الفرس!
انعكس ذلك فوراً على الإعلام العراقي، فما عادت الصحف تستخدم كلمة “إيران”، بل “الطغمة الفارسية”!
كان صدام حسين يُدرك، أن نقطة الضعف الإعلامي في حربه ضد إيران، أنه غيَّر ترتيب الأولويات العربية، من الصراع العربي – الإسرائيلي الى الصراع العربي – الإيراني، ولهذا راح يطرح تلك الحرب من الناحية الإعلامية والدعائية على أنها “صراع بين العرب والفرس”، وأطلق عليها اسم “قادسية صدام”، متمثلاً “القادسية الأولى” في الفتح العربي الإسلامي لبلاد فارس في القرن السابع الميلادي، بقيادة سعد بن أبي وقَّاص!
كما بدأت وزارة الإعلام بنشر سلسلة من التحليلات، التي تعزِّز موقف القيادة السياسية، بأن الازمة مع إيران، هي مواجهة بين قوميتين: عربية وفارسية!
وكان طارق عزيز، كتب سلسلة من المقالات في جريدة “الثورة”، في هذا الإطار، وفيها، تعرَّض إلى سوريا، ومنظمة التحرير الفلسطينية، وليبيا، لتأييدهم الثورة الإيرانية.
***
من بداياته كان صدام حسين “محارباً”، لكنه لم يكن، في تجربته، قائداً ميدانياً، فما انتسب يوماً الى المؤسسة العسكرية. تلك كانت ثغرةً مؤرقةً، طُمسَ فيها الفارقُ الرفيعُ بين القتال والقتل. ولذلك ظلَّ تصنيفه، من هذه الناحية، غامضاً، بأن امتزج فيه “القاتل” في طريقه الى السلطة المطلقة، و”المحارب” الذي كادت حروبه الإقليمية تقوِّض السلم العالمي، في مرحلة بدأ يختلُّ فيها التوازن بين القوى الدولية، فوجد نفسه حليفاً للقوة الدولية الكبرى… وعدواً لها في وقت واحد!
الدارسون المحترفون لمجريات الحرب العراقية – الإيرانية التي انطلقت في شهر أيلول / سبتمبر من عام 1980، خصوصاً في الغرب، لاحظوا أن هناك أزمة قيادة ميدانية في “العسكرية العراقية”، نسبها بعضهم الى التدخل غير “المهني” للرئيس العراقي في مجريات الميدان..
عزمه على خوض تلك الحرب، طغى في عقله على أي حساب آخر، وهو السبب الموجب لاستعجاله الوصول الى قمة السلطة.
***
المراجع الأميركية، حول علاقة صدام حسين مع واشنطن، خلال الحرب مع إيران، تكشف ما انغلق على كثيرين: عندما بدأ يظهر، للمراقبين العسكريين، أن زخم الهجوم العراقي على إيران أخذ يتراجع، أصدر الرئيس رونالد ريغان أمراً للمعنيين في وزارة الدفاع، ووكالة الاستخبارات المركزية، بعمل كل ما يمنع هزيمة صدام حسين، سواء لجهة تقديم المعلومات، والصور الفضائية للمواقع والتحركات الإيرانية، أو لجهة تسهيل القروض والاعتمادات المالية، دعماً للمجهود الحربي، بالسرعة اللازمة.
لاقى الملك حسين بن طلال الدعم الأميركي، بحيث جعل الأردن مجالاً حيوياً للعراق والعراقيين.
بعد شهر على نشوب الحرب، طلبتُ موعداً مع الملك حسين لإجراء حديث لمجلة “الحوادث”، فجاءني الموعد متأخراً في وقت كنت فيه مزمعاً على السفر الى الولايات المتحدة لتغطية الانتخابات الرئاسية لعام 1980 بين الرئيس جيمي كارتر ومنافسه رونالد ريغان، فتوجهت الى عمَّان أولاً.
لدى وصولي عمَّان أبلغوني بتأجيل الموعد مع الملك ليومين، لأنه اضطر الى زيارة بغداد، وفي تلك الأثناء التقيت برجل الأعمال اللبناني الراحل علي غندور، المقرَّب من الملك، فكنا نجلس الى الحديث من دون تحفُّظات.
من جملة ما أسرَّ به، أن الملك حسين أوفده الى طهران حاملاً رسالة الى الإمام الخميني، ونقل رده عليها، ووعد بإعطائي صورة عن تلك المراسلة.
عندما حان موعدي مع الملك وتوجهت الى “المقر”، كما يسمُّون مكتب الملك ‘استقبلني مدير الديوان، ينال حكمت، الذي كنت قد تزاملت معه في الجامعة الأميركية. وفيما كنت أنتظر في مكتبه، جاء السفير الأميركي على عجل (اسمه نيكولاس فيليوتس، إن لم تخني الذاكرة)، وطلب موعداً عاجلاً مع الملك لدقائق، اقتطعت من وقت مقابلتي، بهدف تبليغه رسالة “مهمة”.
بعد خروج السفير، اقترب مني ينال حكمت، واعتذر مني مرة ثانية، لأن أليك دوغلاس هيوم رئيس الحكومة البريطانية الأسبق، طلب، هو الآخر، موعداً مستعجلاً، فكان لا بد من تلبية طلبه.
لكن العاهل الأردني، عاد وغمرني بلطفه، وهو يبلغني عن انشغاله في هذا الوقت، مما أدى الى التباس في المواعيد، وأعطاني وقتاً إضافياً للتعويض عما فات.
في الحديث الصريح، عن الحرب العراقية – الإيرانية، سألته عن رسالته الى الخميني، فرأيته فوجئ بالسؤال، وحاول بديبلوماسية، أن يقلل من أهمية ذلك، واضعاً الأمر في إطار “المساعي الحميدة”.
في المساء، التقيت علي غندور آملاً أن أحصل منه على “المراسلة الخمينية”، فوجدته يقدم الأعذار لعدم تمكنه من الحصول عليها!
بدا لي في تلك الزيارة الى عمَّان، أن هناك تعليمات ملكية الى المسؤولين الأردنيين على جميع المستويات، بالتحفظ في أي كلام عن الحرب العراقية – الإيرانية.
***
في السنة الأولى من الحرب، واجه الجيش العراقي نقصاً في قذائف “لونا” الصاروخية القصيرة المدى، وهي سوفياتية الصنع، فامتنع “الكرملين” عن تزويد العراق بهذه القذائف، بحجة أن موسكو تلتزم الحياد بين الجانبين المتحاربين.
على الرغم من أن العراق كان في حالة قطيعة مع مصر، ويتزعم ما كانوا يسمُّونه في حينه “جبهة الرفض” في مواجهة “صلح أنور السادات المنفرد”، فقد عقد صدام حسين “صفقة سريَّة” مع القاهرة لشراء كمية من تلك الصواريخ المخزَّنة في الترسانة المصرية… وقام مهندسون عراقيون ومصريون، بتطوير تلك الصواريخ لزيادة مداها الى 90 كيلومتراً.
لكن لسبب من الأسباب، كشف الرئيس المصري أنور السادات في خطاب له ربيع 1981، عن تلك الصفقة، في معرض تنديده بالمقاطعة العربية لمصر، مسمياً “جبهة الرفض” تلك بأنها “زعبورة”.
في مساء ذلك اليوم التقيت مدير الأمن العام العراقي الدكتور فاضل البراك، الذي كانت تربطني به صداقة قديمة منذ أن كان يُعد أطروحته للدكتوراه في موسكو مطلع سبعينات القرن الماضي، ودار الحديث الطويل بيننا حول هذا الموضوع، فبادرني بالقول:
“تدري أن لكل دولة في العالم سياسة معلنة، وسياسة خفيَّة تحت الطاولة. أو كما نقول في لغتنا “الضرورات تبيح المحظورات”. لكنني لا أعرف لماذا كشف السادات عن الموضوع، الذي كان من المفترض أن يبقى سرياً”.
فقلت له:
.” “أنا أعرف، ومن دون أي معلومات: “فتش عن أميركا وإسرائيل
ردَّ عليَّ البراك بالقول:
“إن سياستنا مع أميركا معقَّدة وتتقاطع فيها المصالح، وهناك أيضاً بفعل تلك المصالح، ما يمكن أن نسميه “تلاقي الأضداد”، وهي تحالفات موضوعية تأخذ مجراها لوحدها، مثل علاقتنا مع جيراننا العرب. هم الآن معنا، لكنهم في حقيقة الأمر ليسوا معنا. بعضهم متفرجون في الواقع، وإن كان صوتهم عالياً في دعمنا. ومنهم من هم مسرورون بانغماس العراق في الحرب ويشجعون على ذلك. فاشتباك القوتين الإقليميتين الكبيرتين في الخليج يريحهم، وهذا مفهوم. لكن الميزان دقيق، بمعنى أن أي اختلال في هذا الميزان، يحولهم برمشة عين الى متآمرين ومتواطئين علينا. وبالتالي، يمكنك أن تقول في المحصلة، إنه لا أميركا معنا، ولا جيراننا العرب معنا في نهاية المطاف. نحن مكتوب علينا أن نقلع شوكنا بأيدينا. فالحرب مكتوبة علينا، لأن السلام في هذه المنطقة من العالم يكاد يكون مستحيلاً. ليس الأمر سهلاً أو هيِّناً”!
ووضعت أمام البراك ما كان يطرحه سياسيون ومفكرون، في تناولهم الحرب مع إيران:
“إن العقل العربي مبرمجٌ، حتى الآن، على الصراع الأساس مع إسرائيل، وأعتقد أن الحرب مع إيران أحدثت صدمة انفصامية، فيأخذ البعض عليكم أنكم غيرتم في أولويات الصراع، بأن حولتم الأنظار من عدو الى آخر. وقد يذهب البعض الى القول بأن في ذلك خدمة مجانية لإسرائيل. وهذا يُضيفُ تعقيداً جديداً الى الحالة النفسية العربية المعقدة أصلاً بتناقضات لا عدَّ لها ولا حصر. ولذلك أخشى أن تخسروا الحرب في الضمير العربي أولاً”.
أطرق البراك قليلاً، ثم أخذ الكلام:
“هناك أمران يجب ألاَّ يغيبا عن البال في هذه الحرب: الأول، أن هناك تحالفاً موضوعياً بين إيران وإسرائيل، وبعض العرب ركيزته، أو نقطة التلاقي فيه، وهي إبقاء العراق ضعيفاً الى الأبد، والفرصة أمامنا الآن جيدة، لكون إيران هي الآن ضعيفة من حيث القدرة العسكريَّة، ومن حيث بنية جيشها راهناً. والثاني، يمكنك أن تنظر الى هذه الحرب على أنها مناورة بالذخيرة الحية استعداداً للحرب المقبلة مع العدو الصهيوني. إنها رسالة الى العدو والى الصديق عن اقتدار العراق وصلابة إرادته”.
***
يوم الرابع عشر من نيسان /ابريل سنة 1981, أجرينا الزميلة هدى الحسيني، وأنا، حديثاً صحافياً مع الرئيس صدام حسين، في منزله في بغداد، نُشر في مجلة “الحوادث”.
قال من جملة ما قال فيه، إنه يطلب من الدول الوقوف على الحياد، وكأنه واثق من أنه يستطيع وحده أن يهزم إيران، إذا لم تحصل مداخلات خارجية.
وجواباً عن السؤال، اي حياد يفضل، الجانب الذي يمتنع عن مساعدته، ومساعدة عدوه، (مثل الموقف السوفياتي في ذلك الوقت)، أو الجانب الذي يساعده ويساعد عدوه في الوقت ذاته (كما حال الولايات المتحدة تالياً، منذ مطلع الولاية الثانية للرئيس رونالد ريغان في عام 1985). صمت قليلاً، وكأنه يريد اختيار كلماته بدقة، ثم قال:
!”والله… إن الذي يساعدني ويساعد عدوي أيضاً، لا بدَّ أن نيته سيئة”
وقتها، لم تكن هناك أي بوادر تشير الى إمكانية ميل أميركي الى مساعدة إيران، ولو بالاحتمال، كما جرى تالياً (بعد أربع سنوات)، عندما تمَّت صفقة السلاح الأميركية للإيرانيين من خلال إسرائيل، وهو ما عرف تالياً تحت اسم “إيران – كونترا”، بحجة مبادلة الرهائن الأميركيين المحتجزين في لبنان.
وقد قال لنا صدام حسين في تلك المقابلة، إنه يقبل بشراء الأسلحة من اي بلد ما عدا إسرائيل.
لكن الرئيس العراقي كان يعرف ملياً، أن إسرائيل حاضرة بقوة في الحرب العراقية – الإيرانية، وبعد أقل من ثلاثة أشهر على تلك المقابلة، أي في السابع من شهر حزيران / يونيو 1981، قام الطيران الإسرائيلي بتدمير المفاعل النووي العراقي في جنوب شرق بغداد (أطلق عليها الإسرائيليون اسم “عملية أوبرا”).
تمضي سنوات عشر تقريباً، وحدث أن التقيت، في لندن، والزميلين هدى الحسيني وريمون عطا الله الرئيس اللبناني الأسبق الشيخ أمين الجميل، ونزل موضوع تسليح إيران على الكلام، فقال الجميل:
“إن الأميركيين نقلوا السلاح المطلوب من الإيرانيين من مستودعات الجيش الأميركي في إسرائيل، الى قاعدة للحلف الأطلسي في البرتغال، ومن هناك نُقلت الى إيران للتعتيم على مصدر ذلك السلاح”!
***
بين الوثائق الأميركية المفرج عنها بموجب قانون “حرية المعلومات”، شهادة لعضو في مجلس الأمن القومي الأميركي في عهد الرئيس رونالد ريغان، واسمه هوارد تايتشر، يؤكد فيها صدقية صدام حسين لجهة أنه يرفض أي سلاح من إسرائيل كما قال لنا في المقابلة التي نشرت في مجلة “الحوادث”.
لكن هذا الشاهد نفسه قال في شهادة لاحقة، إن الإسرائيليين في عام 1984، أي في السنة الأخيرة من ولاية ريغان الأولى، قرروا أن إيران أخطر عليهم من العراق، بسبب من وجودها على حدودهم مع لبنان، (قاصداً بذلك “حزب الله”)، فعرضوا مساعدة العراق سرَّاً.
أضاف، إنه حضر اجتماعاً بين وزير الدفاع الأميركي آنذاك دونالد رامسفيلد، وبين وزير الخارجية الإسرائيلي في حينه اسحق شامير، جرى فيه بحث هذا الموضوع، وقام شامير بتحميل رامسفيلد رسالة خطيَّة بهذا الخصوص الى وزير الخارجية العراقي آنذاك طارق عزيز. لكن الوزير العراقي رفض أن يتسلم رسالة شامير، قائلاً حسب شهادة تايتشر:
!””إذا تسلمتها، فإن الرئيس صدام سوف يعدمني على الفور
كان واضحاً في ذلك الحين، أن شيئاً ما قد تغيَّر في مسار الحرب العراقية – الإيرانية، وأن الأدوار قد تبدَّلت، حيث أصبح العراق في موقع الدفاع، وإيران في موقع الهجوم، وذلك قُبيل الاحتلال الإيراني لشبه جزيرة الفاو ” في مطلع عام 1986. وكان من الملاحظ أيضاً أن في الجانب العراقي نوعاً من الأزمة في القيادة. فالقائد الأعلى، أي الرئيس صدام حسين، ليس قائداً ميدانياً، ولم يظهر في الحرب اسم أي قائد ميداني متميز، فالإعلام العراقي كان يركز فقط على القائد الأعلى. وهذا أمر ملفت، لأنه حتى في أعتى الحالات الديكتاتورية الفردية، تبرز قيادات ميدانية متميزة في الحروب الكبرى.
ففي الاتحاد السوفياتي، زمن ستالين، برزت قيادات ميدانية متفوقة في الحرب العالمية الثانية، منها على سبيل المثال، لا الحصر، الجنرال سيميون تيموشنكو (أوكراني)، في معركة “ستالينغراد”، والماريشال غيورغي جوكوف، الذي احتل برلين، وفي احتفال النصر بحضور ستالين على المنصة في الساحة الحمراء في موسكو، قاد جوكوف العرض العسكري وهو على متن حصان أبيض، وضجت الصحافة الغربية وقتها، بأن ستالين سوف يغار من جوكوف، وتوقعوا أن يقوم بتصفيته، لكن جوكوف مات معززاً مكرماً بعد ربع قرن على وفاة ستالين!
شكَّل احتلال الإيرانيين لشبه “جزيرة الفاو” صدمة للعراقيين، عسكريين ومدنيين، كما أحدث ذعراً في الخليج، خصوصاً في الكويت، لأن ذلك من شأنه، إذا اتسع، أن يفتح طريق القوات الإيرانية الى الكويت. وكان اللافت في التقارير العسكرية، أن سلاح الجو العراقي لم يتدخل لصد الهجوم الإيراني، بحجة أن الأحوال الجوية لم تكن تسمح بذلك!
ذلك الوضع، أطلق تكهُّنات بأن سلاح الجو العراقي تعمَّد عدم التدخل، لخلق ظروف تسمح لقيادته في حينه أن تنقلب على صدام حسين، وتضع نهاية للحرب.
يومها كتب ضابط عراقي بارز مقالاً في مجلة “كل العرب”، الصادرة في باريس، والتابعة للمخابرات العراقية، اتهم فيه الإنكليز بأنهم وراء الاحتلال الإيراني لشبه “جزيرة الفاو”!
***
قبيل الاحتلال الإيراني لشبه “جزيرة الفاو”، دعاني الزميل فؤاد مطر ناشر مجلة “التضامن”، الموالية للعراق في ذلك الوقت، الى لقاء في مكتبه في لندن مع محمد حسنين هيكل، بحضور اثنين من الزملاء، وهو ثاني لقاء لي مع هيكل بعد اللقاء العرضي الأول في قمة دول المواجهة المنعقدة في العاصمة الليبية طرابلس مطلع حزيران / يونيو من عام 1970, (جرت القمة في قاعدة “ويلاس” الجوية الأميركية سابقاً، وغيَّر معمر القذافي اسمها الى “قاعدة عقبة بن نافع”، بحضور الرئيس المصري جمال عبد الناصر، والرئيس العراقي أحمد حسن البكر (قبل نحو ثلاثة أشهر من وفاة عبد الناصر).
دار الحديث بطبيعة الحال عن الحرب العراقية – الإيرانية، فقلت للزملاء الحاضرين بأنه لم يعد مجدياً أو منطقياً، البحث في أسباب الحرب، أو مشروعيتها، أو المواقف المعلنة، أو غير المعلنة، منها. البحث الآن يجب أن يدور حول العوامل الكامنة وراء إطالة أمد الحرب.
فسألني محمد حسنين هيكل: “وما هي تلك الأسباب برأيك؟”.
قلت في الجواب: “السبب البديهي الأول، هو استنزاف وإضعاف أكبر وأقوى قوتين إقليميتين على مقربة من أكبر مستودع للنفط والغاز في العالم، أي دول الخليج العربية. لكن هناك أسباباً أخرى لا تقل أهمية، أبرزها حماية إسرائيل، التي لها تاريخ طويل من خرق جدار الأمن القومي للعراق وإيران، وقد شاهدنا كيف أصيبت إسرائيل بالذعر بعد اتفاق الجزائر عام 1975، بين الشاه محمد رضا بهلوي وبين صدام حسين نائب الرئيس العراقي آنذاك، وانسد بفعله أكبر خرق في جدار الأمن القومي العراقي، من خلال قطع التدخل الإسرائيلي في إذكاء ودعم التمرد الكردي عبر الممر الإيراني. لذلك فإن إطالة أمد الحرب بين العراق وإيران تؤدي خدمة ثمينة للكيان الصهيوني في فلسطين المحتلة، وفي الوقت ذاته يريح الدول الخليجية الصغيرة الخائفة من أطماع جيرانها الكبار”.
:وأضفت
“أعرف أن الأميركيين حاولوا حمل صدام حسين على تشجيع الملك حسين باتجاه الصلح العلني مع إسرائيل، لكنه رفض. وقد كتبت إحدى الصحف الأميركية الكبرى مقالاً انتقدت فيه صدام حسين بشدة لموقفه هذا”.
!استمع هيكل ولم يناقش
(حلقة الأربعاء القادم بعنوان “المتنافران”)
العراقي الغامض
قراءة متأخرة في عقل صدام حسين
(8)
الرئيس
3/7/2024
سليمان الفرزلي*
تترامى الأخبارُ إلى المُراقبين السياسيين، وإلى بعضِ البعثيين، ولم تمرّ أيامٌ على “تَنَحّي” أحمد حسن البكر، بأنَّ صراعًا خفيًّا كانَ يدورُ بين “الرئيس”، الذي يُحتَمى من دهائه وحنكته، وبين “النائب” البطّاش، المُتَعَجِّلِ للوثوبِ إلى السلطة والاستفرادِ بها، وأنَّ الغلبةَ فيه عُقِدَت للنائب الذي كان سبّاقًا في التحرُّكِ، وتَسديدِ الضربةِ التي أقصت العسكري القديم والبعثي العتيق، و”الأب القائد”، كما سمّاهُ صدّام حسين نفسه، في فترةٍ كان نَقْعُ غُبارِ الخلافِ يخفُّ، أو هكذا كان يريد “السيد النائب” أن يوحي، بينما كانت خطّتهُ المُبَرمَجة للإقصاء مُستَمرة.
ما كانَ يدورُ في العتمةِ همسًا، قالهُ صدّام حسين جهارًا نهارًا، وبالفم الملآن، في خطابِ التنصيبِ في السابع عشر من تموز (يوليو) سنة 1979، (يوم الاحتفال بعودة “البعث” إلى الحكم، بعد “الانقلاب الأبيض” الذي أطاح عبد الرحمن عارف)، فكَشَفَ المستور، وأكّدَ ما كان يدورُ في الخفاءِ من خلاف، وعدم ثقة بينه وبين الرئيس، فقال: “لم يحدُث في التاريخِ القديم، ومنه تاريخُ أُمَّتنا، على إشراقه، وفي التاريخِ المعاصر، أن يكونَ في السلطة، ولأحدِ عشرِ عامًا، قائدان ضمنَ قيادةٍ واحدة، بخواصها المعروفة لكم، من دونِ أن يؤدّي ذلك إلى خللٍ خطيرٍ في المسيرة، من الناحية الخلقية، أو الناحية العملية، ومن دون أن تنتهي العلاقة بينهما إلى إقصاء أحدهما، ليبقى الآخر”!
و”الآخر” كان هو.
***
لم يَكُن الرئيس البكر غافلًا عمّا يدورُ في عَقلِ “نائبه”، ومثلما كانَ “النائبُ” يتحيَّنُ الفُرَصَ لإقصائه، كذلك كان “الرئيس” ينتظرُ سانحةً ليُبعِدَ نائبه عن الحكم، وعن مسؤولياته في الحزب.
كان ميشال عفلق على بَيِّنة مما يجري بين الرجلَين القابعَين في قمّةِ الحكم، إلّا أنُه كان عاجزًا حائرًا أمامَ اشتدادِ ذلك الصراع، وينتظرُ هو الآخر فُرصةً سانحةً للتهدئة… وإذ تَلَفَّتَ عفلق الى القيادة القومية في بغداد، وَجَدَ أنها تتشكل، في معظمها، من السياسيين السوريين الذين احتموا بالعراق من بطشِ النظام السوري بهم، فتلقّفهم صدام حسين، وأسكنهم في قصورٍ لاستمالتهم إليه، تسهيلًا لتسريع خطاه إلى القمّة.
لم يُخفِ ميشال عفلق أمامي امتعاضهُ وغضبه من أعضاءِ تلك القيادة. ففي السابع من نيسان (أبريل) سنة 1975، يوم عيد تأسيس “البعث”، كُنتُ في بغداد فقصدتُ “قصر الرشيد” حيث يُقيمُ ميشال عفلق لتهنئته بالعيد.
عندما جلسنا إلى الحديث، بدا لي مُتَوَتِّرًا، مُنزعِجًا، ثم تولّاَه الغضب لمَّا بدأ يشنُّ هجومًا قاسيًا ولاذعًا على أعضاءِ القيادةِ القومية، فوصفهم بأنهم مجموعة من “المرتزقة”، وأنهم “بيروقراطيون”، و”سكرانون بالسلطة”…
سكتَ قليلًا، ثمَّ تعجَّلَ الاستدراك: “طبعًا… أنا هنا لا أقصدُ في ما قلتهُ لك البعثيين العراقيين”.
فهمتُ، أنَّ هذا الاستدراكَ يدخلُ في بابِ “أنَّ الحيطان في بغداد لها آذانٌ تَسمَع”! وهو لا يريد أن يُعَكِّرَ صفوَ العلاقةِ مع “السيد النائب” تحديدًا.
أخذنا الحديثُ ساعاتٍ طويلة، لاحظتُ خلالها أنَّ أحدًا لم يَطرُق بابَ القصر، ولم أسمع رنين جرس الهاتف لتهنئته بعيد الحزب الذي أسَّس، وتحمَّلَ أعباءَ المسؤولية فيه، وذاق من أجلهِ مراراتَ السجن، ومَضَضَ المحازبين ورعونتهم، في أحايين كثيرة.
استبقاني على الغداء، وأدار لسانه في قضايا عديدة ومُتَشَعِّبة، وما دار بيني وبينه، من كثيرٍ أو قليل، أتركهُ للزمان.
في عصرِ ذلك اليوم الطويل، جاء ناصيف عوّاد، وهو بعثي أردني كان صديقًا لي أثقُ بهِ منذُ كُنّا في بيروت، وتبعه لزيارة “الأستاذ ميشال” طارق عزيز، وزير الإعلام زمنذاك.
راحَ عفلق ينتقي كلماته بتأنٍ شديد، وكعادةٍ منه يتمهَّلُ في الكلام، وكان طارق عزيز مُطرِقَ السمع بكلِّ حواسه، وما أن أنهى عفلق حديثه، حتى أخذ طارق عزيز الكلام، وكأنّهُ شعرَ أنَّ ما قاله أمين القيادة القومية العام، هو مَضبطةُ اتهامٍ للقيادة العراقية، فانبرى يدافع عن النظام، ويزيد ويعيد، ويتمادى، فقال من جملة ما قال: “إنَّ الثورةَ في العراق كانت خطواتها كلها، تقريبًا، إلى الأمام… ولم تتراجع قَيدَ أنملة أمام التحدّيات، باستثناء مسألة انسحاب الجيش العراقي من الأردن، وكان ذلك لاعتباراتٍ كثيرة. لقد كان ذلك الانسحاب الخطوة الوحيدة إلى الوراء، وهي خطوة اضطرارية لدرءِ خطرٍ أعظم”.
لم يقل ما طبيعة ذلك “الخطر”… واكتفى بما قال.
بقي ميشال عفلق مُصغِيًا، آثرَ الصمت، فلم يكُن يرغبُ في الردِّ على تلك “المرافعة”. لم أتدخّل في الحديث، وكذلك ناصيف عوّاد، الذي ما زاح نظره عن وجه طارق عزيز، كأنهُ يدرسُ ملامحه لمعرفةِ سببِ الدفاعِ المُستَميت عن النظام.
أدركتُ، من خلال ما قاله ميشال عفلق، وردِّ طارق عزيز عليه، أن هناك مشادةً، أو نزاعًا، لم يظهر بَعد إلى العلن، في مكانٍ ما في الحزب.
بعد ساعةٍ أفرغَ فيها طارق عزيز ما عنده، أو ما جاء يقوله، وغادر، عَرَضَ عليَّ الصديق ناصيف عوّاد، أن يقلّني بسيارته إلى الفندق.
في الطريق، سألني عمّا قاله لي ميشال عفلق في حديثنا الطويل، فذكرتُ له ما تناوله عن القيادة القومية في بغداد، من دون باقي الحديث الطويل. فأوقفَ السيارة إلى جانب الطريق، وراح يستحلفني بشرفي وبأعزِّ وأغلى ما عندي ألّا أذكر لأحدٍ، حزبيًا كان أم غير حزبي، ما قاله “الأستاذ ميشال”، لأنَّ هذا الكلام تترتّبُ عليه نتائجُ خطيرة.
من إلحاحِ ناصيف عواد عَلَيَّ بأن أتكتَّم على ما سمعته، والاحتفاظ به لنفسي، تيقنتُ مُجدَّدًا أنَّ هناكَ شيئًا غير طبيعي يدورُ داخل الحزب، لا أحد يستطيع التحدّث عنه، أو مناقشته، لمعرفة أسبابه ومُسبّباته.
***
كانَ العالم العربي يضجُّ حركةً وصخبًا. أخبارُ انفصالِ مصر عن العرب مجتمعين، والجنوح نحو “السلم المنفرد” مع إسرائيل، كانت تردُ ميشال عفلق تباعًا، فنادى علنًا بضرورة “التقارب السوري–العراقي” لسَدِّ ما سمّاه” الفراغ المصري”، ولمواجهة المرحلة الصعبة التي وضع أنور السادات العالم العربي أمامها.
لم تكن فكرة التقارب بين البعثَين اللدودين (السوري والعراقي)، بِنت ساعتها. ففي سنة 1973 جرت المحاولة الأولى، عبر “حوار غير مباشر”، بين حافظ الأسد وميشال عفلق، المُقيم في بيروت، أداره كمال ناصر، الشاعر والشهيد الفلسطيني، قبل أسابيع قليلة من “عملية فردان”، التي قام بها الضابط الإسرائيلي إيهود باراك (رئيس وزراء العدو لاحقًا)، يوم 10 من نيسان (أبريل) سنة 1973، وطاولته بالاغتيال مع محمد يوسف النجار، وكمال عدوان، فانقطع الحوار غير المباشر.
قبل ذلك، قامَ حافظ الأسد بما وصفه الإعلام الرسمي في دمشق “مبادرة حسن نيّة” تجاه مؤسس الحزب ميشال عفلق، قضت بحفظ حكم الإعدام الصادر بحقه من قبل النظام السابق بقيادة صلاح جديد. إلّا أنَّ “مبادرة الأسد” لم تشمل القيادات البعثية الأخرى، فَفَهمَ ميشال عفلق أنَّ ما قام به الرئيس السوري كان مبادرةً شخصية ليس إلّا.
لَمَسَ صدّام حسين أنَّ ما قاله ميشال عفلق، ونادى به، حول التقارُب بين بغداد ودمشق لمواجهة تبعات وتداعيات الصلح المنفرد الذي مشى فيه أنور السادات، كان له رَجع صدى داخل الحزب، وقبولًا لدى الرأي العام العراقي. فبقي يراقب ما ستؤول إليه الأمور، خصوصًا بعد المراسلة المباشرة بين حافظ الأسد ونظيره العراقي أحمد حسن البكر.
منذُ أن وصلني خبر تلك المراسلة، راح تفكيري إلى أنَّ الرئيس السوري هو المبادر إلى التخاطُب ومراسلة الرئيس العراقي. فقد كان الأسد، كما عفلق، على قناعةٍ بضرورةِ إزالةِ حواجز القطيعة بين البلدَين الجارَين، فأخذَ المُبادرة في التخاطُب لمحاولةِ رأبِ الصدع بين الحزبَين اللدودين والبلدَين الجارَين المُتباعدَين.
إلًا أنَّ تلكَ المُراسلة ما لبثت أن انقطعت في سنة 1974 من دونِ إبداءِ أيِّ أسباب.
وما عزَّزَ قناعتي بأنَّ الأسد هو البادئ في التواصُل المباشر، ثم أسباب انقطاعه، ما جرى في الرباط خلال مؤتمر القمة العربية السابعة، التي انعقدت بين 26 و29 تشرين الأول (أكتوبر) سنة 1974.
كان صدّام حسين، نائب الرئيس أحمد حسن البكر، يترأس الوفد العراقي إلى تلك القمة، وكُنتُ حينها أُمثّلُ جريدة “بيروت” بصفتي رئيس تحريرها.
يوم الجلسة الافتتاحية، كنتُ أتمشّى مع طارق عزيز في ردهة المؤتمر، فالتقينا بعضوٍ في الوفد السوري المُرافق للرئيس حافظ الأسد، توقّفَ للسلام والتحية، فدارَ بينهما حديثٌ فيه شيء من المُعاتبة، حول توقّفِ الرئيس السوري عن مراسلة الرئيس البكر.
بادرَ طارق عزيز زميله السوري بالسؤال:” لماذا قطع الأسد تراسله مع الرئيس البكر؟”
أجابه العضو السوري بلهجةٍ مُعاتِبة: “الرئيس حافظ الأسد بعثَ برسالته الى أخيه الرئيس أحمد حسن البكر، ولم يُرسلها إلى القيادتَين القومية والقطرية في بغداد”.
ردَّ عليه طارق عزيز بشيءٍ من التباهي: “نحنُ لا نفعل شيئًا من وراءِ ظَهرِ قيادةِ الحزب”.
قراءتي لهذا العتاب، أنَّ الرئيس الأسد أرادَ أن تكونَ مراسلته مع البكر سرِّية، ومن رئيسٍ الى رئيس، فاستاءَ من عَرضِ البكر الرسالة، والجواب عنها، لأعضاءِ القيادات الحزبية.
وتقديري أنَّ الرئيسَ العراقي أقدمَ على الكَشفِ عن تلك المراسلة في اجتماعِ القيادة القطرية، خوفًا أن يكتشفها نائبه، في ما بعد، ويعتبرها مؤامرة يدبرها الرئيس مع السوريين عليه.
***
أدرَكَ أحمد حسن البكر، ببُعدِ وثاقبِ نظره، أنَّ الوقتَ حانَ للتلاقي مع دمشق.
تلقّفَ ما نادى به ميشال عفلق، وراحَ في اتصالاته التي لم تنقطع بينهما، يسعى الى البحث عن صيغةٍ للعملِ المشترك بين الدولتَين، فوُلِدَت فكرةُ “ميثاق العمل القومي”.
دارَ نقاشٌ طويل، وأخذ ورد، بين بغداد ودمشق حول بنود ذلك الميثاق، حتى اكتملت وحظيت بموافقة الطرفين. والميثاق الذي جرى الإعلان عنه في بغداد بحضورِ الرئيس حافظ الأسد، في 26 تشرين الأول (أكتوبر) سنة 1978 كان بمثابة “إعلان نيّات” للعمل “قدر الإمكان” بين البلدين، سياسيًا، وعسكريًا، واقتصاديًا.
إلّا أنَّ أحمد حسن البكر، الذي تَحدُوهُ فكرة التخلّص من صدام حسين، أعلنَ في 15 كانون الثاني (يناير) سنة 1979، (أي بعد شهرين فقط من إعلان “ميثاق العمل القومي”)، القبولَ بتوحيدِ سوريا والعراق في دولةٍ برئاسة حافظ الأسد، ويكون هو نائبه!
تفاجأ ميشال عفلق، بما طرحه البكر وَقَبِلَ به، فهو كانَ يرغبُ تجربة العمل المشترك، والوقوف على مدى نجاحه، قبل الاندماج والوحدة بين البلدين… وتوجَّسَ صدام حسين، الذي أدركَ أنَّ مشروعَ التقارُبِ مع سوريا، ثمَّ الاتحاد معها في دولةٍ يترأسها الرئيس الأسد، محاولةٌ واضحة قام بها البكر لإقصائه، والتخلّص منه، فقرّرَ أن يسبقَ الرئيس، أوّلًا بالتحفُّظ على الاتفاق لجهةِ اشتراطه بأن يبدأَ الأمرُ بتوحيدِ الحزبَين في البلدين قبل أيِّ خطوة أخرى.
إنَّ طموحَ صدّام حسين المُتَوَقِّد إلى السلطة جعله دائمًا متحفّزًا، ومُتقَدِّمًا خطواتٍ عن المُتَرَبِّصين به، والذين يُعرقِلون تحقيق ما يصبو إليه، وتمَّ له ما أراد.
ومتى أراد صدام حسين شيئًا … كان!
***
“شيءٌ آخر كانَ يدورُ في ذهنه” ويؤرقه أخفاه صدام حسين على مَن حوله وحواليه، من قياديين سياسيين وعسكريين، كأنهُ كانَ ينتظرُ حدوثَ شيءٍ ما… وانشغاله في ترتيب الداخل، وتحصين سلطته، لم يصرفه عمَّا يدور في “الجارة” إيران.
قبلَ تسلُّمِ صدّام حسين الحكم بيومين، توجّهَ سرًّا إلى الحدود العراقية–الأردنية وعقد لقاءً مع الملك حسين بن طلال. والأغلب على الظنّ أنه في ذلك الاجتماع السري، حَمَّلَ العاهل الأردني برسالة “عاجلة” إلى الأميركيين، تضمَّنت خطته لذاك “الشيء الآخر” الذي يقضُّ مضجعه، وتبيّنَ بعدما دارت الأيام دورانها أنَّ هذا “الشيء الآخر”، كان إيران، وهذا جعله يتعجّل بحَسمِ مسألة القيادة والسلطة، بتنحية أحمد حسن البكر، والقضاء على فكرة التقارب والوحدة مع حافظ الأسد. فقد كان صدام حسين لا يأمن إطلاقاً جانب الرئيس السوري، ويعتبره أقرب إلى طهران منه الى بغداد.
إنَّ الحقيقةَ وراء إقصائه البكر، ثم التصفيات الواسعة في صفوف الحزب، هي الانقلاب الجذري ضد التفاهُم السوري–العراقي، المناقض لذاك “الشيء الآخر الذي كان في ذهنه”.
***
لقد كان الانتقال (أو الإقصاء)، أشبه بعمليةِ ” تَسَلُّمٍ وتَسليم”. إلّا أنَّ فَهمَ كوامن ذلك المظهر الانتقالي “المُمَسرح”، تقتضي القراءة بين السطور، في البرقية التي بعثَ بها ميشال عفلق إلى أحمد حسن البكر، في يوم انتُزِعت الرئاسة منه وأُقصي. كتبَ عفلق: “إنَّ تخلّيكم عن مسؤولياتكم في هذا الوقت بالذات، وبعدَ اطمئنانكم إلى مسيرة الثورة، وتحقيقِ ما حقّقت من عملٍ جبّار، في النطاقَين القطري والقومي، ليحمِّل ذاته من معاني الرجولة، والشجاعة، والإيثار، ما يصلح أن يكون قدوةً، ومثالًا، للكثير من حكام العالم وقادته”.
شكرَ البكر على “تخلّيه عن مسؤوليته”، ولم يُهنِّئ صدّام على قبوله “تحمُّل تلك المسؤولية”!
اللافتُ أيضًا كان تدشين المبنى الجديد الفخم للقيادة القومية، والحفل حضره الرئيس السابق أحمد حسن البكر، وميشال عفلق، أمين القيادة القومية العام، وقد قصد “الرئيس” صدام حسين منه تأكيد شرعيته، وإعطاء طابع “الموافقة” على التصفيات التي حرَّض عليها في اجتماعِ “قاعة الخلد”.
اللافت أكثر أنَّ ميشال عفلق لم يقبل أن يكون له مكتبٌ داخل ذلك المبنى الفخم، وآثر أن يكون مكتبه منفردًا في مبنى آخر!
في ذلك الوقت كان عدنان الحمداني، وزير التخطيط، وأحد القياديين البعثيين المرموقين في بغداد، الذي كان صدام حسين قدَّمه في إحدى المناسبات إلى رئيس الوزراء الفرنسي جاك شيراك بأنه “العقل المدبر للنهضة الاقتصادية في العراق”، يقومُ بزيارةٍ رسمية في دمشق. ويبدو أنَّ الرئيس السوري حافظ الأسد، قد عرف، بطريقةٍ من الطرق، انعقادَ اجتماعِ الحدود السري بين العاهل الأردني وصدام حسين، وأدرك أنَّ شيئاً ما خطيرًا سوف يزلزل بغداد، فطلب من عدنان الحمداني أن يبقى في دمشق يومين آخرين من غير أن يُبدي له الأسباب… إلّا أنَّ الوزير العراقي أصرَّ على العودة الى بغداد، فكان في رأس لائحة القياديين المُتَّهمين “بالمؤامرة السورية”، وجرى إعدامه بعد اجتماع “قاعة الخلد”!
***
حَدَثَ أنني في أيار (مايو) من العام 1981 قُمتُ بزيارةٍ الى نيويورك، فالتقيتُ صلاح عمر العلي الذي كان، وقتذاك، يرأس البعثة العراقية لدى “منظمة الأمم المتحدة”. وخلال الحديث، أخبرني ما أكّدَ لي، أن صدّام قبل تسلُّمه الحكم، كانَ يُعِدُّ للمواجهة مع “الجارة” إيران.
بين الثالث والتاسع من أيلول (سبتمبر) سنة 1979، أي قبل سنة من اندلاع الحرب مع إيران، انعقدت في هافانا، العاصمة الكوبية، القمة السادسة لدول عدم الانحياز، حضرها الرئيس صدام حسين، فطُلبَ من صلاح عمر العلي الانضمام إلى الوفد، فلبَّى.
في حديقةِ مقرِّ إقامة الرئيس العراقي، جاءه وزير الخارجية سعدون حمادي، مُرتبكًا، وقال له إنَّ وزير الخارجية الإيراني إبراهيم يزدي (في حكومة مهدي بازركان)، ألحَّ عليه بأن يُرتّبَ له لقاءً مع الرئيس صدام حسين، لكنه لا يستطيع أن يَعرُضَ على الرئيس مثل هذا الطلب، (ربما خشية الاشتباه بولائه لكونه شيعيًا).
والمعروف عن سعدون حمادي، أنه كانَ دائمًا يتنصّلُ من المهمّات السياسية الحرجة، كما حدثَ بالنسبة الى الرسالة التي حملها دايفيد روكفلر من كيسنجر إلى صدام حسين، كما مرَّ سابقًا)، وعندما لجأ إلى دمشق بعد انقلاب عبد السلام عارف على شركائه البعثيين في العام 1963، كان رئيس وزراء سوريا في ذلك الوقت، صلاح البيطار، يقول عن سعدون حمادي بأنه في المواقف السياسية الحرجة “يدَّعي أنه تقني لا علاقة له بالسياسة”!
وراحَ سعدون حمادي، يرجو صلاح عمر العلي، أن يتولّى هذه المهمة الحرجة عنه، فيفاتح الرئيس صدام حسين بطلبِ الوزير الإيراني.
ونزل صلاح عمر العلي عند طلب صديقه سعدون حمادي، وفاتح صدام حسين بما جاء الوزير الإيراني يطلبه.
لم يُبدِ صدام حسين رغبةً في لقاء إبراهيم يزدي، هزَّ برأسه علامة الرفض وقال: “الحقيقة إني لا أجد جدوى تُرتَجى من اللقاء”.
فقال له صلاح عمر: ” ماذا تخسر، يا سيدي ” لو سمعت منه ما عنده؟”
أطرق صدام حسين لحظات، ثم قال: “ما يخالف… ما يخالف”.
وتعجّلَ الاستدراك: “أبو أيوب (كنية صلاح عمر) … سوف أقابله مع أنه لا جدوى من ذلك. لكن استعد لمفاجأة سوف تُزلزل كيانهم”!
إذن، كان صدام حسين يُخطّطُ للحرب مع إيران عندما قام بانقلابه الدموي في تلك السنة، ليطيح التوجه العراقي بقيادة أحمد حسن البكر (وبموافقة ميشال عفلق على الأرجح) نحو التلاقي مع سوريا، لأنهُ كانَ مُتَيَقِّنًا من أنَّ النظامَ السوري مُتحالفٌ مع إيران الخمينية، التي رآها صدام خطرًا داهمًا على العراق يجب دفعه وقائيًا بمحاربتها في الميدان… وهكذا كان!
(الحلقة التاسعة يوم الأربعاء المقبل: “المحارب”).
العراقي الغامض
قراءة متأخرة في عقل صدام حسين
(7)
النائب
26/6/2024
سليمان الفرزلي
سيادة نائب رئيس الجمهورية العراقية”، يزهو صدام حسين بنفسه، لَكَمْ انتظر هذا اليوم، وعمل له ببطش، منذ انقلاب 1968 واقترابه من أحمد حسن البكر. فقد أزاح من درب وصوله الى السلطة، من علت منزلتهم، وكانوا يشكلون عائقاً، وعقبة كأداء أمامه، إن في مزاياهم الفكرية، والثقافية، أم في تاريخهم الحزبي الطويل، وبحضورهم الطاغي داخل العراق وخارجه.
وكرَّت سبَّحة الرؤوس التي صُفيت، وتلك التي كُتب لها العمر، فطواها المنفى، أو أُبعدت وطواها النسيان.
فبعد التخلص من النائبين السابقين الفريق صالح مهدي عمّاش، والفريق حردان التكريتي، ها هو عبد الخالق السامرائي، آخر حبة في مسبحة الرؤوس، التي كان صدام حسين يتوجَّس منها، يخضع لبطشه وظلمه.
***
:تعاونت على تكوين شخصية عبد الخالق السامرائي، عوامل عدة
بيئة صالحة مصلحة، فالرجل من عشيرة “الجبور”، في “سامراء”، (الرابضة على الضفة الشرقية من نهر دجلة)، شيبها حافظوا على التراث والتقاليد والعادات، وشبابها شبُّوا على التحصيل العلمي، فكان بينهم جلَّة من أهل الفكر والعلوم.
منبتٌ طيِّبٌ، ونشأةٌ منفتحةٌ متفتحة، فلا غرابةَ، وقد اعْتُجِنَ من خميرة طيبة.
في بغداد درس الحقوق، وتعرَّف على “حزب البعث”، وفكره، وعقيدته، فانتمى إليه، وتَدرَّج في كوادره الى أن تربَّع عضواً فاعلاً، في القيادتين القومية والقطرية، فاصطفاه ميشال عفلق وقرَّبه منه.
نابهاً، نازهَ النفس، كان عبد الخالق السامرائي، وعلى ثقافةٍ لا تبرُّج فيها، ولا زيف، يملك ذكاءً لمَّاحاً، مكَّنه دائماً من استقراء المواقف، ولا مرة حكم بظاهر الأمور، إنَّما كان يتحرى ما وراء الظاهر، ويعمد الى الجوهر، فيدفعك للإنصات إليه.
كانت حياته، حتى مماته، مجموعةً من مواقف، تتسم بالشجاعة والإقدام، فلقد كان من عيّنَة مَنْ يقولُ الصحيحَ غير هيَّاب، ولو حرقت الكلمات شفتيه. من الممكن أن تختلف مع عبد الخالق السامرائي، لكن لا يمكنك أن تختلف عليه البتَّة.
ألهى نفسه عن الاشتغال في الحكومات المتعاقبة، رافضاً أن يتولى أي حقيبة وزارية، وانصرف بكليته الى الاشتغال بالتنظيم الثقافي والإعلامي.
ظلمته الحياة، فتحمَّل ضيمها، ومراراتها، وذُلِّها حتى مماته.
هكذا عرفت عبد الخالق السامرائي، الذي التقيته في بيروت، وكنت حاضراً في كل اجتماعاته، لمَّا أوفد من القيادة القومية في بغداد لتهدئة الأجواء، بعد الزوبعة التي أثارها صدام حسين، وارتجَّ لها البعثيون في لبنان.
***
لما ترك طلال سلمان رئاسة تحرير مجلة “الصياد”، أصبح مراسلاً جوَّالاً لها، حدث أن مهَّد له أحدهم، وسعى لإجراء مقابلة مع “السيد النائب” صدام حسين في بغداد.
تم اللقاء، وجلس صدام حسين الى الحديث مع طلال سلمان، والمقابلة التي نشرتها “الصياد”، كانت عادية جداً إن في الأسئلة التي طُرحت، أم في إجابات صدام حسين عنها، لولا أن “السيد النائب” تعمَّد فيها إعلان موقف، أثار الريبة في الأوساط الحزبية، خصوصاً أنه جاء بعد صدمة انسحاب الجيش العراقي من الأردن في أيلول /سبتمبر سنة 1970 خلال المواجهات الدامية بين الجيش الأردني ومقاتلي منظمة التحرير الفلسطينية.
فقد أعلن صدام حسين بالفم الملآن:
!” نحن لسنا ضدَّ الحل السلمي بالمطلق”
ويستأنف صدام حسين فيقول، متناولاً ياسر عرفات، ومنظمة التحرير، بالنقد اللاذع، والتجريح النافر، فشبَّه المنظمة بأنها “مثل الصابونة، كل نظام عربي، بمن فيهم نظامنا، يغسل يديه بها (من القضية) الى أن تذوب، وتصبح “بَرْوَة” لا تصلحُ لشيء فتلقى جانباً
إذا كان الكلام السياسي لصدام حسين قوبل باستهجان من القيادة القطرية في لبنان، فإن ما تسرَّبَ حول وعد “السيد النائب” لطلال سلمان، بتحويل مليون دولار لإصدار جريدة، ارتجت له بيروت… وثارت ثائرة البعثيين اللبنانيين، عندما تم بالفعل تحويل هذا المبلغ الى السفارة العراقية لدى لبنان، لتسليمه الى طلال سلمان.
تخوَّفت القيادة القومية في بغداد، من تطوُّر تلك المسألة، فأوفدت عبد الخالق السامرائي، مسؤول الثقافة والإعلام في القيادتين القومية والقطرية، للوقوف على حقيقة الأمور، والتهدئة.
وصل السامرائي الى بيروت، ودفع حياته، ثمن الرأي الذي خرج به من لقاءاته، واجتماعاته، التي وقفت على تفاصيلها وكنت حاضراً فيها.
***
كان اعترض القيادة القطرية في لبنان على “مشروع” صدام حسين الإعلامي، أنه تجاوزها، فلا يجوز أن يتم المشروع المزعوم من وراء ظهر تلك القيادة، فلا تُسأل، ولا تُستشارُ، إنما يتم كل شيء بالفرض.
لم يكن ميشال عفلق بعيداً عن موقف القيادة القطرية في لبنان، وإن كان ظلَّ خارج ذلك الجدل، والأخذ والرد، والاعتراض ورفض الإذعان.
على مدى ثلاثة أيام التقى عبد الخالق السامرائي أعضاء القيادة القطرية، وبعثيين قدامى، كما اختلى بميشال عفلق. وخلص، بعد تلك اللقاءات والاجتماعات المطولة، الى رأي واضح، مفاده، أنه كان على صدام حسين طرح ا المشروع الاعلامي على قيادة الحزب في لبنان، واستشارتها، قبل تحويل أي مبلغ… وهذا من أصول التخاطب الحزبي.
لقد أدرك عبد الخالق السامرائي، بنظره الثاقب، وذهنه الوقَّاد، ما كان صدام حسين ينوي، ويريد من مشروعه الإعلامي مع طلال سلمان، هو إيجاد وسيلة إعلامية غير حزبية، يمرر فيها رسائل من باب جس النبض السياسي، من مثل ما قاله عن الحل السلمي وعدم رفضه بالمطلق.
وقبل مغادرته بيروت، استدعى عبد الخالق السامرائي، السفير العراقي لدى لبنان، وطلب منه “الاحتفاظ بالتحويل وعدم تسليمه لطلال سلمان”.
وكان لنقيب الصحافة اللبنانية وقتذاك، رياض طه، ما يقوله في لقائه السامرائي، فقد عرض “خدمات” جريدة “الكفاح”، القائمة، والمعروفة، وهي ذات انتشار وتوزيع لا بأس بهما، وبالتالي، تغني عن تأسيس وإصدار جريدة جديدة تتطلب مصاريف تأسيس، وتجهيز، ووقتاً كي تثبت نفسها بين الجرائد اللبنانية الأخرى.
وهكذا كان، تمَّت الموافقة على عرض رياض طه، وتحوَّل المبلغ من جيب طلال سلمان، الى جيب نقيب الصحافة وجريدته، وأحبط مشروع “السيد النائب”.
أما طلال سلمان، فراح في مجالسه الخاصة، يردُّ على اعتراض البعثيين على مشروعه الإعلامي، بأنه لا يُزاحمهم على مال صدام حسين، والأهم، أنه لم يكن وارداً، بالنسبة إليه، العمل لا مع صدام حسين، ولا مع اي نظام عربي آخر!
بعدما خاب أمل طلال سلمان بدعم صدام حسين، خَطَبَ ودَّ معمر القذافي، وما لم ينله من بيت المال العراقي، ناله من بيت المال الليبي، ثم الفلسطيني، فكانت جريدة “السفير”.
على الرغم من كل ما كان طلال سلمان يقوله، حرص البعثيون في لبنان، على التعاون معه، فطلبوا مني أن أفسح له في المجال ليكتب في مجلة “الأحرار”، التي كنت أرأس تحريرها.
عرضت عليه الأمر، لم يتردد بالقبول، واتفقنا على مبلغ 600 ليرة لبنانية لكل مقال في الأسبوع، لكنه اشترط أنه لن يوقع ما يكتب باسمه، بل باسم مستعار هو “طه إبراهيم”، فجرى الاتفاق على هذا الأساس.
بعدما تم الاتفاق بين النقيب رياض طه، والعراقيين، عرض رئاسة التحرير على طلال سلمان فرفض، عندئذ طلبوا مني أن أقوم بهذه المهمة، فانتقلت من “الأحرار” الى “الكفاح”.
***
الصدمة الأولى التي تلقاها صدام حسين، بعد أن أصبح “الرجل القوي في البلاد”، كانت على يد عبد الخالق السامرائي، فازداد تربُّصاً به، وراح يخطط للتخلص منه في القيادتين القومية والقطرية.
كعادته، قبل أن ينقضَّ على فريسته، كان صدام حسين يحاصرها، ويجردها من المساندين لها، فبدأ بمحاصرة عبد الخالق السامرائي، والقضاء على من يتوكأ عليهم ويساندوه، فرفع الى القيادة القومية تقريراً موثقاً، بالصور والشهود، عن الميول النسائية لعبد الله سلوم السامرائي، وزير الإعلام وسند عبد الخالق، وتورطه في علاقات مشبوهة، فأقيل من منصبه، وطُرِد من الحزب.
في منتصف سنة 1973، ولم يكن مضى كثير وقت على طرد عبد الله سلوم السامرائي، لاحت لصدام حسين سانحة للتخلص من عبد الخالق السامرائي، رئيسه ومرشده السابق في الحزب.
كان الرئيس أحمد حسن البكر، في زيارة رسمية لكل من بولندا، وبلغاريا، فحاك “السيد النائب” بمغزل رفيع خطة أصاب فيها عصفورين بحجر واحد.
قبل عودة الرئيس البكر الى بغداد، من زيارتيه، بوقت قصير، أرسل اليه إشارة يدعوه فيها الى تأخير عودته ثلاث ساعات، فأعدَّ له الرئيس البلغاري جولة سياحية في مدينة “فارنا” على البحر الأسود لتمضية تلك الساعات الثلاث. ثم أعلن في بغداد عن مؤامرة أعدها مدير الأمن العام ناظم كزار للقبض على الرئيس البكر فور وصوله الى المطار، أو تصفيته ونائبه صدام الذي سيجيئ لاستقباله حسب البروتوكول، مما أثار موجة من الملاحقات، اضطر معها كزار الى الهرب باتجاه الحدود الإيرانية، لكنه تم اعتقاله قبل عبوره الحدود، بعد قتله وزير الدفاع آنذاك حمَّاد شهاب.
حوكم ناظم كزار وجرى إعدامه، وتمت ملاحقة آخرين، من بينهم محمد فاضل، عضو القيادة القطرية، الذي أعدم هو الآخر في خضم تلك الملابسات.
في تلك السانحة قرَّر صدام حسين تصفية عبد الخالق السامرائي بتهمة ضلوعه بمؤامرة ناظم كزار وحكم عليه بالإعدام، واقتيد الى سجن ” ابو غريب” لتنفيذ الحكم.
أثار ذلك زوبعة من الاحتجاجات، تزعمها كمال جنبلاط، وقادة الفصائل الفلسطينية، فقد كان عبد الخالق السامرائي من الأعضاء البارزين في “الجبهة العربية المساندة للثورة الفلسطينية”، ورشحه جنبلاط لتولي رئاستها. وتوالت الاحتجاجات أيضاً من زعماء وأحزاب سياسية في طول المنفسح العربي وعرضه. وتدخل ميشال عفلق، طالباً من الرئيس البكر عدم التصديق على مرسوم تنفيذ الإعدام.
امتثل البكر، ولم يوقع المرسوم، وخفف العقوبة الى السجن المؤبد. رضي “السيد النائب” على مضض، واشترط أن يوضع في الانفراد طوال مدة سجنه.
كانت زنزانة عبد الخالق السامرائي، تحت الأرض، لم يكن يعرف فيها إنْ كان الوقتُ نهاراً أم ليلاً… بعد ثلاث سنوات من السجن، سُمح لوالدته بزيارته، فسألها:
” نحن في النهار أم في الليل، في أي يوم، وأي شهر، وأي سنة؟”
بعد سجن عبد الخالق السامرائي، أصبح مكتب الثقافة والإعلام في قبضة صدام حسين، وأهمية هذا المركز، ليس أنه يمنح “السيد النائب” بُعداً ثقافياً، هو بحاجة ماسَّة إليه، فحسب، بل لأنه المؤسسة التي يستطيع من خلالها أن يراقب نشاط مكتب العلاقات الذي صار يسمى “المخابرات العامة”.
ومن خلال المراكز الثقافية، ومكاتب الجرائد، والمجلات، وبجهود الصحافيين العرب، وأكثرهم من المصريين، ارتفع ستار حاجب لمشاهد البطش، والقمع، والتعذيب، والقتل، عن الرأي العام العربي والدولي. وراح هؤلاء يصورون “السيد النائب” على أنه الفارس الشهم، الهمام، المغوار، والبلاد على عهده أصبحت موئلاً وملاذاً، وواحة أمن وأمان، واستقرار، وازدهار!
لم يكتفِ صدام حسين بسجن وإذلال عبد الخالق السامرائي، ولم يثنه ذلك عن عزمه التخلص منه، فانتظر ستَّ سنوات أخرى، حتى حانت “المؤامرة الكبرى”، التي أدت الى مجزرة “دار الخلد”، فأدخله في لائحة المتآمرين من القياديين للحزب في العراق، وأنزل به حكم الإعدام، يوم لم يكن له شفيع، لأن صدام حسين صار رئيساً للجمهورية.
في 8 من آب/ أغسطس سنة 1979، دخل زنزانة عبد الخالق السامرائي ثلة من الحراس، اقتادوه الى ساحة مجاورة للقصر الجمهوري، حيث نفَّذ اثنان من أقاربه حكم الإعدام به رمياً بالرصاص.
فلقد كان صدام اتخذ قراراً، وافقت عليه القيادة القطرية، بأن يكلف أقرباء المحكوم عليه، تنفيذ الحكم،
فكانت تلك ظاهرة فريدة من نوعها في العالم، سمُّوها “القتل برصاص العشيرة”!
***
كثيراً، في تلك الأيام، ما كنت ألتقي صلاح عمر العلي، الساكن في شقة مجاورة لبيتي في “الروشة”، وتنزل على الكلام بيننا أمور السياسة في العراق، والعلاقة الملتبسة بين الرئيس البكر ونائبه، فقال لي مرة:
!”إن البكر يخاف من صدام”
ومن الطبيعي الافتراض، أن الرئيس البكر أيضاً، بسبب من تلك الملابسات، بات هو الآخر يتحيَّن الفرص لإزاحة صدام حسين، وإعادة النظر في طريقة تكوين السلطة حتى لا تتكرر تلك العلاقة الملتبسة بين الرئيس ونائبه.
من بداية وصوله الى منصب نائب الرئيس، حاول صدام حسين، أن يُظهر نفسه بصورة جديدة، ومن هنا اهتمامه بالإعلام. صار يتأنى في حديثه، ويهتم كثيراً بمظهره الخارجي، من حيث المبالغة في الأناقة، وكأنه يقدم صورته الجديدة مثالاً للرجل العراقي، فصار كثيرون من البعثيين يقلدونه، وكذلك، بعض الرجال العراقيين، فصار مظهر صدام حسين، وعاداته في بغداد “موضة”، وكأن ذلك ضمن برنامجه بصفته “المربي”. وربما أراد أن يظهر بصورة جديدة أمام العالم الخارجي.
في مرحلة لاحقة، في منتصف سبعينات القرن الماضي، وكنت في رئاسة تحرير جريدة “بيروت” التابعة لحزب البعث اللبناني، كانت تصلني نشرات للقيادات الحزبية، تتضمن فحوى أحاديث صدام حسين مع شخصيات عالمية زارت بغداد في تلك الأيام. وعندما استقلت من الجريدة مطلع عام 1976، تركت في درج مكتبي نشرتين: واحدة تتضمن حديث صدام مع المصرفي الأميركي المعروف دايفيد روكفلر، وأخرى حديثه مع رئيس وزراء بنغلاديش مجيب الرحمن.
تلك النشرات كانت تتضمن فقط ما كان يقوله صدام لضيوفه، ولم تصدر نشرة تتضمن ما يقوله الضيف في القضايا المطروحة للنقاش، سوى عبارات المجاملة والتبجيل، فكأن الهدف منها “تبليغي” للضيوف، و”تربوي” للحزبيين، و”إعلامي” للصحافيين والمروجين في أجهزة الإعلام الموالية.
كان من الملفت حديث صدام حسين مع مجيب الرحمن، فكأنه يلقي عليه درساً في أصول الحكم، بعد حرب أهلية بين شطري باكستان، وحرب هندية – باكستانية انتصرت فيها الهند. فقد قال له:
“إنه لن يفيدك أن تترك الأبواب مشرعة لخصومك، لأنهم سوف ينقلبون عليك، فتخسر السلطة”. وقال له:
إن الوقت ليس لصالحه، وسوف يخسر الحكم، وربما حياته، إذا لم يبادر الى ملاحقة خصومه وتركيز السلطة الفعلية في يده من دون منازع.
وبالفعل، بدأ مجيب الرحمن يعمل بهذه “النصيحة”، فأعلن حالة الطوارئ، وعلَّق الدستور، وحلَّ جميع الأحزاب السياسية، وأعلن نفسه رئيساً للجمهورية، وفرض الرقابة على الصحف، وحصر جميع السلطات بين يديه. لكن الوقت داهمه، وكذلك الجيش، الذي انقلب عليه بعد أقل من ثمانية أشهر على ذلك، فقامت مجموعة من الضباط بقتله مع عدد من أفراد عائلته، كما توقع له صدام حسين!
***
كانت العلاقات بين بغداد وواشنطن ما زالت مقطوعة منذ حرب حزيران / يونيو 1967، عندما قرر المصرفي الأميركي المعروف دايفيد روكفلر زيارة بغداد لمدة 24 ساعة فقط، بتكليف من هنري كيسنجر وزير الخارجية الأميركي في عهد الرئيس ريتشارد نيكسون، غايتها مقابلة صدام حسين وإبلاغه رسالة من كيسنجر.
على الرغم من انقطاع العلاقات الأميركية – العراقية في ذلك الوقت، أبقى بنك روكفلر علاقة مراسلة مع البنك المركزي العراقي. وبسبب من ذلك حصل روكفلر على تأشيرة دخول الى بغداد بمعونة من مدير “مصرف الرافدين”. ويبدو أن ما شجَّع كيسنجر على محاولة الاتصال بصدام حسين، عبر روكفلر، ما قاله نائب الرئيس العراقي لطلال سلمان في مجلة “الصياد”: “لسنا ضد الحل السلمي بالمطلق”!
يقول روكفلر في كتاب مذكراته الصادر عن “راندوم هاوس” في نيويورك عام 2002 :
“طلبت مقابلة وزير الخارجية سعدون حمادي، الذي كان يتكلم الانكليزية بشكل جيد، على الرغم من انه كان عدائيا معي منذ لحظة دخولي مكتبه، وازداد جفاؤه بعد أن قلت له إنني جئت بطلب من كيسنجر، حاملاً رسالة لصدام حسين. وكان رده ان الأمر مستحيل. فقلت انني باق 24 ساعة في بغداد وجاهز للمقابلة في أي لحظة من الليل او النهار. طلب حمادي الرسالة فاعتذرت عن تسليمها اليه.
في المساء نفسه، قبل خروجي الى دعوة عشاء من مصرف الرافدين، أخبروني ان نائب الرئيس سيستقبلني في التاسعة في مكتبه.
لما وصلت الى هناك أدخلوني الى غرفة صغيرة قليلة الأثاث، من دون نوافذ، حياني صدام حسين بلطف، فتحادثنا لأكثر من ساعة، عبر مترجم. وعلى الرغم من عدم وجود غيرنا في الغرفة، فان تقريراً عن الزيارة ظهر بعد أيام في صحيفة “النهار” البيروتية”!
يجزم روكفلر أنه لم يصدر عنه أي تصريح بهذا الخصوص لأحد. وبالتالي، فإن المصادر العراقية هي التي سربت الخبر الى “النهار”، مما يؤكد أن ذلك حصل بالطريقة ذاتها التي تسرَّب فيه للجريدة نفسها، الخبر الاستفهامي حول زيارة صدام حسين السرية الى بيروت في أعقاب انسحاب الجيش العراقي من الأردن عام 1970، كما مرَّ معنا.
شرح روكفلر لصدام ان هنري كيسنجر يعتقد ان من مصلحة البلدين إقامة حوار بينهما. فرد صدام مشيرا الى الباب الذي دخل منه الزائر وقال:
“هذا الباب يمكن أن ينفرج قليلا إذا تحقق شرطان: أولا أن توقف أميركا تزويد اسرائيل بسلاح يمكن ان يستعمل ضد العراق، وأن تلعب دوراً حاسماً في الاقرار بحقوق الشعب الفلسطيني. وثانيا، ان تتوقف عن بيع السلاح الى إيران، أو أن تشترط على الأقل، ألاَّ تقوم إيران باستخدام سلاحها ضد العراق والأمة العربية”.
أضاف “السيد النائب” أنه لا أمل في إعادة العلاقات مع واشنطن طالما استمر شاه إيران في تسليح المتمردين الأكراد. لكن هذه العقبة زالت بعد أشهر قليلة إذ تحسنت العلاقات مع إيران. أما قضية حرمان اسرائيل من السلاح الأميركي فلم تكن قابلة للمناقشة.
يتضح من هذا الكلام، أن الولايات المتحدة هي التي عملت لمصالحة شاه إيران مع صدام حسين، فقطع الشاه المساعدات الى المتمردين الأكراد آنذاك، فانهار التمرد الكردي، واستقبلت واشنطن قائد التمرد الملا مصطفى البارزاني لاجئاً لديها!
. (“في الحلقة الثامنة يوم الأربعاء المقبل: “الرئيس)
العراقي الغامض
قراءة متأخرة في عقل صدام حسين
(6)
الماكر
19 / 6 / 2024
*سليمان الفرزلي
لم تكُنْ دربُ صدام حسين، الى السلطة المطلقة، هيِّنةً وسهلةً. فقد كانت محفوفة بمفترقات عدَّة، وأريقت على جوانبها دماء ذوي القربى، ورفقاء العقيدة، ومن خاصمه وعاداه، أو من ظَنَّ أنه خصمه وعدوه.
وحدها إطاحة عبد الرحمن عارف، مرَّت في مسيرته من دون عنف أو سفك دماء، وفي ذلك يحفظ البعثيون القدامى للرئيس أحمد حسن البكر، الفضلَ، لأنه في انقلاب السابع عشر من تموز /يوليو سنة 1968، (يسميه هؤلاء ثورة 17-30 تموز /يوليو)، أوصلهم الى الحكم، من دون إسالة نقطة دم واحدة، فاستحق أن يُدعى “الانقلاب الأبيض”.
فبالهداوة، والمكر، والحنكة، والدهاء، تمكن أحمد حسن البكر من إقناع واستمالة إثنين من كبار القادة العسكريين في البلاد، وقتذاك، هما:
الفريق عبد الرزاق النايف، مدير الاستخبارات العسكرية، والفريق إبراهيم الداود، قائد الحرس الجمهوري، ولبَّى شرطيهما للمشاركة في الانقلاب، فتبوأ الأول رئاسة الوزراء، وتولى الثاني وزارة الدفاع. فتم هذا الانقلاب السهل، بالشراكة الاضطرارية، التي لولاها ما حكم البعث العراق، وانتهي الى التفرُّد بالاحتراز، فصدام حسين المتربص بالحكم والطمَّاح إليه، خطط لفض تلك “الشراكة”، و… نجح.
جلال طالباني (أمين حزب “الاتحاد الوطني الكردستاني” العام، والرئيس السابع للجمهورية العراقية (2005 – 2014)، أماط اللثام عن لقاء جرى بينه وبين صدام حسين، بعد أيام معدودات من الانقلاب، فبدا له ممتعضاً، ومتوتراً، ولما سأله عما هو فيه، أجابه صدام حسين:
“إنني لا أستطيع النوم بوجود هؤلاء الجواسيس معنا، وأنا متأكد أنهم سينقضُّون علينا متى سنحت لهم الفرصة”!
قد يقول قائل, إن هذا الكلام، ربما كان ملفَّقاً، إلا أنه لا يجافي الحقيقة، وما دار وجرى. فلم يكن مضى أسبوعان على نجاح الانقلاب، حتى بدأ صدام حسين بالتخلص من “الجواسيس” المشاركين في الانقلاب والحكم. فصدر قرار بالنفي الى الخارج لكل من الفريق إبراهيم الداود، والفريق عبد الرزاق النايف، الذي ظلَّ صدام حسين يتوجَّسُ منه ويحاذره، متربصاً به، حتى تمكن منه بعد سنوات عشر من مشاركته في “الانقلاب الأبيض”، فاغتيل الرجل في “فندق انتركونتيننتال” في العاصمة البريطانية، في 9 تموز / يوليو من عام 1978. وبعد التخلص من عبد الرزاق النايف، بقي صدام منشغلاً بسد المسارب جلاَّبة المتاعب: عينٌ لا يغمضُ لها جفنٌ، مُرتابةٌ، حَذِرةٌ، يَقِظَةٌ، تحصي تحركات وأفعال الرفاق الأقربين… فهو منذ البداية عينه على الحكم، يخطط للوصول الى قمة السلطة، والتمسك بها، بكل ما أوتي من بطش، الى أن يقضي الله أمراً كان مفعولاً، وهذا ما كان وتمَّ.
***
كان صدام حسين يدرك أنه ليحصل على مبتغاه، في القبض على أعنَة الحكم، عليه أن يأمن جانب الرئيس أحمد حسن البكر، فقد كان أعرف الناس بأبي هيثم، ومدى قدرته على المكر، فراح يغالي في احترامه، وامتداحه، والدفاع عنه، بعد كل قرار يتخذه الرئيس في جلسات مجلس الوزراء، واجتماعات القيادة القطرية.
أما خفيةً فكان يمكر به، ويضيق عليه حلقة المريدين والأنصار، بإبعاد من كان أبو هيثم يتوكأ عليهم، ويساندوه في الحكم وفي القيادة الحزبية.
وبهدوء مضى صدام حسين في قص جوانح الرئيس البكر، ونتف ريشه، ريشة بعد ريشة، تحضيرا ً للانقضاض عليه والاستفراد في الحكم.
أول من استهدف صدام حسين، داخل كوادر الحزب، كان صلاح عمر العلي. فالرجل كان فاعلاً ومتميزاً في “مجلس قيادة الثورة”، إضافةً الى توليه وزارة الإعلام والثقافة، ويتمتَّع بصفات ومزايا تجعله سيد نفسه، ولن يكون، بأي حال من الأحوال، طوع بنان أحد. إلا أن هناك أربعة أسباب جعلت صدام حسين يتعجل التخلص من صلاح عمر العلي:
أولى تلك الأسباب: أنه وقع اختيار القيادة القطرية عليه، فور استتباب حكم البعث في بغداد، سنة 1968، للسفر الى البرازيل، عبر بيروت، لإقناع ميشال عفلق، أمين القيادة القومية العام، بالعودة الى مزاولة مهامه الحزبية عن قرب.
وتَوقُّف العلي يومين في بيروت، في الطريق الى البرازيل، سَمَحَ لي بالتعرف عليه، فجلسنا الى الحديث، فكان لطيف الكلام، حسن التفهم، يتمتع بذهن وقَّاد، الى ثقافة واسعة، فأدركت لماذا انتدبه رفاقه في القيادة القطرية لهذه المهمة الدقيقة.
ثاني الأسباب: قرب صلاح عمر العلي من الرئيس أحمد حسن البكر، جعل صدام حسين حذراً ومتخوفاً من أن يأخذ، في غفلة من الزمن، مكانه لدى البكر.
ثالثها: حيوية صلاح عمر العلي، وشجاعته، وإقدامه في الملمات، وقدرته على الاستقطاب داخل الحزب وخارجه.
رابعها: أنه عندما “غضب” الرئيس البكر على طارق عزيز، رئيس تحرير جريدة “الثورة” الناطقة بلسان الحزب، لأسباب لا منفسح لها هنا، كلَّف صلاح عمر العلي بتولي رئاسة تحرير الجريدة، بالإضافة الى مناصبه في مجلس قيادة الثورة والحكومة، كما عينه وزيراً للري والإصلاح الزراعي بالوكالة.
بعد استقالتي من “البنك المركزي (مصرف لبنان)، توليت رئاسة تحرير مجلة “الأحرار” التابعة لحزب البعث، التقيت صلاح عمر العلي مرة ثانية في بغداد، فدعاني لمصاحبته الى مدينة” العمارة”، لإطلاق موسم قص القصب، وتدشين معمل لإنتاج السكر في “ناحية المجر”، فلم أتردد في قبول الدعوة. ففي تلك المدينة صرفت ثلاث سنوات، أدرس في مدارسها، وخلال الرحلة رويت له تجربتي هناك.
فجأة ومن غير أسباب موجبة، جُردَ صلاح عمر العلي من مناصبه ونُفي الى القاهرة عام 1970، فبقي في “المحروسة” بضعة أشهر، انتقل بعدها الى بيروت التي أحب، لمدة ثلاث سنوات.
لقد كان صلاح عمر العلي، ضحية “مبارزة المكر بين البكر وصدام”, الذي استطاع بطريقة من الطرق أن يستميل الرئيس البكر ويقنعه بالتخلي عن صلاح عمر العلي، وإبعاده عن الخدمة وعن البلاد.
وصول صلاح عمر العلي الى بيروت تزامن مع المأزق الحرج للعراق وجيشه على الجبهة الشرقية في الأردن، فبعد الاصطدامات الدامية بين الجيش الأردني والمنظمات الفلسطينية بقيادة ياسر عرفات، في شهر أيلول/ سبتمبر سنة 1970، (الذي صار يدعى “ايلول الأسود” )، انتظر البعثيون أينما وجدوا في البلاد العربية، أن يحسم الجيش العراقي المعارك لصالح الفلسطينيين، فإذ بالقيادة العراقية تأمر قواتها بالانسحاب من الأردن، فأحدث هذا القرار موجةً واسعةً من الإحباط وخيبة الأمل، مما اضطر صدام حسين أن يسافر الى بيروت، باسم مستعار، ليبرر ذلك الموقف أمام ميشال عفلق والقيادتين القومية والقطرية في لبنان.
وحدث أن كشفت “جريدة النهار” عن هذه الزيارة بعد أيام من مغادرة صدام حسين بيروت، والأغلب على الظن أن الخبر سُرِّب الى الجريدة من جهة حزبية ما، والله أعلى وأعلم…
لا أعرف ما إذا كان صدام حسين التقى صلاح عمر العلي، خلال تواجده في بيروت، لكنني أستبعد ذلك، لأن صلاح عمر كان جاري في منطقة الروشة، وكنا نلتقي بصورة دائمة، ونتحادث في مختلف الأمور، ولم يظهر عليه أنه غيًّر من مواقفه التي أعرفها.
***
خلال العامين 1970 و1971، أقدم صدام حسين بدعم كامل من الرئيس أحمد حسن البكر، بتصفية نخبة من القياديين في الحزب والدولة، كانت نتيجتها الطبيعية، جلوس صدام حسين الى جوار البكر نائباً له.
وقد تم له ذلك، بعد مناورة مفتعلة اتخذت ذريعة لإبعاد صالح مهدي عماش من مناصبه في الحزب والدولة، فالأرجحية كانت له في تبوأ المنصب، وإبعاده المتجني سهَّل “انتخاب” صدام حسين “نائباً للرئيس”.
الدكتور جواد هاشم في كتابه “مذكرات وزير عراقي مع البكر وصدام”، يتذكَّر ويذكر مقابلته مع جمال عبد الناصر، فوجده مهتماً بالشأن العراقي، فاستغرب الرئيس المصري أمامه المفاضلة بين صدام حسين وصالح مهدي عماش، ومستفسراً عما إذا كانت هناك صراعات وانقسامات داخل القيادة العراقية.
وزعم، جواد هاشم أن الرئيس جمال عبد الناصر بدا مستاءً، ووصف صدام حسين بأنه “طايش، متهور، وبلطجي”!
بعد تجريد صالح مهدي عماش من مناصبه في الداخل، أرسل الى الخارج سفيراً لدى موسكو، ثم باريس بعدها، لينهي وجوده في السلك الديبلوماسي سفيراً في هلسنكي.
بعد عودته الى بغداد، بفترة وجيزة، ذهب صالح مهدي عماش الى ربه. ترامت الأخبار في العاصمة العراقية وخارجها، أن الرجل قضى مسموماً، وحامت الشبهات، وتراكمت علامات الاستفهام، من أن يكون تسمم عماش كان بفعل فاعل، فهو لم يكن يشكو من عوائق صحية، وعُرف عنه أنه رياضي،
وأنه كان قوي منذ بداية خدمته العسكرية.
وبالطريقة ذاتها تقريباً تمَّ تسريح الرجل القوي الآخر في النظام العراقي الجديد، حردان عبد الغفار التكريتي، وبعد تسريحه بفترة وجيزة جرى اغتياله في الكويت، في 30 آذار/ مارس 1971 وهو في طريقه لإجراء فحوصات في أحد المراكز الطبية في العاصمة الكويتية.
***
ما كانت تصفية قدامى العسكريين المحسوبين على حكم البعث، لتتم بهذه السهولة، لولا وجود أحمد حسن البكر على رأس الدولة، بصفته زميلاً لبعضهم في المؤسسة العسكريَّة، ورفيقاً لبعضهم الآخر في المؤسسة الحزبية.
لكن تلك التصفيات، على الرغم من أنها دفعت صدام حسين الى مقام أعلى في السلطة، وجعلته أقدر على التأثير في توجهات الرئيس أحمد حسن البكر، لم تعطه الاطمئنان الكافي للوصول الى هدفه النهائي، فاستدار الى تصفية قياديين لهم شرعية الأسبقية عليه في “حزب البعث
أبرز قائدين حزبيين في هذا الإطار كانا، الدكتور عبد الكريم الشيخلي، وهو طبيب شغل منصب وزير الخارجية، وعبد الخالق السامرائي، مسؤول الثقافة والإعلام في القيادة القومية، رافضاً أي منصب حكومي، وهو سبق صدام حسين سنوات، في الانتماء الى الحزب، ويمكن القول إنه كان “رئيسه ومرشده” في الحلقة الحزبية في خمسينات القرن الماضي.
والشيخلي والسامرائي لقيا حتفهما بطريقة بشعة أثارت حنق وغضب كوادر الحزب وأوساط خارجه، فالرجلان تعاطيا في شؤون قومية الى جانب شخصيات بارزة من العالم العربي.
عبد الكريم الشيخلي سُرح من مناصبه في عام 1971، وعُين رئيساً لبعثة العراق لدى الأمم المتحدة في نيويورك، وفي عام 1978 اعتقل في بغداد بتهمة التشهير بالرئيس أحمد حسن البكر ونائبه صدام حسين، فحكم عليه بالسجن سنوات خمس، لكن بعد سنتين شمله العغو العام، فخرج من السجن لكنه سرعان ما جرى اغتياله وهو في طريقه الى مركز البريد لدفع فاتورة الكهرباء.
أما معاناة عبد الخالق السامرائي فكانت أشبه بالتراجيديا الإغريقية، في كل ملابساتها حتى النهاية، الى درجة أن عفلق والبكر ما كانا مرتاحين لها وتدخلا فيها، لتخفيف حكم الإعدام عنه.
.على أن تراجيديا السامرائي فتحت طريق صدام الى السلطة المطلقة في العراق.
(“الحلقة السابعة يوم الأربعاء المقبل: “النائب
العراقي الغامض
قراءة متأخرة في عقل صدام حسين
(5)
!المُرتاب
12 / 6 /2024
*سليمان الفرزلي.
نَزِلَ الكثير من آراءِ خير الله طلفاح من مكانه، بعد أن دارت الأيام بالفتى اليانع صدّام حسين الدوران المُتَعجّل، فاهتدى إلى “حزب البعث العربي الإشتراكي” وعقيدته، وتفتّحَ ذهنه على فهم العروبة على غير ما كانَ خاله ومُرَبّيه يلهجُ بها، وقد استغلقَ عليه الفهم الصحيح لأشيائها ومراميها.
كانت أفكارُ “البعث” تندفعُ إلى عينيه وتدخل عقله فتستحوذُ عليه وتُنظّمُ تفكيره لطَلَبِ الأفضل. وكان كُلّما تَوَغَّلَ فيها خطوةً، ابتعدَ خطواتٍ عن ماضي أيامه وسنوات عمره التي امضاها في كنف خاله، وبيئته، وأفكاره المُلتوية والمُشَوَّهة.
في تلك المرحلة الحَرِجة من صباه، أخذ صدام حسين يُعاني من نزاعٍ نفساني داخلي بين صدّام العقائدي المُتنوِّر، الثائر، المُهَذَّب، الطماح، الذي يملك هوادة الأناة… وبين صدّامٍ آخر يضجُّ في داخله يلحُّ على الظهور:عشائري، فطري، متهوّر، إنفعالي، سلطوي، العنفُ وسيلته إلى مبتغاه. إرضاؤهُ صعبٌ وإغضابهُ سَهل.
هذا التلوّن في شخصية صدام حسين، الذي عانى منه حتى مماته المأسَوي, كانَ يدلُّ على إنسانٍ غير مُستَقر، شكّاك، لا يتحمّل الاصطبار، مُرتاب بأقوال وأفعال، الأقربين والأبعدين، مَن حالفه منهم ومَن عاداه.
وليس أدلّ على عقلية الحذر النابعة من الارتياب الشامل عند صدّام حسين من الوثائق المنشورة حول أحاديث جرت بين طارق عزيز وكبير المفتّشين الدوليين عن برامج أسلحة الدمار الشامل العراقية، السويدي رولف إيكيوس.
فعندما قدَّم المسؤول العراقي للمفتش السويدي، من أجل ختم التحقيق، عرضًا ماليًا يقضي بفتح حساب له في سويسرا بمبلغ نصف مليون دولار، رفض إيكيوس العرض بقوله لطارق عزيز: “ما هكذا تجري الأمور في بلادنا”.
ثم واجهه المفتش السويدي بوجودِ وحدةٍ مخبرية بيولوجية غير مصرَّح عنها من قبل السلطات العراقية، فقال طارق عزيز لفريق التفتيش: “تعرفون كما أنا أعرف، أن كلَّ دولة في العالم لديها قسمٌ في جهاز أمن الدولة مهمّته فحص الطعام المُقَدَّم للقيادة”!
حتى الذين اختارهم بنفسه من الطبّاخين، ومساعديهم، في المطابخ الرئاسية، لم يكن يأمنُ لهم، ولم يكن ينام في المكان نفسه ليلتين، وما كان له روتين ثابت يُمكنُ رصده من قبل أعدائه أو خصومه.
بلغَ ارتيابُ صدام حسين درجةً من “البارانويا”، فباتَ يرى، في كلِّ شيءٍ وكلِّ شخصٍ، شبحًا يتربَّصُ به، بمن فيهم أقاربه وأفراد عائلته وعشيرته.
****
حادثتان وقعتا، وكان صدام حسين في ميعة الشباب، فتحتا أمامه مشاهد من التآمر والتخابث في المواقف والقرارات في العمل الحزبي، ورسّختا فيه نزعةَ التبرُّم من الرفاق، وزادت من حدّة شكوكه وارتيابه منهم.
الأولى وقعت في “تكريت” سنة 1958، والثانية في بغداد سنة 1959.
ذات يوم، ارتَجَّت “تكريت” على خبر اغتيالِ واحدٍ من رجال السلطة، وكانت الثورة قامت، والملكية أُطِيحت، وعبد الكريم قاسم, القابض على أعنّة الحكمِ أنشأ “المحكمة العسكرية العليا”، التي كانت أوصال العراقيين ترتَعِدُ عند ذكر إسم رئيسها العقيد فاضل عباس المهداوي.
وحدثَ أن وشى أحدهم على صدّام بأنه ضالعٌ في عملية الاغتيال، فأُلقِيَ القبضُ عليه، حوكم، وأُودِعَ السجن، فانضمَّ إلى قافلةٍ من المعتقلين البعثيين.
في الزنزانة، تسنّى لصدّام حسين أن يقرأ ما تَيَسَّرَ له من أدبيات الحزب، وأن يستمعَ إلى شروحات مَن سبقوه إلى العقيدة والحزب، وكان بعضهم يطلُّ من ثقافةٍ واسعة وفهمٍ عميق. فازدادَ وعيًا، وفهمًا، وحفظًا، وتوقًا للتعرّفِ على مؤسّس وواضع عقيدة الحزب ميشال عفلق.
لم يَمضِ وقتٌ كثير على خروجه مع رفقائه من السجن حتى أرسلت القيادة القطرية تطلبه… فامتثلَ، وتركَ “تكريت” إلى بغداد التي لم يكن زارها من قبل.
في اجتماعٍ اقتصرَ على عددٍ محدودٍ من الحزبيين، أُبلِغَ صدّام حسين أنه سيكون في عداد الذين اختيروا للقيام بعملية اغتيال عبد الكريم قاسم، خلال مروره في “شارع الرشيد” مُنتقلًا من منزله إلى مقره الرسمي في وزارة الدفاع.
وتحضيرًا للعملية خضع الشاب الآتي من “تكريت” إلى تدريبٍ مُكثّفٍ على استعمالِ الأسلحة الرشاشة، والتعرّف على بغداد وشوارعها.
قضت الخطة التي وضعها فؤاد الركابي، أول أمين قطري للحزب في العراق، تشكيل ثلاث فرق: فرقةٌ مُتقدِّمة لتنفيذِ الاغتيال، وفرقة احتياطية للمساندة، وفرقة للحماية، كُلِّفَ بها الشاب صدام حسين.
في مساء السابع من تشرين الأول (أكتوبر) سنة 1959 وقبل ساعات من تنفيذ العملية، جاءَ مَن أسَرَّ لصدام حسين، بأنَّ فؤاد الركابي وضع خطة الاغتيال بالاتفاق مع الأجهزة الناصرية في دمشق، ولم يُطلِع عليها القيادة القومية، المُمَثَّلة آنذاك بأمينها العام ميشال عفلق، فهاله الأمر، والكلام بلغ مبلغه في إثارته، فتحرّكَ ارتيابه في داخله، وقرّرَ أن يحبط الخطة، فأدار فوهة رشاشه على رفقائه، وأطلق العيارات النارية، مما استعجل فريق الاغتيال، فأصيب قاسم بجروح لكنه نجا بحياته. وعندما أطلق صدام حسين النار في الاتجاه المعاكس، قام فريق المساندة بالرد على مصدر تلك النيران، فأُصيب بساقه، بنارٍ “صديقة”، كما يُقال باللغة العسكرية.
.كان صدام وقتها في الثانية والعشرين من سنيّه.
*****
في سنة 1964 حقّقَ صدام حسين رغبته في لقاء ميشال عفلق في بيروت.
وقتذاك، كان عبد السلام عارف يوطّدُ حكمه بعد انقلابه على شركائه البعثيين الذين عاونوه على إسقاط حكم عبد الكريم قاسم بمؤازرة أجهزة جمال عبد الناصر في مصر.
جلس صدام حسين إلى الحديث مع “الأستاذ”، يرهف السمع، يحاول أن يستوعب الآراء والأفكار فهمًا وحفظًا.
وحدث أن توثّقت العُرى بينهما، فصار صدام المُدافع الأول عن ميشال عفلق في المؤتمرات الحزبية، وصار عفلق مصدر الدعم الحزبي الأقوى لنشاط صدام حسين وشرعيته. وقد وصف هذه العلاقة الصميمة بينهما القيادي البعثي السابق جبران مجدلاني بقوله: “كان صدام حسين يخاطب ميشال عفلق كما يخاطب طالب المدرسة أستاذه”.
من جهته، ردَّ ميشال عفلق لصدام حسين التحيَّة بأحسن منها، فقال فيه: “صدام حسين هو هدية البعث الى العراق، وهدية العراق إلى الأمة العربية”.
لكن صدام المُرتاب بكلِّ شيء، أبقى في خلفية حسابه العشائري إمكانية أن يرفع عنه ميشال عفلق غطاء “الشرعية الحزبية”، أو أن ينقلب عليه في ظروف متغيّرة، فظلَّ يداريه ويحاذره، حتى اضطر عفلق مغادرة بيروت بسبب الحرب اللبنانية ليقيم في بغداد بصورة دائمة، فكرَّمه صدام تكريمًا استثنائيًا، وأنزله وعائلته في “قصر الرشيد”، حيث كانت زيارتي الأخيرة له في السابع من نيسان (ابريل) سنة 1975، (يوم الذكرى الثامنة والعشرين لتأسيس “حزب البعث”)، فكان كأنه “عصفورٌ في قفصٍ من ذهب”!
لذلك، وضع صدام حسين ختم الشرعية الحزبية في جيبه، بحيث لم يعترض أحد من داخل الحزب، بمَن فيهم عفلق، على مجزرة “قاعة الخلد”التي تمَّ فيها إعدام عدد من القيادات الحزبية، بعد أيام قليلة فقط من انقلابه على رئاسة أحمد حسن البكر، والحلول محله في قيادة الحزب والدولة صيف العام 1979.
****
لم تكن محاولة اغتيال الزعيم عبد الكريم قاسم في شارع الرشيد وحدها التي جعلت صدام حسين يكشف أعراض الغموض والتناقض داخل كوادر الحزب، فازداد ريبةً بمَن حوله، و ثقةً بنفسه في الوقت ذاته.
وليس أدلّ على ما نقول من مسألة تشكيل القيادة الحزبية في العراق بعد انقلاب عبد السلام عارف على شركائه البعثيين.
يروي بعض قدامى البعثيين العراقيين الذين رافقوا تلك المرحلة، أن القيادة القومية للحزب بشخص أمينها العام ميشال عفلق شكَّلت نخبة قيادية للحزب في بغداد لم يكن أحمد حسن البكر في عدادها، فاعترضَ صدام حسين على ذلك، وطلب إيضاحًا للموضوع بصفته مُتقدِّمًا في القيادة القطرية حسب تلك اللائحة. وروى هؤلاء أيضًا إن ميشال عفلق أجابه: “إن السبب هو تنازل البكر عن رئاسة الحكومة الأولى بعد الانقلاب على قاسم، مما سهَّل على عارف إبعاد “حزب البعث” عن السلطة جملةً وتفصيلا”.
فردَّ عليه صدام حسين شارحاً أنه باستقالته من رئاسة الحكومة، ساعد البكر الحزب من حيث منع عبد السلام عارف من التنكيل بالبعثيين وملاحقتهم…
فما كان من ميشال عفلق أن عاد وأضاف اسم البكر إلى اللائحة القيادية.
الملفت في هذه الرواية، إذا صحَّت، أن صدام واجه الحالة ذاتها عندما انقلب هو في صيف 1979 على أحمد حسن البكر وفريق كبير من القيادات الحزبية في ذلك الوقت. إذ باستقالة البكر من الرئاسة والقيادة لصالح صدام حسين، لم يعد هناك من يحمي الحزب، حسب ما وصفه أثناء تشكيل القيادة السابقة في العام 1959، فأجاز لنفسه أن يُصفي مجموعة كاملة من القياديين الحزبيين تصفية جسدية، خلال اجتماع القيادات الحزبية في “قاعة الخلد” المشهورة.
ولهذا الموضوع قراءة مختلفة عمّا شاعَ وأُعلن في وسائل الإعلام، وهو أيضًا يتعلق بمطالعة لميشال عفلق، لم يترك له صدام حسين أي مجال للنطق بها، كما سيجري عرضها لاحقًا.
(“حلقة الأربعاء المقبل بعنوان “الماكر)
العراقي الغامض
قراءة متأخرة في عقل صدام حسين
(4)
المُرَبِّي
5 / 6 / 2024
*سليمان الفرزلي
فكرة “المربي” كانت “هاجس” صدام حسين، قبل تسلمه الحكم من أحمد حسن البكر، الرئيس الرابع للجمهورية العراقية، في سنة 1979، وطوال فترة رئاسته، حتى إعدامه شنقاً في 30 من ديسمبر /كانون الأول سنة 2006.
والشاهد على ما نقول، محاضر جلسات “مجلس قيادة الثورة”، أو مجلس الوزراء، التي أوردها ستيف كول في “فخ أخيل” نقلاً عن الوثائق الرسمية المنقولة من بغداد الى واشنطن، التي بدأت الإدارة الأميركية وضعها في التداول.
من القراءة المتأنية لتلك الوثائق، تتشكل وتظهر صورة “صدام حسين المربي”، فخلال تلك الاجتماعات، كان كمن يلقي دروسا في أصول الحكم على تلاميذه. وفي الصور التي كان يبثها التلفزيون العراقي، عن اجتماعات مجلس الوزراء، ويكررها في نشراته الإخبارية، كان الوزراء ينكبُّون باهتمام على تسجيل ما يقوله “الرئيس – المعلم” على أوراق أمامهم، كما يفعل طلاب الجامعات خلال المحاضرات.
إن “هاجس المربي”، في شخصية صدام حسين، هو ردُّ فعلٍ ناقدٍ، ومعترضٍ، على بيئة خاله ومربيه الأول، منذ أن كان طفلاً، حتى بلوغه الحلم والصبا، وهي بيئة مشوَّهةٌ ثقافياً وفكرياً. وقد أدرك صدام حسين، في قرارة نفسه، أن التأسيس الركيك في ثقافته الابتدائية، التي كونت شخصيته الثقافية، من الصعب بمكان تصحيحه عندما كبر وبلغ سن الشباب، وهذه مأثرةٌ تُحسب له، وإن كان النجاح لم يحالفه كما يجب، فراح، بمهارة وحنكة، يحوِّل ذاك النقص الى “غموض” أُشكِلَ على المقربين منه والأبعدين.
لهذا كله، لم يتمكن الذين تناولوا صدام حسين في كتبهم، عرباً كانوا أم أجانب، وأشبعوه تحليلاً وتعليلاً، من الكشف عما استتر من شخصية الرجل، إنما قاربوه من ” شخصيته المعدَّلة” في طريقه الى السلطة أو حتى خلال تمسكه بها.
والعلة الكامنة في تلك المحاولات، التي كثر تعدادها، أنها، كلها، حاولت تفسير ما هو غير قابل للتفسير في عقل صدام حسين، وأفعاله، وتصرفاته، وخططه السياسية.
لذلك، فإن النقص الذي عاشه في بيئة خاله وهو فتى، جعله يتخذ لنفسه، وهو في السلطة، صفة “المربي” مسقطاً علة تلك البيئة، من خلال تجربته الشخصية، على العراقيين أجمعين، الى درجة أنه ابتكر أسلوباً تربوياً فريداً كان مقتنعاً به كلَّ القناعة، وهو على الرغم من ثغراته وضيق الوقت في تسريعه، يبقى مأثرة أخرى تُسجلُّ له في تاريخ العراق الثقافي.
إذا كان برنامج محو الأمية في العراق لم يحظَ بفرصةٍ كاملةٍ لكي يأتي بالثمار المرجوة، بسبب من الحرب مع إيران، إلا أن مشروعه التربوي الأهم، كان “جعل الصغار يربُّون الكبار”، أي تدريب تلاميذ المدارس على عادات جديدة، يفرضونها بالممارسة على أهاليهم، لكن هذا المشروع لم يلقَ اهتمام أصحاب الشأن في المدارس.
هاتان المحاولتان تُحسبان في رصيد صدام حسين الإيجابي، على الرغم من إخفاقهما في التحول الاجتماعي في العراق الى ألأفضل.
أسرد، هنا، بعض الشواهد التي عشتها بنفسي في مطلع ستينات القرن الماضي، عندما عملت مدرساً لطلاَّب المرحلة المتوسطة والثانوية في مدينة “العمارة”، جنوب العراق، على زمن حكم الزعيم عبد الكريم قاسم، ووزير المعارف في حكومته العقيد إسماعيل عارف.
بعد انتهاء حصصهم، كان الأساتذة يتجمعون في قاعة للاستراحة مخصصة لهم، قبل استئناف الحصص التعليمية التالية، فيأتي نادلٌ يحمل إبريق ماء من الألومنيوم، وبيده كوبٌ واحدٌ يطوف به عليهم ليشرب منه كلهم. لم يكن مشهداً مريحاً أن ينتقل هذا الكوب على شفاه عشرين أستاذاً هم نخبة في مجتمعهم. وقد أعطيت ملاحظة للزملاء العراقيين حول الموضوع، وقلت لهم إننا في مدارسنا الابتدائية في لبنان، كانوا يعلموننا أصول العناية الصحية، فيحظرون علينا الشرب من كوب غيرنا، أو تنشيف وجهنا بمنشفة ليست لنا، أو أن نأكل بملعقة غيرنا، أو أن ننظف أسناننا بفرشاة غيرنا، وما الى هنالك من وصايا صحية…
قلت ذلك لأنني أردت أن أقدم لهم تفسيراً لامتناعي الدائم عن مشاركتهم شرب الماء بهذه الطريقة خلال الاستراحة.
فانبرى للرد على ما أبديته، زميل منهم له ميول شيوعية معروفة، ويحمل فكراً تقدمياً، وحديثه ممتعٌ ذكيٌّ وظريف، فقال لي:
“يا أستاذ، إن شرب الماء من كوب واحد هو آخر اهتماماتنا، فنحن في العراق لدينا مشاكل ومصاعب أهم من ذلك بكثير”!
من باب الإنصاف، وإحقاق الحق، يجب القول بأن صدام حسين حاول أن يطرق هذا الموضوع من خلال التربية، بصفته “المربي الأول”، في الدولة، فأوصى بتوجيه التلامذة الصغار نحو التخلي عن عادات غير صحية من نوع الشرب الجماعي من كوب واحد، أو تناول الطعام بالأيدي من ماعون واحد (صحن واحد)، وما شابه ذلك. بل عمد مرة الى توزيع عشرات الألوف من سكاكين، وملاعق، وشُوَك الطعام على عائلات فقيرة في المدن والأرياف لهذه الغاية.
بل هو أراد أن يجعل من “حزب البعث” الحاكم جهازاً تربوياً. ففي المقابلة التي أجريتها معه في منزله يوم 14 نيسان/أبريل من عام 1981، وكانت الحرب مع إيران في أشهرها الأولى، ظهرت انقسامات عربية حولها، ومن تلك المواقف ما اتخذه ياسر عرفات، رئيس منظمة التحرير الفلسطينية، وعارض فيه موقف العراق. قلت له:
“ألا تخشى أن ينتشر في العراق مناخٌ معادٍ للفلسطينيين والقضية الفلسطينية، بسبب من موقف منظمة التحرير، فالمعروف عن العراقيين أنهم أشد العرب حماسةً لتلك القضية؟”.
فأجاب بقوله: “والله ذلك ممكنٌ… لولا المربي”!
:لما لاحظ المفاجأة على وجهي، استدرك وقال:
. “المربي… هو حزب البعث العربي الاشتراكي”
.“ربما قدَّم هذا الاستدراك بعد برهة صمت، لئلا يُفهم من كلامه أنه هو شخصياً “المربي
بالفعل خطر لي أن جوابه بهذه الطريقة المتقطعة على دفعتين، توخى منها أن يُظهر نفسه بصورة “المربي”، حتى لو أعلن تالياً أن “المربي هو حزب البعث”. فمنذ “مجزرة دار الخلد” ضد بعض القيادات الحزبية المرموقة، خلال الأسبوع الأول من وضع يده على السلطة في صيف 1979، صار صدام حسين هو “حزب البعث”. فإذا كان الحزب هو المربي، كما قال، فهذا يعني أنه هو فعلاً المربي!
إن لجوء صدام حسين، خصوصاً داخل الحزب، وداخل عائلته أيضاً، الى الشدة والقسوة والعنف والقتل، يحمل في طياته “فكرة المربي”، باعتبار أن الأهل يلجأون أحياناً الى استخدام الشدة مع أطفالهم كوسيلة تأديبية لها غاية تربوية. وهذه أيضاً من سمات الحكام الديكتاتوريين في كل التجارب العالمية، لتقديم سبب موجب لتفردهم بالسلطة في إطار تربوي غايته في نظرهم تقويم اعوجاج سابق!
قبيل محاولة اغتيال عدي النجل الأكبر لصدام حسين في منطقة المنصور من بغداد يوم 12 / 12 / 1996، ألقى الرئيس العراقي كلمة انتقد فيها بالتورية بعض التصرفات الشاذة لنجله، ذكر فيها عبارة “عقوق الأبناء”، وكأنه يقوم بنقد ذاتي لفشله في تربية ابنه بينما يحاول هو تربية أولاد الناس.
كان في تلك الكلمة طَعمٌ من المرارة، الى درجة حملت بعض عارفيه الى الظن بأن المحاولة التي تعرض لها عدي بعد ذلك، ونُسبت الى “حزب الدعوة” الشيعي المعارض، هي من تخطيط صدام حسين نفسه لتأديب ابنه ووضع حد لتجاوزاته، إلا أنها تعدَّت حدودها المطلوبة قليلاً فكادت تودي به، لكنها عطبته وأقعدته على كل حال.
إن هذا التفسير ليس صحيحاً على الأغلب، لكن مجرد مروره ببال المشغولين بغوامض صدام حسين المتداخلة والمتجذرة، يعطي فكرة عن المدى الذي يمكن أن يذهب اليه، من حيث الوصول الى غاياته المضمرة.
هذا أيضاً يدخل في باب تفسير ما هو غير قابل للتفسير!
( “حلقة الأربعاء المقبل بعنوان “المرتاب)
العراقي الغامض
قراءة متأخرة في عقل صدام حسين
(3)
الأصلُ والظل
29 / 5 / 2024
*سليمان الفرزلي
ليس من العجب في شيء، أن يسود الاعتقاد بين العراقيين، وبعض البعثيين، أن خير الله طلفاح هو الرجل القوي في العراق، و”ظِلُّ” صدام حسين. فالرجل كَفِلَ رئيسَ البلاد، طفلاً، لما مات والده عنه، واحتضنه، ورعاه، وتربَّى مع أولاده، وتتلمذ عليه، وزوَّجه ابنته ساجدة.
إنَّ ما رسَّخ هذا الاعتقاد، عند بعضهم، غلوُّ الكتَّاب في مدح “فضائل” خير الله طلفاح، والتمادي فيه الى درجة، أن أحدهم اعتبره “صانع صدام حسين”، و”ملهمه”، وأنه “يحكم من وراء الستارة”، وأن “هذا الكعك من ذاك العجين”!
مع تطاول الأيام، ثبت بما لا يرقى اليه الشك، أن ما سادَ، وقيلَ، وكُتب، كان يجافي الحقيقة، وأنه تشخيصٌ سطحيٌّ لظاهر الأمور، وهو استخفاف بعقل صدام حسين، الذي كان أعرفَ الناس بخاله، وأكثرهم دراية بتفكيره الملتوي، وتصرفاته، وأفعاله الممجوجة، يوم كان “أمين العاصمة” بغداد، فعزله الرئيس، وأبعده عن المشهد السياسي. ومع بداية الحرب الضروس ضد إيران، سنة 1980، أجهز الرئيس العراقي على خاله سياسياً، وحجر عليه عملياً.
لكن هذا لا يعني أنه، بالمقارنة بين الخال وابن شقيقته، وبعيداً عن تكوين السلطة، وتشكلها، وممارستها، لم يكن للخال أكثر من امتياز:
الأول، أن خير الله طلفاح، كان ابن المؤسسة العسكرية الوطنية، التي قام ضباطها، وهو منهم، بانقلاب في بداية الحرب العالمية الثانية (1941)، قمعه الإنكليز، وأعدموا بعض قادته، بتهمة أنهم مدفوعون ومدعومون من ألمانيا النازية. أما طلفاح، وكان وقتها من صغار الضباط، فقد عوقب بالسجن خمس سنوات، وبالطرد من الجيش.
امتيازه الثاني، أنه بعد خروجه من السجن اختار أن يكون مدرساً، معتداً بنفسه بأنه من المثقفين، وحاول أن يثبت ذلك بسيل من الكتب الغرائبية التي وضعها، وكشفت بهتان ادعاءاته، وثقافته الوحيدة الجانب، التي لا ترتقي في مبناها ومعناها الى مصاف انتاج المبدعين الكبار من الكتاب العراقيين في زمانه. فلا يُقارن أي كتاب وضعه خير الله طلفاح بكتاب معروف الرصافي “كتاب الشخصيَّة المحمدية”، على سبيل المثال، أو أي كتاب من الكتب العلمية للمفكر علي الوردي.
إن انتماء صدام حسين الى “حزب البعث العربي الاشتراكي”، جعله يتطلع الى “المدرسة الطلفاحية” بنظرة دونية، واكتشف مدى سذاجتها. ففي “مدرسة البعث” فتح الشاب صدام حسين عينيه على أفكار وآفاق جديدة، أرفع مستوى، وأبعد مدى، وأعمق محتوى، مما خبره في مدرسة خاله، التي كان يراها بأنها طمَّاحة فيما هي “طمَّاعة”. وهذا التعبير تحديداً ورد على لسان برزان التكريتي، الأخ غير الشقيق لصدام، ومدير جهاز استخبارات نظامه لفترة من الزمن.
بعد لقائي خير الله طلفاح، بمعية الصديق الراحل عبد الجليل حمود (أبو فرات)، كما مرَّ، استغرقتُ في التفكير بكلامه الذي أبدى فيه رغبته بأن يتحوَّل النظام في العراق من “جمهوري” الى “ملكي”، على غرار النظام الملكي السعودي، ثم امتعاضه من مقاطعة “الشباب” له، منذ بداية رئاسة صدام حسين، وفي مستهل الحرب مع إيران. فقلت في نفسي، إذا كان طلفاح يصرح بهذه التوجهات علناً أمام زواره، فلا بد أنها وصلت الى صدام حسين وأركان حكمه، أو ربما كانت تلك المواقف هي سبب القطيعة بينه وبين “الشباب”.
بادئ الأمر ظننتُ أنها مجرَّد نزوة اعتراضية من قبل خير الله طلفاح، أو فكرة مُجنَّحة من بنات أفكاره الخُرافية، لكن بعد سنوات قليلة، أظهرت التطورات الدرامية في مسار الحرب الإيرانية، بفعل التحولات الدولية، التي قطعت باليقين ما كان يساور صدام حسين من شكٍّ في الولايات المتحدة، ونياتها الحقيقية، أن هناك مساعٍ جديَّة لإطاحته، تلبية لشرط إيراني لوقف الحرب. وقد اتخذت تلك المساعي مسالك مختلفة منها البحث عن بدائل له من داخل النظام العراقي، بينها مشروعٌ تموله المملكة السعودية عبر خير الله طلفاح.
خلصت، بعد تلك المعطيات، الى استنتاج أن طلفاح لم يكن “يُخرِّف” عندما كشف ما يرغب فيه ويتمناه للعراق. وترسَّخ هذا الاستنتاج في ذهني، بعد وفاة عبد الجليل حمود وزوجته في “حادث سير غامض” على الطريق بين بغداد وعمَّان. ولمَّا كانت تربطني مع أبي فرات، وشقيقه صبحي، صداقةٌ قديمةٌ، كما مرَّ، رحت أتقصى حقيقة الحادث. وقد بلغني من أكثر من مصدر أنَّ أحد كبار شيوخ “عشائر شُمّر “السعودية، القريبة من “العشائر الطائية” التي ينتمي اليها عبد الجليل حمود، كلَّفه أن ينقل الى خير الله طلفاح عرضاً بمبلغ مالي كبير بمليارات الدولارات، لقاء أن يقوم نجله وزير الدفاع عدنان خير الله مع مجموعة من الضباط، بانقلاب ضد صدام، ووضع نهاية للحرب مع إيران.
كنت أعرف أن للعشائر العربية بين سوريا، والعراق، والأردن، والسعودية، علاقات ودٍّ، ونسبٍ، وقربى، وأن” أبا فرات” كان في المراكز المرموقة داخل تلك الشبكة العشائرية، وقد صحبني معه مرَّات الى مجالس “فصل نزاعات” بين العشائر الطائية وعشائر أخرى. لكنني لم أصدق أن يكون ضالعاً في مسعى من هذا النوع، وهو في النتيجة غريبٌ عن العراق على الرغم من امتداده العشائري المحدود هناك.
لذلك شككت في تلك الرواية، رافضاً تصديقها. على الرغم من أنه لا شيء مستبعدٌ فيما يتعلق بخير الله طلفاح، وأنه ربما كان لتلك الرواية أساسٌ من الصحة، بعد مقتل عدنان خير الله، وزير الدفاع العراقي، نجل خير الله، وابن خال الرئيس صدام حسين، وشقيق زوجته.
لكن في المراجع المتداولة، من ينسجُ هذه الرواية على منوال آخر، أي خارج إطار “نظريَّة المؤامرة”، فيضعها في إطار عرضٍ رسمي وافقَ عليه الأميركيون، يقضي بصرف مليارين من الدولارات لصدام حسين وعائلته لقاء خروجهم من العراق، والذهاب للعيش في أي بلد آخر يختارونه. أي ما يُشبه “تعويض نهاية الخدمة”!
هذه الرواية أيضاً غير قابلة للتصديق، حتى لو كانت حقيقية، لأنها تنمُّ عن جهلٍ مطبق بعقل صدام حسين، الذي لا يترك مقاليد السلطة بإرادته، حتى لو عرضت عليه أموال الدنيا بكاملها. فلا أحد، ولا شيء، يأخذ زمام السلطة من يده سوى الموت، كما حصل تماماً.
قد يكون أن مقتل أبي فرات وزوجته بحادث سيارة، مجرد مصادفة، لكنه من المستبعد أن يكون مقتل وزير الدفاع بحادث سقوط طائرة مروحية سوفياتية الصنع، بفعل المصادفة. أقول ذلك، لأنني عندما زرت مع بعض الزملاء المصريين شمال العراق معقل الزعيم الكردي الملا مصطفى البارزاني في منطقة “حجي عمران”، على الحدود العراقية – الإيرانية، يومها قرر آمر القاعدة العسكرية في كركوك الفريق سعيد حمو، وهو من أقدم وأقدر الضباط المؤسسين في الجيش الوطني العراقي، أن يرسلنا الى هناك بطائرة مروحية سوفياتية الصنع، وكان بيننا مراسل لمجلة “آخر ساعة” يخاف من الطيران، فساوره الخوف قبل أن نصعد الى الطائرة، فطيب آمر القاعدة خاطره، وطمأنه الى أن المروحيات الروسية مأمونة، وليست معقَّدة الصنع مثل الطائرات الأميركية والفرنسية، وطلب من الطيار أن يحلق بالصحافي المصري وحده في رحلة تجريبية حول القاعدة لكي يطمئن، ثم قمنا بتلك الرحلة لمدة ساعة تقريباً، بعدما أعيى السؤال زميلنا في “آخر ساعة” عن البدائل. وقال له آمر القاعدة إن البديل الوحيد هو رحلة جبلية وعرة على البغال تستغرق أكثر من 48 ساعة، وهي فوق ذلك غير آمنة!
أقول ذلك، على سبيل التأكيد بأن حادث الطائرة الذي أودى بحياة عدنان خير الله، من المستبعد أن يكون حادثاً عادياً أو عرضياً.
أما خير الله طلفاح فقد خسر حياة ابنه، وخسر ثقة صهره الرئيس، ولم يحقق عراقه السعودي!
(“.الحلقة الرابعة يوم الأربعاء المقبل بعنوان “المُربِّي)
العراقي الغامض
قراءة متأخرة في عقل صدام حسين
(2)
!خُرافات مدرسة طلفاح
22 / 5 / 2024
سليمان الفرزلي*
أدركهُ اليُتمُ باكراً، مات أبوه عنه، وما برح صدام حسين طفلاً، تزوجت أمه الأرملة مرة ثانية، فكفله واحتضنه خاله خير الله طلفاح، فتربى الصبي في بيته مع أولاده.
وخير الله طلفاح، لمن لا يعرف، كانت له هيبة وسطوة في عشيرته. زيَّنَ له اعتداده المفرط والمُغالي بنفسه، أنه مفكرٌ حصيفٌ، وصاحبُ رأيٍ سديد، ونظرٍ بعيد، وحكمٍ صائب، وسياسيٌّ يُتَحامى دهاؤه، عرَّافاً بطبائع الناس وغرائزهم.
وفي الحقيقة، كان خير الله طلفاح طوى دماغه على العصبية العشائرية، وعلى فهم بدائي للدين وفقهه. وظنَّ أنَّهُ فُتِحَ له في اللغة العربية ما لم يُفتح لسواه، فراح يُصدر الكتب، الواحد بعد الآخر، ويفرضها خوَّةً على العراقيين… وقد أهداني منها أربعة، لما قابلته، وهي: “كنتم خير أمة أخرجت للناس: عباقرة من العرب “؛ “الملحدون في القرآن”؛ “كيف السبيل الى الله”؛ وأكثر كتبه غرابةً كتابٌ يدخل في باب الخيال الخُرافي: “ثلاثة ما كان يجب أن يخلقها الله: الذباب والإيرانيون واليهود
لم يتلقَّ صدام حسين في بداية تفتحه دراسة منتظمة. إنما معارف جاءت من بيئة خاله، التي تشكلت في جانبها الثقافي من خليط غير متوازٍ من النزعة القومية العفوية، مطعَّمة بنوع من العصبية الإسلامية، والطموح السلطوي، وبشيء من الخيال الخُرافي، على نهج تفكير “الخال العلاَّمة”.
تلك، كانت مدرسة صدام حسين الأولى التي بدأت تكوِّن شخصيته، قبل دخوله في الأجواء الثقافية، والفكرية، والسياسية لحزب” البعث العربي الاشتراكي”، وهي مدرسةٌ غيرُ متوازيةٍ مع النزعة العشائرية، السلطوية، وعصبياَّتها، وسطحيتها الثقافية الوحيدة الجانب.
لهذا يمكن القول بأن صدام حسين لم يتكوَّن كشخصية واحدة، بل كخليط من الشخصيات، حاول بعضها أن يزيح بعضها الآخر في خلال مسيرتها المعقَّدة. ومن ذلك طرده لبيئة خاله وشخصه من حياته تالياً.
فاجأني، عبد الجليل حمود، وكان صديقاً صفيَّاً، بأن دعاني لمرافقته لزيارة خير الله طلفاح، وأصرَّ أن يقدمني الى الرجل.
كان عبد الجليل حمود، أحد قادة عشائر طي في مدينة الرقة السورية على نهر الفرات، (“أبو فرات” لقبه المحبب، نسبة الى ابنته البكر فرات، وتعلقه ببلاده جعله يطلق على بناته الثلاث أسماء أنهار بيئته العشائرية، “فرات”، و”دجلة “، و”ديالى”)، وفي هاتيك الأيام، كان لاجئاً في بغداد.
في الموعد المضروب بيننا، (أوائل نيسان /ابريل سنة 1981)، صحبته الى منزل خير الله طلفاح، وبعد السلام تعارف، ومجاملات، جلسنا الى الكلام تحت أعمدة ملحق بالبيت لم يكتمل بناؤه، أي أنه كان “ما زال على العظم” حسب التعبير اللبناني.
افتتح خير الله طلفاح الحديث بموضوع ديني، تناول فيه اليهود، وما جاء عنهم في القرآن، لم أستطع أن أتبين أسبابه ومراميه، ثم راح يستزيد في الكلام عن النظام العراقي، يصمت برهات كأنه يخلط الكلام في ذهنه، ويعود الى تناول مواضيع أخرى مشتَّتة…
كنت طوال الوقت مستمعاً، ومتأملاً، وجانبت الدخول معه في أي نقاش، أو حتى بأي سؤال… (ذكرت هذه المقابلة الغريبة في “علامات الدرب”، سيرتي الذاتية)
ما لفتني، خلال تلك الجلسة، غرابة حديثه السياسي المتعارض مع نظام صدام حسين، ابن شقيقته وصهره زوج ابنته ساجدة، وأنه لم يوفر رأس النظام بنقده. فأدركت عدم وعيه الزمن بكل لحظاته، وعدم قدرته على استيعاب الأمور بكل دقائقها، إذ قال:
“الشباب في هذه الأيام لا يسمعون مني ولا يردُّون عليَّ. في السابق كان الرئيس أحمد حسن البكر يسمع ما أقول على الأقل”!
قصد بمن سمَّاهم “الشباب”، صهره الرئيس صدام حسين، وابنه عدنان خير الله، وزير الدفاع وقتذاك.
قبل أن يسترسل في الحديث عن الموضوع، نهض من كرسيه وتوجه الى داخل المنزل وأحضر أربعة كتب من تأليفه وقدمها هديَّة لي، ثم أكمل حديثه من حيث توقف فقال:
“كم لفتتُ نظر صدام الى أنَّ غانم عبد الجليل يتآمر عليه، وهو يقول لي إنه لو كان عندي عشرة من أمثاله لنمتُ قرير العين، حتى تبين له بالدليل الملموس أنه كان في طليعة المتآمرين”.
لا أدري لماذا سمَّى غانم عبد الجليل من دون سائر القياديين الحزبيين الذين وقع عليهم حكم الإعدام في “قاعة الخلد” من غير أي محاكمة؟!
المعروف أنَّ الاجتماع الذي دعا اليه صدام حسين القيادات البعثية العراقية في “قاعة الخلد”، (يوم 22 تموز/يوليو 1979، بعد أقل من أسبوع على تسلُّمه مقاليد رئاسة الجمهورية وقيادة “حزب البعث” العراقي من الرئيس البكر)، جرى تصويره بالفيديو ولقي انتشاراً واسعاً، حيث ألزم الرئيس العراقي حزبيين موالين له بقتل رفاقهم المغضوب عليهم، بما يُشبه “ليلة السكاكين الطويلة” في ألمانيا الهتلرية، أو تصفية سيرغي كيروف وجماعته في الاتحاد السوفياتي على يد ستالين في منتصف ثلاثينات القرن العشرين.
لزمتُ الصمتَ ولم أشأ أن أدخل في الموضوع، مع أنه كانت لدي قراءة لتلك الواقعة، ليس لها علاقة بما شاع في حينه بأنها “مؤامرة”. فضَّلت أن يأخذ خير الله طلفاح مداه في ذلك الاتجاه، لأنني كنت أعرف غانم عبد الجليل منذ عام 1969، فقد عرفني عليه طارق عزيز، يوم كان رئيساً لتحرير جريد “الثورة”، على عشاء في حديقة “نادي الصيد” في بغداد. كان غانم عبد الجليل، وقتذاك لما يزل موظفاً عادياً في “البنك المركزي العراقي”، قبل أن اختاره صدام لإدارة مكتبه، ليتسلم بعدها مناصب حكومية رفيعة.
في السنة التالية، أي في عام 1970، أُسند اليه مركز محافظ كركوك في شمال العراق، وقد زرته في مكتبه هناك في طريقي لمقابلة الزعيم الكردي الملا مصطفى البارزاني على أثر توقيع اتفاقية الحكم الذاتي للأكراد مع الحكومة العراقية، (تناولت بالتفصيل تلك الرحلة في “علامات الدرب”، الفصل الخامس من القسم الثالث، الصفحات 311 – 334، بعنوان “في عرين كاكا مصطفى”). ثم شاءت المصادفات عام 1975 أن التقيته في الطائرة من بيروت الى بغداد، وكان وقتئذٍ يُشغل منصب وزير التعليم العالي.
أما قراءتي الخاصة لمجزرة “قاعة الخلد” الحزبية، فإنني سوف أعود اليها في سياق آخر تالياً. لكن هنا أسرد ما قاله خير الله طلفاح حانقاً على “الشباب” ليس فقط لأنهم تجاهلوه، ولم تعد كلمته مسموعة لديهم، بل لأن له تصوراً للنظام العراقي بعيداً كلَّ البعد عن النظام الجمهوري، وعن التركيب الحزبي، الحقيقي منه والشكلي. فقد أعلن خير الله طلفاح أمامي، وأمام الصديق الراحل عبد الجليل حمود، أنه يريد للعراق نظاماً كالنظام السعودي يقوم على ملكٍ، وأمراء، وحواشي، ورعايا… تسمع وتطيع!
عندما سمعت هذا الكلام في حينه، اعتبرته من قبيل “الهراء”، أو “الهذيان”، أو بداية “خرف”. لم آخذه على محمل الجد. بل قلت في نفسي: “حسناً فعل صدام بأن خرج من مدرسة خاله خير الله طلفاح، قبل أن يتخرَّج منها”!
لكن الأمور في مقبل السنين تفتَّقت عن حوادث خطيرة، هبَّت على النظام العراقي في أوج احتدام الحرب العراقية – الإيرانية (1980 – 1988)، حيث بدأت المناخات الدولية تتغير مؤثرة على مسار تلك الحرب، كان من أبرز مظاهرها الاتصالات السرية الأميركية مع إيران، في ما عُرف حينذاك بقضية “إيران – كونترا”، وخلاصتها موافقة واشنطن على بيع سلاح أميركي من إسرائيل الى إيران لتمويل عمليات عسكرية ضد حركة “ساندينيستا” الشيوعية في نيكاراغوا التي أطاحت، في مطلع ثمانينات القرن العشرين، نظام أناستاسيو سوموزا اليميني الموالي للولايات المتحدة.
ويبدو أنه مع تغيُّر اتجاه الرياح الدولية، دار همس في الكواليس حول البحث عن بديل لصدام حسين في العراق، مما ألهب صراعات صامتة داخل الدائرة الضيًّقة في عائلة الرئيس العراقي، سرعان ما بدأت ملامحها تظهر الى العلن على نحو مفجع.
كلمة واحدة قالها ضابط كبير من تلك الدائرة الضيَّقة في مجلس عشائري، مفادها:
!”فليذهب واحدٌ منَّا ولا نذهب جميعنا”
كانت هذه الكلمة كافية ليقوم صدام حسين بتصفية العشرات من أقاربه الأقربين، وبينهم أنسباء له من عائلة خير الله طلفاح، الساعي الى “عرش سعودي” للعراق.
لم تكن عنده “ذقنٌ ممشَّطة” حيث يتعلق الأمر بالاقتراب من السلطة!
. (الحلقة الثالثة يوم الأربعاء المقبل: “الأصل)
العراقي الغامض
قراءةٌ مُتَأخِّرة في عَقلِ صدّام حُسَين
(1)
!تعدَّدت الكتابات والمطلوبُ واحدٌ
15 / 5 / 2024
*سليمان الفزلي
يَشاءُ تاريخُ العراق، أنْ يُدَوَّنَ فيه اسمُ رجلٍ ماتَ كما عاش، يلفُّهُ الغموضُ من كلِّ جانبٍ.
ففي ضُحى يوم 30 من كانون الأول (ديسمبر) سنة 2006 أطبقت راحةُ القَبرِ على صدام حسين، ذلك المجهول، الذي سالَ حبرٌ كثيرٌ، على فهمه، في حياته وبعد مماته.
لا يكادُ واحدٌ، ممن أمسكوا القلم وكتبوا عنه، وهم كثرٌ، أن يغوصَ في عُمقِ شخصيّةِ الرئيس العراقي الراحل، فيكشُف عن ملمحٍ من ملامح شخصيته، حتى تَغْمُضَ أمامه ملامحُ أخرى، فلا تكتملُ الصورةُ التي حاول رسمها للرجل.
يكمنُ السببُ في عَدمِ فَهمِ صدّام حُسَين، أنه لم يتمتَّع بمُرتَكزاتِ ثقافةٍ مُتَعَمِّقة، تمنحُه القدرة َعلى التعبيرِ الفكري عن مُعتقداته، وسياساته، فيستسهلُ الكلامَ، والكشفَ، والتوضيح.
والأغلبُ على الظَّنِ، أنه كان يتقصًّدُ الغموض، ويتعمَّده، بسبب هذا الضعف البَيِّنِ الذي كان يُظهره وكأنه فعلٌ سياسيٌّ مقصود، فيحتار معه الحلفاءُ قبل الخصوم والأعداء.
وليسَ أدلَّ على ذلك، من أنه استدرجَ من أهلِ الصفوة، كتَّابًا وصحافيين، عربًا وأجانب، لوضع كُتُبٍ عنه، من خلالِ مقابلاتٍ طويلة، الأمرُ الذي زادهُ غموضًا على سكَّة التوضيح.
لقد أدَّى هَوَسُ صدّام حُسَين بالكُتُب، إلى شقِّ قلمه في كتابة الروايات، وكان قد شارف على الستين من سنيّهِ، على اعتقادٍ راسخٍ في ذهنه، أنَّ “الكتابَ هو مفتاحُ بابِ الخلود”، كما قال لي في إحدى المقابلات. وعلى الرُغمِ من ذلك، لم يَجرُؤ أن يضعَ اسمه على الروايتَين المنسوبتين إليه: “زبيبة والملك “، و”رجال ومدينة”، وفضَّل أن يوضع على غلافهما: “روايةٌ لكاتبها”.
إنَّ معظمَ القادة السياسيين في العالم، نُشرت لهم، وعنهم، كتبٌ، إما بمساعدةٍ من كتَّابٍ مرموقين، أو لقاء مبالغ مالية. وحتى مُنتَصفِ خمسينيات القرن الماضي، كان هذا التقليد نادرًا ومحدودًا في العالم العربي، وما زال إلى اليوم، باستثناءِ حالتَين فريدتَين ومتميِّزتَين، هما: جمال عبد الناصر وصدّام حُسَين.
لم يستدرج جمال عبد الناصر أحدًا ليكتب عنه كتابًا، فالكُتُبُ التي نُشِرَت عنه، خصوصًا في الغرب، كانت قليلة، وربّما مُغرِضة. فالرئيس المصري، فضَّل الإعلام ووسائله وأدواته، واكتشفَ أهمّيته في العمل السياسي، وفي نشرِ أفكاره، ومُنطلقاته السياسية والاقتصادية، وتوسعة آفاق زعامته.
فقد كانَ مخلوقًا إعلاميًّا من الطراز الأول، ولذلك استهوته الصحافة اللبنانية على اختلافِ مشاربها، فواظَبَ على قراءتها كل يوم، يَرصُدُ من خلالها ما كانَ يُكتَبُ عنه من قليلٍ وكثير، وما كان يُحاكُ ضدَّه، كما أكد وزير إعلامه محمد فايق في “مسيرة تحرُّر”، وهو كتاب مذكراته.
إلّا أنَّ الإذاعة كانت الوسيلة الأحب لديه، فمن وراء المذياع بنى عبد الناصر زعامته، جاذبًا شعوب العالم العربي على جنبات الشرق، يطربون لسماعه، وينتشي هو من هتافاتهم. وكان بعض الحكام العرب، يسمعون نقده وتعرَّضه القاسي لهم، الذي كانَ يدخلُ أحيانًا في بابِ “الردح”، يتوجَّسون كلّما وقفَ وراء المذياع، ووجَّهَ كلامه إلى شعوبهم من فوق رؤوسهم. فبخطابٍ واحدٍ في دمشق أسقط حكومة عبد الوهاب مرجان في بغداد، وفي خطابٍ آخر أودى بحياة نوري السعيد وأطاح النظام الملكي في العراق. وعلى الجملة، كان عبد الناصر يتَّكئ على الإعلام الأفقي الواسع الانتشار.
صدَّام حُسَين، كان حالةً مختلفةً، فهو لم يتوسَّل الإعلام التقليدي سبيلًا إلى بلوغِ مآرب سياسية، إنما استخدمه أداةً استخباراتية، أو كوسيلةٍ تبريرية لمواقف مُلتَبسة. لكن مأثرته التي ما زالت فصولها تتوالى، فتتمثل بما سمّاه “الوسيلة الإعلامية الخالدة”، القابعة على رفوف المكتبات الى الأبد.
إنَّ شخصيةَ صدّام حسين، فرضت عليه اختيار الإعلام العمودي، يبثُّ من خلاله أفكاره وطموحاته البعيدة المدى أيضًا. فهو كان يعرف “محدودية الكاريزما” عنده، بمعنى أنه لم يكن يملك المواجهة الجماهيرية، والقدرة الخطابية، أو التنويع الفكاهي الظريف، كما حال جمال عبد الناصر، مما يستهوي الجماهير إلى درجةِ الإدمان على انتظارِ خطابه التالي.
إنَّ الكُتُبَ التي تصدُرُ عن صدّام حُسَين، خصوصًا في الغرب، عن دُورٍ لها ما لها في عالم النشر، تتعاقبُ بمعدّلات لا تُدانيها تلك التي وُضِعَت عن أشهر زعماء العالم، الأقدمين والمعاصرين، بمن فيهم يوليوس قيصر، ونابوليون بونابرت، وأدولف هتلر، وجوزف ستالين، وماو تسي تونغ…
عشرات الكتب تناولت صدّام حسين بمختلف لغات العالم، ولن يتوقّفَ، في المدى المنظور، إصدارُ الكتب والدراسات حول ذلك العراقي الغامض.
مع كلِّ كتابٍ يصدرُ يشعرُ القارئُ بأنَّ الموضوعَ ما زال بحاجةٍ إلى كتابٍ آخر… وكلُّ كاتبٍ وَضَعَ كتابًا عنه يشعُرُ بأنه مُقَصِّرٌ كلما اطَّلع على ما كتبه كاتبٌ آخر بعده عن الرئيس العراقي الراحل.
في تقديري، أنَّ سيلَ الكُتُبِ عن صدّام حسين سوف يطفحُ في المُقبلات من الأيام، لأنَّ الأميركيين بعد احتلالهم العراق، نقلوا كامل أرشيف الدولة العراقية الرسمية إلى واشنطن، وهو يتضمّنُ توجيهات صدّام حسين في اجتماعاتِ مجلس قيادة الثورة، ومجلس الوزراء، والقيادات الحزبية، وعلى محاضر رسمية لمحادثات الرئيس العراقي الراحل مع رؤساء الدول، الذين زاروه أثناء فترة رئاسته، بل قبلها، مذ كان نائبًا للرئيس أحمد حسن البكر.
كانت الأجهزة المُختَصّة في الإدارة الأميركية، بدأت في تصنيف تلك المضبوطات وأرشفتها، وراحت، في الفترة الأخيرة، تضعها تدريجًا في التداول، فتسنّى للباحثين الاطلاع عليها والغَرف منها، إلّاَ أنَّ بعضَ الباحثين تقدَّمَ بدعاوى قضائية ضدّ الإدارة الأميركية وأجهزتها المُختَصّة القابضة على مفاتيح خزانة المحفوظات، للحصول على معلوماتٍ لم يُفرَج عنها بعد، ولم توضَع في التداول.
ومن الطبيعي أن يبدأ الإفراج من الجديد الى القديم، أي من محاضر استجواب صدّام حسين وأعوانه بعد أسرهم، وهي تتضمّنُ آلاف الصفحات عن مختلف القضايا. فالكُتُبُ الصادرة أخيرًا، وتلك التي ستصدُرُ لاحقًا، مُستَمَدَّة في معظمها من مضمون محاضر تلك الاستجوابات. لكنَّ القسمَ من الوثائق المُتعلّقة بصدّام حسين خلال فترة رئاسته، ما زال قيد الحفظ، ويُقدَّر له أن يجتذبَ عددًا أكبر من الكتَّاب متى وُضع في متناول الجميع. ومن المرجح أن يبقى بعضه قيد الكتمان، لكونه يتعلق بالسياسات السرّية للإدارة الأميركية في العراق خلال حُكم الرئيس العراقي الراحل.
أمّا الكتَّاب العرب الذين وضعوا كتبًا مهمة باللغة الإنكليزية، فإنَّ الأسلوب النقدي الذي صيغت به، لا يخفى على العارفين بهم، وبالرئيس صدام حسين، أنه يُكنُّ غَرضيَّة مرضيَّة في بعض الأحيان. فأشهر هؤلاء اثنان: الصحافي الفلسطيني الراحل سعيد أبو الريش في كتابه “صدام حسين: سياسة الانتقام”، والعراقي المعارض كنعان مكية، (باسمٍ مستعار هو “سمير الخليل”)، بعنوان: “جمهورية الخوف”.
يبقى كتاب “فخ أخيل”: صدام حسين ووكالة الاستخبارات المركزية، جذور الغزو الأميركي”، للكاتب ستيف كول، الذي صدر في مطالع 2024، وقد اتكأَ فيه على الوثائق والمضبوطات العراقية، فجاءَ أوسعَ أفقًا وأعمق محتوى من معظم الكتب الصادرة عن صدّام في حياته.
ومع أنَّ كتابَ ستيف كول مُتميِّزٌ بسعة مراجعه، ودقّة بحوثه، لا سيما أنه حائزٌ على “جائزة بولتزر” عن كتابه “حروب الأشباح”، فإنه هو الآخر لا يُغني عن كتابٍ أو كُتُبٍ أُخرى حول مسيرة صدّام حسين، وحقيقة أفكاره، أو تصوُّره لدور العراق ليس فقط في العالم العربي، بل في العالم الأوسع، وحول قصوره الشخصي عن تجسيد مشروعه، من حيث أسباب انعدام التطابق بين أفكاره وبين أفعاله.
من زاوية القصور في الرؤية سوف تنطلق هذه الجولة المُتأخّرة في عقل صدّام حُسَين.
(الحلقة الثانية يوم الأربعاء المقبل: خُرافات مدرسة طلفاح).
جذريَّة العلاقة الجزائرية المشرقيَّة
،أنشر في زاويتي هذه، مقالة للكاتبة الجزائرية علجيَّة عيش حول جذريَّة العلاقة الجزائرية المشرقية
،ومحورها بحث لي حول الموضوع، ومنه كتابات لكارل ماركس أثناء إقامته في الجزائر خلال حكم الاستعمار الفرنسي
،وهذه مقالة قديمة لكنني عثرت عليها في الآونة الأخيرة، ورأيت أنها جديرة بإعادة النشر، لكنني مع الأسف لم أعرف في أي وسيلة إعلامية نُشرت
(الأمير عبد القادر كان همزة وصل بين الجزائر والمشرق العربي)
( كارل ماركس شوّه الكثير من الحقائق التاريخية أثناء إقامته في الجزائر)
في شهادته يقول الإعلامي اللبناني سليمان الفرزلي أن الجزائريين ما كانوا في يوم من الأيام، قبل الإستعمار وبعده، بحاجة إلى هوية أو البحث عن هوية مفقودة، ومن يعتقد ذلك فهو يحمل في طياته انحرافا تاريخيا، لأنه يسعى إلى تشويه حقيقة الثورة الجزائرية. الملاحظ في ورقة هذا الإعلامي أنه ربط صورة المشارقة للثورة الجزائرية بنظرة الفيلسوف كارل ماركس لها . .بحيث تحفظ عن ذكر بعض الحقائق، ولم يذكر الرسائل التي كان يرسلها كارل ماركس من الجزائر، وموقفه السلبي من معاملة الإستعمار الفرنسي للجزائريين وإدانته الشيخ بوعمامة
معرفة المشارقة بالجزائر وبآفاق دورها التاريخي سابقة كثيرا لبقية العرب الذين تعرفوا عليها من خلال ثورة الخمسينات من القرن الماضي، فقد عرفها المشارقة وبخاصة سوريا ولبنان من خلال الأمير عبد القادر الجزائري الذي أقام في دمشق منفيا وكان له دور فعال في إطفاء الصراعات الدينية (الإسلام والمسيحية) والطائفية (السُّنَّة والشّيعة) والحرب الأهلية اللبنانية في منتصف القرن19، وهاهو صَوْتٌ مشرقي أبى إلا أن يؤرخ لهوية الجزائر وعروبتها ويقول أن عروبة الجزائر كانت سابقة للتعريب بأجيال، فقد سالت الكثير من الأقلام العربية المشرقية بالخصوص في الكتابة عن ثورة الجزائر بمنطلقاتها الأصلية، فكانت موقعاًحصيناً مانعاً لوأد العروبة ووضعها في الإطار التاريخي الثقافي الصحيح، هذا الصوت القادم من بيروت كان له صدى واسع على مستوى الإعلام العربي وهو يؤرخ لأحداث الجزائر منذ الإحتلال الفرنسي لها إلى غاية الإستقلال وما حظيت به من دعم مادي ومعنوي، بلغ حد التقديس، في ورقة له تحت عنوان: ” جذرية العلاقة الجزائرية المشرقية” ليس من داخل مصر فقط كما روجت له بعض الأقلام، بل من داخل دول عربية أخرى، فعلى غرار العديد من الأصوات العربية، كان الكاتب والمحلل اللبناني “سليمان الفرزلي” واحدا من هذه الأقلام التي قدمت رؤية تحليلية للإشكالات الإستقرائية في الحالة الجزائرية، ما يميزه عن الآخرين هو أنه كان صوتا عربيا لكن بخصوصية افريقية، خاصة وأنه الساحة السياسية اتسمت الخصوصية الجزائرية بالهيمنة الاستعمارية التي خضعت لها الجزائر طيلة 130 سنة، وجعلت منها حالة خاصة في المغرب العربي والمشرق العربي.
وبناءً على هذه المفارقات جاءت قراءة الكاتب والمحلل اللبناني سليمان الفرزلي كرد على بعض المثقفين السودانيين وقولهم أن الإستعمار أقام في البلاد منشآت وبنى تحتية (سكة حديدية) ومؤسسات التعليم والصحة وما إلى ذلك، واستمر وجوده في الجزائر، أي أن الجزائر تحررت عسكريا فقط، في حين ظلت مخلفات الإستعمار في شتى المجالات، عاشت فيه الجزائر مرحلة جد قاسية ما بعد الإستعمار وهي التي دفعت إلى ظهور العنف في بداية التسعينيات، شهدت توجهات عنيفة للحركات الإسلامية كمطابقة قسرية بين العنف والفكرة الجهادية، من أجل نصرة قضايا الأمة لاسيما ما تعلق بقضية التعريب ووضع حد للصراع بين الفرانكفونية والعروبة، الملاحظ أنه من أبرز ما تميزت به الثورة الجزائرية هو أنها تزامنت مع المدّ القومي العربي الناصري، ما جعلها تنتقل من إطار تاريخي إلى إطار تاريخي آخر مختلفا عن الأول، كما تزامنت مع ظهور الحركات الإشتراكية العربية التي ساهمت بشكل كبير في إبراز الواقع الجزائري، واعتبار أن الثورة الجزائرية في جوهرها هي مناهضة وجودية لفرنسا وللثقافة الفرنسية أكثر مما هي مناهضة للفكر الإستعماري، هكذا يقول الفرزلي وهي حقيقة غير قابلة للنقاش.
فقضية التعريب في الجزائر كما يراها الإعلامي سليمان الفرزلي من أهم وأبقى إنجازات الثورة الجزائرية كعنوان ثابت للهوية الثقافية والوطنية تعرض هو الآخر لمطابقات قسرية، بحيث جعلته الحركات الإسلامية هوية عقائدية لغايات سياسية من خلال مصادرته تحت عنوان آخر، فرغم الدور الذي لعبته مصر الناصرية في دعم الثورة الجزائرية، إلا أن المعرفة المصرية بالجزائر ظلت أدنى بكثير من معرفة اللبنانيين والسوريين بها في منتصف القرن الـ: 19، حتى أن المفكر والفيلسوف ” كارل ماركس” الذي كان مقيما في الجزائر في ستينيات القرن التاسع عشر (19) كان يتابع عبر الصحيفة الأمريكية “نيويورك تريبيون” أحوال بلاد الشام والصراعات الأهلية فيها من الأخبار التي كانت تنتقل إلى الجزائر عن طريق الأمير عبد القادر. أمضى كارل ماركس أزيد من شهرين في مدينة الجزائر، واطلع على أوضاع سكانها، كان كارل ماركس يراسل صديقه فرمييه من الجزائر ويزوده بكل الأخبار، ويصف له بشاعة الإستعمار الفرنسي ومعاملته للجزائريين، كما كان كارل ماركس يراسل ابنته لاورا من الجزائر، وكانت رسالة مطولة كتبها بتاريخ 13 أفريل 1882 دون فيها معلومات خاطئة عن إعدام الشيخ بوعمامة . واصفا لها تلك الواقعة بشكل غير مباشر، رغم أنه يدرك أن الشيخ بوعمامة لم يعدم ، وأن السلطات الاستعمارية منحته الآمان، بعد مفاوضات، لينتقل بعدها إلى المغرب، وظل فيه إلى أن وافته المنية في 1908، وهذا موقف سلبي منه كونه اقتصر في معاتبة الفرنسيين دون أن يدين جرائمهم.
:لبنان… والحرب الأهلية المستدامة (50 – الأخيرة)
مدرسةُ المواطنة” للحاكم والمحكوم“
مئة سنة على “لبنان الكبير”، ولم يصبح وطناً ودولة.
.إحدى وثمانون سنة، من عمر الزمن، على الاستقلال، والبلد لم يستقل، تابعٌ من يومه لم يعرف معنى السيادة، وحريته منتكسة، مغموط الحق من كل جانب، لا يعيش الا بالوصاية الخارجية
.خمس وثلاثون سنة، على “اتفاق الطائف”، الذي وعد بالسلم الأهلي وبالدولة، فلا السلم استتب، ولا الدولة قامت، لأن “الطائف”، كان ميثاق طوائف، لم يقدم البديل الصالح، بل أحيى النظام الطوائفي، الذي أسقطته الحرب الأهلية.
.بلد بعض ناسه يوالونه، وبعضهم الآخر يعيشون فيه ويوالون غيره. ديموقراطيته نفاق، وبرلمانه ليس مصدر السلطات وصاحب السيادة، فنبتت على حوافه دويلات، وتشكلت مافيات، سرقته وسرقت ناسه
:وقفة وأسئلة
متى الخروج من دوامة الحرب الأهلية المستدامة، وما نتج عنها من تفكك، وانحلال، وضياع، وانهيار للدولة، وتيه في المجتمع المشلَّع، الذي تتناهشه المليشيات، وما عاد ناسه يتشابهون في أسلوب حياتهم، وثقافتهم؟
كيف التخلص من الأنماط المتنازعة، المزعزعة للاستقرار، منذ صيغة القائمقاميتين في القرن التاسع عشر، إلى التوليفة الطائفية في الطائف في القرن العشرين؟
متى، وكيف، يصبح لبنان وطناً ودولة مثل أوطان ودول الناس الآخرين؟
!”الفدرالية”
.كفى لفظ الكلمة أمام أي سياسي لبناني حتى تصبح من الآثمين، وتثور في مخيلته أشباح “التقسيم”، وتصبح الكلمة من المنكرات، والتلاعبات السياسية الخرقاء
في هذا يتساوى السياسيون اللبنانيون مع السياسيين الإسبان، الذين رفضوا “الفدرالية” أو “الاتحاد الفدرالي” بعد الحرب الأهلية، وقيام حكم ديكتاتوري فاشي قاسٍ بقيادة الجنرال فرانشيسكو فرانكو. وبعد تسعة عقود من الرفض والتحفظ عادوا يتلمسون خطاهم نحوها كمخرج حضاري نهائي، من غير أن يسمُّوها باسمها. فالشيء الأهم هو الفعل وليس الاسم
لم يلغِ بعض اللبنانيين من أذهانهم أن “الفدرالية” تعني التقسيم، الذي يباعد بينهم ويقيم الأسوار العالية، ويتعامون عن حقيقة أن التقسيم الفعلي أصبح واقعاً لا يمكن إنكاره، على أعلى درجات السلبية والتنافر.
لا أحد من السياسيين يريد أن يعطي مسألة “الفدرالية” أي فرصة لمناقشتها، أو حتى ذكرها. وأقصى ما يذهب اليه بعضهم في المواربة، هو طرح أسماء بديلة مثل “اللامركزية”، أو “اللامركزية الموسعة”، كما جرى التداول في الطائف، وهي مسميات تلفيقية مثل “التوافقية”، و”الميثاقية”، و “الوحدة الوطنية”، و”التشاور”، و”طاولة الحوار”، وما الى ذلك من وسائل للانعطاف عن الحل الذي يؤمِّن الوحدة الحقيقية في الوطن.
حدث في مطلع ستينات القرن التاسع عشر، أن تزامنت الحرب الأهلية الاولى في جبل لبنان (1860 – 1864)، مع الحرب الأهلية الكبرى في الولايات المتحدة الأميركية (1861 – 1865)، لأن الولايات الجنوبية أرادت الانفصال عن الاتحاد تحت شعار “الكونفدرالية”. لكن النصر في تلك الحرب المدمرة حالف الدولة الفدرالية، فبقيت الولايات المتحدة دولة اتحادية متماسكة ومتقدمة الى يومنا هذا، والأولى والأقوى في العالم.
أما الحرب الأهلية في جبل لبنان فانتهت الى تقسيم الجبل بعد تسوية برعاية دولية أطلقوا عليها اسم “القائمقاميتين”. أي أن لبنان الصغير، آنذاك، صار لبنانين أصغرين، وبقي منقسمًا على ذاته بعد تكبيره، بحيث أطلق الرئيس صائب سلام بعد “ثورة 1958” شعار “لبنان واحد لا لبنانان”، لشعوره بأن تلك “الثورة”، او الحرب الأهلية المصغَّرة، تحمل بذورًا تقسيمية كما قبل مئة سنة في لبنان الصغير.
لكن لبنان الواحد، حسب شعار صائب سلام، بقي لبنانين الى ان انفجر من جديد بعد سنوات في حرب أهلية مدمرة دامت خمسة عشر عامًا، وما زالت دائرة بطرق أخرى.
إن نظرة خاطفة الى الدول الفدرالية في العالم، تبيِّنُ ان النظام الفدرالي كان غلاَّباً، لأنه أكثر النظم اتحادية، وأكثرها قابلية للتقدم، خصوصًا في الدول التي شهدت حروبًا أهلية مدمرة بهدف التقسيم، أو عالمية ساعية الى الهيمنة، فكان التقسيم من نتائجها، كما في الحالة الألمانية بعد الحرب العالمية الثانية.
قد يكون البروفسور الأميركي مارتن دياموند (1919 – 1977)، من أشهر المفكرين الذين تناولوا الفدرالية بالبحث، وجمع محاضراته حولها تحت عنوان لخَّص ما رمى اليه: “الى أقصى ما تسمح به المبادئ الجمهورية”. ومن مآثره الدستورية أيضاً مطالعته أمام اللجنة القضائية الفرعية في مجلس الشيوخ الأميركي، يوم وفاته، ضد المطالبين بإلغاء “المجمع الانتخابي” الذي يقرر تثبيت أو رفض المرشح الفائز بانتخابات رئاسة البلاد.
وصف البروفسور دياموند “الفدرالية” بأنها “مدرسة في المواطنة للحكام والمحكومين”، وأنها حافظة للحريات، وآلية فعالة للاستجابة السريعة والمرنة لحل المشكلات. وهي نظام سياسي يسمح بقدر كبير من الحكم الذاتي للأقاليم، ويُشجِّعُ المنافسة بينها بما يُشيع مناخاً من الابتكار والإبداع، والتقدم، بحيث يُحدُّ من توسُّع الإدارة الحكومية المركزية، فتخفُّ النزاعات بين مكونات البلاد.
إن الأركان الأساسية للنظام ” الفدرالي”، تحقق الاستقرار، والاحترام المطلق لحكم القانون، ثم إنه لا علاقة له بكيفية تحديد الأقاليم المتحدة، فهذه يمكن أن تكون بأشكال وأنماط مختلفة. ففي الهند، على سبيل المثال، يُعطي النظام الاتحادي مقاطعات معينة، لها خصوصيات ثقافية أو عرقية، أو دينية، هامشاً أوسع من الحكم الذاتي، مما يسهل استيعابها وتعايشها في إطار الاتحاد مع الآخرين بسلام ووئام. وهذا ما حصل لمقاطعة “غووا” التي كانت تحت الحكم البرتغالي.
لا أحد يُنكر أن النظام الفدرالي في أحيان كثيرة يولِّد بعض الحساسيات المجتمعية الناشئة من التفاوت الاجتماعي والاقتصادي والمعرفي بين المكونات، وبين القوى السياسية المتصارعة على السلطة، لكن الحالة الاتحادية الجدية من شأنها أن تسرِّع في التقارب وتمنع التنافر. ففي الأصل، ما كانت هناك حاجة الى النظام الاتحادي لولا طبيعة الفروقات العرقية، والثقافية، والدينية، بين مختلف المكونات.
لقد أجمع الدارسون للأوضاع الفدرالية في العالم، على أن أصعب العقبات في وجه الخيار الفدرالي القرارات السياسية المتخذة سابقاً، والمزعزعة لاستقرار البلاد الى درجة استحالة تصحيحها بالأدوات والأفكار المسببة لعدم الاستقرار وصولاً الى الحرب الأهلية.
أما العداء اللبناني المتأصل للفكرة الفدرالية، فلا يعود الى خلل في تلك الفكرة الراقية والمجرَّبة، بل الى عطل في العقل الإقطاعي، الطائفي، الميليشياوي، المافيوي، المتحكم بالشعب اللبناني والممسك بخناقه، وهو عقلُ يتعيَّش ويرتزق تاريخياً، من توليد الأزمات واستدراج دول خارجية للتدخل فيها لمنافع ذاتية، لا علاقة لها بمصير الشعب، ولا تقيم له وزنًا، بل تستخدمه كمجرد وسيلة، أو كوقود في الحروب المتجددة، أو كبقرة حلوب تنهبُ جناه إذا جفت مصادر ارتزاقها الخارجية.
إن الأزمة الكبرى التي ضربت الشعب اللبناني في عمق وجوده ومصالحه ومستقبله، قد تكون فرصة لتغيير جذري في تركيبة النظام، والتخلص من الرواسب المقيتة التي جعلت القتلة، والنصابين، والمشعوذين، أوصياء عليه، ومستغلين له.
.فالشعب الذي لا يستطيع أن يحوِّل الأزمات الخانقة الى فرص منعشة، لن يكون له مستقبل إلاَّ في ماضيه.
لبنان… والحرب الأهلية المستدامة (49)
!القضاء الغافل
زمن الانتداب الفرنسي، (1920-1943)، كان القضاء في لبنان مختلطاً، حيث، تتمُّ المرافعات، وتُنطق الأحكامُ باللغتين العربية والفرنسية. وتوجَّب على المحامين أن يكونوا على دراية بالقوانين الجزائية والمدنية، الفرنسية واللبنانية، في آن معا.
زمنداك، كان القضاءُ، منيراً، ومستنيراً، يُشعٌّ عدالةً، وميزانه متساوي الكفتين.
في تلك المرحلة من الحياة القضائية، برز محامون، من الطبقات العلى، كان الناس يتهافتون إلى المحاكم العدلية، للاستمتاع بمطالعاتهم في فقه القانون، ولبلاغة مرافعاتهم في القضايا المدنية والجزائية، فهم فُتِحَ لهم في اللغتين العربية والفرنسية، وفي فن الخطابة، ما لم يُفتحْ لسواهم من أبناء الوطن. وتلك عادة، متجذرة في القدم، تعود إلى القرون الأولى قبل الميلاد، أيام الجمهورية الرومانية، وعلى تقاليدها أُنشأت مدرسة للحقوق في بيروت، فكانت منى، ومقصد طلاب القانون، في جميع أنحاء الإمبراطورية المترامية الأطراف، فاستحقت بيروت أن تكون “أم الشرائع”.
كشفت أعمال التنقيب عن الآثار في مدينة “بومبايي”، في الجنوب من إيطاليا، التي طمرتها حمم بركان “فيزوفيوس” عام 79 للميلاد، عن مجمع قضائي، يؤمُّه المحامون الجدد المغمورون، متبرعين بخدماتهم للمتقاضين مجاناً، كان يُطلق عليها “برو بونو” (ما زالت قائمة في الغرب)، وذلك استعراضاً لمهاراتهم في المرافعة لاستجذاب الموكلين في المستقبل.
عام 1960، قبل أن أنهيت دراستي الجامعية في جامعة بيروت الأميركية، حضرت محاكمة صديق لي كان يزاول التدريس في مدرسة ابتدائية بقريته، اتهم بناءً على إفادة كاذبة بجريمةِ قتلٍ لم يقترفها. من البداية، حكم عليه بالإعدام، وثُبت الحكم في الاستئناف، فانتقلت دعواه الى محكمة التمييز، كان الناظر فيها القاضي محمود البقاعي. أعطى الكلام لمحامي الدفاع الذي ألقى مطالعة لفتت انتباه رئيس المحكمة ببلاغتها، وحججها، فراح يخطُّ ملاحظات على دفترٍ أمامه. فقال له المحامي: “عندما أراك، يا سيدي، تسجل كلامي أفرح، لكنني أيضاً أرتعد”.
سررت كثيراً يومها لأن صاحبي خرج بريئاً، ولأنني ذُهلت بمستوى الحضور، من محامين وقضاة ومشاهدين.
هذه السمعة النقيَّة والعالية للقضاة والمحامين، فقدها لبنان بفعل الحرب الأهلية المستدامة، كما فقد أشياء كثيرة جميلة وراقية، فمن كان يُفكر، في أواسط تسعينات القرن الماضي، وقد استتب السلم الأهلي تحت الوصاية السورية بعد “الطائف”، أن يأتي اليوم الذي يتجرأ فيه مسلحون في مدينة صيدا على اقتحام قاعة للمحكمة فأردوا أربعة من القضاة قتلى وهم على قوس العدل.
بعد تلك الحادثة المروعة، دخل القضاءُ في لبنان في حالة من الانفصام القانوني، فأصبح غافلاً عن أداء دوره في إحقاق الحق، وانتصاب العدالة، ما يسمح بالقول إنها “حرب أهلية بين القضاة”، بلغت أشدها في مهزلة التحقيق العدلي بحادث تفجير مرفأ بيروت في الرابع من آب / أغسطس عام 2020.
مع أن هذه الحالة غريبة ومستهجنة، إلاَّ أنها عادية وطبيعية في دولة تعاني من الفشل، والشلل، والانحلال، في مؤسساتها، واقتصادها، وكيانها السياسي، والاجتماعي.
إن “الحرب الأهلية” القائمة بين القضاة في قصر العدل، بعد إضرابهم لأشهر طويلة، ما هي إلا انعكاسٌ للحرب الأهلية العسكرية، والسياسية، والاقتصادية.
فلو كان تحقيق العدالة هو التوجُّه الأساس للقضاة المتحاربين، لكان عليهم البتُّ في قضية انفجار المرفأ، وغيرها من القضايا النائمة في الأدراج منذ سنين عديدة، وخصوصاً البت في مصائر عشرات الموقوفين في السجون من غير أن ينظر في أمرهم أحد، خلال وقت معقول، وليس على أساس “الوقت المفتوح” الى حين وقوع كارثة ما، فالقضاءُ غافلٌ وما عاد العدل أساس الملك.
لكن ما يثير الدهشة والقلق لدى اللبنانيين عموماً، ظالمين ومظلومين، أنَّ العدل اللبناني بات انتقائيَّاً أو استنسابيَّاً، حسب مؤثرات من خارجه. وهو ما سمح لوزير الداخلية محمد فهمي في حكومة حسان دياب، بالقول في مقابلة تلفزيونية بُثَّت في 26 من تشرين الثاني / نوفمبر 2020، أنْ 95 بالمئة من القضاة فاسدون. وكانت لهذا التصريح ردود فعل من بعض القضاة سرعان ما خفَّت حدَّتها وانطفأت.
في القرن الخامس قبل الميلاد عالج المؤرخ والمفكر الإغريقي ثوكوديدس قضية العدالة والفساد، في كتابه القيم عن الحرب الأهلية بين أثينا واسبارطة (“حرب البيلوبونيز”)، فذكر في مقدمته إنه كتبه لجميع الأزمنة، بما فيه زماننا الحاضر بعد أكثر من ألفي سنة، وتحت عنوان “الطبيعة البشرية والسلطة والعدالة”، قال:
“إنَّ الطبيعة البشرية يمكن أن تنحدر الى الفوضى الشاملة، عندما تصاب المؤسَّساتُ العامَّةُ بالفشل، في حالة الحرب الأهلية وانتشار الأوبئة القاتلة للناس بصورة جماعية”.
فعندما تكون الدولة في أوج عظمتها، تُحقق الطبيعة البشرية، مع السلطة، وتحت ضوابط العدالة، إنجازات خارقة. لكن ذلك يمكن بين ليلة وضحاها أن ينقلب الى أفعال جرمية شنيعة عندما تتهاوى مقومات المجتمع وتنحدر الى الفوضى.
.“إن تفكك الدولة وانهيارها يؤديان الى انحلال أخلاقيات المجتمع، وانتفاء الفضائل، فتختفي القوانين والأنظمة وتتوارى العدالة، وتنحلُّ الديموقراطية، لتحل الفوضى ويسودُ حكمُ الرعاع
عندما تسودُ العقليَّةُ المافيوزية، تسقط الفضائل المكتسبة من حالات التميُّز والتألُّق السابقة، فكأنها لم تكن.
إن العدالة في لبنان باتت مهلهلة الى درجة تبدو معها أوضاعها أيام القاضي عدنان عضُّوم في مرحلة الوصاية السورية مشهداً لائقاً. ومن أوضح الأدلة على ذلك مسألة الموقوفين في سجن رومية لسنوات طويلة من غير محاكمة. وبعد أخذ ورد، ومداولات عقيمة، قرَّر القائمون على العدلية بناء قاعة للمحكمة داخل أسوار السجن (لئلا يهرب السجناء عند نقلهم الى محاكم خارجه)، كلَّفت خزينة الدولة عدَّة ملايين من الدولارات، والى اليوم بعد أكثر من عشر سنوات لم تُدشَّنْ تلك القاعة بأي محاكمة علنية.
ولذلك، يمكن الجزم، بدرجة عالية من اليقين، بأن العدالة الانتقائية أو الاستنسابية لا تنطبق عليها مواصفات العدالة لبلد يزعم أنه تحت نظام ديموقراطي برلماني، حيث مفتاح البرلمان في جيب رئيسه المزمن يفتحه متى شاء ويغلقه متى شاء. فلا عجب، والحالة هذه، أن يطوي المحقق العدلي في قضية انفجار مرفأ بيروت ملف تحقيقاته لسنوات، ليعود وينفض عنه الغبار ويفتحه، بما يُشبه العاصفة الهوجاء، ثم يُطوى من جديد لينام في أدراج النسيان، فسقطت هيبة القضاء، ومعها مستقبل العدالة في لبنان، فلم يعد بإمكان أي مواطن أن يحصل على حقه الطبيعي أمام المحاكم.
إن مبدأ فصل السلطات في لبنان هو كلام وهمي، وسيظل كذلك، طالما أن الأقوياء من السياسيين (أي الذين يستندون الى ميلشيات أو قوى مسلَّحة خارج إطار القوى الأمنية النظامية)، يستطيعون أن يتحكموا بملفات القضاء، كما يتحكمون بملفات التشريع في البرلمان، والاستحقاقات الدستورية، وعمل الإدارات العامة، كل هذا إضافة الى مختلف أنواع التزوير والتبرير المخالف أخلاقياً للانتظام العام.
طبعاً، لا يمكن للبنانيين أن يجنوا من الشوك عنباً، فالسلطة الميليشياوية المافيوزية، الحاكمة والمتحكمة، لا ترغب في إقامة قضاءٍ مستقلٍّ وعادل، لأَنَّ ذلك يعطِّل مصالحها غير المشروعة. فالنظام الفاسد، بطبيعته، منافٍ لمبدأ القضاء النزيه، أو الإدارة النظيفة.
إن القضاء اللبناني معطَّل عن العمل، خارج إطار العدالة، ولذلك يبدو ظالماً في وجه من أوجهه، كما حدث بالنسبة الى الموقوفين تعسُّفاً في قضايا عديدة مزمنة. ومن هذه الناحية فهو قضاءٌ غيرُ سوي، ولو أنه ما زال في عداده قضاةٌ فوق الشبهات.
لذلك، فإن القضاء في “لبنان الميليشياوي” هو مفهوم افتراضي، طالما أنه عاجز عن تحقيق العدالة للمواطنين كأفراد، وللجميع كمجتمع. فهو يحمي مصالح حقيقية غير شرعية للمتنفذين، لأنه عاجز عن الوقوف في وجههم.
إنَّ الاستقواء على الضعفاء ليس عدالة.
:لبنان… والحَربُ الأهليّة المُستَدامة (48)
!“التوافُقِيَّة ”النِفاقِيّة
2024/04/15
إذا كانَ “اتفاقُ الطائف” وَضَعَ حدًا، ولو إلى حين، لإسالة الدماء والخراب والدمار في ما سُمِّيَ “السلم الأهلي”، الذي أغفلَ المصالحة الوطنية الحقيقية، فإنهُ قضى على النظامِ الديموقراطي البرلماني، الذي ارتضاه اللبنانيون بعد الاستقلال نهجًا لحياتهم السياسية ولحُكمِ البلاد.
بعد عقودٍ ثلاثة من الوصاية السورية، تواصَلت الأزمات، وباتَ تشكيلُ السلطة عصيًّا. فتبقى البلاد، وقتًا طويلًا، قارب السنة في مرَّات، بلا حكومة ومن دون مُهَلٍ دستوريةٍ ضابطةٍ للعملِ السياسي، بسببِ اعتمادِ أُسلوبِ حُكمٍ يقومُ على تقاسُمِ الطوائف لمغانم السلطة في إجماعٍ وطني مُخادِع، أطلقوا عليه “الديموقراطية التوافقية”– البِدعة.
إنَّ هذا المُصطَلَح-البِدعة، لا يمتُّ بصلةٍ إلى النظامِ الديموقراطي، المنصوص عليه في القوانين الدستورية والذي يقف على ساقَين: الأغلبية المُوالِية، والأقلّية المُعارِضة. فيستقيمُ عملُ البرلمان في مُحاسَبَةِ السلطةِ التنفيذية، وينتَظِمُ حُكمُ البلاد.
فما “الديموقراطية التوافقية” سوى توليفة لا دستورية لجَمعِ الطوائف، وإغراء وإرضاء الأحزاب المُتناحِرة والمُتنافسة لتقاسُمِ المغانم، وهذا ما درج اللبنانيون على تسميته ” المُحاصَصة”.
هذا الترتيب أراحَ سلطةَ الوصاية ومَهَّدَ لها إحكام السيطرة على الوضعَين السياسي والأمني في البلاد.
لقد أثبتت مُمارسَةُ المُتعاقِبين على الحُكم، بعد الطائف، أنَّ بِدعةَ “الديموقراطية التوافقية”، أفرزت ما يشبه “التوتاليتارية”، فأعطت الطوائف الكبرى لنفسها “حق النقض” عند اقتسامها السلطة مع الطوائف الأخرى، فراحت تُعطّلُ تشكيل الحكومات، ثم تُعيقُ عملها بامتلاكها “الثلث المعطل”، وهذه أيضًا بِدعة تم التوافق عليها في مؤتمر الدوحة، الذي انتهى بانتخاب الرئيس ميشال سليمان، ليُعاني حكمه، من هذه البِدعة المخالفة للأعراف والقوانين الدستورية.
إنَّ “الديموقراطية التوافقية” تحمل في كلمتَيها تناقُضًا جوهريًا يجعلها في الواقع العملي لا بهذا المعنى ولا بذاك، فلا يصحُّ فيه وصف “الديموقراطية” ولا وصف “التوافقية”، بل هو فذلكة ملفَّقة قائمة على النِفاقِ بين مكوّنات السلطة الجماعية. فإذا كانَ المطلوبُ تلفيق التفاهم بين قوى سياسية لا يجمعَها جامعٌ، ولا يمنعَها مانعٌ، فإنَّ ذلك، إن حدث، يعني أحد أمرَين: إمّا أنهُ مُمارسة غير ديموقراطية بالتفاهم غير المُعلَن بين الأضداد على اقتسامِ المنافع، أو أنَّ الأوصياء الخارجيين على القوى الداخلية قد تفاهموا على تسوياتٍ في ما بينهم ليست لها علاقة لا بمصالح اللبنانيين ولا بالديموقراطية.
بهذا المعنى كتب جورج خضر، مطران جبل لبنان السابق للروم الأرثوذكس يقول: “الديموقراطية التوافقية، هاتان كلمتان مُتنافرتان في علم الدستور. فالديموقراطية قائمة على الاختلاف، والخلاف، والتنافس، الذي ينتهي إلى قرارٍ يُذعن له مجلسُ النوَّاب، لأنَّ المجلسَ يؤلفُه القانون، ولا تؤلفُه اللُّحمة المرادفة للتوافق”، (المطران جورج خضر، جريدة “النهار”، 8 كانون الثاني/يناير 2008).
فالاختلافُ في الجسمِ السياسي والشعبي هو من السمات المُميِّزة للممارسة الديموقراطية التي يحسمها التصويت على الخيارات. وهو الشيء الصحّي في المجتمعات الديموقراطية، لأنَّه يقوم على النقاش الحر الذي بدوره يُحسِّنُ المجتمع من خلال توضيح القضايا التي تؤَمِّن مصالح الناس، خلافًا للتوافق النِفاقي الذي يؤَمِّن مصالح السياسيين على حساب الناس.
إنَّ المسلكَ السياسي الطليق، الذي يقوم على التعبير الحر والنقاش المنفتح والنقد السليم، من شأنه أن يُعزِّزَ حرية المجتمع ويكمّلها. فمن دون هذه الحرية فإنَّ الأكثريات المتجانسة في تفكيرها السلطوي تُصبحُ أقلَّ تسامحًا وتقبُّلًا للنقد، فتسيرُ باتجاه حُكم الاستبداد. وهذا ما يجعل مقاومة الناس للأنماط الاجتماعية السائدة واجبًا بحدِّ ذاته، (المفكر البريطاني في القرن التاسع عشر، جون ستيوارت ميل، من كتابه “في الحرية”).
ما كانَ يُميِّزُ لبنان في المرحلة بين قيام دولة “لبنان الكبير” واندلاع الحروب الأهلية، الباردة والساخنة، منذ أول محاولة لتطويع دستور 1926، أنه قام على الحرية التي هي أرفع سموًّا من الديموقراطية، فلا معنى للديموقراطية من غير حريَّة.
إنَّ الأوضاعَ التي سادَت في مناخاتِ الحَربِ الأهلية، حيث القيمة للتعصّبِ وللسلاح، أعطت الحريًّة معنى “الغوغائية”، وجعلت الانتخابات مُرادِفة للديموقراطية. فالانتخاباتُ من أدواتِ الديموقراطية لكنها ليست إياها.
هناكَ دولٌ استبدادية عديدة في العالم تُراعي في الشكل العملية الانتخابية، وتَحرُصُ على انتظامها، وعلى شموليتها، لتغطيةِ جوهرِها الاستبدادي بغلافٍ “ديموقراطي”.
القواسم والتوجّهات المشتركة، تُوَثّقُ التحالفات بين القوى السياسية، إلّاَ أنَّ هذه التحالفات تُصبحُ ظرفية ومَرحلية، عندما لا تكون قائمة على أُسُسٍ وأهدافٍ واضِحة أُشبَعَت نقاشًا. فالمُناداةُ بالديموقراطية التوافقية، كما نشأت وامتدَّت بفعلِ سلطةِ، أو تسلُّطِ، أمراء الحرب على الدولة ومؤسَّساتها، هي في الواقع من مظاهر “الجدب الفكري” لدى السياسيين الذين تعاقبوا على الحُكمِ بعد “الطائف”.
لذلك، لم تَعُد الأحزابُ اللبنانية بحُكمِ مشاركتها في الحرب، وبعدها في اغتصابِ السلطة زمن السلم، بمُساندةِ وصاياتٍ خارجية، أحزابًا مُفكِّرة كما كانت الأحزاب القديمة المُوَلِّدة للأفكار.
عندما يُهَيمِنُ السلاح في الحروب كافة، لا يعود هناك مكانٌ أو متَّسعٌ للأفكار الحرَّة، فيسودُ التسلُّطُ سواءَ باسمِ “القضية”، أو باسم “الأمن القومي”، أو “السلم الأهلي”، أو “المصلحة العامة”، أو أيّ مسمى أو مصطلح آخر. ذلك أنَّه عند الاحتكامِ إلى السلاح تُصبِحُ القوَّة المجرَّدة، أو الغاشمة، هي أداة الحسم، فتُلغي الأفكار وتُقصي الإنسان المفكِّر أيضًا.
ما شهده لبنان خلال نصف القرن الأخير هو تنافر السلبيات، ومنها في المقام الأول تنافر السلبيات المسلَّحة. وقد استشرف الصحافي والسياسي جورج نقاش هذا الواقع، فكتب قبل 75 سنة (10 آذار/مارس 1949)، في افتتاحية جريدة “لوريان” التي كانت تصدر باللغة الفرنسية: “سلبيتان لا تصنعان أمَّة”. ولهذا لم تنجح أيّ صيغة حتى الآن في جعل الاختلاف وِحدةً في الوطن، فخسر اللبنانيون، كل اللبنانيين، ليس ودائعهم ومدّخراتهم في المصارف فقط، بل بوضعهم في الجانب الخاسر من التاريخ، بمعنى خسارة مستقبل أجيالهم في الوطن، وبالتالي حرمانهم من مزايا التقدُّم والإبداع والإشعاع، حيث قابلياتهم التاريخية.
إن إعادة تركيب الوضع اللبناني باتت محصورة بين مسارَين: الاستمرار في التركيبة القائمة على “الوصاية الدائمة”، والتجارب أثبتت أنها تركيبة هدَّامة وفاشلة، أو إعادة التفاهم على نظامٍ سياسي بنَّاء يستبعد الفذلكات الملفَّقة، من أجل تحقيق “الوحدة في الوطن”، وليس “الوحدة الوطنية” الزائفة بين المكوّنات الطائفية التي تتقاسم السلطة على حساب المواطنين باسم “الميثاقية” أو “الديموقراطية التوافقية”، وما الى ذلك من تلفيقاتٍ نِفاقية.
:لبنان… والحَربُ الأهليّة المُستَدامة (47)
!الدُستورُ الهَجِين
2024/04/14
يوم ذكرى الاستقلال (22 من تشرين الثاني/نوفمبر سنة 1989)، اغتِيلَ اثنان في لبنان: رينيه معوَّض، أول رئيس للجمهورية، بعد ما سُمِّي “السلم الأهلي”، و”اتفاق الطائف”، الذي وضع قواعده ونُظُمه.
لقد أدّى هذا الاغتيال إلى القضاء على “الاستقلال”، وعلى “المصالحة الوطنية الحقيقية”، ورسَّخَ، بموافقةٍ دولية، “الوصاية السورية”، ليبدأ معها، وبإشرافها ورعايتها، حُكم “أمراء الحرب”.
صار الدستور، بعد هذا الواقع المُستَجِّد، وكأنه لزومُ ما لا يلزم. تجاوزوه، وصاغوا مصطلحات هجينة على علم القانون الدستوري، لتفسير مضامينه، ومراميه، على هواهم، وما يخدم مصالحهم، ويُثَبِّتُ تحكّمهم وتسلّطهم، مثل “الميثاقية”، و”الديموقراطية التوافقية”، فادخلوا البلاد، تحت “حُكمِ الأمر الواقع”، في أزماتٍ مُتواصلة، مفتوحة على المجهول، الذي سمُّوه مرة “الوحي”، ومرة “كلمة السر”، ومرات “الحوار للتوافق”… مع العلم أنَّ الدستورَ وُضِعَ في الأصل، لتنظيم الحياة السياسية، واستقامتها، ولإلغاء كل “الفذلكات” اللادستورية.
إدمون رباط، أبو القانون الدستوري، اعتبرَ أنَّ “الميثاقَ وُجِدَ كوظيفةٍ في خدمةِ الهَدَفِ الدستوري، وعليه أن يؤَدِّي إلى الاندماجِ الوطني الذي يمتصُّ الخصوصيَّات الدينية، والمناطقية، ويُغذِّي الحس الوطني، المُندَفِع إلى قيامِ الدولة-الأُمَّة”.
إنَّ أيَّ مُقارَنةٍ بين ما قال إدمون رباط، وبين ما يجري في لبنان تُظهِرُ، منذُ عقودِ الوصاية بعد “الطائف”، أنه ليس دولة دستورية حتى في الشكل. بل هو يسيرُ عكسَ المسار الذي وصفه الدكتور ربَّاط، سواء بوضع “الميثاق” فوق “الدستور”، أو تطويع الدستور ليكون في خدمة خادمه، والأمثلة كثيرة على ذلك ليس أقلّها التمديد المُتمادي للهيئة التشريعية وللهيئة التنفيذية، أو تسيير الدولة من دون ميزانية لسنواتٍ عديدة، وإصدار ميزانيات بعد فوات مواعيدها الدستورية بأشهرٍ ومن غير “قطع حساب” على ما تقتضي الأصول القانونية المرعية الإجراء.
إنَّ وَضعَ “الميثاق” فوق الدستور يُفسِّرُ الإصرارَ على التمسُّك بنظامِ الحصصِ الطائفية، وعلى رَفضِ مَبدَإِ الاندماجِ الوطني، وإضعافِ الحسِّ الوطني لا تغذيته، وبالتالي منع قيام ما سمّاه الدكتور ربَّاط “الدولة–الأمَّة”. وهذا التوجُّه معروفٌ وموصوفٌ، لأنه ليس هناك حتى الآن، ولم يكُنْ يومًا، مقاومة جَدِّيَّة للطائفية. وحتى في الإطار الطائفي، هناكَ تجاهلٌ تام للأسبابِ الحقيقية لأزمةِ النظامِ الطائفي وأهمُّها الإخلال بالشراكة الوطنية. ولذلك أدَّى هذا التجاهل إلى عدمِ الاكتراثِ حتى بتحسين ذلك النظام نفسه لتكون له مقبولية أفضل في ذهن أتباعه على الأقل، ما جعل القَيِّمين على السلطة الطائفية يستسهلون التلفيق والترقيع، كما شاهد العالم كله ما جرى وما يجري في مواضيع أساسية مثل مشاكل النفايات، والكهرباء، وتلوث المياه والبيئة الطبيعية، والصحة العامة، بما فيها الطبابة والاستشفاء والأدوية، وأخيرًا وليس آخرًا المشكلة النقدية والمصرفية، التي أودت بودائع جميع اللبنانيين.
لقد تُرِكَت المسألة الدستورية مُبهَمة عن عمد، ليستحكم الخلاف حول توزيع الصلاحيات بين المؤسّسات الدستورية، وعن قصد تُرِكَت المُهَلُ مفتوحةً وغير مُحدَّدة، فما عاد بالإمكان إنجاز أيّ استحقاقٍ دستوري في موعده، لا انتخاب رئيس الجمهورية، ولا تشكيل الحكومة، ولا الانتخابات التشريعية أو البلدية والاختيارية، وكذلك الأمر في التعيينات للمناصب الإدارية الشاغرة، وإصدار ميزانية الدولة. بينما، بالمقارنة، نجد أن دولةً عنصرية مُعادية مثل إسرائيل، ومُنقَسمة في داخلها إلى أحزابٍ وفئاتٍ مُتعارِضة ومُتناحِرة، لديها حدود دستورية لتشكيل الحكومة لا تتعدى الثلاثين يومًا فقط، إن فَشِلَ الرئيس المُكَلَّف خلال تلك المدة، يذهب إلى بيته، وإن أخفَقَ المُكَلَّف البديل أيضًا خلال المدة الدستورية عينها، يجري حلُّ البرلمان، ودعوة الناخبين إلى اقتراع جديد بهدف إيجاد سلطة تحظى بتفويضٍ شعبي. وقد جرت لهذه الغاية في دولة إسرائيل أربعة انتخابات عامة في غضون خمس سنوات.
ألغى “اتفاق الطائف” الآلية الدستورية التاريخية لحلِّ المجلس النيابي، فصارَ هذا الحلُّ مُستَحيلًا من خلال مجلس الوزراء، فانعكست الآية: التمديد بدل الحلّ. فالتمديد الذاتي، أو أي تمديد في الوظائف العامة، لا يتماشى مع الدستور والحياة الدستورية، ولو كان قانونيًا في الشكل.
إنَّ الخللَ في ميزان القوة بين الطوائف يُعطّلُ العمل الدستوري، فبعدَ الاستقلال كانت “المارونية السياسية” هي الأقوى في البلاد، فحدثَ خللٌ دستوري عندما عُدِّلَ الدستور في سنة 1948 لمنح الرئيس بشارة الخوري ست سنوات أخرى في الحكم. ومنذ ذلك الوقت أصبح الكيان اللبناني عرضةً للاهتزاز، فمالت الحياة الدستورية إلى السلبية، وبات من المُتعذّر تطويرها الى الأحسن، فصار الطريق إلى الأسوَإِ مفتوحًا على مداه وصولًا إلى الحربِ الأهلية وحُكم قادة الميليشيات.
لقد وَضَحَ بما لا يرقى إليهِ الشَكّ، بعد الاختلالاتِ المُتمادية، من “ثورة” 1958، إلى “ثورة” تشرين الأول (أكتوبر) 2019، أنَّ الحياة الدستورية في لبنان لا يُمكِنُ أن تنتظِمَ إلّاَ بتساوي ميزان القوى بين الطوائف المتحاصَّة. وهناكَ على الأقل اثنا عشر عنصرًا ماديًا لقياس القوة الطائفية المُخِلّة بالتوازن الوطني، منها: “التماسك الاجتماعي (شأن البيئة الشيعية الحاضنة للمقاومة)، القدرة على الانضواء تحت قيادة واحدة واضحة الهدف، قابلية الاستنفار والحشد السريع، التحالفات أو الارتباطات الخارجية، الحجم الديموغرافي، حجم مصادر التمويل، الطاقات الفكرية للقيادات السياسية والمرجعيات الدينية، المرونة اللازمة للتحالف مع قوى أخرى أو التفاوض مع قوى محايدة من خارجها، امتلاك وسائل إعلامية مُحصّنة من التفاعل مع مكوّنات البلد الأخرى، القدرة على تفعيل النشاط السياسي والثقافي في الاتجاه الطائفي المتزمت، والديني غير المدني، والجماعة المنغلقة على نفسها غير المنفتحة ديموقراطيًا.
إنَّ الوضعَ اللبناني المُختَل منذ “الطائف”، جعلَ تدخّل قوى خارجية أمرًا حتميًا، وربما ضروريًا، لحلِّ الأزمات الناشئة بين المكوّنات الطائفية الرئيسة. وهذا يعني أنَّ القوى التي يتشكَّلُ منها الأمر الواقع غير مؤهّلة للاستقلال، كما كان الوضع في أربعينيات القرن الماضي. ومَرَدُّ ذلك إلى أنَّ طبيعةَ ارتباط الطوائف بالقوى الخارجية قد تدنّت من مستوى التعاون في الإطار الوطني إلى مستوى التبعية في الإطار الوظيفي. فهناكَ فرقٌ بين أن تكون علاقةُ أيّ فريق داخلي مع الخارج لاعتباراتٍ لبنانية، أو أن تكون لاعتباراتٍ مَصلَحية للطرف الخارجي.
هذا الوضعُ يُعيدُ المسألة اللبنانية إلى أصلها منذ إعلان قيام لبنان الكبير في العام 1920، من حَيثُ كونها تقع في إشكاليةِ الإطارِ الخارجي. ولا بدَّ من طَرحِ سؤالٍ حولَ ما إذا كانَ مشروعُ لبنان الكبير حاجةً استعمارية أجنبية، أم أنهُ مَطلَبٌ وطني لبناني يَستَوجِبُ الخروجَ من دوّامةِ الصراع الإقليمي والدولي، وما يستتبع ذلك من صِيَغٍ وأدواتٍ دستورية جديدة.
لقد عَجِزَ اللبنانيون في تحويلِ منتج سياسي من “صناعةٍ أجنبية” إلى “صناعةٍ وطنية”، فبقي أمرُ حلّ أزماته المُتكرّرة والمُتمادية في أيدٍ غير لبنانية.
لعلَّ الأهمَّ من ذلك أنَّ سلمه الأهلي، كفاصلٍ بين الحروب، هو “سلمٌ سلبي”، حسب تعريف عالم الاجتماع والرياضيات يوهان فنسنت آلتونغ، مؤسس “معهد السلام النرويجي”، الذي عرَّف تلك العبارة بأنها تقتصرُ على انعدام العنف المباشر، بوجود العنف البنيوي، الذي يَحول من دون تحقيق العدالة.
ففي مفهوم آلتونغ، أنَّ غيابَ الحرب فقط لا يعني حلول السلام، لأنَّ هناكَ عُنفًا مُستَتِرًا برداء السلام نابعًا من خلفياتٍ دينية أو ثقافية تحمي وجوده.
من الناحية الدستورية، إذن، من المستحيل أن تنشأ حلولٌ عادلة وثابتة من ضمن الصيغة المُهتَرِئة القائمة في لبنان. ولا يقتصرُ الأمرُ على المسألة الدستورية، بل هناكَ عوامل أخرى مُكَمِّلة، تستدعي المزيد من البحث والمناقشة.
:لبنان… والحَربُ الأهليّة المُستَدامة (46)
حَربٌ على الهواء
2024/04/13
لم يَجِد اللبنانيون للتعبيرِ عن عشقهم المُزمِن للحرية، ومدى تعلُّقهم بها، نبراسًا وأسلوبَ حياةٍ، سوى “الكلمة”.
و”الكلمة”، صارت جريدة تُلملِمُ في أعمدتها، أفكارهم، قضاياهم، همومهم، اعتراضاتهم، والوسيلة الوحيدة للتعبير عن ليبرالية لبنان، المتنوِّع، والأكثر انفتاحًا على العالم.
ولمّا جارَ عليهم الزمان، وتعرّضوا لصنوفِ القمع، والقهر، والظلم، إن في زمن التسلّطِ العُثماني، أم خلالَ حُكمِ المُفَوَّضِ السامي الفرنسي، كانت الصحافةُ ملاذَهم، وصوتَهم الصارِخ.
في كتابه “الصحافة العربية، نشأتها وتطوّرها”، الصادر في بيروت في العام 1961، خلصَ أديب مروة إلى أنَّ اللبنانيين “امتازوا بين غيرهم من الشعوب العربية، بأنهم كانوا أسبق الجميع إلى نَشرِ الصُحُفِ في بلادهم، لا بل أوّل مَن مارسَ الصحافة مُمارَسَةً فعَّالة، وعلى نطاقٍ شعبيٍّ واسع، إن كان في بلدهم لبنان، أو في سائر البلدان العربية، وشتَّى أصقاع الأرض”.
وكما وَجَدَت الأفكارُ والتيارات الإيديولوجية والفكرية الغربية دَربَها إلى الصحافة اللبنانية فتأثّرت بها، كذلك كانَ الأمرُ مع التيارات والحركات السياسية العربية، فكانَ لها رَجعُ صدى في أعمدة الجرائد، وصفحات المجلات الصادرة في بيروت، التي تحوّلت إلى “مطبعة العرب”، وميدانًا لتصارُعِ أفكارهم.
هذا التجاذُب، العربي والغربي، شكَّلَ رأيًا عامًا لبنانيًا، مُستنيرًا ومُستَوعِبًا للقضايا العربية والدولية، ولم يَكُن ذلك كلّهُ مُمكِنًا لولا الانفتاح اللبناني على حضاراتِ وثقافاتِ الغرب.
إنَّ المَفهومَ التقليدي للصحافة اللبنانية جعلها في نزاعٍ دائمٍ مع السلطة، التي كانت، من حينٍ الى آخر، تُضَيِّقُ عليها هامشَ الحرية، وتعرِّضُها للمضايقات، والملاحقات، لتجد نصيرًا لها بين القيادات الروحية والمدنية، وفي كلِّ مرّةٍ كانت السلطة تتراجَعُ وترضَخ.
مع اشتعالِ لبنان وتَمَدُّدِ القتال، أخذت الصحافة الورقية تُعاني من عَدَمِ التوزيع، وشَحِّ الإعلان، فتراكمت عليها الخسائر المالية. وشيئًا فشيئًا راحت الصحافة المسموعة عبر الأثير، من خلالِ محطّاتٍ إذاعية غير شرعية، تحلُّ مكانها في حياة اللبنانيين، كوسيلةٍ دعائية وتبليغية.
لقد سهَّلَ التطوّرُ التكنولوجي في البثِّ الإذاعي تكاثَرَ تلك الإذاعات، ثم احتدام القتال كان يمنع وصول الصحف المطبوعة إلى الأسواق ومراكز التوزيع، بسببِ تقسيمِ المناطق، وتحكّمِ أزلام الميليشيات بالأرض، ونَصبِ الحواجز الثابتة والطيّارة، إلى جانب القصف العشوائي، والأهم من ذلك، أنَّ تَتَبُّعَ الأخبار باتَ أيسر، بوساطة أجهزة “ترانزستور” التي تُحمَلُ بسهولة، حتى إلى الملاجئ، إضافةً إلى ذلك كله، أن البثَّ الهوائي كان عَصِيَّاً على أيِّ رقابة، شأن وسائل التواصل الإلكترونية في أيامنا هذه.
من بدايةِ الحَرب، راحت الميليشيات المُتحارِبة تتناتش الأثير، لبَثِّ دعواها الحزبية، وتوسيع مداها التحريضي، فنبتت في كلِّ مكان إذاعات غير مرخَّص لها، سحبت البساط من تحت قدمَي الإذاعة اللبنانية الرسمية، التي كانت حتى ذلك الوقت تحتلُّ الهواء بمفردها، لتعود وتنقسم هي الأخرى إلى محطّتين، واحدة تبث من بيروت الغربية، والثانية من بلدة “عمشيت” إلى شرق العاصمة. الأولى تحت رحمة “الحركة الوطنية”، والثانية بإمرة “الجبهة اللبنانية”.
أولى الإذاعات، الخارجة عن الطوق، “صوت لبنان” الناطقة بلسان “حزب الكتائب اللبنانية”، هي أول مولودٍ غير شرعي في رحم الحرب الأهلية. واللبنانيون عرفوا هذه الإذاعة من قبل، خلال الصيف الدامي في العام 1958، لكنها ما لبثت أن توقّفت عن البث بعد استتباب الأمور بانتخاب اللواء فؤاد شهاب رئيسًا للجمهورية، ومشاركة “حزب الكتائب”، الناطقة باسمه، في السلطة الجديدة بعد “الثورة”. وإذا كان شغلها الشاغل في العام 1958، مهاجمة جمال عبد الناصر (رئيس “الجمهورية العربية المتحدة” التي ضمت مصر وسوريا في دولة واحدة)، والحاكم بأمره في دمشق عبد الحميد السرَّاج، باعتباره المُكَلَّف تحريك الاضطرابات في لبنان، من طريق إمداد القوى المعارضة للرئيس كميل شمعون بالسلاح والعتاد والمال (راجع الفصل بعنوان “حمير السرَّاج”)، فإنّها في سنة 1975 بدت أكثر رصانة وحرفية في تناول الحرب، وفي هجومها على الفلسطينيين والحركة الوطنية.
لم تبقَ إذاعة صوت لبنان وحيدة في الميدان، فسمع اللبنانيون صوتًا آخر هو “صوت لبنان العربي”، إذاعة “حركة الناصريين المستقلين”( المرابطون)، كانت تبثُّ من غرفةٍ صغيرة في مقر تلك الحركة من بيروت الغربية، وأيضًا “صوت لبنان الحر” (القوات اللبنانية)، “صوت الجبل” (الحزب التقدمي الاشتراكي)، “صوت الشعب” (الحزب الشيوعي اللبناني)، “صوت لبنان الموحَّد” (حركة المردة التابعة لآل فرنجية في زغرتا).
من الملامح التي رافقت بعض تلك الإذاعات من العام 1978 وما بعد، أنها كانت عشوائية، وتبدَّلت صيغها ومساراتها، خصوصًا بين القوى المسيحية، عندما بان خطُّ الانفصال واضحًا بين “القوات اللبنانية” وبين “حزب الكتائب” الذي وُلِدَت في رحمه، وتمايزت عنه عندما اشتدَّ ساعدها، فانطلقت في الهواء إذاعتان متنافستان في اتجاه واحد: “صوت لبنان” لحزب الكتائب، وهي لسانه الأصلي منذ 1958، كما مرَّ، و”صوت لبنان الحر” للقوات اللبنانية الوليدة. أما إذاعة “صوت لبنان الموحد” الناطقة بلسان “المردة” في الشمال، فكانت في البداية تدين بالولاء ل”الجبهة اللبنانية” (التي كانت الداعم الأساسي للرئيس سليمان فرنجية خلال الحرب) لكنها انقلبت عليها بعد “مجزرة إهدن” التي ذهب ضحيتها طوني فرنجية، الوزير السابق ونجل رئيس الجمهورية، ومعه زوجته وابنته وبعض أتباعه.
كانت لتلك الإذاعات، على بدائيتها، في مرحلة نشوئها، مهمّة أساسية، هي المرافقة الميدانية للمقاتلين وراء متاريسهم. لكنها مع الوقت، وامتداد رقعة الحرب، اتخذت لنفسها مهمّاتٍ أخرى، منها: تعبئة الناس، والحقن السياسي والطائفي، تبعًا لمُقتضى التطوّرات، وبث الدعايات الحزبية (البروباغاندا)، والنيل من الخصوم بإبطالِ حججهم على الملأ.
أما البثُّ التلفزيوني، فإنه انتظرَ نهايةَ الحرب، وتحديدًا بعد “اتفاق الطائف”. وقد حاولَ رئيس الحكومة المغدور رفيق الحريري في العام 1994 تنظيم الإعلام، بحَصرِ وسائله في إطارٍ قانونيٍّ ضيِّق، تسهيلًا لسيطرة الدولة عليه، خصوصًا التلفزيون الرسمي الذي كان مُزدهرًا قبل الحرب، وكان من أبرز ضحاياها. لكن تلك المحاولة لم تنجح، لأنها لقيت معارضة واسعة من فئاتٍ سياسية مختلفة، حيث اعتبرها بعضهم من قبيل تقييد الحريات، وتحويل النظام السياسي اللبناني إلى نظامٍ فرديٍّ سلطوي.
كانت تلك أوّل محاولة في بلد عربي تهدف إلى تنظيم قطاع البث الخاص من خلال “قانون المرئي والمسموع”. بيد أنَّ تطبيقَ هذا القانون اصطدم بمخاوف سياسية من توزيع المحطات الإذاعية والقنوات التلفزيونية على أساسٍ مذهبي، (على قاعدة 6 و6 مكرر السائدة قبل “الطائف”)، كما إِنَّ أحكامَ ذلك القانون تجاهلت الظروف الاقتصادية للبث، فلم تأخُذ في الاعتبار السوق الإعلانية اللبنانية.
ممَّا لا شكَّ فيه، أنَّ التخبُّطَ المانع لوضعِ قانونٍ عصريٍّ جديدٍ للإعلام في لبنان، يأخذُ بالاعتبار المُستَجدّات التكنولوجية الوافدة مع الوسائل الرقمية، هو نتيجةٌ من نتائجِ الحرب الأهلية من حيثُ انقسامِ وتعارُضِ التوجّهات السياسية في “حربٍ أهليِّةٍ باردة”. فقد جرت محاولاتٌ أخرى، بعد فشل محاولة رفيق الحريري، لكنها أيضًا باءت بالفشل.
في حزيران (يونيو) من العام 2010، كاد مجلس النواب أن يصوِّتَ على مشروع “قانون تكنولوجيا المعلومات الجديد” في لبنان الذي يُنظّمُ المعاملات الإلكترونية عبر الإنتِرنِت، وهو مشروعٌ يفرضُ قيودًا شديدة على حقوق المواطنين، والشركات المدنية، وينتقص من حقّهم في الخصوصية، عَبرَ مَنحِ الحكومة صلاحياتٍ واسعة للمراقبة، بل يقضي على حرية الصحافة في الإعلام الرقمي. لكنَّ القانونَ لقيَ مُعارضةً شديدةً من القطاع الخاص، والهيئات الاقتصادية، ومنظّمات المجتمع المدني، فانضمَّ إلى أقرانه السابقين في الجارور العميق لمجلس النواب.
إنَّ لبنان يتّجهُ حاليًا نحوَ نوعٍ من الاستقطابية التي من شأنها أن تقضي على الحرية، أحد مُبَرِّرات وجود لبنان. وهذه الحالة المُستَجِدّة تُننبئُ بأنَّ الصراعَ الأهلي ما زالَ مُستَمِرًا بطُرُقٍ أُخرى.
:لبنان… والحَربُ الأهليّة المُستَدامة (45)
حَربٌ على الوَرَق
2024/04/12
صيف 1975.
الليلُ، ليلتها، حلَّ بثقله، ينوءُ تحتَ وابلٍ من القصف والرصاص من مُختَلَفِ أنواعِ الأسلحة، يتطايَرُ ويلتَطِمُ بكلِّ شيء، ورَجعُ صداه يدور بين الأبنية ينشُرُ الخوفَ والحذر.
آثرتُ ليلتها البقاء في مكتبي في جريدة “بيروت”، التي كنتُ أرأس تحريرها، على المغامرة بالذهاب إلى منزلي الكائن في الواجهة البحرية من منطقة “الروشة”، في “رأس بيروت”.
في صباحِ اليوم التالي، دخلَ عليَّ مُصوّرُ الجريدة، الياس الجوهري، وهو شابٌ موهوبٌ ونشطٌ من مدينة بعلبك، وفي يده صورة فوتوغرافية، قال إنه التقطها في الليلة المرعبة على تقاطع الطرق عند كنيسة مار مخايل المارونية في منطقة الشيّاح، (كانت تلك الكنيسة شهدت في السادس من شباط/فبراير سنة 2006، توقيع ما سُمي “ورقة التفاهم” بين العماد ميشال عون، رئيس “التيار الوطني الحر”، والسيد حسن نصر الله، الأمين العام ل”حزب الله”).
أصابني الدَهشُ والذهولُ في آنٍ معًا وأنا أُلملِمُ بعينيّ أدقَّ التفاصيل المطبوعة في تلك الصورة، فشعرتُ أنَّ بين يديَّ لوحةً فنيةً مرسومةً بالريشة، وليس صورة فوتوغرافية بعين الكاميرا الزجاجية.
كانت الصورة لوَلَدَين، لم يتجاوزا العاشرة، يستولي الذعرُ عليهما، وهما يحتميان عند بابِ دُكّانٍ مُقفَلٍ، من رصاصِ القَنصِ المُنهَمِر على تلك المنطقة.
إلى الجانب الأيمن من الطريق، توقّفَت سيارةُ شحنٍ صغيرة، نزل سائقها، على ما يبدو، ليجرَّ شابًا أرداه رصاص القنص.
تولَّاني إحساسٌ، هو خليطٌ من الحُزنِ والغضب. فتلكَ الصورةُ كانت تُعبّرُ عن حقيقةِ الحرب، التي هي “مقتلة الأبرياء”، الذين كلُّ ذنبهم أنهم يخرجون من بيوتهم سعيًا وراء قوت يومهم، فلا يعرفون لماذا تُدَمَّرُ بيوتهم، ويموتون على قارعةِ الطريق.
قرّرتُ، وأنا أُشرفُ على تحضيرِعدد الجريدة، أن أنشُرَ تلك الصورة المُعَبّرة، على عرض الصفحة الأولى.
بعدَ صدورِ العدد، انهالت علي الاتصالات، وقَصَدَ مكاتب الجريدة عددٌ من مراسلي الصحف ووكالات الأنباء الأجنبية، يعرضون عليَّ شراء تلك الصورة، بمبلغٍ مُغرٍ، فرفضت.
وعلى الرُغمِ من مرور عشرات السنين، بمتاعبها، وهمومها، ومشاغلها، فإنَّ تلك الصورة، الناطقة، المعبِّرة، لم تفارقْ مُخَيَّلَتي، أستَحضِرُها بين الحين والآخر، وطالما ردَّدتُ في نفسي، أنه لو قُدِّر لها أن تُعرَضَ في معرضٍ عالميٍّ للصور الفوتوغرافية، لكانت عن استحقاقٍ، وجدارة، نالت الجوائز من غير مُنازِع.
من مآسي الحرب، أنَّ العينَ التي التقطت تلك الصورة بمحض المصادفة، أُغمضت إلى الأبد، فقد قُتِلَ الياس الجوهري برصاصِ قنَّاصٍ، كان على سطح بنايةٍ مواجِهة لمخيم “تل الزعتر”، للاجئين الفلسطينيين في منطقة “الدكوانة” (المتن الشمالي)، الذي كان مُحاصَرًا من مقاتلي حزب “الكتائب”، و”نمور الأحرار”، ومَن حالفهما من تنظيماتٍ مُسَلَّحة.
يومها، الاشتباكات كانت على أشدّها، فركب الياس الجوهري دراجته النارية وتَوَجّهَ إلى المُخَيِّم، لتسجيلِ المأساة الدامية بالصور، مدفوعًا بالنجاح الهائل لصورة الشِيّاح، فذهب ضحية حبّه لعمله.
في عدد الجريدة، الذي صدر صبيحة اليوم التالي، كتبتُ الافتتاحية عنه، بعنوان: “كانَ المُصَوِّرَ فصارَ الصورة”.
كانَ من المظاهر المُلفِتة لتلك المرحلة الدامية ارتفاعُ عدد المجلات والنشرات “غير الشرعية”، فتجاوز المئة، مقابل توقّف عدد من الجرائد والمجلات الشرعية عن الصدور في لبنان، فهاجرت مع محرريها شطر أوروبا، خصوصًا إلى لندن وباريس. وقد علَّلت الصحف المهاجرة أنها بانتقالها إلى الخارج، ستكون في مأمن من الحرب، وتتمتع بحريَّة أكبر. لكن سرعان ما اكتشفَ هؤلاء أنَّ الأعباءَ المالية لهذا الانتقال كانت ثقيلة إلى درجة جعلتها أشد ارتباطًا بمصادر التمويل العربية، وأنَّ الحريةَ المزعومة في بلاد المهجر كانت مجرّد وَهم، فالرقيبُ في غير بلدٍ عربي، كان يُصادر أي مطبوعة يجد أنها لا تتماشى مع سياسة حكومته، فيمنع نزولها المكتبات وأكشاك الباعة، لتزداد خسائر تلك المطبوعات، فانخرطت في الحربِ عن بُعد.
تنوَّعت الجهات التي أصدرت المجلّاَت والنشرات “غير الشرعية”، كما تنوَّعت محتوياتها، بدءًا من التعرُّض للمناوئين، وانتهاءً بمحاولة إقناع الرأي العام بصحَّة ميولها، وبأهدافِ انغماسِها في الحرب، فكأنها كانت تستكملُ القتال، لكن على الورق وبالكلمة وليس بالبندقية.
لقد وَشَت بأنَّ المُخطّطين لتلك الظاهرة، والمُحَرِّضين، والمُنفذّين للحرب الأهلية، شعروا بأنَّ السلاحَ وحده لا يكفي لتبريرِ انخراطهم في ذلك النزاع الدامي، الذي مزَّق النسيج الوطني، وبأنه لا مناصَ من الصحافة و”الكلمة” المُوَجَّهة، وسيلةً لاستجداءِ ولاءِ الناس وتأييدهم، واستقطابِ مزيدٍ من الأنصار، وتثبيت المؤيّدين، والمُريدين، والمُحازبين، والمُحاربين أيضًا، في مواقفهم، فاقتصرت تلك النشرات والمطبوعات على البيئة الضيِّقة المُحيطة بالأحزاب والتنظيمات المقاتلة، بسببِ خوفها من هبوط حرارة داعميها، وتعبهم من الحرب.
إن دلَّت ظاهرة المجلاَّت والنشرات “غير الشرعية” على شيء، فهي تدلُّ بشكلٍ واضحٍ وفاضحٍ، على أنَّ الفوضى مُتأصّلة في اللبنانيين على اختلافِ مللهم ونحلهم، فلا يتوانى كثيرون منهم عن تجاوز الأعراف، والقوانين المَرعيَّة الإجراء، وعن استباحة حقوق الآخرين متى وَهَنت سلطة الدولة أو غابت، بل أحيانًا يُصبح سلاح الأحزاب هو السلطة التي تفرض نفسها فوق القانون العام.
توقّفَت الحرب الأهلية بالسلاح بعد “اتفاق الطائف” في العام 1989، فعرفت البلاد نوعًا من الأمن، أشبه باستراحةِ المحاربين، بعد تعب، أو بعد انقطاع موارد التمويل، وإنجاز الغاية من الحرب للذين أشعلوا فتيلها من وراء الستار، ومن خارج الحدود. لكن تلك الاستراحة كانت على حساب الحريَّة، حيث البلاد كلُّها وُضِعَت تحت الوصاية السورية، التي شهدت الصحافة تحت ظلّها، حالات من القمع والكبت، نَغَّصَت عليها منافع انفلاتها السابقة، ومنها مَا انتفَعَ بطُرقٍ أُخرى.
مع خروجِ الجيش السوري من لبنان في ربيع العام 2005، نشأت في البلاد قوى جديدة، فتضاربت مصالحها مع مصالح قوى أخرى، تبعًا لسياسات داعميها في الخارج، فعادت الصحافة اللبنانية إلى سيرتها السابقة، لتؤسّس لاستدامةِ الحرب الأهلية.
في خضمِّ تلك التقلّبات، في السلم، كما في الحرب، تبيَّنَ أنَّ الصحافة اللبنانية كان هدفها الأوّل “المال” وليس “الحريَّة”. وما أعطاها صورة المدافع عن الحريَّة، كونها مُتعدّدة الولاءات لمصادر تمويلها الداخلية والخارجية، وهذا شيءٌ في المظهر لا في الجوهر.
قبل الحرب، وبعدها، ارتبطَ ازدهار الصحافة عبر احتدامِ التنافس بين مؤسّساتها بدعمٍ من الأنظمة العربية المتنافسة والمتعارضة في ما بينها. فقد استغلّت تلك الأنظمة، ومعها جهات أخرى أجنبية، مناخ “الحرية” في لبنان، للإنفاق على مطبوعات، تُعبِّر عن رأيها، في حمَّى تناحرها مع دولٍ تُنافسها وتُعارضها، فمرَّ زمنٌ على الصحافة اللبنانية تحوَّلت فيه إلى “سوق عكاظ” لتلك الأنظمة المُتعادية والمُتناحرة.
تبعًا لذلك، ما عادت الصحف في لبنان تعكسُ أو تهتمُّ بالواقع اللبناني، في وقتٍ كان يجري على قدم وساق، التحضير والتهيئة للانفجار الكبير، بل كانت تُخاطب مَن يمدُّ لها يدَ العون، لقاء التصدّي للذين يناهضونهم، من أحزاب، وعقائد، ودول، والتعتيم على الحقائق التي تفضحُ مموِّليهم.
!“من الطرائف المؤكِّدة لهذا الواقع، ما قاله الرئيس الراحل شارل حلو لرؤساء تحرير الصحف اللبنانية الذين زاروه في قصر بعبدا حيث رحب بهم بعبارة: “أهلًا بكم في وطنكم الثاني … لبنان
:لبنان… والحَربُ الأهليّة المُستَدامة (44)
حَربٌ على الأرضِ ونِزاعٌ على الأفكار
2024/04/11
.البُندُقِيّةُ في الميدان، والرصاص، والقتل، والخراب، والدمار في ساحات الموت
القَلَمُ، والكلمةُ، والريشةُ واللون، في ساحاتِ الأفكار حيثُ تتصارَعُ الإيديولوجيات والعقائد.
هكذا هي الحروب، مُنذُ تاريخ الأزمنة، نزاعٌ على الأرض وصراعٌ على الأفكار. وهي كذلك في هذا الزمن، وهكذا ستبقى في كلِّ زمن.
ما مِن احترابٍ داخلي جذبَ إليه الأحزابَ السياسية، على مشاربها، والمُفكّرين، والكُتَّاب، والفنانين، والعمّال، كذلك العديد من الحكومات الأجنبية، مثل الحرب الأهلية الإسبانية، (التي نرجع إليها دائمًا، لنُماثلها، ونُقارنها، مع الحرب الأهلية اللبنانية)، ولهذه الأسباب، وغيرها، حظيت تلك الحرب باهتمامِ إعلامِ زمانها على الرُغمِ من أنَّ وسائلَ الإعلام، في هاتيك الأيام، لم تكن مُتقدّمة، ولا واسعة الانتشار، كما هو حال إعلام زماننا.
إنَّ التأثيرَ الإعلامي في الحروب الأهلية يُقاسُ بمدى قُربِ أو بُعدِ ميدانها من “قلب العالم” المُتَمَثّل، قديمًا وحديثًا، بأوروبا الغربية.
لذلك، لم تَنَل الحربُ الأهلية الروسية، التي أفرزتها الثورة البلشفية، (سبقت الحرب الإسبانية بسنواتٍ قليلة)، أيَّ اهتمامٍ إعلاميٍّ يُذكَر، كونها بعيدةً عن “المركز الأوروبي”، أو “نبض العالم”، كما كان جورج كليمنصو يُسَمّي القارة القديمة، على الرُغمِ من أنَّ الحَربَين مُتشابهتَان، إن من حيث النزاع على الأفكار، أو التدخّل الأجنبي. واحدةٌ في صراعٍ بين الشيوعية والحُكمِ القيصري الإقطاعي، وواحدة بين الجمهورية الاشتراكية والمَلَكِية الإقطاعية.
في الأولى تدخَّل الأميركيون والبريطانيون وأخفقوا، وفي الثانية تدخَّل النازيون الألمان والفاشيست الطليان ونجحوا.
الحربُ اللبنانية، مثل الحرب الإسبانية، قريبةٌ من “المركز الأوروبي”، جغرافيًا، وثقافيًا، وتكنولوجيًا. ولذلك لعبت فيها وسائل الإعلام والدعاية، الداخلية والخارجية، لجهةِ التحريض والتضليل، دورًا أساسيًا في جميع مراحلها، من انطلاقها، إلى توجّهها، وصولًا إلى تلفيقِ وتبريرِ مُجرَياتها ونهاياتها.
إنَّ “النزاعَ على الأرض” في الحرب اللبنانية، كان حاضرًا ولو استترَ في بعضِ الأحيان، ذلك أنَّ انخراطَ السلاح الفلسطيني في القتال، أثارَ شُبهةً لدى اللبنانيين من أنَّ هناكَ في الكواليس “مشروعَ الوطن البديل”، مما أعطى مسألةَ “النزاع على الأرض” أرجَحِيّةً على “نزاعِ الأفكار”، مُمثَّلًا بالبرنامج الإصلاحي للحركة الوطنية بقيادة كمال جنبلاط.
لم تَكُن الصحف والمجلات، ولا الإذاعات، هي الوسائل الإعلامية الوحيدة التي كانت تؤرّخُ يوميات الحرب الإسبانية، إنّما وجود عدد واسع من كبارِ الكتّاب، والمثقّفين، والفنانين الوافدين من كل أنحاء العالم، انضموا إلى صفوفِ الفريقَين المُتحاربَين، وإن كان الحضورُ في الصفِّ الجمهوري أكثر عددًا وأرفع قيمةً، من الكاتب البريطاني جورج أورويل، والفرنسي أنطوان دو سان–إيكزوبيري، والألماني أريك فاينرت، وغيرهم. إلًّا أنَّ الروائي الأميركي أرنست همنغواي بقي أوسعهم شهرةً، فهو خَلّدَ تلك الحرب برواية “لمَن يُقرَعُ الجَرَس” (نُقلت إلى الشاشة الفضية ولقي الفيلم نجاحًا ملفتًا، باستثناء لوحة “غيرنيكا للرسام بابلو بيكاسو). إلّا أنَّ همنغواي تحفَّظ، إلى حدٍ ما، عن إبراز كامل حقيقة الحرب، بقوله في مقابلة صحافية حول الموضوع: “إنه أمرٌ خطيرٌ أن تُكتَبَ الحقيقةُ في الحرب”!
إنَّ الصحافيين والكُتاب الأجانب الذين كتبوا عن الحرب الأهلية اللبنانية، وأبرزهم الأميركي جوناثان راندال والإيرلندي روبرت فيسك، لم يستطيعوا، باعترافِ راندال الذي زار مكاتب مجلة “الحوادث” في لندن في العام 1983 وجلس الى الحديث مع عدد من محرريها، أن يستوعبوا بصورةٍ كاملة الحالة اللبنانية التي أوصلت إلى الحرب.
ومع ذلك فإنهما انطلقا من زاويةٍ مُنحازة ضمنيًا: فيسك إلى الفلسطينيين ومنظمة التحرير، وراندال إلى بشير الجميل و”القوات اللبنانية”.
على صَعيدِ الإعلام المحلّي، كان الأمرُ مُختلفًا، لأنَّ الصحفَ اللبنانية، تاريخيًا، كثيرةُ العدد ومُتفاوِتةٌ في تَوَجّهاتها السياسية. فهناكَ بلدات ومدن عديدة في لبنان، صدرت فيها جرائد ومجلات أسبوعية وشهرية، وهي ظاهرة ملفتة في الشرق العربي. منها للتعداد لا للحصر: مرجعيون، صيدا، وطرابلس، وكفرمتى، وزحلة، بالإضافة إلى عددٍ منها في العاصمة بيروت، بحيثُ يُمكِنُ القولَ بأنَّ نسبةَ الصُحُف الصادرة في لبنان إلى عدد السكان، قبل قرن من الزمان، هي الأعلى في العالم، وربما حتى الآن.
في الحرب الأهلية (1975)، وفي المرحلة التي أسّست لها منذ سقوط الشهابية، كانت الصحافة اللبنانية “شرعة المتحاربين”. وبالتالي كانت من مُسَبِّباتها، وبعد اندلاعها، كانت الصوتُ الأعلى النافخ في نارها. فالحربُ بحدِّ ذاتها هي حدثٌ إعلامي بالدرجة الأولى. فليسَ من عَجبٍ أن يشهدَ لبنان في مرحلةِ الحرب “طوفانًا” من الوسائل الإعلامية على أنواعها، المكتوب منها والمنشور، المرئي والمسموع، المُحرّض والمُنضَبِط، والفالت والمُتَفَلّت، كلُّها أثرت ونفخت في نيران الحرب، إن بالتضليل، أو بالحشد والتحريض، أو بالمبالغة، أو بتأجير الخدمات وتضخيم، أو تجاهل، المعتركات (القتالية أو السياسية والفكرية).
بل يُمكِنُ القول بأنَّ الإعلامَ اللبناني، زرعَ بذورَ الحرب الأهلية، وكان شريكًا كامل الشراكة مع الأفرقاء المتحاربين، الذين كانَ لكُلٍّ منهم وسيلة إعلامية أو أكثر تساندُهُ، وترفعُ صوتَهُ، وتتطاولُ على خصمه، فأصبحت الصحافة رهينة قوى الأمر الواقع على الأرض، يخوضُ بعضها، البروباغندا السياسية، والحروب النفسانية، والتضليل، والإشاعات، وتزوير الحقائق وتشويهها، لمآرب مشبوهة، وبعضها القليل الآخر، لازَمَ الحياد، حتى احتجب!
من سنة 1975 إلى 1990 خرجت الصحافة اللبنانية عن كونها “صحافة تبليغ” سياسي، وثقافي، وفني، واجتماعي، فتحوّلت إلى “صحافة حرب” تُقاتل بالكلمة المُحَرِّضة، وتُلَوِّنُ حبرَها بألوانِ مَن يمدُّها بالمال. بعدما وضعت الحرب أوزارها، عاشت تلك الصحافة في غُربةٍ، وتفكُّكٍ، وضياع… فمنها ما لم يعد له أثر، ومعظم ما تبقَّى لم يعد له تأثير.
:لبنان… الحَربُ الأهليّة المُستَدامة (43)
البِيئةُ الشيعِيّة والصراعُ الثقافي
2024/04/10
صوفي كوبر، مُؤرِّخة إيرلندية، صَرَفَت عُمرًا على دراسة “التاريخ الثقافي”. سارَ ذِكرُها كلَّ مسير، بعدَ صدورِ كتابها: “تشكيل الهويات في العالم الإيرلندي”، (الناشر جامعة أدنبره، اسكتلندا).
من خلالِ دراستها لأنماطِ الهجرةِ الإيرلندية، فترة الاحتلال البريطاني، (إلى أوستراليا والولايات المتحدة)، طَرَحَت صوفي كوبر، نظريةَ أنَّ الشعبَ الرازح تحتَ حُكمِ الاستعمار يكونُ بالضرورة مُشارِكًا في المشروعِ الاستعماري، فتتشكّلُ هَوِيَّتُهُ الثقافية من خلالِ الانصهارِ الحياتي والسياسي مع المُستَعمِر.
إنَّ بعضَ الدارسين، لهذه النظرية، دراسة مُقارنة، خلصَ إلى استنتاجٍ أنَّ الهجرةَ اللبنانية هي أقربُ التجارب للهجرة الإيرلندية، إن قي أنماطها أو دوافعها.
في مجالِ المُقارَنة أيضًا، وَجَدَ بَعضُ الدارسين لنظريةِ كوبر تماثُلًا بين هجرة الهنود إلى شرق أفريقيا حيث التواجد البريطاني المُهَيمِن على الهند، وهجرة اللبنانيين إلى غرب أفريقيا حيث التواجد الفرنسي، الذي كان، وقتها، مُهَيمِنًا على المُقَدَّرات السياسية في لبنان.
ولا يغيبُ عن الأذهان، أنَّ شريحةً كبيرةً من شيعة لبنان، اختارت الهجرة إلى أفريقيا، وخلال عقودٍ سبعة حقّقَ المهاجرون الشيعة، ما لم يُحقّقه غيرهم من المهاجرين إلى القارة السمراء. والازدهارُ العُمراني في بلدات جنوب لبنان، مسقط رأس العديد من هؤلاء، شاهدٌ على هذه النجاحات، التي أنعشت البيئة الشيعية، وعزّزت الوحدة الوطنية مع باقي اللبنانيين.
إنَّ امتلاكَ هويةٍ ثقافيةٍ مُغايرةٍ عن الثقافة الوطنية التأسيسية، من شأنه أن يفرزَ حالاتٍ كيانية مُختلفة تؤدّي، في المدى البعيد، إلى “صراعِ الهويَّات” الذي تَضعفُ معه إمكانية بقاء وتطور الهوية الوطنية الجامعة.
على الرُغمِ من أنَّ “حزب الله” أعلنَ تراجعه عن إقامة “جمهورية إسلامية” في لبنان، تقومُ على “ولاية الفقيه” (كما هو الحال في إيران)، فإنَّ القاعدةَ التي نمت عليها فكرة “البيئة الحاضنة”، كبيئةٍ شيعيّة، تتمايزُ ثقافيًا ومُجتَمَعيًا عن بقيّة المكوّنات اللبنانية، لا تُسعِفُ في قيامِ “وحدةٍ” في الوطن الواحد، وهو أمرٌ يختلفُ جوهريًا عن “الوحدة الوطنية” الشكلية المُستَخدَمة تاريخيًا لتقطيع المراحل.
إنَّ التركيبةَ المُعَقَّدة، التي يصفُها بعضُ السياسيين، بأنّها “دولةٌ داخل الدولة”، يصعبُ معها فَهم حالة الانفصام الوطني المُتمادي، بحصرها في إطارِ الصراعِ السابق للاحتلال الإسرائيلي للجنوب، كما إنّهُ من الصعوبة بمكان فهمها في إطارِ فَرَضِيّةِ ضرورة بقاء لبنان في حالةِ صراعٍ دائمٍ حتى زوال الكيان الصهيوني، أو إلى حلٍّ للقضية الفلسطينية يقبل به الفلسطينيون بضمانةِ العالمِ كلّه.
أن تَضَعَ “البيئة الحاضنة” الولاء لهويتها الإسلامية في مرتبةٍ أعلى وأوسع من الهوية الوطنية، من شأنه أن يقضي على القاسم المشترك، الذي يجمع تلك البيئة مع فئات لبنانية أخرى لها موقف مُماثل من الاحتلال الإسرائيلي ومن الحركة الصهيونية. ولذلك، فإنَّ ما يصحُّ في حالةِ المواجهة المباشرة مع العدو الإسرائيلي، لا يصحُّ في الوضع اللبناني الفُسيفسائي في المدى البعيد.
إنَّ الفارِقَ لا يبدو شاسعًا بين أن تكونَ أيُّ حركةٍ عقائدية حالةً إيجابيَّة مُنفَتِحة ومُبدِعة وخلّاَقة، وبين أن تتحوَّلَ إلى وَضعيةٍ سلبية، معزولة ومنعزلة، في داخلها صراعٌ صامت، وفي خارجها نزاعٌ صاخب مع الآخرين، فتُصبحُ “الهجرة”، كما شخَّصتها صوفي كوبر، هي الحالة الدائمة، فتنقلب فكرة استنزاف العدو، المبرر الأصلي لنشوء حركة المقاومة، إلى نزفٍ واقعي لشعبِ الوطن وموارده وطاقاته الإبداعية.
إنَّ مُراجعةَ ما تبدَّى عبر التاريخ من حركات المقاومة في العالم ، من ثورة سبارتاكوس (ثورة العبيد في الدولة الرومانية) في القرن الأول قبل الميلاد، إلى كلِّ الحركات الثورية وحركات المقاومة في العصور الحديثة، من الثورة الفرنسية، الى البلشفية في روسيا، ومن المقاومة الفرنسية ضد الاحتلال النازي، إلى المقاومة الجزائرية ضد الاحتلال والاستيطان الفرنسي، وانتهاءً بالمقاومة الفلسطينية ضد الاحتلال الصهيوني، تُظهِرُ جليًّا أنَّ أيًّا منها لم يأخذ فكرة المقاومة أو “البيئة الحاضنة لها” على أنها حالةٌ مُستَدامة للمستقبل. وقد فشلت جميع المحاولات اليسارية المُتَطَرّفة في العالم بطرحها فكرة “الثورة الدائمة”، لأنَّ الناس في المجتمعات السويَّة ترغب في السلام، والاستقرار، والازدهار، والاستمتاع بمباهج الحياة. ولهذا أيضًا أخفقت “الثورة الثقافية” التي قادها ماو تسي تونغ في الصين الشعبية، لأنها كادت أن تُوصِلَ البلاد الى حربٍ أهلية، لولا الانعطاف الناجح الذي قاده دينغ سياو بينغ، مما جعلها قوة عُظمى في العالم.
يبقى أنه مهما تعدَّدت وتنوَّعت المُبرّرات لمنح “البيئة الحاضنة” هويةً مُتميِّزة، تظلُّ حالةً استقطابية تُشَجِّعُ على قيامِ “بيئاتٍ حاضنة” قبالتها تحت مُسَمَّيات مختلفة مثل “الأمن الذاتي”، أو “الدولة المدنية العلمانية”، أو غير ذلك من الذرائع التي يُمكِنُ أن يتصاعد غليانها وصولًا إلى احتكاكاتٍ تُطلِقُ شرارةَ حربٍ أهلية جديدة، هي قائمة أصلًا في السياسة وفي الإعلام.
ليس لبنان بلدًا فريدًا في نظامهِ الحرِّ المَزعوم، بل من حيث هو حالة تأسيسية دائمة، بمعنى أنَّ نظامه السياسي والكياني لم يستقر بعد على صيغةٍ نهائية. ولذلك، فإنَّ الحالةَ المتولِّدة من الاستقطاب الحاد، سوف تجعلُ من الولادة التأسيسية الجديدة “عملية قيصرية” استنزافية مؤلمة، بفعل تصارع الهويَّات، في غياب هويَّة وطنية جامعة فوق بقيَّة الهويَّات
:لبنان… الحَربُ اللبنانيّة المُستَدامة (42)
توسُّعٌ في الخارج ضعفٌ في الداخل
2024/04/09
.شباط (فبراير) سنة 2010، كاد أن يكونَ يومًا عاديًا في دمشق، لو لم يحدث فيه ما لفت أنظار العالم كلّه، وأثارَ حفيظةَ، وشكوك، المسيحيين في لبنان، وبعض السنَّة
.أن يزورَ محمود أحمدي نجاد، رئيس الجمهورية الإسلامية الإيرانية، عاصمة الأمويين، هو أمرٌ طبيعي، فالعُرى بين دمشق وطهران، وثيقةٌ، والمصالحُ مُتبادَلةٌ
كانَ من لزومِ الزيارة الرسمية، أن تنعَقِدَ قمّةٌ، بين الضيفِ (الرئيس الإيراني) والمُضيفِ (الرئيس بشار الأسد)، لتوثيق العلاقات، والتأكيد على المصالح المشتركة. لكن، أن ينضمَّ إلى اجتماعهما، الأمين العام ل”حزب الله”، السيد حسن نصرالله، هو الملفت، والمُثير، فالرجلُ لا يتمتّعُ بصفةِ “رئيس دولة” ولم يُمنَح أيَّ صلاحيةٍ تقريرية من الشعب اللبناني، ليكون طرفًا ثالثًا بين رئيسين، ويجلس معهما إلى الحديث، فبدا ذلك، وكأنَّ السيد هو الرئيس الفعلي للجمهورية اللبنانية، لا الرئيس الماروني! وأنَّ الرئيسين، السوري والإيراني، وَجَّها، بهذا التصرف، رسالةً إلى اللبنانيين، مفادها، أنَّ “هذا هو رئيسكم، بيده القرار، وإليه العودة، من الآن وصاعدًا
لم يكن مُستَغرَبًا، بعد الذي جرى، ودار، في دمشق، يومذاك، أن تزدادَ مخاوفُ المسيحيين، ويتفاقَم امتعاضهم، فرئاسةُ الجمهورية معقودةٌ لهم، بمُقتضى “الميثاق الوطني” قبل الطائف، وبالدستور بعده. فلعبت الهواجس في رؤوسِ بعض مُحرّكي الرأي العام المسيحي، بأنَّ “القمة الثلاثية”، تلك، هي إعلانٌ واضحٌ، عن تغييرٍ مُضمِر، في طبيعة الصيغة اللبنانية التاريخية بحيث يبقى للبنان رئيسٌ مسيحي، شكلي، بروتوكولي، بلا صلاحيات تقريرية، بعدما نزع منه “مؤتمر الطائف”، الصلاحية السياسية الأهم، وهي الحقُّ في حلِّ المجلس النيابي، فأصبح رئيس المجلس (الشيعي)، مطلق الصلاحية في السياسة الداخلية، بينما أمين عام “حزب الله”، له حرية التصرف بالسياسة الخارجية للبلاد.
وليس أدلُّ على ذلك، من القرار المنفرد الذي اتخذه “حزب الله”، بدعمِ النظام السوري المأزوم، والمُشاركة في صدِّ المُتمرّدين عليه ومقاتلتهم، فأرسل سنة 2012 كتائب من مقاتليه إلى منطقة “القصير”، بحجة الدفاع عن المواطنين اللبنانيين الشيعة، المُقيمين في تلك المنطقة الحدودية قي شمال البقاع.
أمّا داخليًا، فبعد انتهاء ولاية الرئيس ميشال عون، أجاز “حزب الله” لحكومةِ تصريف الأعمال برئاسة نجيب ميقاتي عَقدَ اجتماعاتها، خلافًا للدستور، وبحجّة تيسير أمور الناس والدولة، في فترة الفراغ الرئاسي، مُناقضًا بذلك موقف “التيار الوطني الحر”، حليفه المسيحي. اعتبرَ المسيحيون أنَّ هذا الموقفَ المُستغرَب هو “رسالة مبطَّنة” إليهم، لا تخلو من تهديدٍ أو تحذيرٍ ضمني، بأنَّ التمادي في المُناكفة وعَرقَلة وصول مرشَّح “الثنائي الشيعي” إلى رئاسة الجمهورية، لن يُعطي المسيحيين أكثر مما هم حاصلون عليه، وأنَّ إصرارهم على تحصيل المزيد من خلال ما يسمونه “تصحيح اختلال التوازن”، يمكن أن يُعرّضهم إلى خسارةِ المزيد.
كلُّ تلك المؤشّرات والأدلّة، أنبأت بأنَّ “حزب الله” في لبنان هو “الحزب القائد”، وبالتالي هو الذي يُديرُ الدفَّة، شاء الآخرون أم لم يشاؤوا، وبأنَّ الحزبَ القائد يتكلم، وعلى الآخرين “السمع والطاعة”.
كلّما اشتدّت المطالبة الداخلية، والخارجية أيضًا، بالتعجيل في انتخاب رئيس جديد للجمهورية، يتنادى بعضُ القوى السياسية إلى ما سمّوه “تحديد مواصفات الرئيس المطلوب”، وكأنَّ بها تنتعش الآمال، وتصطلح الأحوال. أما “حزب الله” فكان يرى أنَّ “أهل المواصفات” يتحدثون في أمورٍ كثيرة، بينما المطلوبُ واحدٌ، وهو أن تكون للرئيس العتيد صفةٌ مُعَيَّنة، حدَّدها نصر الله بجملةٍ واحدة: “ألَّا يطعن المقاومة في الظهر”. أو بكلام فاصل ناجز: مرشح “الثُنائي الشيعي”، أو لا أحد.
هناكَ مواقف كثيرة مُماثلة، لا يعلن الحزب عنها، لكنه يتصرَّف على أساسها، ويعمل في إطارها، وذلك مراعاةً منه للحساسيات المجتمعية، وليس القوى السياسية. فهو إن كان منح نفسه “أحقيَّة السيطرة” على بيئته الحاضنة، إلّا أنه يدرك تمامًا أنَّ لا قدرة له على استمالة بقية اللبنانيين، إلّاَ بتغليفٍ إيديولوجي قوامه “المطلق الأخلاقي”، الذي يُظهر المقاومة على أنها “فوق الشبهات”.
إنَّ فكرةَ “البيئة الحاضنة” من حيثُ تكوينها الإرادي، أو الإضطراري، المُتَشكّلة من جناحَين (“أمل” و”حزب الله”)، تُمثِّلُ في نظر بقية اللبنانيين تركيبًا هجينًا، أحد طرفيه ليس فوق الشبهات. وحتى الآن لم يقدِّم أحدٌ تبريرًا لهذه الثنائية المُغلَقة على الآخرين، غير القول بتماسك البيئة الحاضنة لمُقتَضيات حماية المقاومة، على الرُغمِ من المسؤولية الجسيمة، التي يحملها أحد جناحَي هذه التركيبة، من حيث الضلوع في إيصال لبنان إلى الانهيارات التي شهدها على جميع المستويات.
إنَّ ما قامت عليه “البيئة الحاضنة” في الأصل، بعد اصطدامٍ مُسلّح بين جناحيها، هو ائتلافٌ ضمن الطائفة الشيعية، لرَصِّ صفوفها وتوحيد كلمتها وراء المقاومة، واضعةً كلَّ النقائض الأخرى خارج اهتماماتها.
هذا المفهوم للبيئة الحاضنة لا يقُيمُ وزنًا لإمكانية أن يأكل الشريك الآخر في “الثنائية الشيعية” من رصيد المقاومة، في الذهن الشعبي العام، مما ينتقصُ من رونقها في إطار، “المطلق الأخلاقي”، فتبتعد المقاومة بذلك، أكثر فأكثر، عن إطارها المبدئي باتجاه النزعة السلطوية القائمة على الاستئثار.
هذا التحوُّلُ في “البيئة الحاضنة”، بعيدًا ببطء عن “المطلق الأخلاقي” القائم على التضحية المجرَّدة بالذات في سبيل أهداف سامية، انتقص في المضمون من التعدُّديَّة اللبنانية، ليس باتجاه الوحدانية وهو أمر غير ممكن، بل من حيث حصر الانتفاع من الوضع القائم في اتجاهٍ واحد.
لقد قامت المعادلة اللبنانية على أساسِ أنَّ الاختلافَ التعدُّدي ينفع فئات مختلفة بطُرُقٍ مختلفة، فإذا بمعادلةٍ جديدة تبرزُ وتهدفُ إلى التفرُّدِ بالانتفاع، من خلال امتلاك الكلمة الفصل المقرِّرَة في جميع الشؤون المحليَّة، من قرار الحرب والسلم، وانتخاب رئيس الجمهورية، إلى تشكيل الحكومات، الى الأحكام القضائية، إلى أصغر معاملةٍ في دوائر الدولة، التي صارت كلُّها هياكل شكليَّة.
إنَّ الوحدانية في لبنان لا تقوم من خلال حكم الحزب الواحد، لكن حزبًا واحدًا لديه القوة الداخلية القصوى، ومدعوم من جهة إقليمية كبرى، يمكنه تطويع التعددية التقليدية في خدمة سلطته وأهدافه، فينتفي بذلك الفارق بين الوحدانية الاستئثارية والتعدُّدية الشكليَّة. وينسحب ذلك على “البيئة الحاضنة”، حيث تسود الوحدانية الثقافية، خصوصًا في مجال تثقيف الأجيال الجديدة على التميُّز الثقافي والمجتمعي عن بقية اللبنانيين.
إنَّ اعتمادَ ثقافةٍ مُغايرة للثقافة اللبنانية التعدّدية، في تثقيف الأجيال الشيعية الطالعة من شأنه مستقبلًا أن يوقع تلك الأجيال في مأزقٍ عند أيِّ اختلالٍ في تلك الأُسُس والأُطُر الثقافية من جرَّاء التطور الطبيعي للأوضاع العالمية، فتبرز إشكالية: إما عزل البيئة الحاضنة عن بقية اللبنانيين، أو وضعها في مواجهتهم، واستحالة عزلها عن القوى الخارجية، لتصبح أشبه بالجالية الأجنبية!
لقد تبيَّن من المشاركة المحدودة (أو الحدودية) ل”حزب الله” في حرب غزَّة، بعد توسُّعٍ مشهود في نطاق الحروب الإقليمية، غير متناسبة مع حجم لبنان وإمكاناته، أنَّ كلَّ توسُّعٍ في الخارج يؤدّي الى ضعفٍ في الداخل.
إنَّ هذا القانون الطبيعي يسري على الدول الكبرى أيضًا. فالاتحاد السوفياتي، على سبيل المثال، سقط في هذا المطب، وكذلك الولايات المتحدة الأميركية، وأيضًا جميع الإمبراطوريات المتعاقبة منذ فجر التاريخ. والتخبُّط الإسرائيلي في حرب غزة خير مثال على ذلك.
خلاصة هذا القانون، أنَّ الضعفَ في الداخل يؤدّي الى تناقص الشرعية، ليس لنقصٍ في القوة، بل بفعل الابتعاد عن المواقف المبدئية والأخلاقية.
المفارقة في الأمر، أن التوسُّعَ الإقليمي للفائض في قوة “حزب الله”، حشر لبنان في عنق الزجاجة، ووضعه أمام مخرجٍ واحد، يخالف فيه السياق التاريخي المتوارث، فيدير وجهه إلى الشرق وظهره إلى الغرب.
لكنه أيضًا مأزق إقليمي، إذا كان خروج لبنان من عنق الزجاجة سيؤدّي به إلى تقويضِ الأُسُسِ التي قام عليها منذ الاستقلال. هذا الاحتمال ما زال واردًا، وإذا ما تحقق في يوم من الأيام، وهو أمرٌ لا يبدو قريب المنال في المستقبل المنظور، فإنَّ ذلك في نظر العالم، ونظر اللبنانيين، يُشَكّلُ إخفاقًا لتوسّعية “حزب الله”. لكن هذا الإخفاق، لا يعني نهاية “حزب الله” كحزب لبناني يحمل همومًا لبنانية. وخطورة هذا التحوّل، أنه سيُنزِلُ الأذى بالأطراف الإقليمية التي تشارك معها أثناء توسيع دائرة اهتماماته الخارجية.
البديل من ذلك، أن يُصبحَ لبنان دولة تابعة، في إطارِ استقلاليةٍ شكلية. والمعروف أن الدولة التابعة، هي بالضرورة دولة فاشلة، تعيش على كفِّ الحربِ الأهليّة المُستدامة.
:لبنان… الحَربُ الأهليَّة المُستَدامة (41)
التَحَكُّمُ بَدل الحُكم
2024/04/08
يَقِفُ “حزب الله” فريدًا في البيئة الشيعية، ومُتَفَرِّدًا بين الأحزاب اللبنانية. لذا، فهو قادرٌ على فَرضِ القرارات، والخِيارات السياسيّة التي تتواءَمُ مع أهدافه، محلّيًا وإقليميًا، وتعطيل كل ما يقف حائلًا أمامَ تحقيقِ تلكَ الأهداف.
إنَّ القدرةَ التي يتمتّعُ بها الحزب مُستَمَدّةٌ من المقدرةِ على تقديمِ الخدمات الاجتماعية والضرورات الحياتية لبيئته الحاضنة، التي هي ترسه ودرعه الواقي، فوثَّق روابطه بها، فسدَّ بذلك عجز الدولة عن تأمين تلك الخدمات، التي ينفق عليها مما يستحصل عليه من دعم مالي وافٍ ومُستدام من “الجمهورية الإسلامية” في إيران، باعتراف الأمين العام للحزب السيد حسن نصر الله، وهذا ليس مُستَغرَبًا في السياسة اللبنانية القائمة على “الزبائنية”، إلّا أنه مُتَفرّدٌ في وسعِ قدرته.
في 18 كانون الثاني (يناير) 2006، (قبل حرب تلك السنة المُدَمِّرة بسبعة أشهر)، أنكرَ أمين عام “حزب الله”، الرغبة أو “النِيّة”، في الحُكم، فقال في جريدة “الحياة”، التي كانت تصدر من لندن: “ليست لدى الشيعة نيَّة لحُكم لبنان، وأقصى ما يطمحون إليه، هو الشراكة مع بقيّة اللبنانيين”.
إلّا أنَّ المُتغَيِّرات السياسية الداخلية والاقليمية بدَّلت “النيَّة”، فجعلت الحزب يُفاضِلُ بين “الحُكم” و”التَحَكُّم”، فجنحَ إلى التحكُّم، الذي سمحَ له إدارة الأمور عن بعد، والتنصّل من مسؤولية انهيار الدولة وتفكّكها.
إنَّ ما ساعدَ الحزب على ذلك امتلاكه ترسانة متقدّمة من الأسلحة الحديثة المتطوِّرة، مكّنته من مواجهةِ إسرائيل ومعادلتها ميدانيًا. وبالتالي، أخذَ لنفسه حرّية الانفراد بقرارِ الحربِ والسلم من غيرِ مُشاورَةِ أحدٍ من القوى السياسية اللبنانية الأخرى، بما فيها الدولة اللبنانية وجيشها الوطني وقواتها الأمنية.
وعاملٌ آخر ساعده على التحكّم، ثُنائيته مع “حركة أمل”، التي يحرصُ عليها حرصًا وجوديًا، لأنّها مكّنتهما من احتكار التمثيل الشيعي من دون مُنازِع، مما جعلَ أي قرار وطني رهن قبولهما أو رفضهما. وليس خافيًا على اللبنانيين أنَّ “حزب الله” بات القوة المُقَرِّرة في الوضع اللبناني الراهن. وفي وقت من الأوقات اعترفَ بذلك علنًا رئيس حكومة تصريف الأعمال، نجيب ميقاتي، مما أوحى بأنه يستندُ إلى هذه القوة التقريرية في أعماله التصريفية، وبأنَّ هذا الوضع سوف يواجه أيّ رئيس حكومة غيره. وكون رئيس الحكومة أقرَّ بأنَّ الكلمة الأخيرة في السلطة التنفيذية ليست له، يخلق إشكالية تتعدَّى التركيبة الدستورية للنظام اللبناني إلى المسألة الوجودية التي قامت عليها الشراكة الوطنية للجمهورية اللبنانية منذ الاستقلال والميثاق الوطني. وهذا يؤكّدُ حتمية اختلال التوازن الوطني بفعل فائض القوة لأيِّ مكوِّنٍ من مكوِّنات الكيان اللبناني.
إنَّ حصرَ قوةِ الحزب بسلاحه، أو امتلاكه قرار الحرب والسلم، يُغطي عمليًا انعزال الجسم الشيعي المُتراص عن القوى والأحزاب اللبنانية الأخرى، وأيّ علاقة اتصال مع الآخرين لا تتعدّى السطحية، ولا تَدخُلُ في العُمقِ كشراكةٍ تقريرية.
وقد تبيَّنَ ذلك بوضوح خلال الانتفاضة الشعبية في 17 تشرين الأول (أكتوبر) 2019، عندما انبرى “الثُنائي الشيعي” إلى إحباط تلك الانتفاضة، في إعلانٍ واضحٍ عن رغبتهما في استمرار الأمر الواقع السابق كما هو عليه، بعُجَرِهِ وبُجَرِهِ، خشية أن تتطوّرَ تلك الانتفاضة الشعبية لتنال من البيئة الحاضنة المرصوصة الداعمة للمقاومة.
يقولُ بعض المُنخَرِطين في تلك الانتفاضة أنَّ تدخّلَ “الثنائي الشيعي” اقتصر، بعد الأسبوع الأول، على سحب محازبيهما من ساحة الاعتراض، وتلا ذلك أساليب قسرية لتفريق المُحتجّين. فالانتفاضة الاحتجاجية الواسعة التي انفجرت فجأة، كانت عابرة للطوائف اللبنانية، وبالتالي فإنه ليس من الممكن ل”الثنائي الشيعي” أن يواجهها مواجهةً قمعية سافرة، بل استخدمَ ما يكفي من الوسائل لإعادة الاصطفاف على القواعد الطائفية السابقة.
مُنذُ ما قبلَ دخولِ “حزب الله” شريكًا في السلطة السياسية، تصرَّفَ علنًا على أساسِ أنَّ المقاومة ليست بحاجة إلى إذنٍ من أحد، بل دَحضَ علنًا، فكرة الإجماع الوطني لتحصينِ المقاومة. فقد آثرَ الحزب أن تستندَ المقاومة إلى فكرة “البيئة الحاضنة” الموثوقة لتحصين نفسه بدلًا من التضامن الوطني غير الموثوق. ومن هنا نشأت إشكالية التناقض بين المقاومة كعمل سرِّي في زمن الاحتلال الإسرائيلي، وبين المشاركة في السلطة كعملٍ علنيٍّ بعد التحرير. وفي ذهن بقية اللبنانيين، خارج إطار “البيئة الحاضنة”، أنَّ “حزب الله” أراد من مشاركته في السلطة تاليًا، أن يتقاضى منهم ثمن ذلك التحرير، مما يُفسِّرُ في رأي بعضهم هيمنة الحزب على القرار فصارت له “الكلمة الأخيرة”، على قول رئيس الحكومة نجيب ميقاتي.
إن إشكالية “البيئة الحاضنة” لا تكمُنُ في السيطرة السياسية، سرَّا أو علنًا، بل في أصلِ التركيبة الكيانية المُتَفَق عليها للوجودِ اللبناني التعدُّدي المانع لاختلالِ التوازن حيث يؤدِّي اختلاله دومًا إلى تجدُّدِ الحربِ الأهلية بأوجهٍ مُختَلفة. ذلكَ أنَّ فكرةَ “البيئة الحاضنة”، والمقصود بها البيئة الشيعية تحديدًا، تُعطي انطباعًا بأنَّ المقاومة ليست بحاجة إلى أيِّ طَرَفٍ آخر لتحصين نفسها، بمعنى أنَّ أيَّ بيئةٍ أخرى من المُستَبعَد، أو ربما من المستحيل، أن تكونَ حاضنة، هذا إذا لم تُعتَبَر مُعادية. وبهذا المعنى، تُعطي انطباعًا بأنّها فكرةٌ انفصالية، أو انعزالية، أو حتى تقسيمية. فالتحصينُ بالمعنى المانع للاختراق من العدو الخارجي يُمكن في وضعٍ تعدُّدي، كالوضع اللبناني، أن يتحوَّلَ إلى مانعٍ للتلاقي مع بقيّةِ البيئات اللبنانية باعتبارها غير موثوقة أو لديها أجندات مُختلفة.
إنَّ التهمة التقسيمية، التي طالما رُميَ بها المكوِّن المسيحي، كذريعةٍ من ذرائع الحرب الأهلية، هي تهمةٌ باطلة من الأساس، لكن التعامل مع ذلك المكوِّن ما زال مستمرًّا على أساس هذه التهمة، مع أنه هو الذي اختار “لبنان الكبير” للعيش مع الآخرين بالشراكة والتوازن.
في هذه الإشكالية يَكمُنُ سرُّ استمرار إثارة النزعة التقسيمية في وَجهِ المكوِّن المسيحي كلما طالب بشيءٍ من شأنه تصحيح الاختلالات الحاصلة بفعل اختلال الموازين التاريخية.
على أنَّ ذلك يبقى أقلَّ مدعاة للاختلال الكياني من تحوُّلِ “البيئة الحاضنة” (الشيعية)، تحت دعوى الاضطرار إلى التحصين، إلى ما يشبه “الغيتو” الخائف من الآخرين، وهو الذي يخيفهم، فتنشأ فيه مع الوقت ثقافةٌ مُغايِرة، ومصالح مُتباعدة، أو حتى طرائق عيش مختلفة. وفي مثل هذه الحالة يأخذُ مفهومُ الشراكة الوطنية معنىً مُغايرًا ليصبح، كما ظهر من خلال القول بأنَّ ل”حزب الله” “الكلمة الأخيرة”، على قاعدة: “ما لنا لنا، وما لكم لنا ولكم”.
من الملامحِ المُقلِقة لبقية اللبنانيين أن يكونَ شريكٌ مؤسّسٌ في الوطن، من لبنان ظاهريًا وليس فيه عمليًا، لأنَّ فكرة “البيئة الحاضنة” تُعطي معنى عدم الثقة بالشركاء الآخرين، والاختلاف بكل ما عدا ذلك بحيث يمكن للقائلين بالتحصين في “البيئة الحاضنة”، أنَّ حلَّ هذه الإشكالية هو في السيطرة على الآخرين من خلال الاستحواذ على “الكلمة الأخيرة”، فيصبحون مهمَّشين ومنقسمين فيخفُّ وزنهم وتذهب ريحهم.
وما كانت فكرة “البيئة الحاضنة” لتتجذَّر وتأخذُ بُعدها الخلافي في السياسة، والاختلافي في الثقافة، لولا الأوضاع الإقليمية والدولية المؤاتية لمثل هذا التوجه، الذي ربما لم يكن مقصودًا في الأساس من أهل تلك البيئة. لكن ما حدث قد حدث، والتفكيرُ قد يَنصَبُّ على البحث عن صيغة، سلبية بطبيعتها، في حال لجأت المكوّنات الأخرى إلى اعتماد نظريَّة “البيئة الحاضنة” ذاتها، لحمايةِ نفسها من استقواءِ فريقٍ واحدٍ بحصانة بيئته.
والأغلب على الظن أنَّ مثلَ هذا التطور، المُمكِن نظريَّاً، مُستَبعَد في المدى المنظور، بسببِ الانقسامات الكثيرة في البيئات الأخرى، مُقابل التراص والتماسك في “البيئة الحاضنة” القائمة في المكوِّن الشيعي.
:لبنان… الحَربُ الأهليّة المُستَدامة (40)
“أمل…” والخِياراتُ السَيِّئة
2024/04/07
مضى عليها نصفُ قَرنٍ ويزيد، ولمَّا تزل قضية اختفاء الإمام موسى الصدر (1978)، يكتنفها الغموض، ليس في ما نَتَجَ عنها، وإنّما في أسبابها ومُسبّباتها، التي ساد حولها جَدَلٌ كثير.
وبعد سقوط نظام معمر القذافي، المُتَّهَم بها، مخرَ عبابَ تلك القضية كثيرون، ولم تهدأ التكهّنات والفرضيات، وكأنه لا يُرادُ أن يُفصَلَ في أمرها.
بعد تغييب الإمام، فَشِلَ السيِّد حسين الحسيني، (رئيس مجلس النواب، وكاتم أسرار مؤتمر الطائف، وخافي مسودّاته، كما يقول ميشال معلولي)، الذي تولّى قيادة حركة الإمام، في الحفاظ عليها، وعدم تحويلها إلى “تنظيمٍ مُسلَّح” ينضمُّ إلى التنظيمات الطائفية، وينغمسُ في أتون الحرب الأهلية.
وللحسيني يدٌ مع الإمام في تأسيس الحركة، كقوّةِ دَفعٍ للتلاقي، والتحاور، والتفهّم والتفاهم، مع المكوّنات اللبنانية الباقية، فانخرط، معهما، رجال دين من طوائف أخرى، ورجال فكر، وسياسيين، نشروا الفكرة وخدموها.
وعندما أيقنَ إمام المحرومين، أن الدولة تسير في طريق التفكك، والانحلال البطيء، ولن يكونَ، تبعًا لذلك، بمقدورها حماية مواطنيها، والتصدّي لمختلف الأعمال العدوانية على الجنوب، حيث الكثرة الشيعية، بفعل الوجود الفلسطيني المسلّح هناك، (بموجب “اتفاق القاهرة” الذي أُبرِمَ برعاية الرئيس جمال عبد الناصر سنة 1969 وكرَّس انتهاك السيادة اللبنانية)، مالَ الصدر خلال السنوات الفاصلة بين “اتفاق القاهرة” واندلاع الإحتراب الداخلي سنة 1975، إلى جعل الحركة تنظيمًا مُسلّحًا: “افواج المقاومة اللبنانية” (أمل).
إلَّا أنَّ الإمام حرص خلال فترة وجوده في لبنان على عدم انغماس “أمل” في القتال الطائفي، وحاول الحسيني، من بعده، واستقال سنة 1980 دفاعًا عن ذلك.
لكنَّ هناك أسبابًا أخرى جعلت الحسيني يترك الحركة، التي أسهم في تأسيسها، من أهمّها أنَّ النظامَ السوري لم يكن مُرتاحًا إلى مواقفه، وكانت انتخابات سنة 1992 قطعت شعرة معاوية بينه وبين الرئيس حافظ الأسد، الذي لم يستطع تحمّلَ انتقادات الحسيني حول العملية الانتخابية، وما شابها من ترغيبٍ وترهيبٍ وتزوير، لأن لائحته أُسقِطَت، وفاز بمفرده، فعاقبه الأسد بعدم عودته إلى رئاسة مجلس النواب.
وقد تكونُ مُعارضةُ الحسيني للرئيس الياس الهراوي، القاسية، هي الأخرى أسهمت في احمرار عين دمشق عليه.
وَصَلَ نبيه بري إلى رئاسة الحركة، فابتعدَ بها عن المفهوم الأصلي، بفعلِ الانخراطِ المُستَدام في الحرب الأهلية. فهو بدافعٍ من النظام السوري، اختار النصف الأخير من مُعادَلَة الإمام، تحت عنوان “السلاح زينة الرجال”، مُتناسيًا النصف التأسيسي السلمي الجامع للمكوّنات اللبنانية الأخرى، وقد يكون مردُّ ذلك، عنده، إلى أنّهُ باختفاء الإمام اختفت مَرجَعية التصويب، أو لأنَّ الإحترابَ الداخلي، خلافاً لتوقّعاته، وتوقّعات سائر اللبنانيين، طالَ أمده، فتغيّرَت الحسابات ومالت الموازين.
وخلافًا لما كانت عليه الحركة، بقيادة الحسيني، حيثُ كانَ عملها في إطار السياسة اللبنانية التي كانت سائدة حتى سنة 1975، فإنّها على عهد برّي، المُمتَد، عملت في إطارِ الأمرِ الواقع السوري المُسَيطِر على لبنان، خلال الحرب الأهلية وبعدها، أو بتعبيرٍ آخر، نَقَلَ بري “أمل” من العمل السياسي المحلّي المحدود، إلى العملِ كحالةٍ ميليشياوية مُتَوَسِّعة على إيقاعِ أجندةٍ إقليمية مُتقلّبة.
وربما لهذا السبب اتّسَعت مروحة معاركها في اتجاهات متعدّدة، منها اشتباكٌ مع “حزب الله” كادَ أن يؤدّي إلى “حَربٍ أهلية شيعية” داخل الحرب اللبنانية. وقد جرى تدارُكُ هذا الأمر بتفاهُمٍ طويلِ الأجل، ربما بتأثيرٍ خارجي، ومن هذا التفاهُم، المُستَمِرّ حتى الآن، نشأت الحالة التي أطلقوا عليها اسم “البيئة الحاضنة”، أي وحدة الطائفة الشيعية المؤيِّدة والداعمة للمقاومة، والمُحَصِّنة لها، والمانعة لاختراقها، وخزّانها البشري، والمنبت المحلي لكوادرها ومقاتليها.
حدثَ ذلك بتدبيرٍ من إيران، ولإتمامه ونفاذه كانَ لا بُدَّ من إزاحةِ قُطبَي الشيعية السياسية، محمد حسين فضل الله وحسين الحسيني، فوُجِّهت الأنظار إلى السيد حسن نصر الله لحجب فضل الله عن التأثير الوازن في البيئة الشيعية، بينما كُلِفَ نبيه بري بدعمٍ من دمشق، تغييب أثر الحسيني السياسي، قبل أن يُغَيِّبهُ الموت في 11 كانون الثاني (يناير) 2023. وقد ساعد على ذلك مقاطعته لمجلس النواب، احتجاجًا على ما أفرزته انتخابات 1992 من نتائج مُقَرَّرة مُسبَقًا، بما في ذلك رئاسة المجلس المُطَوَّبة مدى الحياة للرئيس نبيه بري.
فكانَ ما صار يُسمّى “الثُنائي الشيعي”، غير القابل للاختراق أو التزعزع، فاستحالَ إلى قوةٍ سياسية أولى في البلاد، فضلًا عن قوته العسكريَّة، بحيث لم يعد مُمكنًا انتخاب أيّ رئيس، أو تشكيل أيّ حكومة، أو القيام بأيِّ تشريع، من غير موافقته، وفوق ذلك، لم تعد هناك أي جهة شيعية أخرى قابلة، أو مؤهَّلة، للخروج عن هذا الإجماع المتين.
هي “حالةٌ مُصَفَّحة” بالمعنى السياسي الداخلي، وبالتالي، معزولةٌ عن بقية القوى السياسية اللبنانية، أو تتكلم لغةً غير لغتها. وربما استسهلت عزل نفسها بهذه الطريقة لاعتباراتٍ أمنية، لكونها مُستَهدَفة من إسرائيل، وربما من دولٍ أخرى عربية وأجنبية.
لذلك، أخذت “أمل”، تحت ظل الوصاية السورية، منحىً هجوميًا تجاه قوى سياسية وميليشياوية أخرى على الإيقاع الإقليمي، فتقاتلت مع حركات كانت شاركت في مقاومة الاحتلال الإسرائيلي للبنان في العام 1982، حتى “مؤتمر الطائف” عام 1989. ففي غضون تلك الفترة، اصطدمت “أمل” بالسلاح مع قوى منضوية سابقًا في الحركة الوطنية اللبنانية، منها ” الحزب التقدمي الاشتراكي” في بيروت الغربية، و”حزب البعث” العراقي، كما شنت حربًا دامية على المخيمات الفلسطينية، ومع “حزب الله” قبل تحالفهما المتين، ربما بسببِ تضارُبٍ مؤقّت بين القوى الإقليمية المتنافسة، أو المتحالفة، في لبنان.
كانَ الوضعُ العام في البلاد واقعًا بين المطرقة الإسرائيلية والسندان السوري، فلم تكن أمامه خيارات كثيرة، فانحصرَ ما هو مُتاح منها أمام جميع اللبنانيين، بمن فيهم الميليشيات المسلحة، بين القبول بالأمر الواقع مع استقرارٍ نسبي، أو تفجيره باتجاه الفوضى العارمة بصرف النظر عن النتائج. هما خياران أحلاهما مرُّ، لأنهما يهدفان الى إضعاف الدولة وتفككها.
في ظلِّ الصراعات الإقليمية عبر قوى محلية مسلحة بكلِّ أنواع الأسلحة، من المحتم أن تُصبِحَ الدولة المركزية هي الطرف الأضعف، لكونها عرضةً للاقتسام بين المتصارعين على أرضها. ولا يختلف” الاقتسام” كثيرًا عن “التقسيم” إلّاَ من حيث الشكل، لأنَّ كلَّ قوة محلية تكون مُلزَمة بتدبيرِ الأمور في مناطق نفوذها بما يسمح لها إدامة ذلك النفوذ. ومن الطبيعي أن يكون الفريق القادر على التدبير هو الأكثر وسيلةً للحصول على التمويل، سواء من موارد الدولة المُقتسَمة، أو من مصادر خارجية، إقليمية أو دولية.
من هنا يُمكِنُ تفسير فشل الدعوات للحوار الوطني التي أطلقها الرئيس نبيه بري، من حيث إن انغلاقَ المكوّنات اللبنانية على نفسها، وعلى بعضها، هو في جانبٍ منه نتيجةٌ للحالةِ التي أسهم بري، طوال سنوات، في إرسائها. وهذا ينطبقُ بدرجاتٍ مُتفاوتة على بقيّة القوى السياسية المُعَطِّلة للدولة ومؤسّساتها كافة.
فالأزمة اللبنانية المُستدامة، بلغت حدَّ “التراكم الأقصى” للمقوِّضات السياسية، والاقتصادية، والمالية، والصحية، والبيئية، والإدارية، إضافةً إلى أزمةِ وجودِ أعدادٍ لا تُحصى من اللاجئين والنازحين، فوق بُنيةٍ تحتية قديمة ومُتهالِكة أصلًا.
في المحصلة فإنَّ ثقلَ ذلك التراكم، من أهم أسبابه، كثافة الملفات القابعة في “برَّاد جارور” رئيس مجلس النواب، مما جعله يفقد القدرة على استبصار نقطة البداية.
:لبنان… الحَربُ الأهليّة المُستَدامة (39)
إِمامُ المَحرومِين
2024/04/06
حكايةُ ريمون إدّه مع الشهابية والعسكر سالَ من أجلِها حِبرٌ كثير، وهي بدأت لمّا أخَذَ حَجمُ “المكتب الثاني”، (الذي كان العميد إدّه يُطلِقُ عليه “الجماعة”)، ينمو، ويزدادُ أثره وتأثيره في الداخل. وعندما اقتَرَنَ العَهدُ الشهابي بالعسكر، كانت المواجهة التي اختصرها إدّه في “مهرجان قطين” بما سمّاهُ “الأخطار الثلاثة”: إسرائيل، الشيوعية، والشهابية.
في الانتخاباتِ النيابية سنة 1964، في دائرة جبيل، تَمَكّنَ “المكتب الثاني” من إسقاطِ لائحةِ ريمون إدّه، التي كانت تضمُّ إميل روحانا صقر وأحمد إسبر، ففازت لائحة “الجماعة” التي تَشَكّلت من أنطون سعَيد، شهيد الخوري وعلي الحسيني. (كان الفارق بين إدّه وسعَيد لا يتعدّى 213 صوتًا)، إلّا أَّنَّ العُمرَ لم يُسعِفَ أنطون سعَيد فتوفي بعدَ سنةٍ من انتخابه، ليستَرِدّ ريمون إده مقعده في الانتخابات الفرعية سنة 1965.
في سنة 1968 اتّخذَت الانتخاباتُ النيابية منحىً مُختَلفًا في مواجهة الشهابية وعسكرها، فلم يَكُن الزعماء الموارنة الثلاثة، كميل شمعون، ريمون إدّه، بيار الجميل، مُنقَسِمين بين فؤاد شهاب ومُعارضيه، فأتَلَفَ الثلاثة في حلفٍ سَمّوهُ “الحلف الثلاثي”، اجتاح صناديق الاقتراع.
في تلك اللحظة، أزفت ساعة العسكر والنهج الشهابي، وراحت تلوحُ في البلاد ملامح الفراغ، بعدما كان “المكتب الثاني” يقبضُ بحزمٍ على مفاصل الدولة أمنيًا وسياسيًا، فتسلّلَ الفدائيون الفلسطينيون، التابعون لما سُمِّيَ، وقتذاك، “الحركة الفدائية الفلسطينية”، بحرّية أكثر.
كانَ لتلكَ “الحركة “، التي أُطلِقَت في اليومِ الأول من سنة 1965، بشكلٍ مُغَلَّفٍ بالغموض، صدى شعبيًا، وسياسيًا في لبنان، باتجاهَين مُختلفين: فعلى الصعيدِ الشعبي كانَ من الطبيعي التعاطُفِ مع كلِّ عملٍ فلسطيني، أو عربي، ضدّ دولة إسرائيل، إلّا أنّهُ على الصعيد الرسمي، كان الأمرُ مُحرِجًا ومُعقّدًا في آنٍ معًا.
بدَت الحركة الفلسطينية، وكأنها ردَّةُ فعلٍ على مقرّرات القمة العربية الأولى، التي دعا إليها الرئيس جمال عبد الناصر في القاهرة عام 1964، ومنها تشكيل “منظمة التحرير الفلسطينية” بقيادة الديبلوماسي الفلسطيني المعروف أحمد الشقيري، وهي المنظّمة التي آلت قيادتها تاليًا إلى ياسر عرفات، قائد حركة “فتح”، التي باشرت الكفاحَ المُسلّح ضد إسرائيل، باسم جناحها العسكري “العاصفة”.
لم يتوقَّع أحدٌ في لبنان أن يكونَ جنوبه أولَ مدخلٍ إلى العمل الفلسطيني المسلّح، إلى أن ألقى الجيشُ اللبناني القبضَ على خليّةٍ فلسطينية حاولت خلسةً التسلّلَ إلى الأراضي المحتلّة للقيامِ بعمليةٍ فدائية، كان يقودها شخص يُدعى جلال كعوش، قالت الجهات الرسمية إنه مات حين ألقى بنفسه من النافذة مُحاوِلًا الفرار من معتقله.
راجَت روايةٌ أُخرى عن مصيرِ كعوش، صدَّقها الناس أكثر، وتلقّفها السياسيون، نشرتها جريدة “الأحرار”، التي كان يرأس تحريرها الراحل جان عبيد، النائب والوزير في ما بعد، بمقالٍ دَحَضَ فيه الرواية الرسمية، ما يعني أنَّ المُسَلَّحَ الفلسطيني ماتَ تحت التعذيب، ووصفه بعنوانٍ عريضٍ على الصفحة الأولى بأنّه “شهيد”.
حقّقَّ مقالُ “الأحرار” سبقًا صحافيًا، فهو كشفَ للرأي العام اللبناني عن حادثٍ كانت تَرغَبُ الدولة في إخفائه، أو طمسه، الأمر الذي حمل الشيخ ميشال الخوري، وزير الإعلام والدفاع، إلى عقدِ مُؤتمرٍ صحافي في وزارة الدفاع لتوضيح ملابسات الحادث، فأماطَ اللثام عن سببٍ، ظلَّ مجهولًا في الفترة بين قرارات القمة العربية الأولى 1964، ومقتل الفلسطيني جلال كعوش في التاسع من كانون الثاني (يناير) 1966، وهو أنَّ الأجهزة اللبنانية اعتقلت الخليّة الفلسطينية بموجبِ تعليماتٍ من القيادة العربية المُوَحَّدة (المُنبَثِقة من مؤتمر القمة بقيادة الفريق المصري علي علي عامر)، التي طلبت من سلطاتِ الدولِ المُحيطة بإسرائيل (لبنان، سوريا، الأردن) أن تمنَعَ تسلُّلَ عناصر من حدودها إلى الأراضي المحتلة، لأنَّ ذلك قد يؤدّي إلى استدراجِ الدول العربية إلى مواجهةٍ مع إسرائيل قبل اكتمالِ الاستعدادات، التي عكفت عليها القيادة المُوَحَّدة لتعزيزِ قوّاتٍ دفاعية عربية مشتركة.
في خضمِّ تلك المرحلة الحائرة في لبنان والعالم العربي، لَمَعَ في الفضاء اللبناني شهبٌ مُضيءٌ هو الإمام موسى الصدر، مؤسّس المجلس الشيعي الأعلى، الذي به صارَ الجسمُ السياسي والشعبي الدائر حوله قطب الرحى، أو نقطة الفصل، في السياسة اللبنانية، لكون حركته، نشأت من بدايتها، بمنطلقاتٍ لبنانيةِ الجوهر والمُبتَغى. وباختفائه القسري في العام 1978 في ليبيا، تضخّمت الحركة التي أطلقها، فخفَّ وهجها، حتى تضاءل تميّزها وبريقها من بعده، بفعل التحوُّل المبدئي عما كانت عليه، لتنخرط تاليًا في الحرب الأهلية، كقوة ميليشياوية، مما سمح للجسم الشيعي في لبنان بتجاوزها، بعد “الثورة الخمينية” في إيران في العام 1979، عندما تأسّس “حزب الله” كحركةِ مقاومةٍ ضد الاحتلال الإسرائيلي في الجنوب، من غير انغماسٍ في الأوضاع السياسية الداخلية.
لم يُقَدَّر لي أن أعرفَ الإمام موسى الصدر، إلّاَ من المجاملات: مرةً سنة 1973 عندما جاء إلى بلدتنا القرعون، في البقاع الغربي، للتعزية بوفاة أحد أقاربنا، ومرةً سنة 1974 عندما اتصلَ بي هاتفيًا للاستفسارِ عن خبرٍ نشرته جريدة “بيروت” التي كُنتُ أرأس تحريرها. إلّا أنه قد تسّنى لي معرفةَ الكثير عن الإمام، من خلال رفيقيه اللذين أُخفِيا معه في ليبيا، الشيخ محمد يعقوب، والصحافي عباس بدر الدين، الذي تعرفت عليه في مكتب رياض طه، نقيب الصحافة اللبنانية الراحل، إذ عملَ لفترةٍ من الزمن في “وكالة أنباء الشرق” التي كان يُصدرها النقيب، قبل تأسيسه لوكالته الخاصة باسم “وكالة أخبار لبنان”. وكُنتُ أنا في تلك المرحلة أرأس تحرير جريدة “الكفاح” التي كان يصدرها النقيب طه، وكثيرًا ما جلسنا إلى الحديث، حيث كان بدر الدين يستفيضُ في الكلام عن الإمام.
كان عملي الصحافي، وقتذاك، يَفرُضُ عليَّ المُتابَعة المُشبَعة بالمعلومات عن “ظاهرة الإمام”، مُلتَمِسًا تأثيرها، سواءَ في المجتمع الشيعي أو في المكوّنات اللبنانية الأخرى. وسمعتُ آراءً مُتفائلة بها الى أعلى الدرجات، وأخرى مُشَكِّكة بها وبغاياتها إلى درجة الحذر الشديد. وكانت توجد أيضًا جهاتٌ رَبَطَت تاليًا بين اختفاء الصدر في العام 1978، وبين الثورة الإسلامية في إيران بعد أشهرٍ عدّة فقط. وهناكَ ما يُشيرُ إلى أنَّ الحركة الصدرية، في بدايتها، لقيت ترحيبًا واحتضانًا في أوساط الجيش اللبناني، في محاولةٍ مُتأخّرة للإمساكِ بالوَضعِ العام بعد عمليةِ تفكيك الدولة الشهابية، التي بوشرت في بداية عهد الرئيس سليمان فرنجية، بملاحقة وطرد ضباط “المكتب الثاني” الذين لجأ بعضهم إلى أوروبا، وبعضهم الآخر إلى سوريا.
قبلَ تلكَ المرحلة الرمادية بين تفكيك الأجهزة الأمنية الشهابية من أواخر 1970، وبين نشوب الحرب الأهلية عام 1975، اقتصرَ نشاطُ الإمام الصدر على التوعية، والتوجيه، من خلال المحاضرات، والندوات، والزيارات، واللقاءات، فأطلق “حركة المحرومين”، التي تقبّلها المسيحيون، وفُتحت أمام الإمام أبواب المعاهد، والأديرة، واستقطبَ الصفوة من المُفكّرين المسيحيين، كما سانده المطران غريغوار حداد، ( مطران الفقراء، أو “المطران الأحمر”، كما كان يُلقَّب)، إلّا أنهُ ما لبث في العام 1974 أن أدخلَ على الحركة، خفيةً وبعيدًا من الأنظار، التنظيم المُسلّح، واتخذ من بعلبك مركزًا لتدريبِ أفواجٍ من الشباب الشيعة، وفي ساحةٍ في “مرجة العين”، كانت تتمّ حلقات قسم اليمين على الولاء للحركة، وتسّببَ حادثُ انفجارٍ في أحد مراكز التدريب إلى افتضاحِ أمرِ التنظيم المسلّح الذي أطلقَ عليه الإمام “أفواج المقاومة اللبنانية” (اختصارًا “أمل”).
حَدَثَ ذلك على مشارف انحدارِ البلاد إلى الصراع العسكري بفعلِ ثقلِ وطأةِ الوجود الفلسطيني المسلّح، خصوصًا في الجنوب.
كانَ للإمام الصدر موقفٌ ملتبسٌ من مسألة السلاح الفتَّاك، فقد هالهُ استخدامه، وما نتجَ عنه، من خلال ما كان يُعاينُ ويسمعُ في بداية الإحتراب الداخلي.
في 27 من حزيران (يونيو) 1975 توجّهَ الإمام بعد الظهر إلى مسجد “الكلية العاملية”، في “شارع عمر بن الخطاب”، وارتقى سُلّم الطابق الثاني من المسجد حاملًا بيدٍ حقيبة، وباليد الأخرى عباءته وكتبه، وجلس في إحدى زوايا المسجد ومعه أربعة من معاونيه الذين بادرهم، كما خبَّر واحدهم: “طوال النهار وليله كنتُ أتلقّى شكاوى الرجال، وأسمعُ نحيبَ الأرامل، وبُكاءَ اليتامى، وعلى الرُغمِ من أنني سعيتُ جهدي، ولم أذُق طعم النوم، فإنَّ القصفَ لم يهدأ والأوضاع تزداد سوءًا، فقررتُ أن اعتصمَ وأصومَ حتى الشهادة، أو حتى تعود البلاد إلى حالتها الطبيعية، وجئتُ أُصلّي إلى الله أن ينقذَ الوطن”.
توجُّهه السلمي في البداية، كان يرى أنَّ السلاحَ لا يحلُ الأزمة، بل يُسرِّعُ في تمزيق البلد. وفي خطبة الاعتصام في 28 من حزيران (يونيو) نبذ العنف، بقوله: “علينا أن نبتعدَ عن العنف، لا نُريدُ عُنفًا، نريدُ أن نقوى على القوة”، وزاد:” بلدنا يأبى أن يكونَ الحقُّ فيه للقوّة، نُريدُ أن نرفضَ ذلك”.
لكنَّ الإمام ما لبث أن أعلنَ من بلاد بعلبك في البقاع أنَّ “السلاحَ زينةُ الرجال”، وعند هذه النقطة الفاصلة بين التوجُّهَين، قام بتأسيس تنظيم حركة “أفواج المقاومة اللبنانية ” (“أمل”)، ليس من أجل الدخول أو المشاركة في الحرب الأهلية، بل لمقاومة الاحتلال الإسرائيلي، وحماية مجتمعه من أيِّ اعتداء.
إنَّ إعلانَ إمام المحرومين بأنَّ “السلاح زينة الرجال” من بعلبك في البقاع الشمالي، له مدلولٌ تاريخي، من حيث تمجيد السلاح في منطقةٍ مُهمَلة من الدولة وخارجة عليها.
في المرحلة الفاصلة بين العهدَين التركي والفرنسي بعد الحرب العالمية الأولى، نشأت في تلك المنطقة ظاهرةٌ مُسلَّحة محورها أشخاص يُطلقون عليهم لقب “الأشقياء”، وكبيرهم في ذلك الوقت ملحم قاسم (أبو علي)، الذي كان يأخذ من الأغنياء ليُعطي الفقراء (على طريقة روبِن هود)، الرجل القوي الذي يثأر للظلم ويخفف معاناة الفقراء. صحيحٌ أنه كان يستخفُّ بالسلطة، لكنه عُرِفَ بمحبته للبنان وحرصه على وحدة أراضيه وشعبه، كما عُرِفَ بتمجيده للسلاح إلى “درجة التأليه” لأنَّ فيه القدرة على الفصل بين الموت والحياة.
في مذكرات رستم حيدر، وهو من بلاد بعلبك، وكان وزيرًا في حكومة الملك فيصل في الشام، ثم انتقل معه إلى العراق، وأُنيطت به حقيبةٌ وزارية في بغداد أيضًا، قال عن ظاهرة “الأشقياء” وملحم قاسم، “إنهم ذوو طرافة، لكنهم مصدرُ إزعاجٍ للنضال الوطني”. وربما كان التعبير عن هذا الاستياء من تلك الظاهرة المسلَّحة، أنَّ ملحم قاسم كان ضد الانضمام إلى الدولة العربية، كما فعل رستم حيدر، وشديد التعلّق بلبنان وبصداقته مع المسيحيين، حيث يُقال إنه عَمَّدَ جميع أبنائه في كنيسة “طليا”!
ويروي أهل البقاع قصة عن ملحم قاسم، أنه ترافق يومًا مع كاهنٍ مسيحي من رأس بعلبك إلى مدينة بعلبك، وفي الطريق سأل أبو علي رفيقه الكاهن: “كيف هي قسمة الجنة؟”
فأجابه الكاهن: ” 12 قيراطًا للموارنة، و12 قيراطًا لكافة الطوائف الأخرى. أما الشيعة فلهم قيراطان فقط”.
ثم سأله أبو علي ما إذا كان بإمكانه أن يشتري لنفسه أحد قيراطَي الشيعة، وكم ثمنه، فقال له الكاهن: “نعم هذا مُمكن، وثمن القيراط ليرتان ذهبيتان”.
ولدى وصولهما الى بعلبك، قال ملحم قاسم للكاهن: “بما أنَّ الشيعة جميعهم، وهم على ما هم من الكثرة، لا يملكون سوى قيراطَين، فإني أرغبُ أن أبيعك حصَّة الشيعة بالكامل بالثمن الذي حددته أنت، أي ليرتان للقيراط”، ثم أرغم الكاهن على دفع أربع ليرات ذهبية.
!ومن وقتها، يقول الناس في البقاع إنَّ الشيعة لا مكان لهم في الجنة، لأن ملحم قاسم باع حصتهم للموارنة
:لبنان… الحَربُ الأهليَّة المُستَدامة (38)
!مُفاضَلَةُ ”الإمام“ بَينَ العَرَبِ ولبنان
2024/04/05
عانى الشيعة، على زمنِ الحُكم العُثماني، مرارات الضيق والحرمان، فكان “مشروعُ لبنان الكبير” خَشبةَ خلاصٍ تعلّقوا بها.
غير أنهُ كانَ من بينهم، ولم يكونوا قلّة، مَن استهواهُم “مشروع الدولة العربية” في دمشق، الذي أطلقه الملك فيصل بن الحسين، شريف مكة، قبل الحُكمِ السعودي في الحجاز.
على الرُغمِ من أنه لم يطرأ في “جبل عامل” أيَّ تحسّنٍ لأوضاعِ الشيعة العامة، لا تحت الانتداب، ولا في ظلِّ عَلَمِ الاستقلال، إلّا أنَّ أئمتهم آثروا، بعد موازنة البدائل غير الموثوقة، بقاء الشيعة الجُزء المُنضوي تحت لواء دولة لبنان الكبير.
هذا يُفسِّرُ ظاهرةً ملفتة على الصعيد الشيعي الشعبي، لا سيما في أوساط المثقّفين، في المرحلة الاستقلالية حتى مشارف الحرب الأهلية عام 1975. فمع انتشار الحركات الراديكالية واليسارية، انخرط كثيرون من الشيعة في صفوف الحزب الشيوعي اللبناني في البداية، مع أنه كان حزبًا محظورًا من الدولة اللبنانية الموالية للغرب في مرحلةِ الحرب الباردة بين واشنطن وحلفائها حول العالم، وبين الاتحاد السوفياتي والحركات الشيوعية الموالية له. كما انضوى قسمٌ منهم في صفوف “الحزب السوري القومي الاجتماعي”، وفي “حزب البعث العربي الاشتراكي”، كما تأثّرَ بعضهم الآخر بالموجة الناصرية، خصوصًا بعد تأميم قناة السويس، وبلغت ذروتها بعد إعلان الوحدة السورية–المصرية بقيادة جمال عبد الناصر.
كلُّ ذلك، من مُنطَلَقِ وَعيهم لكونهم أحد أعمدة الكيان اللبناني، ولو أنهم مغبونون فيه. وظهرَ ذلك جليًّا عندما تشكّلت في الجنوب حركاتٌ من هذه الأحزاب والنوازع الوطنية لمقاومة الاحتلال الإسرائيلي، قبل ظهور المقاومة الإسلامية بقيادة “حزب الله” في ما بعد، من غير إمكانياتٍ تُذكَر سوى الحميَّة الوطنية.
ومع ذلك بقيت الكلمة الفصل في المجتمع الشيعي لكبار رجال الدين، وإن كانت التوجّهات العلمانية بين الشيعة لم تكن قليلة الشأن. وكان كبير أئمتهم، خلال مرحلة الانتداب الفرنسي، السيد عبد الحسين شرف الدين، الذي قاوم الحكم العثماني، ثم الانتداب الفرنسي بعد تفكّك الإمبراطورية العثمانية، لأنه ما أراد أن يقاوم احتلالًا أجنبيًا ليحلّ محله احتلالٌ أجنبيٌّ آخر، وكانَ أن أدّى ذلك إلى حُكمٍ فرنسي عليه بالإعدام ففَرَّ إلى الخارج لفترة.
في البداية مالَ الإمام شرف الدين إلى دولة الملك فيصل العربية في الشام، وهي دولةٌ لم تَدُم طويلًا على كلِّ حال. لكنه عادَ وفاضلَ بين المشروعَين اللبناني والعربي، فألقى بكل ثقله إلى جانب الاستقلال اللبناني.
السيد شرف الدين ناصَرَ الدولة المدنية العلمانية في لبنان حتى تحت الانتداب الفرنسي، وتشهد على ذلك رسالةٌ بعثَ بها الى حبيب باشا السعد عند تعيينه رئيسًا للحكومة في مطلع ثلاثينيات القرن العشرين قال له فيها: “ما أشوقني إليك، وما أسعد لبنان بإسناد مقاليد الحكم إليك، فإنك من أولئك الصفوة والقدوة. أما الجنوب، فلم تمتد إليهِ يدٌ ببناء ولعلَّ يدك الكريمة تُسرع إليه”.
ولمّا انتُخِبَ حبيب باشا رئيسًا للجمهورية (في 4 شباط/فبراير 1934)، كتب إليه السيد شرف الدين مُهَنِّئًا يقول: “لقد صدَقَت فراستي فيك، وهذه، يا صاحب الفخامة، ثقةٌ مُطلَقة لا يُمحَضُ مثلها إلّا لمثلك”.
وفي العهد الاستقلالي الأول، في بداية الولاية الثانية للرئيس بشارة الخوري، قامت ميليشياتٌ صهيونية في العام 1949 بارتكابِ مجزرةٍ في بلدة حولا على الحدود مع فلسطين المحتلة، فكتبَ السيد شرف الدين إليه مُعاتبًا: “إن لم يكن من قدرةٍ على الحماية أفليس من طاقة على الرعاية؟”.
وهذه الرسالة قرأ منها فقرة السيد حسن نصر الله في أحد خطاباته قبل سنوات قليلة، مُلمِّحًا فيها إلى إهمال الدولة اللبنانية للجنوب.
وهناكَ رسالةٌ أخرى إلى الشيخ بشارة الخوري من السيد شرف الدين، عندما شنَّت الدولة اللبنانية حملةً عسكرية ضد عشائر الهرمل قال له فيها: “ألا ترون أنّ إعمارَ المدارس والمستشفيات يُغني عن إعمار السجون والقبور”.
وعندما قام شاه إيران الراحل محمد رضا بهلوي سنة 1957، بزيارةٍ رسمية إلى بيروت في أواخر عهد كميل شمعون، كان السيد عبد الحسين شرف الدين طريح الفراش، قبيل أسابيع من وفاته في تلك السنة، ولدى وصول الشاه إلى بيروت، أرسل وفدًا من حاشيته إلى مدينة صور، يرجو السيد أن يزور الشاه، وقيل له إنَّ الغاية من الزيارة تعزيز الطائفة الشيعية، لأن الشاه هو الملك الشيعي الوحيد بين الملوك والرؤساء في الشرق الأوسط.
رأى إمام الشيعة أنَّ الغاية من هذه الدعوة، تدعيم مركز الشاه في إيران والعالم الإسلامي، بعدما ضعف بسبب حلف بغداد، فقال للمتحدّث باسم الوفد: “إني أبرأ إلى الله من كلِّ من يمتّ الى الاستعمار وحلف بغداد، كائنًا مَن كان”.
فردَّ عليه المتحدث باسم الشاه: “إنَّ الشاه يريد أن يُقدّمَ مساعدةً مالية كبرى لكُلِّيتكم الجعفرية”.
فأجابه الإمام: “إنَّ الأمرَ يعودُ إلى الدين والمبدَإِ، لا الى المال والحكّام، ولا الى التشيّع والتسنّن”.
وبعد وفاة السيد عبد الحسين شرف الدين، جاء جيلٌ جديد من الأئمة الشيعة، لا يقلّونَ فهمًا للمسألة اللبنانية وموقعهم المُتقدّم فيها، بل زادوها علمًا، وحركةً، وانخراطًا، ووضوحًا، من أمثال السيد موسى الصدر، والسيد محمد حسين فضل الله، والشيخ محمد مهدي شمس الدين وغيرهم…
:لبنان… الحرب الأهليَّة المُستَدامة (37)
لَبنَنَةُ” الشيعة خِيارٌ ماروني”
2024/04/04
عندما رُسِمَت خريطةُ لبنان الكبير في فرنسا تمهيدًا لإعلانِ الدولة، طُرِحَت أفكارٌ مُتَعَدِّدة لم يُؤخَذ بها، كما أراد البطريرك الماروني الياس الحويك. فقد كانت هناكَ فكرةٌ، طرحها الجنرال هنري غورو، (المندوب السامي الأول على لبنان وسوريا، وقائد الجيش الفرنسي بعد الحرب العالمية الأولى من 1919 الى 1923)، تقضي بتكبيرِ مساحةِ لبنان بحيث تضمُّ وادي النصارى والساحل السوري شمالًا، حيث توجد كثافة سكانية مسيحية، لكنها غير مارونية. ويُقالُ أيضًا إن الجنرال غورو اقترَحَ ذلك، لأنّهُ كانَ شديدَ التمسّكِ بالعلمانية، التي سار عليها المفوَّض السامي هنري دو جوفينيل عندما وُضِعَ الدستور في العام 1926، الذي كان ميشال شيحا من أبرز المساهمين فيه.
فعلى الرُغمِ من أنَّ الموارنة هم أصحاب المشروع، فإنَّ رئاسة الجمهورية، في بداية دولة لبنان الكبير، أُعطِيت للأرثوذكسي شارل دباس، الذي استمر في الرئاسة ست سنوات، (كانت مدة الرئاسة ثلاث سنوات)، وتَرشيحُ دباس هَدَفَ منه المفوَّض السامي، تخفيف حدّة المعارضة الطائفية في البلاد، إذ كان شارل دباس، أكثر قبولًا لدى الدروز، والشيعة، والسنّة، من إميل إده، حيث كانت الرئاسة وقتها، معقودةً له.
وما كان الفرنسيون يُرَشِّحون شارل دباس لو لم يكن فرنسي الهوى، وما كان البطريرك الحويك يقبله، لو لم يكن استقلاليًا قديمًا، من أعضاء لجنة باريس سنة 1917. وكذلك، الرؤساء الذين أتوا بعده، لم يكونوا موارنة، فالرئيس بترو طراد كان أُرثوذكسيًا، وأيوب ثابت بروتستانتيًا.
في البداية ظهرَ وكأنَّ هناكَ مُفارَقة من حيث الأرجحية التأسيسية، لكون البطريرك الماروني الياس الحويك هو الأب الحقيقي للبنان الكبير، فإذا برئاسة الجمهورية تَؤول إلى غير الموارنة. وهذه المُفارَقة يُمكِنُ تفسيرها لصالح الأرجحية التأسيسية للموارنة، الذين أظهروا قبولهم برؤساءٍ من غيرِ ملَّتهم في بداية الطريق، بأنَّ ما يهمّهم هو لبنان وليس الرئاسة، وأنَّ مجيءَ رؤساءٍ للبنان الكبير من غير الموارنة هو إعلانٌ عن رغبتهم بأن يكون لبنان دولةً مدنية علمانية.
ولأنَّ البطريرك الماروني في “مؤتمر فيرساي للسلام”، (1919)، بعد نهاية الحرب العالمية الأولى وتفكيك الإمبراطورية العثمانية، آثَرَ انضمامَ شيعة الجنوب على انضمامِ مسيحيي الشمال السوري إلى لبنان الكبير، فإنَّ القولَ القاطع في هذه المسألة هو أنَّ ضَمَّ شيعة الجنوب إلى الدولة اللبنانية الوليدة هو خِيارٌ ماروني بامتياز.
وقد كانت هذه المسألةُ بالغةَ الحساسية في ذلك الوقت لوجودِ مشروعٍ بديلٍ ومُنافِس، هو مشروع الدولة العربية بقيادة الملك فيصل بن الشريف حسين الهاشمي. والملك فيصل بعد إعلان الدولة العربية في دمشق رغب في إلحاق الأقضية الأربعة التي ضُمَّت إلى لبنان بدولته، فكاتَبَ بَعضَ الزعماء والشيوخ المُسلمين في تلك الأقضية، سنَّةً وشيعةً، يدعوهم فيها إلى الانضمام للدولة العربية. ومن الذين فاتحهم الملك فيصل بالأمر مفتي طرابلس عبد الحميد أفندي كرامي، والإمام الشيعي السيد عبد الحسين شرف الدين في صور. وكانَ في الأقضية الإسلامية جمهورٌ كبيرٌ من العوام والوجهاء يؤثِرُ الانضمامَ إلى الدولة العربية في دمشق، بين السنَّة والشيعة على السواء، لكن السيد شرف الدين في الجنوب، والمفتي كرامي في الشمال، آثَرا البقاءَ في الجمهورية اللبنانية، خلافًا لما رغب فيه التيار “العروبي”.
يُمكِنُ فَهمُ هذه المسألة، أي المُفاضَلة بين هَوِيَّتَين، في إطار تردُّد المسلمين في قبول الوصاية الفرنسية. وقد ازدادت حساسية هذه المُفاضَلة بعد الرسالة التي وَجّهها البطريرك الماروني، الياس الحويك، في العام 1926 إلى وزير الخارجية الفرنسي أرستيد بريان، قال فيها: “إنَّ الفكرة الأساسية التي استُخدِمَت كأساسٍ لدولةِ لبنان الكبير، هي أن يكونَ ملجأً لجميع مسيحيي الشرق ومَوئلًا للولاءِ غير المُنقَسِم لفرنسا”.
وكان أرستيد بريان في ذلك الوقت قد نال جائزة نوبل للسلام بالشراكة مع وزير خارجية ألمانيا حينها غوستاف سترسمان، لدورهما الكبير في المصالحة الفرنسية–الألمانية بعد الحرب العالمية الأولى.
لا بُدَّ من القول في هذه الحالة أنَّ نقطة الضعف في مشروع لبنان الكبير هي أنه لم يقم من الأساس على قاعدةٍ علمانية مَدَنيّة صريحة وواضحة، وبالتالي بقيت المُكَوّنات التأسيسية للدولة اللبنانية على ولائها السابق لقوى ومرجعياتٍ خارجية: الموارنة لفرنسا والفاتيكان، والسنّة لأيِّ مجموعةٍ تسعى إلى الوحدة العربية، والشيعة بشكلٍ عام لديهم ارتباطٌ خاص بمرجعيّاتهم الخارجية (حوزات العراق وإيران)، وهو ارتباطٌ عقائدي وثقافي، يختلفُ جوهريًا عن الارتباط السياسي للمكوّنات الأخرى التي تتقاطع وتنسجم أحيانًا بتوجّهاتها الثقافية، داخليًا وخارجيًا.
لكن في معظم الدول التعدّدية التكوين، صغيرة كانت أم كبيرة، هناكَ دائمًا “أرجَحيّة تأسيسية” لفريقٍ مُتَمَيِّزٍ في دعوتهِ إلى الاتحاد من غيرِ اضطرارٍ، أو بسببٍ من ريادته. وإذا أخذنا بلدًا صغيرًا مثل لبنان، وبلدًا كبيرًا مثل الولايات المتحدة الأميركية، وقد شهدا كلاهما وفي وقتٍ واحدٍ خلال ستينيات القرن التاسع عشر حربًا أهلية طاحنة، نَجِدُ أنَّ الأرجحية التأسيسية للموارنة في لبنان، والأرجحية التأسيسية للعِرقِ البروتستانتي الأنكلو–ساكسوني الأبيض في أميركا، بقي لهما هذا الامتياز على الرُغم من قساوة الحرب الأهلية، وعلى الرُغم أيضًا من التغيير الديموغرافي الذي جعل المُكَوِّن الأساسي للدولة يفقُدُ أغلبيته العددية. فالعددُ في مثلِ هذه الحالات ليس هو المقياس.
من هذا المُنطَلَق أقرَّ “اتفاق الطائف” الذي به انتهت الحرب الأهلية العسكرية، بالأرجحية التأسيسية للمسيحيين في لبنان، بصرفِ النظر عن العدد، لكنه في المقابل وازَنَ تلك الأرجحية بمبدَإِ المُناصَفة، باعتبار أنَّ المُكوّنات غير المسيحية قبلت بالشراكة على أساسِ الأرجحيّة الأصليّة.
!.على عيوب ذلك الاتفاق، يلوحُ تفسيرٌ مُضمرٌ لإشاحة اللبنانيين عن إجراءِ أيِّ إحصاءٍ جدِّيٍ شامل منذ الإحصاء الأول والأخير الذي جرى في العام 1932. فقد قيل في ذلك: “إنَّ الإحصاءَ في لبنان قويٌّ إلى درجةِ استحالةِ إجرائه
:لبنان… الحَربُ الأهليَّة المُستَدامة (36)
العلاقاتُ المَشروطة
2024/04/03
إنَّ ما جرى في لبنان صيف العام 1958 أثبتَ أنَّ هذا النوعَ من الاضطرابات الدامية يُفرِزُ أسوأَ قادةٍ لأسوَإِ مُتحارِبين. وقد تأكّدَت هذه الظاهرة في الاحتراب الداخلي، الذي استمر داميًا ومُدمّرًا من منتصف سبعينيات القرن الماضي حتى مطلع التسعينيات منه.
قد يكونُ من الأهمّية بمكان مُقارنةُ الحالة اللبنانية مع تجارب أخرى مُماثِلة في العالم أكّدَت أنها تُفرِزُ أسوَأَ العناصر البشرية وأشدّها إجرامًا، على صعيد القيادات في غُرَفِ العمليات، وبين المقاتلين في الميدان، هذا فضلًا عن الاغتيالات، واستباحة الحرمات الدينية والإنسانية.
تبقى الحقيقة في ذلك كله الضحيّة الأهم، ففي الحروب الأهلية التي نشبت في أماكن أخرى، وُضِعَ لها حَدُّ فاصلٌ يَمنَعُ تكرارها، من خلال المصارحة وإظهار الحقيقة، والاعتراف بها، والمباسطة الصريحة، والالتزام بعدم العودة إلى العنف، بذلك كله تتم المصالحة على الصعيد الوطني، حول المسؤولية الجماعية والفردية عن كل ارتكاب جرمي للجماعات والأفراد، بهدف فرز الفئات التي تجاوزت الحدود المقبولة تجاه المواطنين العُزَّل والممتلكات العامة، والفئات التي قاتلت على الجبهات من غير أعمال فتكٍ انتقامية خارجة عن المألوف.
بعد هذا الفرز يكون أيُّ قانونٍ للعفو انتقائيًا، وليس عموميًا، يشمل الصالح مع الطالح. فالعفو العمومي في أعقاب الحروب الأهلية، يُشَكّلُ بذرةً أساسيةً من بذور تجدُّدها، لأن ذلك بمثابة مكافأة للإجرام، وهو يُسجّلُ سابقةً من حيث إزالة الروادع المانعة.
الحقيقة المخفيَّة في الحرب الأهلية اللبنانية المُستَدامة، أنها وإن كانت حالة لبنانية خالصة، إلّا أنَّ في دوامها عُنصرًا خارجيًا مُتَعَدِّد الأطراف، ولهذا كان من السهل إخفاء المسؤوليات في النهاية، وطمس معالم الأسباب التي أطلقتها. فالدول الأوروبية بالدرجة الأولى هي المحراك المزعزع للاستقرار اللبناني، قبل تسلل الولايات المتحدة إلى المشهد اللبناني واحتلالها موقع الصدارة. إذ إنَّ العلاقة الأميركية من الأساس، أي قبل اعترافها باستقلال لبنان عام 1944، كما مرَّ، كانت علاقة مشروطة. أما علاقات الدول الأوروبية المشروطة مع لبنان، فقد جاءت متأخّرة، وذات طابع مالي، وبعد فوات الأوان.
لقد أغرقت تلك الدول الحكومة اللبنانية، في مرحلة رفيق الحريري بعد “الطائف”، بالديون، من خلال “مؤتمر باريس”، الأول والثاني والثالث، لكنها افترقت عن هذا النهج بعدما اتجه لبنان إلى الانهيار والإفلاس، على شفا الاضطراب الأهلي، فأبدلت اسم المؤتمر التمويلي للحكومة اللبنانية إلى “سيدر 1” (6 نيسان/أبريل 2018)، بدلًا من “باريس 4″، (هو الأول في عهد سعد الحريري، بينما “باريس 3″، والأخير تحت هذا الاسم، فكان في عهد حكومة فؤاد السنيورة بعد الحرب الإسرائيلية ضد لبنان في العام 2006).
السببُ المُوجِب الذي أعلنته الدول الأوروبية تمويهيٌّ وغير جدّي. فقد قالت في شروط علاقتها المُستَجِدَّة إنَّ أيَّ قروض، أو مساعدات أو عطاءات أوروبية للبنان، سوف تكون مشروطة بتنفيذ الإصلاحات السياسية والاقتصادية اللازمة، لأنَّ الطبقة السياسية الحاكمة في لبنان غير قادرة، أو غير راغبة، في القيام بأيِّ إصلاح.
فإذا كانَ هذا هو السبب، وقد يكون كذلك، فإنه يطرحُ من جديد أسئلة مُحرِجة على الأوروبيين، لأن شَرطيَّتهم المُستَجِدّة غير مُقنعة، كون أسبابها الموجبة ليست جديدة على الإطلاق، وهي قائمة منذ ما قبل الحرب الأهلية، بل كانت من أسبابها الخلفيَّة في ذلك الوقت.
على افتراضِ أنَّ الأوروبيين كانوا جاهلين، أو غافلين، عن حقيقةِ الطبقة السياسية، كموجبٍ شرطي، وهو أمرٌ غير قابل للتصديق، فلماذا تهاوَنَ الأوروبيون في الضغط على الطبقة السياسية اللبنانية، وهم يعرفون مُسبَقًا أنها غير قادرة، وغير مؤهّلة، للقيامِ بأيِّ إصلاحٍ جذري، أو حتى هامشي، سواء على الصعيد السياسي أو في المجال المالي والاقتصادي؟
كان الأوروبيون يعرفون، من قبل مؤتمر “سيدر 1” أنَّ الدولةَ اللبنانية سائرة في طريقِ التفكّكِ والانهيار، ولا تخفى عليهم الأسباب الحقيقية للوضع الراهن، ودورهم التاريخي المُستَمِر المؤدّي إليه. فقد نشرت مراكز الأبحاث الغربية دراساتٍ تؤكّدُ أنَّ لبنان باتَ أحد ثلاثة بلدان نزلت بها أفدح أزمة اقتصادية منذ القرن التاسع عشر. وهذا يعني أنَّ لبنان بات أمامَ خطرٍ وجودي داهم، لأنَّ المُماطلة في المعالجة الجديَّة، الداخلية والخارجية على السواء، زعزعت أُسُسَ الكيان، وفاقمت الأزمة، وبالتالي، قلَّت الفُرَص للمُعالجة الناجعة، أو حتى للترقيع.
يعودُ جانبٌ من هذا الخطر الداهم إلى إخفاءِ حقيقة الحرب الأهلية، والتغطية على نتائجها المؤدّية إلى الانهيار:
أوّلًا، لأنَّ النظامَ القائم يمنعُ الوصولَ إلى أيِّ حقيقةٍ في لبنان. وثانيًا، لأنَّ الوضعَ اللبناني بكامله، يُعاني من التجزئة والتشظّي. وثالثًا، لأنَّ الاهتمامَ الأوّل لقوى الأمر الواقع في الداخل، ولقوى التدخّل من الخارج، هو استغلالُ الحوادث لصالحها، وليس معالجة الأسباب الفعلية.
هذا النوع من المعالجات لا يمكن أن يأتي لصالح عموم الشعب اللبناني على نحوٍ حاسمٍ يُلغي التركيبة المُوَلِّدة للحروب الأهلية.
:لبنان… الحَربُ الأهليَّة المُستَدامة (35)
إسرائيل ’’بنت‘‘ التَدويل
2024/04/02
عندما تُذكَرُ مَشاريعُ التَدويلِ في المنطقة العربية، يبرزُ اسم دولة إسرائيل إلى الأذهان.
إنَّ المَنزِلةَ المُمَيَّزة التي تحتلُّها إسرائيل في دول الغرب، وفي بعض دول الشرق، وأخيرًا في بعض الدول العربية، تجعلها في وَضعٍ خاص لكونها “بنت” التدويل من جهة، وشريكةً فيه من جهةٍ ثانية.
في أواسط القرن التاسع عشر، نشأت فكرة “المشروع الصهيوني” بفِعلِ نَهضةِ مصر وجيشها القوي على يد حاكمها محمد علي باشا (بعد فشل الحملة الفرنسية بقيادة الضابط الصاعد نابليون بونابَرت، على أثر تعثُّر الثورة في فرنسا ووقوعها تحت حكم الإرهاب)، وهي نهضةٌ شاملةٌ وعارمةٌ سمحت للجيش المصري السيطرة على الجزيرة العربية والقضاء على “الحركة الوهابية” والدولة السعودية المُتَبَنِّية لها. عندما تعاظم العصيان اليوناني المدعوم من الدول الأوروبية، وأخذَ يُهدّدُ نفوذَ الدولة العثمانية، هبَّ محمد علي لنجدتها، فتحرّكَ أسطوله البحري بقيادة ابنه إبراهيم باشا واحتلَّ المرافئ اليونانية كلّها، فاجتمعت ضده الدول الأوروبية الثلاث الكبرى في ذلك الوقت، بريطانيا وفرنسا وروسيا، وحطَّموا أسطوله في معركة “نافارينو”، وفي التسوية التي جرت بعد ذلك، أبقوا لمصر جزيرة كريت اليونانية، وما جرى لمحمد علي تكرّرَ مع جمال عبد الناصر في أواسط القرن العشرين (ليس فقط لأنهُ أمَّم قناة السويس، بل أيضًا بسببِ دعمه الفعَّال للثورة الجزائرية ضد الاحتلال الفرنسي).
إلّا أنَّ السببَ المُوجِب الذي حملَ الدول الأوروبية الكبرى على تبنّي الحُلم الصهيوني بإقامةِ دولةٍ يهودية في فلسطين، هو الحملة الناجحة التي قام بها إبراهيم باشا في سوريا وغيَّرت التركيب الاجتماعي للمنطقة المشرقية (سوريا، لبنان، فلسطين). فقد أصاب الذعر العثمانيين والأوروبيين، على حدٍ سواء، عندما حقّقَ جيش إبراهيم باشا نصرًا حاسمًا في “معركة نصيبين”، فانفتحَ الطريق أمامه الى إسطنبول، الأمر الذي حمل السلطان محمود الثاني على عقد معاهدة سريعة مع روسيا تَعهَّدت بموجبها الدفاع عن إسطنبول عاصمة الخلافة الإسلامية. وكان الجيش العثماني في تلك المعركة بقيادة اثنين من كبار ماريشالات بروسيا الألمانية، ومعهما فرقة ألمانية من ألف جندي وضابط، هما الماريشال فون مولتكي والماريشال فون مولباخ، اللذان أقاما تحصيناتٍ منيعة، ظنَّاً منهما أنها غير قابلة للاختراق، فاخترقها إبراهيم باشا من أول محاولة، (بعد هذه المعركة بشهر واحد توفي السلطان محمود وكان قد أنجز القضاء على فرقة الإنكشارية التي كانت مُتحَكِّمة بالسلطة العثمانية).
بعد ذلك الإنجاز العسكري الكبير الذي حقَّقه الجيش المصري في بلاد الشام، اجتمعت ضدَّه، كالعادة، الدول الأوروبية، فأرسلت أساطيلها إلى السواحل اللبنانية وقصفت القوات المصرية، وأجبرتها على الانسحاب من بلاد الشام لقاء الاعتراف الدولي بحكم محمد علي وسلالته في مصر. وعند هذا المفصل نشأ في تفكيرِ الدول الكبرى مشروعان خطيران للتدويل هما: المشروع البريطاني، الذي قضى بإقامةِ دولةٍ يهودية في فلسطين تفصل بين مصر وبلاد الشام، فلا تتكرّر تجربة محمد علي في تلك البلاد.
المشروع الثاني، فرنسي، في المغرب، وقد تم بالتزامن مع حملة إبراهيم باشا في سوريا، هو احتلال فرنسا للجزائر في العام 1830.
لكن التدويل الفعلي لتحقيقِ هدفِ الدولة اليهودية في فلسطين، بدأ بعد الحرب العالمية الأولى في مؤتمر الصلح في فيرساي بالقرب من العاصمة الفرنسية باريس، وذلك بعد فشل الحركة الصهيونية في حمل السلطان عبد الحميد الثاني على بَيعِ فلسطين لليهود مقابل تعويمٍ ماليٍّ للسلطنة ودعمها في وجه الدول الأوروبية. لكنَّ السلطان عبد الحميد أبلغ ثيودور هرتزل، رئيس المؤتمر الصهيوني الأوّل في مدينة “بال” السويسرية في العام 1897 الذي قَدّمَ له العرض بنفسه: “هذه الأرض (فلسطين) ليست مُلكي لأبيعها. إنّها مُلكٌ لأهلها الفلسطينيين، وأنا مُؤتَمَنٌ عليها، وما دامت في عهدتي فهي ليست للبيع والشراء. على كلِّ حال، وَفِّروا فلوسكم لأنكم سوف تأخذونها بالمجَّان عندما تقوم الدول الأوروبية بتفكيك الإمبراطورية العثمانية، لكن أنا لا أستطيع أن أُسَجِّلَ على نفسي في سجلّات التاريخ أنني أعطيتكم شيئًا غاليًا علينا وعلى أهلها أصحاب الأرض لقاءَ مبلغٍ من المال”.
اتّخَذَ السلطان عبد الحميد هذا الموقف التاريخي المشهود في الوقت الذي كانت جهاتٌ عربية انخرَطت في الثورةِ ضدّ تركيا العثمانية، بالتواطؤ مع بريطانيا على علم، (وربما بموافقة ضمنية)، بالمشروع الدولي لإقامةِ دولةٍ يهودية في فلسطين. والقادة منها الذين حضروا مداولات مؤتمر فرساي (وأبرزهم الأمير فيصل بن الحسين الهاشمي، والبطريرك الماروني الياس الحويك المُطالِب وقتها بدولة لبنان الكبير بضم الأقضية الأربعة التابعة للحكم العثماني في إسطنبول الى لبنان الصغير)، كانوا على علم بما يُحاك في ردهات المؤتمر، أو على الأقل كانوا على عِلمٍ ببعثة “كينغ–كراين” الأميركية إلى سوريا، وفي أجندتها تقصّي مسألة إقامة دولة يهودية في فلسطين، كما مرَّ، إن لم يكونوا على بيِّنةٍ من تقريرها الذي وُضِعَ على الرَفِّ لسنواتٍ عدة.
وعندما احتلَّ الإسرائيليون أكثر من نصف لبنان بما فيه العاصمة بيروت في العام 1982، كان ذلك يحظى بموافقةٍ دولية، حيث أُريدَ للجانبِ الإسرائيلي أن يلعبَ الدور الذي لعبه تاليًا الجانب العربي كوكيلٍ في نهاية الحرب الأهلية. ففي المفاوضات الإسرائيلية–اللبنانية التي أفضت إلى “اتفاقية 17 أيار” التي أقرَّها المجلس النيابي اللبناني (ولم يوقعها رئيس الجمهورية آنذاك أمين الجميل تحت وطأة ضغوطٍ داخلية وعربية)، وهي مفاوضاتٌ جرت تحت إشراف الوسيط الأميركي موريس درايبر، الذي ذُهل من استعجال الطرف اللبناني في التوصّلِ إلى تَفاهُم. وقد أبلغني أحد الزملاء في بيروت خلال تلك المفاوضات، التي ترأسها عن الجانب اللبناني السفير أنطوان فتَّال، أنَّ درايبراضطر في مرحلةٍ من المراحل إلى الطلب من الجانب اللبناني التشدّدَ قليلًا في المفاوضات لكي يكون للولايات المتحدة دورٌ في التقريب بين مطالب الفريقين. وقد لاحظ درايبر أنَّ التفاوضَ من الجانب اللبناني هو التسليم المُبكِر بمطالب الفريق الآخر إلى درجة الاستغناء عن خدمات الوسيط. وربما كان من حسن الحظ أنَّ ذلك لم يحدث مع الوسيط الأميركي-اليهودي آموس هوكستين في المفاوضات الأخيرة (غير المباشرة) بشأن ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل. أو على الأقل فإنَّ الوسيطَ هوكستين لم يشكُ مما شكا منه الوسيط درايبر من قبله!
:لبنان… الحَربُ الأهليَّة المُستَدامة (34)
تَدويلُ القَضاء
2024/04/01
تَزامَنَت مَساعي التدويل السياسي للأزمة اللبنانية مع التدويلِ القضائي للتحقيق في مداخلِ ومخارجِ الأزمةِ المالية وتهريب الأموال عبر المصارف إلى خارجِ لبنان.
لم تَكُن دعوةُ البطريرك الماروني الكاردينال بشارة بطرس الراعي إلى مُؤتَمرٍ دولي للمساعدةِ على انفراجِ الوَضعِ اللبناني، وليدةَ الأزمةِ التي تفاقمت منذ العام 2019، إنَّما نشأت مُنذُ المؤتمر الدولي المُعَرَّب الذي انعقدَ في الطائف في 30 أيلول (سبتمبر) 1989. ولم يتوانَ البطريرك من حَملِ دَعوَته تلك إلى حاضرة الفاتيكان، ثمَّ إلى المراجعِ السياسية في بريطانيا خلال زيارته الرسمية والرعوية إلى لندن بحماسٍ ظاهرٍ من قبل السفير البريطاني في بيروت.
أمّا على الصَعيدِ القضائي، فقد جرت محاولاتٌ لإيقاظِ القضاء اللبناني من سباته الطويل، بعدَ غيابهِ عن الوعي طوالَ الأزمة المالية التي كانت المصارفُ محورَها، وعلى رأسها البنك المركزي (مصرف لبنان)، وتتابُعِ وصولِ وفودٍ قضائية أوروبية إلى بيروت، للاستماع الى إفاداتِ مصرفيين ومسؤولين حول مخالفاتٍ لم يُكشَف عنها بالتفصيل.
وتَحَسَّسَ بعضُ اللبنانيين من أن تُشَكِّلَ مساعي التدويل السياسية والمالية انتقاصًا من السيادة اللبنانية، وهو قولٌ بدأَ مُنخَفِضَ النبرة، لأنَّ هناك ما يدحضه بحججٍ واقعية وقانونية، تختلفُ عمّا كانت عليه السجالات التي سبقت تشكيل المحكمة الدولية الخاصة بلبنان للنظر في جريمة اغتيال رفيق الحريري في منتصف شهر شباط (فبراير) من العام 2005.
فالمُعتَرِضون، بحجّةِ خَرقِ السيادة الوطنية، لا يستطيعون أخذَ هذه الحجة إلى مداها الأقصى لأنّهم وافقوا على اتفاقٍ لرسمِ الحدودِ البحرية مع كيان العدو الإسرائيلي، برعايةِ راعي التدويل الأوّل والعدو في آنٍ معًا، وهناكَ دولٌ كثيرة وكبيرة في عالم اليوم منقوصة السيادة تحت رعاية الراعي ذاته للأعداء والأصدقاء.
يُضافُ إلى أنَّ التدويلَ اللبناني حالةٌ مُزمِنة، بل هي سياقٌ تاريخي من الأزل الى الأبد، بما في ذلك الاستقلال وميثاقه الوطني، ومؤتمر الطائف ووثيقة الوفاق الوطني الصادرة عنه، والتي أنتجت التركيبة الميليشياوية والمافيوزية الراهنة التي نهبت الدولة والشعب والمصارف إلى آخر ليرة لتُراكِم الثروات في حساباتها المصرفية الخارجية.
لكنَّ القضاءَ الأوروبي لا تعنيه اعتباراتُ السيادة الوطنية، لأنه يسير بموجب معاهدة مع الدولة اللبنانية ويعمل في إطارها. فلا غُبارَ على ما أقدمَ وقد يُقدِمُ عليه. لكن هناك أسئلة وعلامات استفهام حول ما إذا كان قد قام بواجبه التدقيقي في البلدان الأوروبية التي استقبلت مصارفها الأموال المُهَرَّبة من لبنان، وهل لديه ما يُثبتُ أنَّ أصلَ تلك الأموال شرعيٌّ أو غير شرعي، منهوبٌ أو غير منهوب، مبيَّضٌ أو ملوَّثٌ، مع العلم أنَّ مصارف كبرى في العالم تقوم بعمليات تبييض الأموال على أعلى المستويات، وبرعاية أجهزةٍ رسميَّة بعضها يتعاطى تسهيل تجارة المخدرات التي يُعتَبَرُ الكبتاغون اللبناني أهونَها شرَّا. فالسعوديون، الذين أدرجوا هذه المسألة في رأس تحفّظاتهم على لبنان، بحجة تصدير هذه الممنوعات إلى بلدهم، لم يَسمعْ أحدٌ أنهم تحفّظوا عن المتلقي السعودي المحلي لتلك الممنوعات، وما إذا كانت له حمايةٌ من أجهزةٍ رسميةٍ كما هو الحال في بعض الدول الكبرى.
إنَّ التدويلَ القضائي لا يختلفُ بشيءٍ عن التدويلِ السياسي، وبهذا المعنى فهو قضاءٌ مُسيَّسٌ بدرجةٍ من الدرجات، وانتقائي أيضًا، والمحكمة الدولية خير مثال، فقد سمحت لنفسها، ولم تعترض الجهات الواقفة وراءَها، ولا الدولة اللبنانية مانعت، من أن تضعَ تلك المحكمة يدها على معلوماتٍ تتعلّقُ بجميع اللبنانيين من دون استثناء، فضلًا عن أنها أُقرّت من الجانب اللبناني، ولاعتباراتٍ سياسية لبنانية داخلية، خلافًا للأصول الدستورية، التي تقضي بأن يكون رئيس الجمهورية، هو الجهة الوحيدة التي يحقّ لها التفاوض بشأن المعاهدات الدولية.
حكومة فؤاد السنيورة في ذلك الوقت خَرَقَت الأصول الدستورية، بحمايةِ وتشجيعِ ودَعمِ جهاتٍ عربية ودولية لها غاية في توجيه عمل تلك المحكمة في اتجاهٍ يخدمُ مصالحها. فضلًا عن أنَّ رئيس الحكومة استطاعَ أنْ يستميلَ وزير العدل شارل رزق إلى جانبه في هذه المخالفة.
في مسألةِ رسمِ الحدود البحرية مع الكيان الصهيوني، لم يقع المكوِّن الشيعي في هذا المَطَبّ الدستوري. فقد ظلَّ رئيس مجلس النواب نبيه بري يُفاوِضُ الأميركيين سرَّاً طوال عشر سنوات، وهذه أيضًا مخالفة دستورية تَمَّت تغطيتها، عندما استوت طبختها، بتسليم ملف التفاوض العلني إلى رئيس الجمهورية، فكانت تلك خطوة دستورية سليمة، حتى ولو كانت خطوة شكلية، على افتراض أنَّ المفاوضات الفعليَّة تمَّت في السر بمعزلٍ عن رئاسة الجمهورية. ويبدو أن المكوِّن السنِّي، مُمَثَّلًا في زمانه بفؤاد السنيورة، لم يُعِر انتباهًا للقاعدة الشرعية القائلة: “إذا بُليتُم بالمعاصي فاستتروا”، كما فعل نبيه بري!
ومن عجبٍ أنَّ أحَدًا في لبنان لم يُطالِب بقضاءٍ دولي للنظر في جريمةِ تفجير مرفَإِ بيروت، مع أنها ترقى إلى جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، إزاءَ الحماس الهستيري والتزوير المُتمادي لتشكيل محكمة دولية خاصة من قبل مجلس الأمن كلَّفت الشعب اللبناني مجتمعًا ما لا يقل عن 500 مليون يورو طوال عشر سنوات، لتقول للبنانيين إنَّ المسؤولَ عن اغتيال رفيق الحريري هو شخص يُدعى سليم عياش مجهول الإقامة. وقد تخلَّلَ أعمالُ تلك المحكمة، خصوصًا في مرحلة التحقيق الدولي، كمٌّ هائلٌ من التزوير، وادَّعت عندما ووجهت بهذه القضية، أنها ليست لها صلاحية ملاحقة شهود الزور!
كنتُ في بيروت عام 2018، فالتقيتُ ديبلوماسيًا ألمانيًا مُتقاعدًا، خدمَ لفترةٍ في العاصمة اللبنانية، ويَمُتُّ لنا بصلةِ قُربى، فقلتُ له: “اشتهرَت الديبلوماسية الألمانية العلنية والسرِّية بكفاءتها العالية، خصوصاً لجهة التفاوض من أجل تبادل الأسرى والمُعتقلين بين لبنان وإسرائيل، فكيف شَذَّ المُحقق الدولي ديتليف ميليس عن هذه القاعدة، وتصرَّف، وكذلك بعض مساعديه، على النحو الذي شاهدناه؟”.
أجابني: “لم يكن ميليس في مهمته تلك في لبنان يُمثّلُ الدولة الألمانية، ولا القضاء الألماني، ولم تكن الجهة التي رشّحته ألمانية”.
:لبنان… الحَربُ الأهليَّة المُستَدامة (33)
شَراكَةٌ غَير دائمة
2024/03/31
على الرُغمِ من تَحَفُّظِ موسكو وعَدَمِ رضاها، وافقت واشنطن، وبارَكَت الرياض، على دخولِ الجيش السوري إلى الأراضي اللبنانية عام 1976.
هذا النوعُ من التدويل، لا يَرغَب الأميركيون عادةً إظهاره بأنهُ أحاديُّ الجانب من طرفهم فقط (ولو أنه في الواقع كذلك)، فيُشرِكون معهم أطرافًا أخرى عربية وأحيانًا غير عربية (كما فعلوا في العراق).
جاءَ التدخّلُ السوري وقتها في لحظةٍ حرجة لأنَّ تحالُفَ المنظمات الفلسطينية مع الحركة الوطنية اللبنانية كاد أن يَقلبَ الموازين الداخلية في لبنان، مما شكَّلَ، أو كاد يشكِّلُ، خاصرةً رخوةً لسوريا. وليس سرًّا أنَّ النظامَ السوري لم يكن يرتاح لا إلى قائد الحركة الوطنية كمال جنبلاط، ولا إلى قائد منظمة التحرير الفلسطينية ياسر عرفات.
لكنَّ الشيءَ الذي قلبَ المُعادَلة، وغيَّرَ حسابات وتحالفات الأطراف المُتناحِرة في لبنان، وجاءَ مُفاجئًا على حين غرَّة، هو زيارة الرئيس المصري أنور السادات إلى إسرائيل في العام 1977 فأربَكَ ذلك جميع الأطراف المُنغَمِسة بالشأنِ اللبناني بمن فيهم الولايات المتحدة ذاتها. فخروجُ مصر من الصراع العربي-الإسرائيلي ليس بالشيءِ القليل أو العابر، بل هو تغييرٌ جذريٌّ في السياسات العالمية كلِّها.
كان لزامًا على النظام السوري، المُحرَج من تلك الخطوة، أن يُغيِّرَ مَسارَ سياسته الإقليمية واللبنانية أيضًا، وهو تغييرٌ دفاعيٌّ أخذَ شكلًا هجوميًا، سواءَ بتصالحه مع العراق (في عهد الرئيس أحمد حسن البكر)، ووضع “ميثاق العمل القومي” معه، أو في قطع العلاقات مع مصر وتشكيل ما سُمِّيَ في ذلك الوقت “جبهة الرفض”.
وعلى هذا المَفصَلِ جرى تغييرٌ للأولويّات لدى أطرافٍ عديدة، وبدفعٍ من الولايات المتحدة، بُغيةَ فتحِ جبهاتِ استقطابٍ بعيدًا من الصراع العربي-الإسرائيلي، بمعنى صرف الأنظار عن هذا الصراع وتوجيهها نحو صراعات أخرى. وفي هذا الإطار يندرجُ انقلاب صدام حسين على الرئيس البكر، الذي كان انقلابًا على “ميثاق العمل القومي” تحديدًا، تلاهُ شنُّ حربٍ كبرى ضد إيران بدعمٍ من واشنطن وتمويلٍ من الخليج.
عندَ ذلك المَفصَلِ وتحوُّلاته لم يُدرِك اللبنانيون ظروفَ السلوك المُتَصَلِّب للسوريين، فقامَ بعضهم بخطواتٍ خارج السياق أدّت إلى نوعٍ آخر من التدويل لم يُكتَب له النجاح.
أُعطيَ تدويلُ الأزمة اللبنانية في ذلك الوقت وجهًا عربيًا من خلال قمّةٍ عربية محدودة انعقَدَت في الرياض بدعوةٍ من الجامعة العربية، حيثُ تقرَّرَ تشكيلُ قوَّة ردعٍ عربية لحفظ الأمن في لبنان، ضمَّت في البداية قوَّاتٍ من ستِّ دول عربية هي: سوريا، لبنان، المملكة العربية السعودية، دولة الإمارات العربية المتحدة، واليمن. لكن القوَّة الأكبر كانت سوريَّة بما لا يقاس (25 ألف جندي سوري وخمسة آلاف فقط من بقية الدول العربية). ويُقال إنَّ السفير السعودي في بيروت اللواء علي الشاعر، هَمَسَ في أُذُنِ ولي العهد السعودي آنذاك الأمير فهد بن عبد العزيز، الحاكم الفعلي في السعودية وقتها، قبل أن يُصبِحَ ملكًا بعد سنواتٍ عدة، قائلًا له: “هبَّت علينا ريحٌ فدفعت بنا إلى المسرح، فإمّا أن نُجيدَ الدور أو أن نُسدِلَ الستار”، فأجابه الأمير فهد: “بل نُجيدُ الدور”. لكن سرعان ما انسحبت القوات العربية ومنها القوات السعودية لتنفرد وتتفرّد سوريا بالشأن اللبناني، لكنَّ الشَراكةَ السورية–السعودية بقيت قائمة وفاعِلة (سمَّاها بعض السياسيين اللبنانيين س. س).
هذه الشراكَةُ (تحت مظلّة الراعي الأميركي) استمرَّت ردحًا طويلًا من الزمن حتى توقّفت الحرب على يدها في “اتفاقِ الطائف”، ونشوء الحالة الحريرية كتتويجٍ لها، وهي مُتَّصِلة مباشرةً بأعلى سلطة في المملكة العربية السعودية في حينه مُمَثَّلَةً بالملك فهد شخصيًا. وربما كان هذا الوضعُ تفسيرًا لقول الملك فهد لسفيره في بيروت: “بل نُجيدُ الدور”. صحيحٌ أنَّ رفيق الحريري، بعد “اتفاق الطائف”، حَكَمَ في لبنان بالنفوذِ السعودي، لكنه ما كان ليستطيع أن يَحكُمَ خارج إطار القوَّة السورية الحاكمة فوق الحاكمين. وهذا ما أتاحَ له شقَّ وإضعاف معظم القوى السياسية اللبنانية (باستثناء “حزب الله” وحركة “أمل”)، لأنَّ إضعافَ القوى السياسية اللبنانية (خصوصًا المسيحية منها) كان يُناسِبُ السوريين في ذلك الوقت لكون الجسم السياسي المسيحي شكَّلَ عصبَ المُعارِضة للوجود السوري في لبنان.
كانت سوريا بالنسبة إلى الحريري “عدوًّا له ما من صداقته بُدُّ”. لكنه لم يكشف عن ضِيقِهِ بالسوريين إلّا بعد رئاسة العماد إميل لحود، وتسريح أركان حاملي الملف اللبناني في دمشق، وأبرزهم حكمت الشهابي وعبد الحليم خدَّام، (في أواخر حياة الرئيس حافظ الأسد ثم في بداية عهد خليفته الرئيس بشَّار الأسد). والملفت أنَّ افتراقَ الحريري عن السوريين بدأ قبل الافتراق السوري-السعودي بسنواتٍ عديدة.
الشراكة السعودية–السورية ظلّت قائمة في عهد الملك عبد الله، بل إنَّ الملك عبد الله حملَ سعد الحريري على الذهاب إلى دمشق لمصالحة الرئيس بشَّار الأسد (وإشهار تبرئة سورية من اغتيال والده)، وتسهيلًا لوصوله إلى رئاسة الحكومة، واستمراره فيها.
لكنَّ الشَراكة السعودية–السورية في لبنان انفصمت عُراها عندما نفخَت أميركا بريحِ “الربيع العربي” باتجاهِ سوريا، فأشعلت فيها حربًا أهلية، وإرهابية، ومُتعدّدة الجنسيات، لا تبقي ولا تذر، انخرطَ فيها فريقٌ من اللبنانيين بفتح الثغور على مداها، ومن تلك الثغور دخل مقاتلون وإرهابيون، ودخلت حمولات بواخر من السلاح الخفيف والثقيل، ودخلت أموالٌ (سعودية وخليجية) بالمليارات.
والسببُ الآخر لانفصامِ تلك الشراكة، هو تعاظم قوة “حزب الله” اللبناني ومشاركته في الحرب السورية إلى جانب الجيش السوري، واتساع دائرة نشاط الحزب على المسرح الإقليمي ليشمل العراق واليمن، وهو ما يفسِّرُ انزعاج السعوديين من لبنان.
لكنَّ عودةَ الحياة الى النشاط السعودي في لبنان، (بعد فرض الاعتزال السياسي على الحريري وتياره) يُنبِئُ بمرحلةٍ جديدة في الإقليم ربما تجدَّدَت فيها الشراكة السعودية–السورية على أسسٍ جديدة إذا استطاع السوريون تخفيف مكامن الإزعاج للسعوديين في لبنان.
:لبنان… الحَربُ الأهليَّة المُستَدامة (32)
“طائف”الطوائف
2024/03/30
يَحتَمِلُ “اتفاق الطائف”، تفكيكَ ظروفه ونتائجه، لأنّهُ منذُ البداية أُحيطَ بغموضٍ مُتَعَمَّد، وهو غموضٌ مقصودٌ لسببَين أساسيَين: أولّهما، إخفاءُ غايته الحقيقية. وثانيهما، تطويعه للتلاعُبِ به وعدم تطبيقه كما كان يجب بُغيةَ طَمسِ المعالم بين نَصِّهِ وروحِه.
صحيحٌ أنَّ الذين اجتمعوا في الطائف كانوا لبنانيين، لكن مَنْ هم وراء المؤتمر ورُعاته ليسوا كذلك. إنّهُ صيغةٌ للتدويل بالوكالة، ومن لوازم “التوليفة” أنْ يكونَ الوكيلُ عربيًا ومليئًا.
هناكَ أكثر من حجَّةٍ تجعلُ “اتفاق الطائف” باطلًا من الأساس، لأنَّ المُجتَمِعين لا يقفونَ على أرضٍ صلبةٍ في لبنان، وبالتالي فإنه ليست لديهم القدرة على تنفيذه، ولا شرعية دستورية لهم، فهم نوَّابٌ سابقون مَدَّدوا لأنفسهم عشرين عامًا، وهي فترة طويلة قضى خلالها نحبه عددٌ غير قليل من المُسِنين بينهم. ثم إنه عندما وَصَلَ الاتفاقُ إلى بيروت جرى تزويره من البداية بتعيينِ نوّابٍ في المقاعد الشاغرة من قبل الحكومة، وهو أمرٌ غير دستوري، لأنَّ النائبَ لكي يحملَ هذه الصفة في كل دساتير العالم يجب أن يكونَ مُنتَخَبًا من الشعب في دائرته، ثم جرى تزوير مرة أخرى في قانون الانتخاب تمهيدًا لانتخاباتِ العام 1992 (التي قاطعتها غالبية المسيحيين) بأن رُفِعَ عددُ النواب للمجلس الجديد إلى 128 نائبًا، بينما نصَّ “اتفاق الطائف” على أن يكونَ العددُ 108 نواب فقط.
النقطةُ التي بَدَت إيجابية في الطائف هي استبعادُ أمراءِ الحرب وقادةِ الميلشيات الطائفية منه، وهي نقطة قد تكون سَهَّلت إقرار الاتفاق، لكنها في الوقت ذاته أفسدت تطبيقه على أرض الواقع الذي يُسَيطِرُ عليه أمراءُ الحرب تحت نظر السوريين المُمسِكين بالسلطة الفعلية بتفويضٍ دولي وعربي. ولذلك، فإن ما سُمِّيَ “ميثاق الوفاق الوطني” المُنبَثِق من مؤتمر الطائف، الذي يُطلِقُ عليه بعض اللبنانيين خطأً “دستور الطائف”، يشوبه عيبٌ مبدئيٌّ لكونه تمَّ في عقدٍ برلمانيٍّ غير شرعي، ليس فقط لأنَّ الذين كانوا في المؤتمر مدّدوا لأنفسهم فتراتٍ تشريعية مُتعاقِبة، كما أسلفنا، بل لأنه لا يجوز لنوّابِ الأمّة (ولو كانوا مُنتَحِلي الصِفة) أن يعقدوا جلساتٍ ذات طابع وطني خارج الوطن. وفوق ذلك، أظهَرَ اتفاقُ الطائف بما انتهى إليه، لناحيةِ تَقليصِ صلاحيات رئيس الجمهورية، أنَّ في البلد الذي اسمه لبنان، والمُفتَرَض أنه قائمٌ على الشراكة الوطنية، فريقٌ غالبٌ وفريقٌ مغلوب. وهذا المنطق رفضه المسلمون أنفسهم في ثورة 1958، فطرَحَ صائب سلام وقتها شعار “لا غالب ولا مغلوب”، ثم “لبنان واحد لا لبنانان” بعد تولّيه رئاسة الحكومة سنة 1960 في بداية عهد الرئيس فؤاد شهاب، وقام سلام بشرح هذا الشعار في محاضرة ألقاها في “الندوة اللبنانية”.
ولنا من الحرب الأهلية الأميركية (1861–1865) التي تزامنت مع الحرب الأهلية اللبنانية الأولى (1860–1864) عبرةً ومثالًا: فقد قال عميد المؤرّخين الأميركيين في ثلاثينيات القرن العشرين تشارلز بيرد (لقب “عميد المؤرخين” أطلقه عليه زميله ومعاصره المؤرخ كومر فان وودوُرد): “إنَّ الإيديولوجيةَ السياسية هي مجرَّد قناعٍ للمصلحة الاقتصادية الذاتية. فالحربُ الأهلية لم تكن صراعًا حول العبيد والعبودية كما هو شائع، بل ثورة أميركية ثانية غايتها نقل السلطة من أيدي كبار المزارعين في الجنوب إلى أيدي الصناعيين في الشمال”.
فإذا أسقطنا هذا الكلام على الحرب الأهلية اللبنانية التي انتهت باتفاق الطائف، بعد 15 سنة من القتل والتهجير والمجازر والدمار والخطف، وتذكَّرنا شعارات “الحركة الوطنية” التي أطلقها كمال جنبلاط، باسم الإصلاح والعدالة الاجتماعية، وما أطلقته المنظمات الفلسطينية المُتحالِفة معها مثل “تحرير فلسطين من النهر الى البحر”، و “الدولة الديموقراطية التي تتسع للمسلمين واليهود والمسيحيين على كامل التراب الفلسطيني” واعتبرناها شعارات إيديولوجية، حسب توصيف تشارلز بيرد، يتبيَّن لنا، أنَّ أقربَها إلى الحقيقة في ذلك الوقت هو الشعار الذي أطلقه القائد الفلسطيني صلاح خلف (أبو إياد) والقائل: ” طريق فلسطين تمرُّ من جونية”، فبرَّرَ فيه قول القائلين بأنَّ المقاومةَ الفلسطينيةَ هي جيشُ المسلمين (أو كما قيل تاليًا بأنَّ المقاومة الإسلامية هي جيش الشيعة).
وهذا يُفسِّرُ قول تشارلز بيرد بأنَّ الشعاراتَ الإيديولوجية ما هي إلَّا قناعٌ يخفي عمليةَ انتقالِ السلطة من يدٍ الى يد. وفي الحالة اللبنانية نقل السلطة من المسيحيين إلى المسلمين (أو ربما نقل الصيغة اللبنانية القائمة من مارونية–سنيَّة إلى مارونية–شيعيَّة) وهذا ما تمَّ فعليًا في “اتفاق الطائف” الذي وافقت عليه جهاتٌ مسيحية مرموقة، فبدا ذلك بمثابةِ إقرارٍ وقبولٍ بالهزيمة في الحرب الأهلية. كما ظهرت هيمنة رفيق الحريري بصفته “عرَّاب الطائف” على المَشهَدِ السياسي والاقتصادي في لبنان على أنّها نتيجةٌ حتمية مُسْتَحَقَّة للفريقِ الغالب.
كذلك، فإنَّ الدولَ الراعية لهذا التحوُّل، جعلته حقيقةً واقعةً كي تتصرّف على أساسه، الأصيلِ منها أو الوكيل، سيَّان عندها مَن هي الجهة التي تُمسِكُ بمفاصل السلطة طالما هي قابلة للمساومة مقابل ذلك. وهذا لا يقتصر على السلطة السياسية، بل الأهم من ذلك أنه يتعداها إلى السلطة المالية والمصرفية والاقتصادية، وأوضح مثال على هذا الانتقال في لبنان إصرار رئيس مجلس النواب نبيه بري، بصفته مُمَثّلًا للشيعة، على احتكار وزارة المالية باسم “التوقيع الثالث”، أي توقيع جهة شيعية على القرارات إلى جانب توقيع رئيس الحكومة السنّي ورئيس الجمهورية الماروني، وبالتالي يستطيع وزير المالية التحكّم بجميع الوزارات الأخرى من حيث الموافقة على صرف الاعتمادات لتلك الوزارات أو حجبها عنها. وبذلك يكون وزير المالية أقوى من رئيس الحكومة ومن رئيس الجمهورية.
مثل هذه الأشياء السلطوية الهدف، لا تتحقق كما يشتهي أصحابها، إلّاَ بالتخفّي وراءَ أقنعةٍ إيديولوجية للتخفيف من وطأةِ هذا الانتقال على المغلوبين، حسب توصيف تشارلز بيرد.
في الطائف انتقلت السلطة الفعلية من يدٍ إلى يد، وفي الأزمة المستمرّة منذ “ثورة تشرين” سنة 2019 مخاضٌ آخر لانتقالٍ جديد في السلطة السياسية والاقتصادية كنتيجةٍ حَتميةٍ لملاحق الحرب الأهلية المُستَدامة
:لبنان… الحَربُ الأهليَّة المُستَدامة (31)
التَدويلُ السَلبي
2024/03/29
عندما لا تتعاطى الولايات المتحدة بالشأنِ اللبناني مُباشَرةً، فهذا لا يعني أنَّ الأمرَ لا يَهمُّها، فما شهده لبنان في جانبٍ منه، كان بموافقتها أو من صنعها. فمنذُ مطلعِ الألفية الثالثة، تعاطت الإدارات الأميركية المُتعاقِبة مع لبنان بسلبية، وحَذَت حذوَها بقيّةُ حلفائها من عربٍ وغيرِ عرب. لكن ما تريده واشنطن من لبنان لا تستطيعُ الدولةُ اللبنانية تلبيته، ولا هي ترغَبُ في ذلك، لأنه مَدخلٌ إلى تحويلِ الحربِ الأهلية الباردة المُستدامة إلى حربٍ أهلية ساخنة لا تبقي ولا تذر.
ومن السذاجة القول إنَّ الأميركيين لا يعرفون مَنْ فَجَّرَ مرفأ بيروت، خصوصًا أن الرئيس الأميركي وقتذاك دونالد ترامب صَرَّحَ عَلَنًا، فور وقوع الانفجار، أن جنرالات في البنتاغون أبلغوه بأنَّ بيروت تعرَّضَت لهجوم. وهناك عسكريون أميركيون مُتقاعِدون ألمحوا إلى أنَّ السلاحَ الذي دمَّر المرفأ والواجهة البحرية المقابلة له هو صاروخٌ يحملُ رأسًا من اليورانيوم المُنَضَّب، أي أنه سلاحٌ نووي تكتيكي. ولهذا يُمكِنُ القول إنَّ ما وَقَعَ في لبنان من انهيارات، على جميع المستويات، تتحمّلُ الولايات المتحدة جانبًا من المسؤولية عنه، بصَرفِ النظر عن الأسباب الداخلية اللبنانية التي أملت وتُملي هذه المواقف السلبية.
فالتعاطي الأميركي غير المُباشَر في الأزمة اللبنانية هو نوعٌ من التدويل السلبي، أي استخدام الأزمة الخانقة للشعبِ اللبناني كسلاحٍ تكتيكي لتغيير الأوضاع، لكن مداه ما زال مجهولًا. وهذا النوعُ من التعاطي يُشبِهُ النكد السياسي اللبناني، أي إنه معالجةٌ لداءِ اللبنانيين بدوائهم المُرّ، لا يقتلهم لكنه يُدخلهم في حالةِ غيبوبة (كوما).
أمّا في العَلَن، فإنَّ الأميركيين يستخدمون دُوَلًا حليفةً لهم للظهور بمظهر الاهتمام، أي “التدويل بالوكالة”. وفي هذه الحالة، أي الحالة اللبنانية، يُكلّفون فرنسا بهذه المهمة لكونها مقبولة من معظم اللبنانيين لأسبابٍ عاطفية، وثقافية، وتاريخية. فالتدويلُ بالوكالة سلبيٌّ في جوهره، لأنه نوعٌ من المُماطلة، وكسبِ الوقت، فالتدويلُ الجدِّي لا يتمُّ إلَّا بوجود الأصيل. وعندما يظهرُ الأصيل تحصلُ نتائج سريعة، كما شاهد اللبنانيون، بالصوت والصورة، في عملية التفاوضِ برعايةٍ أميركية حول اتفاقِ رَسمِ الحدود البحرية مع إسرائيل، وعلى الرُغمِ من وجود “حزب الله” في الصورة الخلفية، وهو الذي تتذرَّعُ به واشنطن لتضييقِ الخناقِ على اللبنانيين.
لكن اعتماد الوكيل الفرنسي ليس مُقنِعًا حتى لواشنطن نفسها. فخلال زيارتي دمشق أواخر شهر كانون الأول (ديسمبر) من العام 1992 تسنّى لي لقاء فاروق الشرع، وزير الخارجية وقتذاك، فسألته عن التعاطي السوري مع القوى الدولية وأيّها أسهل مراسًا فأجاب من غير تردّد:.”الأميركيون… لأنهم يقولون لك مباشرةً ماذا يريدون منك ويسألونك بصراحة عمَّا تريده مقابل ذلك”.
“وماذا عن الفرنسيين؟”، سألته فأجاب: “يُشبعونك كلامًا جميلًا ووَعدًا وعند الجدِّ لا تَجِدْ لهم أثرًا. فهم لا يستطيعون تلبية ما هو مطلوب”.
وقد لمسَ اللبنانيون، لمس اليد، حالةً مُتطابقة مع ما قاله الشرع، عندما صعد الرئيس ميشال عون إلى حفَّارة النفط في بحر البترون، التابعة لشركة “توتال” الفرنسية، لافتتاح أعمال التنقيب، ثم انكفأت الشركة الفرنسية وأوقفت العمليات، من غيرِ إبداءِ أيِّ سببٍ مُقنع سوى تلقّيها إشارة أميركية بالانسحاب. وحتى عندما زار الرئيس الفرنسي ماكرون بيروت أكثر من مرَّة بعدَ تفجيرِ مرفَإِ بيروت مباشرةً، والتقى القوى السياسية اللبنانية كلِّها، بما فيها “حزب الله”، وتفقُّده للأضرار الناجمة من الانفجار، لم يتحقّق على يده أي تقدّم في الوضع اللبناني المُتهاوي، بل ازداد تدهورًا، على الرُغمِ من الترحيب الاستثنائي به، رسميَّاً وشعبيَّاً، إلى درجة أنَّ بعضَ اللبنانيين المُرَحِّبين به طالبه بعودة الانتداب الفرنسي لحُكمِ لبنان. كلُّ ما بقيَ من تلك “الهمروجة” وسامٌ على صَدرِ فيروز!
وهناكَ مَن يظنّ في فرنسا أن ماكرون افتتحَ حملتهُ الانتخابية، لولايةٍ رئاسية ثانية، في ذلك المهرجان اللبناني. وبعضهم يعتقدُ بأنَّ حملته الانتخابية تلك في بيروت كانت من الأسباب الوجيهة لفوزه بولايةٍ ثانية.
على أنَّ السياقَ التاريخي للعلاقات، بين باريس وواشنطن، يُحِدُّ من فاعلية الدور الفرنسي في السياسة الخارجية. ومن أبرز تلك التقلبات المُبكرة التحدّي الذي رفعَ لواءَه الجنرال شارل ديغول في ستينيات القرن الماضي ضدَّ الهيمنة الأميركية، فانسحب من حلف شمال الأطلسي، وزار روسيا السوفياتية مُعتَبرًا، أنَّ الحدودَ الشرقية لأوروبا تبدأ من جبال الأورال (مُلمّحًا بذلك الى إدخال روسيا في الأسرة الأوروبية، في الوقت الذي وضع الفيتو على إدخال بريطانيا فيها). ورفع ديغول سقفَ التحدي عندما زار المقاطعة الفرنسية في كندا، حيث هتف بحياة “كيبيك الحرة”، وكأنه توخَّى من ذلك فك التحالف بين كندا والولايات المتحدة.
أما في الشرق الأوسط فقد لعب ديغول أوراقًا استراتيجية خطيرة في وجه واشنطن فأقامَ علاقاتٍ متينة مع مصر الناصرية، ووَجَّهَ دعوةً رسميَّة إلى المشير عبد الحكيم عامر قائد القوات المصرية المسلَّحة لزيارة باريس، حيث أقام له عشاءً تكريميًا في قاعة المرايا في قصر فرساي (وهو أول عشاء رسمي جرى في تلك القاعة منذ مغادرة الملك لويس السادس عشر لقصر فرساي في الثورة الفرنسية في العام 1789). والأهم من ذلك كله، أنَّ الجنرال ديغول قطعَ توريد السلاح الفرنسي إلى إسرائيل، وكان حتى ذلك الوقت يأتي كلُّه من فرنسا، مما أحرج الرئيس جون كنيدي بسببٍ من الضغوط التي تعرَّض لها للسماح بتوريد السلاح الأميركي إلى إسرائيل تعويضًا عن السلاح الفرنسي.
وكان ذلك تحوُّلًا هائلًا في الوضع الدولي والإقليمي، فبعثَ كنيدي برسالةٍ سرِّيَّة إلى الرئيس جمال عبد الناصر، يعرضُ عليه وساطته لحلٍّ سلمي مع إسرائيل، لأنه يتعرّض لضغوطٍ شديدة من أجل تسليح الدولة العبرية، وهي ضغوطٌ قال إنهُ لن يستطيعَ تجاهلها طويلًا، مما يستدعي القيام بمساعٍ سلمية برعايةٍ أميركية، وعلى وجه السرعة.
وكان… ما كان.
:لبنان… الحَربُ الأهليَّة المُستَدامة (30)
!الشَريكُ المُضارِب
2024/03/28
قَطَعَ الإنزالُ العسكري الأميركي للقوات البحرية (مارينز)، على الشاطئ، جنوب بيروت، قُبَيلَ الانقلابِ الذي أطاحَ المَلَكِيِّة في العراق، مساعي نور السعيد مع السفير جايمس ريتشارد، المبعوث الأميركي إلى الشرق الاوسط، لحَملِ واشنطن على الدفاعِ عن استقلال لبنان في وَجهِ الهجمة الناصرية وعدم سقوط حكم الرئيس كميل شمعون، كما ذَكَرَ والدمار غالمان، سفير الولايات المتحدة لدى بغداد، في كتابه “عراق نوري السعيد: انطباعاتي عن نوري السعيد بين 1954- 1958″، ( صدرت طبعته الأولى المترجمة إلى العربية سنة 1965)، فكتب عن نوري السعيد ولبنان: “لم يَبرُز لبنان في أحاديثي مع نوري السعيد كبُروزِ الموضوع السوري. لكن من بداية ربيع 1958 صار يَتَطَرَّقُ لموضوعِ لبنان أكثر فأكثر. فعِندَ قيام “الجمهورية العربية المتحدة” في مطلع 1958، تزايدت نسبةُ الضغطِ اليساري على لبنان، بل وحتّى التسلّل السوري إلى الأراضي اللبنانية، وتتالى الضغطُ حتى مُنتَصف الصيف، ولم يَعُد ضغطًا مُقتَصِرًا على الحكومة اللبنانية، بل بدا أنَّ استقلالَ لبنان نفسه باتَ مُهَدَّدًا، وكان نوري السعيد يُراقِبُ الأحداثَ اللبنانية بقلق، فوقوع الفوضى في لبنان سيُحدِثُ انعكاساتٍ لا في العراق فحسب، بل في الأردن أيضًا، شريك العراق في “الاتحاد العربي” (الهاشمي)”.
ومضى السفير الأميركي خلال تلك الفترة التي عاصرها يقول: “في 21 أيار/مايو (1958) طلبَ نوري السعيد أنْ يراني على الفور، فقالَ إنَّ استمرارَ الاضطرابات في لبنان يُزعِجه كثيرًا، ويبدو له أنَّ هذا النهج سيكونُ مُقدّمة لتدخّلٍ عسكري. وبدا لنوري السعيد كأنَّ شمعون سيخسر ليخلفه اللواء فؤاد شهاب، وهو (أي نوري السعيد) يعرفُ شمعون جيدًا ويثقُ به، وكان يخشى من وقوعِ لبنان في أحضان عبد الناصر إذا لم يَصمُد شمعون. وقال إذا استنجَدَ الرئيس اللبناني بمجلس الأمن، فإن الاتحاد العربي سوف يُؤيّده، وإذا تطلَّبَ الأمرُ تدخُّل الولايات المتحدة وبريطانيا عسكريًا، فإنَّ “الاتحاد العربي” سوف يُؤيّدُ ذلك أيضًا، شرط عدم إشراك فرنسا”.
كان التدويلُ الأوّل في لبنان هو الاستقلال اللبناني، الذي تمَّ على يد بريطانيا مُمثَّلةً بالجنرال إدوارد سبيرز، وهو مَنْ قام بتركيبِ التشكيلة الاستقلالية الأولى. ومع أنَّ هذه التركيبة اهتزَّت، باستقالة الرئيس بشارة الخوري في منتصف ولايته الثانية، تحتَ الضغط الشعبي، فإنها لم تغبْ عن الصورة تمامًا في اضطرابات 1958، التي أدّت إلى التدويل الثاني على يد الولايات المتحدة بالشراكة مع طَرَفٍ عربي هو “الجمهورية العربية المتحدة” بقيادة جمال عبد الناصر.
ولم يكن غائبًا عن ذهن نوري السعيد ضرورة وجود شريك عربي في عملية التدويل اللبناني (غير احتمال لجوء الرئيس كميل شمعون إلى مجلس الأمن)، عندما اقترح على السفير الأميركي في بغداد (قبل أسابيع قليلة من الثورة العراقية التي أطاحته ولقي حتفه فيها على أيدي الجماهير الغاضبة، فمات شرَّ ميتة)، بأن يجري التدويل اللبناني على يد أميركا وبريطانيا، مع “الاتحاد الهاشمي” كشريكٍ عربي، واستبعاد فرنسا من المعادلة جُملةً وتفصيلًا.
طبعًا، استبعادُ فرنسا ليس مشكلةً بالنسبة إلى الأميركيين، لكنه يُزعِجُ فئةً واسعة من اللبنانيين تطبَّعَت طويلًا على الثقافة والعادات الفرنسية. لكنَّ السفيرَ الأميركي في بغداد ربما انزَعَجَ من اقتراحِ نوري السعيد إشراك بريطانيا في العملية، باعتبارِ ذلك مؤشِّرًا إلى عدم الثقة بالولايات المتحدة. ولم يَعِش نوري السعيد ليرى نتائج تقرير السفير الأميركي لدى صانعي القرار في واشنطن، لأنَّ تلك النتائج سبقته.
لكن الولايات المتحدة، عادت إلى مشاركة فرنسا في التفاهم الذي جرى بين الرئيسَين جورج بوش الإبن وجاك شيراك، في نورماندي العام 2004، على هامش الاحتفالات بالذكرى الستين للنصر في الحرب العالمية الثانية. وهذه المشاركة الأميركية–الفرنسية، التي عاد فيها التفاهم بين واشنطن وباريس، بشأن العراق، نتجت عنها نتائج خطيرة في لبنان ما زالت تُجَرجِرُ أذيالها على مدى سنوات، بالنظر الى العلاقة الوثيقة التي كانت قائمة بين الرئيس الفرنسي آنذاك جاك شيراك ورئيس الحكومة اللبنانية رفيق الحريري، الذي استقال وتخلَّى عن رئاسة الحكومة، ربما لخشيته من تأثيرِ تفاهم نورماندي على لبنان، فأرادَ أن يُحَيِّدَ نفسه والبلاد في تلك المرحلة. لكن الحريري، مثل نوري السعيد، لم يعش ليرى نتائج ذلك التفاهم.
ومُنذُ ذلك الوقت ظَلَّت الولايات المتحدة تَعتَمِدُ فرنسا شريكًا مُضارِبًا لها في لبنان (أو ربما شريكًا ثانويًا)، وذلك خلافًا لما أوصى به نوري السعيد السفير الأميركي في بغداد بضرورةِ استبعاد فرنسا من المُعادَلة كُلّيًا. فعندما جرى احتجازُ رئيس الحكومة اللبنانية، سعد الحريري، عام 2017 في المملكة السعودية، وأُجبِرَ على تقديم استقالته على الهواء مباشرةً من الرياض، اتَّخَذَ رئيس الجمهورية اللبنانية العماد ميشال عون مَوقِفًا لا هوادة فيه، برفضه تلك الاستقالة من بلدٍ غير بلده، وخلافًا للأعرافِ القانونية اللبنانية، باعتبارِ أنَّ ذلك يمسُّ بالسيادة الوطنية، فظَهَرَ على مسرح تلك القضية فجأةً الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون وذهبَ إلى الرياض من أجلِ إطلاقِ سراح الحريري تحت ذريعة دعوته إلى الغداء مع عائلته في قصر الإِلِيزيه، فتوجّهَ الرئيسُ الطليق إلى باريس قبل العودة إلى بلاده. وهكذا حُرِمَ رئيس الجمهورية اللبنانية، المعنيُّ الأوّل بالأمر، من أيِّ فضلٍ له في إطلاق رئيس حكومته المُحتَجَز في بلدٍ آخر، وتجييره إلى رئيسِ دولةٍ أجنبية لمجرّد أنّهُ شريكٌ ثانوي في التدويل اللبناني يفعلُ مشيئةَ الولايات المتحدة.
وكان التدويل اللبناني قبل ذلك اتّخَذَ شكل التفويض الكامل للمملكة العربية السعودية لجَمعِ السياسيين اللبنانيين في الطائف (بموافقة سوريا) لتوضيبِ تفاهُمٍ ما بينهم من أجلِ وَضعِ نهايةٍ للحرب الأهلية بوجهِها العسكري.
:لبنان… الحَربُ الأهليَّة المُستَدامة (29)
الأميركان يَفعَلونَها ويُزعِلونَ زبائنَهُم
2024/03/27
في سنة 1959، وكان لبنان قد نفضَ عنه غُبارَ صيف 1958 الدامي، تمّت تسويةٌ دولية، رَعَتها واشنطن ووافق عليها جمال عبد الناصر، قضت بإيصال قائد الجيش اللواء فؤاد شهاب إلى سدّة الرئاسة.
كُنتُ سنتها لمَّا أَزَل طالبًا في “الجامعة الأميركية”، فتنادت مجموعةٌ من الطلاب لزيارة صرح بكركي ولقاء البطريرك مار بولس بطرس المعوشي (أول بطريرك ماروني يحمل لقب كاردينال)، الذي كان عاكَسَ بمواقفه، وتوجّهاته، مواقف زعماء طائفته.
وحَدَثَ أن انتَدَبَني زملائي، لأتولّى الاتصال بالمسؤولين في الصرح البطريركي لتحديدِ مَوعِدٍ للزيارة، وطلبوا منّي أن أتحدّثَ باسمهم في حضرة البطريرك ،(لقد استفضتُ حول تلك الزيارة في كتاب “علامات الدرب” وهو سيرتي الذاتية).
في الصالون الكبير، الذي يستقبل فيه زواره، وقف البطريرك، بشوشًا، سَلَّمَ ورَحَّبَ بنا، ثمَّ عَلّقَ أمامنا على المواقفِ السلبية لأبناءِ طائفته التي نالت منه خلال اضطرابات صيف 1958، مُتندّرًا بما كانوا يُلحِقونَ به من نعوت، وقال مُمازِحًا: ” لم أجد مُعَزّيًا لي في تلك الفترة، سوى إخواننا الأرثوذكس في عكار”.
والواقع، أن ما ذكره البطريرك أمامنا، عن السباب والشتائم التي نالته، كان يُعبِّر عن المزاج العام في تلك المرحلة المشدودة بالعصب الطائفي، والاستقطاب الحاد والمُسَلح أيضًا.
ففي حين كانَ المسلمون يُطلِقون عليه لقب “بطرك العرب”، كان بعض الموارنة يسمونه ” محمد المعوشي”، ويلحقون التسمية بأنه مُستَزلِم لجمال عبد الناصر.
وهي كلُّها “اشياءٌ صبيانية “، كما قال، وتعامل معها على أنها كذلك.
وما أراد البطريرك الاسترسال أكثر حول هذا الموضوع، ولكي ينفي وجود أي علاقة له مع جمال عبد الناصر، أخبرنا أنه التقى أنور السادات، الذي لم تكن له، وقتها، اي صفة رسمية، إنما كان رئيسًا للمؤتمر الإسلامي.
وذَكَرَ لنا، أنّهُ أمضى أربعة عشر عامًا في الولايات المتحدة، حيث خدم رعايا الموارنة في نيو بدفورد (في ولاية ماساشوستس)، ومنها انتقل الى كاليفورنيا، لذلك يفهم جيدًا العقلية الأميركية في السياسة، كما في البيزنس، أي على قاعدة “فيفتي فيفتي” على حد قوله. ومن هذا المدخل تناول في حديثه لقاءه مع روبرت مورفي، الممثل الشخصي للرئيس أيزنهاور إلى لبنان خلال أزمة العام 1958، فكان راعي التدويل للأزمة اللبنانية والمُشرِف على تنفيذ الصفقة التي عقدها أيزنهاور مع عبد الناصر لتسوية الوضع الداخلي اللبناني.
ما سمعته من البطريرك المعوشي في ذلك الوقت المُبكِر من استيعابي للأمور السياسية المُعقَّدة، أعطاني انطباعًا بأنَّ البطريرك غير راضٍ عن تلك التسوية. سمعتُ منه وأنا جالسٌ إلى جانبه، ثم أبلغنا أنه قال للمبعوث الأميركي: “أنتم الأميركيون تُنجِزون مهمّتكم، لكنكم تُزعِلون زبائنكم”.
ثم نطق تلك العبارة باللغة الإنكليزية كما قالها مورفي:
“You, the Americans did your job but you displeased your clients”
لقد اعتبر البطريرك أنَّ التسوية تمّت على حساب اللبنانيين في غيابهم وغفلةً منهم، وهي في الواقع كذلك.
ومما زاد في امتعاض البطريرك، خلال لقاء مورفي، ما ذكره موسى مبارك لجريدة “النهار” في سنة 1970، وهو رَفض المبعوث الأميركي طلب البطريرك أن يكون بشارة الخوري مُرَشَّحًا للرئاسة، خوفًا من أن يكونَ انتخاب فؤاد شهاب سابقة، قد تتكرر، وتأتي بالعسكر إلى رئاسة الجمهورية، إضافة إلى أنَّ المعوشي كان “دستوري الهوى”، ويرى أن الخوري المتأثر بأفكار نسيبه ميشال شيحا، ونظرته إلى دور لبنان المتميز في العالم العربي، هو رجل المرحلة. إلّا أنَّ مورفي رفض مجرَّد البحث في ترشيح بشارة الخوري وأصرَّ على شهاب رئيسًا.
وحَدَثَ أن تبرّعَ أحدهم في نَقلِ ما دارَ بين مورفي والمعوشي إلى اللواء فؤاد شهاب، الذي ساءه ذلك فامتنعَ طوال سنوات حكمه الست عن زيارة بكركي.
وشأن التسوية الأميركية–المصرية، شأن جميع التسويات الدولية التي تمّت خلال القرن السابق (القرن التاسع عشر). وهذا ما دفعني في الجامعة إلى التسجيلِ في درسٍ عن تاريخ لبنان في حقبة التقاطع بين المرحلة الصليبية، والمرحلة المملوكية، والمرحلة المغولية، في القرن الثالث عشر، لدى الدكتور كمال الصليبي، وهي مرحلة في غاية التعقيد، وتحتضنُ السياقَ التاريخي لتعاطي اللبنانيين مع القوى الخارجية، بالتعامل معها ثم الانقلاب عليها، بسدِّ الثغور أو بفتحها. وهي المرحلة التي ذهب ضحيتها مئات من موارنة الشمال، وأُحرقت ديارهم على أيدي المماليك بعد انتصارهم على المغول بقيادة السلطان قطز (في معركة عين جالوت) ومن بعده السلطان بيبرس البندقداري.
ومما أكّدَ فهمي عبارة البطريرك المعوشي على هذا النحو، ما سمعته تاليًا عن انقطاعٍ في العلاقة بين البطريرك ورئيس التسوية فؤاد شهاب، حيث تردَّد عن المعوشي قوله: “أنا الثابت وهو العابر … قُلْ للذي تحت (أي في القصر الجمهوري في صربا) إنَّ لا شيء يدوم”، والله أعلم.
وربما كان البطريرك المعوشي في تحفّظه على تسوية 1958 أنَّ كلَّ التسويات اللاحقة، قياسًا على ذلك، ستتمُّ على حساب الدور المسيحي. وهذا يُفسِّر وضعية “الزبون الزعلان من راعيه” كما عبَّر عنها البطريرك الماروني، الذي خبر العقلية الأميركية في التعاطي مع الشؤون الخارجية، كما قال لنا. فالتعاطي الأميركي في الشؤون الخارجية، هو تاريخ طويل من التقلُّب، بين مساندة حلفائهم ثم الانقلاب عليهم، حسب مقتضى الحال. فهم الذين مكَّنوا الشهابية، وساندوا خصومها في الوقت ذاته، حتى جرى الانقلاب عليها. وكذلك فعلوا مع الوجود السوري في لبنان… فالسياسة الأميركية في المحصلة هي “القبول بما يمكن تغييره”، على قولة المؤرخ اللبناني يوسف إبراهيم يزبك.
ومن عجبٍ أن يستاء حرَّاس الثغور، الذين أتقنوا فنَّ فتحها وغلقها، من ممارسة دول أخرى مثل هذه اللعبة عليهم. فالتعويل على التدويل سيفٌ ذو حدَّين. أو على قول المتنبي:
“ومَن جعلَ الضرغامَ للصيدِ بازَه تصيَّده الضرغامُ في ما تصيَّدا”.
:لبنان… الحَربُ الأهليَّة المُستَدامة (28)
الديبلوماسي البُوذي
2024/03/26
.عدَ سُقوطِ الوِحدَةِ السورية-المصرية، عام 1961، وتَفَكُّكِ “الجمهورية العربية المُتَّحدة”، ارتفعَت وَتيرةُ التدخّلِ المصري-الناصري في الشأنِ اللبناني عمّا كانت عليه أثناء الوجود المصري في سوريا.
بل إنَّ المُمارساتَ التي كانت سائدةً في زمنِ حُكم عبد الحميد السراج باسم عبد الناصر، بعدما انتقلَ من وزارةِ الداخلية إلى رئاسةِ المجلس التنفيذي السوري، ظلَّت كما هي من حيثُ اعتمادِ بقايا الخلايا الناصرية التي كانت تابعةً له في عملياتٍ أمنية داخل لبنان، خصوصًا بعدَ الصراعِ المصري–السعودي على اليمن أيام حُكم الملك فيصل بن عبد العزيز، والإعلانِ عن مشروعِهِ إقامة حلفٍ إسلامي لمُقاومةِ المَدِّ الناصري والقوميّةِ العربية التي نادى بها.
وقد ظهر ذلك جليًا من اغتيال الصحافي المعروف كامل مروة، صاحب جريدتَي “الحياة” و”دايلي ستار”، الذي تبنّى فكرة الملك فيصل إقامة حلف إسلامي، وما استتبعه ذلك من حملاتٍ إعلامية مُوَجَّهة ضد الحالة الناصرية. فقد تمَّ اغتيالُ كامل مروة على أيدي بقايا خلايا السَرَّاج في لبنان.
لكنَّ مرحلةَ التحضيرِ في زمن الوحدة المصرية–السورية لإشعالِ الحَربِ الأهلية المُصَغَّرة في لبنان (المُسَمّاة “ثورة ” 1958)، تُشيرُ إلى المدى الذي ذهبت إليه الأجهزة الناصرية في دمشق في عملياتها الأمنية على الأراضي اللبنانية.
وقد كشف سامي جمعة قصّةَ تَجنيدِ القنصل العام البلجيكي في دمشق، لوي دو سان، لتَهريبِ السلاح والذخائر والمتفجّرات إلى لبنان بسيارته لأنها تتمتّعُ بالحصانة الديبلوماسية، فلا تخضع للتفتيش على المراكز الحدودية اللبنانية.
والقنصلُ البلجيكي هذا وصفته مجلة “تايم” الأميركية في ذلك الوقت بأنه “المليونير الغريب الأطوار”، وأثناء خدمته الديبلوماسية في دمشق، تعارف مع سامي جمعة، وتطوّرت علاقتهما إلى درجةِ “الصداقة الوثيقة”. والقنصل البلجيكي دو سان اعتنقَ الديانة البوذية، وكان شديدَ العداء للسامية، ويستمتعُ برياضة “اليوغا” وبتمارين التأمّلِ الفكري.
قام سامي جمعة بترتيبِ لقاءٍ بين القنصل البلجيكي وعبد الحميد السرّاج، فأُعجِبَ القنصلُ بالسرّاج إلى درجةِ أنه وعده بمساعدته بأيِّ شكلٍ في “الحربِ ضدّ الغرب واليهود”.
ولكي يتأكّد السرّاج من وقوف القنصل البلجيكي عند كلامه، طلبَ منه إذا كان من المُمكن استخدام سيارته الديبلوماسية لنقل شحنةٍ مُستعجلة من المواد إلى “المقاومة” في بيروت. وتفاجأ السرّاج بقبول القنصل البلجيكي، بل بترحيبه، بهذه المهمة. وهكذا قامت سيارة دو سان الديبلوماسية برحلاتٍ عدة عبر الحدود اللبنانية إلى بيروت مُحَمَّلةً بالأسلحة والذخائر المُرسَلة من السرّاج إلى مقاتلي شهاب الدين في بيروت.
لكنَّ المخابرات البريطانية عَلِمَت بالأمر، فأبلغت الدوائر الأمنية اللبنانية. ولدى مرور السيارة الديبلوماسية على الحدود، وهي مُتَّجِهة في رحلتها المُعتادة يقودها القنصل بنفسه (أواسط أيار/مايو 1958)، أوقفها الأمن اللبناني وجرى تفتيشها، فوجد المفتّشون في صندوقها ثلاثة وثلاثين بندقية رشاشة، وثمانية وعشرين مسدسًا، وحوالي 15 ألف طلقة من الذخيرة، وقنبلة واحدة موقوتة.
وقد اعتقلت السلطات اللبنانية القنصل العام البلجيكي، وجرت محاكمته في بيروت، وصدر بحقه حكم بالإعدام، خُفّضَ تاليًا إلى عشرين سنة من السجن، لكن بعد انتخاب فؤاد شهاب، قائد الجيش اللبناني آنذاك، رئيسًا للجمهورية، بتوافق مصري–أميركي، طلب منه عبد الناصر شخصيًا أن يُطلِقَ سراح القنصل البلجيكي، فأطلقه، وانتقلَ إلى سوريا وبقي فيها حتى وفاته في العام 1995 في بلدة “بملكا” بالقرب من مدينة طرطوس على الساحل السوري لجهة حدود لبنان الشمالية.
ويصفُ سامي جمعة حالة “الانفلاش” التي انحدرت إليها المخابرات السورية في حربها اللبنانية، خلال سَعيِها إلى تقويضِ حكم كميل شمعون بأيِّ طريقة، بحيث وقعت فريسةَ جماعاتٍ من المحتالين، كما قال، كانوا يأتون ويزعمون بأنهم يُمثّلون مجموعاتٍ من المقاتلين في مختلف المناطق اللبنانية، فيجري توزيع السلاح عليهم لهذه الغاية، لكنهم كانوا يبيعون تلك الأسلحة للانتفاع بثمنها، أو لتبديده على موائد القمار!
ويُمكِنُ تصديق هذه الرواية، قياسًا على ما شاهدناه أثناء انخراط المقاومة الفلسطينية في الحرب الأهلية اللبنانية الكبرى التي انطلقت عام 1975، عندما جرى توزيع السلاح الفلسطيني على كلِّ عابرِ سبيلٍ في لبنان، فلم يبقَ شابٌ من أتباع “الحركة الوطنية” اللبنانية إلّاَ ونالَ قطعةً من السلاح، سواء كان مُقاتلًا أو غير مقاتل، بالإضافة إلى التنفيعات المالية لأعدادٍ كبيرة من العاملين في السياسة وفي الإعلام وغيرهم من المتنفذين.
!وما زالت الحكاية هي …هي
:لبنان… الحَربُ الأهليَّة المُستَدامة (27)
“حَميرُ” السَرَّاج
2024/03/25
أَحدَثَت الوِحدَةُ المصريَّة-السوريَّة، في مطلع العام 1958، زلزالًا مدوِّيًا في معظم أنحاء العالم العربي. كانَ من أوّلِ ارتداداته إطلاقُ الأجهزة السورية المُوالية لجمال عبد الناصر، وعلى رأسها جهاز “المكتب الثاني” الذي كان يتولّاه عبد الحميد السَرَّاج، حربًا أهلية مُصَغًّرة في لبنان صيف تلك السنة. أمّا الارتدادُ الأكبر كان سقوط النظام الملكي الهاشمي في العراق، ومعه “حلف بغداد” الذي كَرَّسه رئيس الحكومة العراقية آنذاك، نوري السعيد، لمُقاوَمةِ المَدِّ الناصري. إلّاَ أنَّ الاضطرابَ المُسَلَّح، الذي حَصَلَ في لبنان قبيل ذلك، كان الأصدقُ إنباءً عن طبيعة التطوّرات التي ما زالت ارتداداتها السرطانية سارية فوق السطح وتحته في كافة أنحاء العالم العربي.
وقبلَ الدخولِ في تلك الارتدادات، لا سيما اللبنانية منها، يجبُ تَصحيحُ صورةٍ شَوَّهَتها الدعايات الإعلامية عن الواقعِ السياسي السوري في تلك المرحلةِ الحَرِجة، وكذلك الأسباب الحقيقية التي أدّت إلى سقوطِ دولةِ الوِحدة في دمشق بعد نحو ثلاثِ سنواتٍ فقط من قيامها المُدوِّي. فالحالةُ الإعلامية الدعائية الصاخبة، والتحرّكات الشعبية الواسعة، العفوية منها والمُفتَعَلة، أظهرت وكأنَّ سوريا بأسرها أرادت الوِحدة الاندماجية مع مصر الناصرية وسعت إليها. وهذا أمرٌ غير صحيح، أو هو غير دقيق وغير موضوعي، ولو أنه وَرَدَ بلسان جمال عبد الناصر، الذي كان من مصلحته الترويج لهذا الانطباع.
فالقوى السورية المُعارِضة للوِحدة مع مصر لم تكن قليلة الشأن، ومنها الأحزاب والهيئات التقليدية الساعية في حينه، (أو الراغبة من ناحية المصلحة الاقتصادية)، إلى الاتحاد مع العراق (الهاشمي). ومنها أيضًا الحزب الشيوعي السوري (اللبناني)، بقيادة زعيمه خالد بكداش، الذي كانَ فازَ فوزًا مؤزرًا بمقعدٍ في البرلمان السوري عن مدينة دمشق في الدورة الأولى من الانتخابات، لكنه غادرَ سوريا بعد إعلان الوحدة. ومنها أيضًا أحزابٌ عريقة لها مُحازِبون ومُناصِرون مثل “الحزب السوري القومي الاجتماعي”، و”جماعة الإخوان المسلمين”، وكلاهما له تمثيلٌ في البرلمان، ناهيك بتململ بعض الضباط الذين كانوا يتقبلّون على مضضٍ التخبّط السياسي بين فريقَي الوِحدة في دمشق والقاهرة. وحتّى في صفوفِ مؤيِّدي الوحدة، كان هناك فريقٌ يميلُ الى المملكة العربية السعودية (ويتموَّل منها)، اعتبرَ أنَّ الخيارَ المصري هو خيارٌ اضطراري مَرحَلي أفضل، بالنسبةِ إليهم، من الخيار العراقي الهاشمي. ومن هذا الفريق بالذات انطلقَ انقلابُ الانفصال، بتوقيتٍ سعودي على الأرجح.
كما إنَّ “حزبَ البعث العربي الاشتراكي”، الذي كانَ المُحَرِّكَ الأوّل في سوريا للوحدة مع مصر، سرعانَ ما خابَ ظنُّه وانسَحَبَ من حكومةِ عبد الناصر قبل الانفصال. وقد أعلن أمينه العام ميشال عفلق، عندما طُرح موضوع الوحدة للبحث في دمشق، أنه طلبَ من نواب الحزب في البرلمان أن يتقدّموا بمشروعِ “إقامة اتحادٍ فيدرالي” مع مصر، وليس وِحدة اندماجية كما حصل. وقد عزا بعضهم، الدفع باتجاه الوحدة الاندماجية إلى الوفد العسكري المُمَثِّل للجيش السوري.
لكنَّ وَقعَ التحوّل السوري، مع قيام “الجمهورية العربية المتحدة”، كانَ أشدّ وطأةً على لبنان لكون مصر الناصرية أصبحت لها حدودٌ مفتوحة معه، بل صارت في داخله من خلال القوى المعارضة للرئيس كميل شمعون، فأخَذَ التدخّلُ في لبنان من خلال الأجهزة السورية، منحى عنيفًا من حيث الاغتيالات وتهريب مختلف أنواع الأسلحة للقوى المُعارضة.
وقد نقلَ الصحافي والكاتب البريطاني أليكس رويل (المُقيم في لبنان)، في كتابه الأخير عن عبد الناصر بعنوان “نحن جنودك”، قول عبد الحميد السَرّاج في وقتٍ لاحق:” كان لزامًا علينا أن نزيح كميل شمعون وشارل مالك بأيِّ وسيلةٍ وبكلِّ الطُرُقِ المُتاحة، وهذا ما فعلناه”.
لكن سامي جمعة، معاون عبد الحميد السَرّاج في جهاز المخابرات السوري (المكتب الثاني)، كَتبَ مَلِيًّا عن موضوعِ “الثورةِ المُفتَعَلة في لبنان” في كتاب مذكراته بعنوان “أوراق من دفتر الوطن، 1946–1961” (الصادر عام 2000 عن “دار طلاس للطباعة والنشر” في دمشق، وقد كتب مقدمته العماد مصطفى طلاس وزير الدفاع السوري الأسبق)، مُعتَرِفًا بتهريبِ السلاحِ إلى لبنان عبر الحدود بقوافل من الحمير والبغال المُحَمَّلة بالسلاح والذخيرة والقنابل. ويؤكّدُ أيضًا أنَّ المخابرات السورية، بطلبٍ من عبد الحميد السَرّاج، قامت بتفجيرٍ كبيرٍ في مدينة زحلة القريبة من الحدود السورية، فتمَّ تفخيخُ حمار جرى تفجيره في عاصمة البقاع باعتبارها تميلُ إلى كميل شمعون. كذلك، قامَ سلاح الجو في الجيش اللبناني آنذاك بغارةٍ جويَّة على قافلةٍ من الحمير المُسَلَّحة (نشرت الخبر بعنوان عريض جريدة “دايلي ستار” لصاحبها الراحل كامل مروة يقول: “الطائرات تقصف قافلة من الحمير المسلَّحة”).
وجاءَ في مذكّرات سامي جمعة قوله أيضًا: “من الطبيعي أن تساعد سوريا الثوار (في لبنان) بالمال والسلاح”. كما روى قصة لقائه مع الناصري اللبناني البيروتي رشيد شهاب الدين (أحد قبضايات الأحياء في العاصمة اللبنانية)، وقالَ إنَّ السَرّاج طلبَ منهُ أن يصله مع العقيد برهان أدهم، رئيس الشعبة اللبنانية في المخابرات السورية، “لأننا بحاجةٍ إلى رجلٍ مثله”، على حَدِّ قولِ السَرّاج.
أما قوافل البغال والحمير المُحمَّلة بالسلاح فكانت تعبر الى بلدة “دير العشائر” على الحدود اللبنانية-السورية، مرورًا بسلسلةِ جبال لبنان الشرقية إلى سهل الليطاني في البقاع الغربي، ومنهُ إلى سلسلة لبنان الغربية، وصولًا إلى الشوف والمختارة، دارة الزعيم الدرزي الاشتراكي كمال جنبلاط ، قبل توزيعها على بقيّةِ المُعارضين لكميل شمعون. وكانت الشرارة التي ألهبت “الثورة” قيام أجهزة السَرّاج باغتيالِ الصحافي نسيب المتني صاحب جريدتَي “التلغراف”، و”الطيار” لتعميم الفوضى والقتال في جميع أنحاء لبنان.
طبعًا، ما كانَ لذلك الوضع أن ينشأ لولا وجود قابلية لدى الفئات اللبنانية المختلفة للتعامل مع جهات مخابراتية خارجية للاستقواء بها على خصومها في الداخل. وهذا الوضعُ ما زال قائمًا، مع الأسف، وربما بصورةٍ مُتفاقمة. وقد بقي الوضع اللبناني في عهد مخابرات فؤاد شهاب مؤاتيًا للمخابرات المصرية حتى بعد انفصال سوريا عن مصر، حسب رواية سامي شرف مدير مكتب عبد الناصر، وكاتم أسراره، كما كان يُوصف في حينه. وقد كَشَفَ شرف تاليًا قصة الخطة التي وضعها عبد الناصر بنفسه لتهريب السَرّاج من سجنه في دمشق إلى لبنان ومن ثمَّ إلى القاهرة، بعد نجاح انقلاب الانفصال، وهي عملية تمّت في العام 1962، بالتعاون مع “المكتب الثاني” اللبناني. ويؤكّد سامي شرف أنه ما كان لتلك العملية أن تنجح لولا المشاركة المباشرة للمخابرات العسكرية اللبنانية فيها، “بمعرفة الرئيس فؤاد شهاب وموافقته وبغطاءٍ كاملٍ منه”.
وبعدَ فرار السَرّاج من سجنه في دمشق، انتقل مُتنكّرًا الى دار المختارة في الشوف، حيث قضى ليلةً هناك، انتقلَ بعدها إلى بيروت حيث نزل في بيت ديبلوماسي مصري بمنطقة “الروشة”، ومنه انتقل، كما أكد سامي شرف، برفقته إلى مطار بيروت بسيارة “جيب” عسكرية كان يقودها سامي الخطيب، الضابط في المخابرات العسكرية اللبنانية، حيث جلس هو إلى جانب الخطيب في المقعد الأمامي، بينما جلس السراج وحارس سجنه، الذي تواطأ في تهريبه، في المقعد الخلفي، ويقول إنهم جميعًا كانوا يرتدون ملابس عسكرية لبنانية!
:لبنان… الحَربُ الأهليَّة المُستَدامة (26)
العَودَةُ الأميرِكِيِّةُ الثانِية
2024/03/24
بَعدَ تَراجُعِ المَشروعِ الأميركي الذي حمله الرئيس وودرو ويلسون في “مؤتمر فرساي للسلام”، حَدَثَ في لبنان تدويلٌ آخر تَمَثَّلَ في مشروع الانتداب الأنكلو–فرنسي، الذي حظي، كما يبدو، بموافقةِ الشخصيات اللبنانية والعربية التي كانت يومئذٍ على تماسٍ وتواصُلٍ مع الوفود الدولية المَعنيَّة بالمؤتمر، وأبرزُ تلكَ الوجوه الأمير فيصل بن الحسين الهاشمي، والبطريرك الماروني اللبناني الياس الحوَيِّك، الساعي إلى تكبير الكيان اللبناني في جبل لبنان بضَمِّ الأقضيةِ الأربعة إليه. وهكذا قامت الكياناتُ العربية في ظلِّ عمليّةِ تدويلٍ واسعةِ النطاق، أدّت إلى حُكمٍ أجنبيٍّ مُباشر تحت اسم “الانتداب” استُبعِدَت منهُ الولايات المتحدة بعدما كانت المُحَرِّكَ الأوَّل لدينامية التدويل من خلال بعثة “كينغ–كراين”، كما مرَّ، للتماس والترابط بين الحربِ الأهليّة اللبنانية والتدخّلِ الدولي.
بعد إعلان دولة لبنان الكبير في العام 1920، أي بَعدَ عامٍ من انتهاءِ مهمّة البعثة الأميركية بالشكلِ الذي انتهت إليه، لم تُقِم الولايات المتحدة أيَّ تمثيلٍ ديبلوماسي لها في لبنان إلّا بعدَ 22 عامًا، وعلى مستوى منخفض. ففي العام 1942، وكان الانتدابُ الفرنسي ما زالَ قائمًا، عيَّنت وزارة الخارجية الأميركية الديبلوماسي جورج وادسورث مُفَوَّضًا لها في بيروت، لكنها في العام 1943 لم تعترف باستقلال لبنان، بل اشترطت لاعترافها به أن تُقدِّمَ الحكومة اللبنانية، التي قامت بعد إعلان الاستقلال، إلى الحكومة الأميركية تعهُّدًا يعترفُ اعترافًا كاملًا بحقوقِ ومصالحِ الولايات المتحدة وحماية رعاياها. واستمرّت المفاوضات حول الموضوع مدَّة سنة تقريبًا إلى أن أصدرت وزارة الخارجية اللبنانية التعهُّد المطلوب من واشنطن (كان وزير الخارجية في الحكومة الاستقلالية الأولى برئاسة رياض الصلح آنذاك سليم تقلا). وفي أواخر 1944 اعترفت الولايات المتحدة باستقلال لبنان، ورفعت درجة تمثيلها في بيروت إلى مفوضية فوق العادة، وعَيَّنَت ممثّلها السابق في بيروت جورج وادسورث نفسه في 16 تشرين الثاني (نوفمبر) 1944 وزيرًا مفوَّضًا لمَلءِ هذا المنصب، فبقي حتى شباط (فبراير) 1947، ليخلفه لويل بنكرتون حتى ربيع 1951. وبعد انتهاء مدته ظلَّ المنصَبُ شاغرًا حتى 3 تشرين الأول (أكتوبر) 1952، عندما رفعت واشنطن تمثيلها في لبنان، لأول مرة، الى درجة سفارة، فعَيَّنَت هارولد ماينور أول سفير لها لدى بيروت.
إلّا أنَّ تواجُدَ الولايات المتحدة في لبنان على مستوى السفراء كان منذ البداية مُضطَرِبًا. فالسفيرُ الأوّل لم تَدُم خدمته سوى تسعة أشهر، والسفير الثاني الذي خلفه رايموند هير أحدثَ أزمةً ديبلوماسية مدوِّية عندما احتجَّ لدى الرئيس كميل شمعون على قيام وزير الداخلية آنذاك جورج هراوي بزيارةٍ إلى عاصمة هنغاريا الشيوعية، بما فُهم منه المطالبة بإقالة الوزير. عندئذٍ التأمَ مجلسُ النواب، المؤلَّف يومها من 44 نائبًا فقط، وأصدَرَ توصيةً تُطالِبُ بطَردِ السفير من البلاد، فقامت الحكومة الأميركية بسحبه بعد سنة فقط من تعيينه. والقصة أنَّ الوزيرَ هراوي كانَ في روما لحضورِ اجتماعِ “منظّمة الأغذية والزراعة” (فاو)، وهو من مؤسّسيها، وبعد الاجتماع قرَّرَ أن يذهبَ إلى بودابست لحضورِ مباراةٍ في كرة القدم يلعبُ فيها البطل المجري المشهور في تلك الأيام فيرينتس بوشكاش، لأنَّ الوزير هراوي كانَ مُولَعًا بلعبةِ كرة القدم ومُعجَبًا بأداءِ بوشكاش في المباريات، ولم يكن في زيارةٍ رسمية إلى هنغاريا.
والحقيقةُ أنَّ العلاقات الأميركية مع لبنان ظلَّت مُتَعَثِّرةً حتى نهاية الحرب الأهلية واتفاق الطائف. فقد قامَ مُسلَّحون في بيروت الغربية باغتيال السفير الأميركي فرانسيس ميلوي (مع مستشاره الاقتصادي وسائقه)، كما جرى تفجير مقر قوات المارينز الأميركية المشاركة في القوات المتعددة الجنسيات (وكذلك مقر القوات الفرنسية)، في أعقاب الانسحاب الإسرائيلي من بيروت عام 1983، مما أدَّى إلى سقوطِ مئاتٍ من القتلى والجرحى في صفوف تلك القوات، وبالتالي إلى انسحابها من لبنان. وتلا ذلك تفجيرٌ كبيرٌ في السفارة الأميركية، على الكورنيش البحري في عين المريسة، تَهدَّم فيه مبنى السفارة على مَن فيه.
إنَّ التحوُّلَ الأهم الذي حدث في منتصف خمسينيات القرن الماضي هو حلولُ الولايات المتحدة محلَّ بريطانيا وفرنسا، بعد حرب السويس في العام 1956، فانتقلت عملية التدويل المُستَمرّة إلى الراعي الأميركي. وقد سبق هذا الانتقال تمهيدٌ إيديولوجي وعسكري تَمَثَّلَ بما سُمِّيَ “مبدأ أيزنهاور” (في إطار مكافحة الشيوعية)، وبالأحلاف العسكرية (في إطار الدفاع المشترك)، ومن هذا المُنطَلَق تمَّ توسيع الحلف الإيراني–الباكستاني، فأُقيمَ حلفٌ أوسع انضمَّ إليه العراق، وسُمِّيَ “حلف بغداد” الذي أراده نوري السعيد رئيس الحكومة العراقية آنذاك أداةً للوقوفِ في وَجهِ المَدِّ الناصري، الذي تعاظم بعد تأميم جمال عبد الناصر لقناة السويس، وبعد إفشال العدوان الثلاثي على مصر (التواطؤ الأنكلو–فرنسي مع إسرائيل).
وهذا كُلُّهُ انعَكَسَ على الوَضعِ اللبناني، حيث زَعَمَ البَعضُ أنَّ الرئيس كميل شمعون ينوي الدخولَ في حلف بغداد، وهو زَعمٌ غير صحيح، وإن كانَ الرئيس شمعون أكثر ميلًا إلى العراق، لأنه استَشعَرَ خطرًا وجوديًا على لبنان من جرّاءِ تعاظُمِ المَدِّ الناصري، بالنظرِ إلى وجودِ فريقٍ لبناني كبير، في ذلك الوقت، أكثر ولاءً لعبد الناصر منهُ إلى لبنان، خصوصًا بعد قيام دولة الوحدة بين سوريا ومصر (الجمهورية العربية المتحدة). وازدادَ الوَضعُ اللبناني تفاقُمًا بعد ثورة 14 تموز (يوليو) في العراق، حيث أطاح الجيش العراقي بقيادة الزعيم عبد الكريم قاسم النظام الملكي الهاشمي وحُكم نوري السعيد وأعلَنَ العراق نظامًا جمهوريًا.
ومن الطبيعي في مثلِ هذه الحالة من التوتّرِ والاضطرابِ أن تسري مَزاعِم وتبريرات، ليس لها أساس في الواقع، كالزَعم بأنَّ الرئيس شمعون كان ينوي تجديد ولايته كمُبَرِّرٍ لمُعارضيه، الموالين في غالبيتهم إلى عبد الناصر، للانتفاضِ المُسَلَّحِ ضدَّه لحمله على الاستقالة. ثم قيلَ إن القوات العراقية التي قامت بالثورة على النظام الملكي فعلت ذلك لأنها أُمِرَت بأن تتحرَّكَ إلى لبنان لنصرةِ شمعون، فقامت بالانقلاب على آمريها. وبعد إنزال قوات المارينز الأميركية على شاطئ الأوزاعي بأمرٍ من الرئيس أيزنهاور، قيلَ إن الرئيس شمعون هو الذي استدعى القوات الأميركية، والحقيقة إن الأميركيين هم الذين أعلنوا ذلك كغطاءٍ قانوني لتبريرِ إنزالهم لتلك القوات في بحر ضاحية بيروت الجنوبية.
وهنا بدأ فصلٌ جديد من تدويل الأزمة قاده الأميركيون، بنجاحٍ هذه المرة، ففازَ مبدأ أيزنهاور، في أواخر الخمسينيات من القرن العشرين، حيث أخفقت مبادرة ويلسون وبعثته في مطلع العشرينيات منه.
:لبنان… الحَربُ الأهليَّة المُستَدامة (25)
الدولةُ اليَهودِيّة مَشروعُ حَربٍ كَونِيَّة
2024/03/23
ما كادَت الحربُ الكَونيّةُ الأولى تَضَعُ أوزارها، حتى كان الرئيس الأميركي وودرو ويلسون، يَتَهيَّأُ، عبر “مؤتمر فيرساي للسلام”، للتدخّلِ في مصير سوريا ولبنان السياسي. فتَحتَ شعارِ “حقّ تقرير المصير للشعوب غير التركية في الإمبراطورية العثمانية “، أوفدَ إلى دمشق بعثةً للوقوف والاستئناس برأي وميول السوريين حول مستقبل بلادهم خارج تلك الإمبراطورية المُتهالكة، ثم، اختيار الدول “المُنتدبة” عليهم من قبل “عصبة الأمم”. وقد عرفت تلك البعثة باسم” بعثة كينغ-كراين”، وهما هنري تشرشل كينغ وتشارلز كراين.
لكن المسعى الأميركي هذا أحبطه الإنكليز والفرنسيون المُنتَصِرون في الحرب الذين أبرموا مُعاهدةً سرِّية لاقتسامِ المنطقة السورية وفرض الانتداب عليها: جنوب شرق تركيا، وشمال العراق، ولبنان وسوريا للفرنسيين. فلسطين والأردن وجنوب العراق، ومنطقة صغيرة إضافية تشمل موانئ حيفا وعكا منفذًا إلى البحر المتوسط للإنكليز، هي “معاهدة سايكس – بيكو” (نسبة الى مارك سايكس وفرانسوا جورج بيكو). وكانت روسيا القيصرية طرفًا ثالثًا في تلك المعاهدة، لكنَّ قيامَ الثورة البلشفية أسقط دورها، وكان قائد تلك الثورة فلاديمير لينين اطَّلع عليها من الأرشيف القيصري، وهو أوّل مَن كَشَفَ عن مضمونها إلى العلن. وكانت إيطاليا الطَرَفَ الرابع المُصادِق على تلك المعاهدة.
وكان العاملُ الذي أسعفَ الإنكليز والفرنسيين في إحباط المسعى الأميركي، وجود قوات عسكرية لهم على الأرض، ففرضا أمرًا واقعًا، حتى على عصبة الأمم، لعلمهما ربما بأنَّ البلدان السورية كانت ستختار الانتداب الأميركي كما تبيَّن من الاستقصاءات الأولى لبعثة “كينغ – كراين”.
شَمَلت خطة الاستقصاء الأميركية، إضافةً إلى المنطقة المشرقية الحالية، اعتبار منطقة “كيليكيا” التركية جُزءًا من سوريا، لكن ضغوطًا دولية شديدة مورست، في السرِّ والعَلَن، لإسقاطِ تلك المنطقة من مهمة البعثة الأميركية فتوقّفَ الاستقصاءُ فيها. وكان ذلك أوّلَ تعثُّرٍ في طريق المسعى الأميركي. لكن أهمّ ما أنجزته تلك البعثة هو تقريرها المُوَجَّه إلى الرئيس ويلسون شخصيًا، ثمَّ إلى الشعب الأميركي، حول فلسطين وخطورة إقامة دولة يهودية هناك على الولايات المتحدة وعلى بقية العالم. وهذا يدلُّ على أنَّ هناك شعورًا، أو علمًا، لدى البعثة بأنَّ الرئيس ويلسون يميلُ إلى إقامةِ دولةٍ يهودية في فلسطين، ويسعى إلى ذلك.
وقد أُحيلَ تقريرُ البعثة إلى الكونغرس، الذي تعامل معه على طريقة الرئيس نبيه بري في لبنان، فأودعه الأدراج حيث نامَ فيها إلى ما بعد هدوء الصدمة من صدور وعد بلفور في لندن، قبيل نهاية الحرب العالمية الأولى، ولم يُعرَض على الكونغرس إلّاَ بعد ثلاث سنوات من صدوره، فأقرّه سريعًا من غير تدقيق. ولذلك لم يأخذ تقرير البعثة الأميركية ما يستحقّه من درسٍ ومُناقشة.
وأهمّ ما وردَ في التقرير، وينمُّ عن بُعدِ نظرٍ ملفت، قوله: ” إنَّ الدولة اليهودية في فلسطين لا تقومُ ولا تدومُ إلّاَ بالقوَّة العسكرية”. واستقراءُ الملاحظة المذكورة، بالتحليل المدعوم بالتجارب والأحداث التي تلت ذلك، يُبيِّنُ أنَّ بعثة “كينغ – كراين” إلى سوريا كانت تبغي تنبيه الرئيس ويلسون إلى أنَّ عبءَ إقامةِ وإدامةِ الدولة اليهودية في فلسطين، بالقوة العسكرية، سوف يقع على الولايات المتحدة، ما يعني في النتيجة أنَّ ذلك هو وصفةٌ لحربِ كَونِيّة مستدامة، فاعتبره بعضُ المصادر الغربية، في تحليله للتقرير، بأنه “إمساكُ العالم بالقوّة وتنصيبُ أُمَراء حرب عليه”!
وتكفي نظرة واحدة شاملة على مجريات العالم منذ ذلك الوقت لإدراك معنى الحرب الكَونِيّة المُستدامة المُتَرَتِّبة على وجودِ دولةٍ يهودية في فلسطين، لا تقوم ولا تدوم إلّاَ بالقوة العسكرية، وبالقوة العسكرية الأميركية تحديدًا، من الانهيار الاقتصادي العالمي عام 1929، إلى الحرب العالمية الثانية، وصولًا إلى الحروب المتواصلة في منطقة الشرق الأوسط منذ أواسط القرن الماضي حتى اليوم. وكل تلك الحروب السابقة واللاحقة تمحوَرَت حول القوة العسكرية الأميركية، كما توقّعت بعثةُ “كينغ–كراين” قبل أكثر من مئة سنة.
وكما إنَّ العربَ لم يلحظوا مضمون تقرير “كينغ – كراين”، ولا حتى أعاروه أيّ أهمية، كذلك لم يلحظوا عملية الافتراق التي أحدثها انتخاب ويلسون عن البنية الفكرية الأساسية التي أقامها الآباء المؤسِّسون للولايات المتحدة في المؤتمر الدستوري القارِّي العام في سنة 1787، حيث حذَّر الكاتب والمفكّر والفيلسوف السياسي المعروف ب”الأميركي الأوّل” بنجامين فرانكلين في خطابٍ له أمام زملائه المؤسّسين من مغبَّة السماح بهجرة يهود أوروبا إلى الولايات المتحدة، مُحَدِّدًا تلك المحاذير بالنقاط التالية:
- إذا سُمِحَ لليهود بالمجيء إلى أميركا فإنّهم سوف يتجمّعون بأعدادٍ كبيرة ويُغيِّرون الحكومة؛
- إنّهم سوف يُجَيِّرون تعبَ الشعب الأميركي وجهوده المُضنِية لصالحهم؛
- إنّهم لن يندمجوا في المجتمع الأميركي الأوسع؛
- إنّهم يَسخَرون من الديانة المسيحية وسوف يعملون على تقويضِها؛
- إنّهم يتوقون توقًا شديدًا للعودة إلى فلسطين، لكن يهود أميركا لن يعودوا إلى هناك إذا أُتيحَ لهم ذلك؛
تلكَ المحاولة الأميركية القوية في انطلاقتها الابتدائية نحو الديار السورية بعدَ حربٍ عالمية طاحنة تفكّكت بفعلها امبراطوريتان كبيرتان هما الإمبراطورية العثمانية والإمبراطورية النمساوية، وانهارت أيضًا الإمبراطورية القيصرية الروسية على يد الثورة البلشفية، لم يُكتَب لها النجاح، لكن تقرير بعثتها ومسعاها الأولي أكَّدا نقطتين مهمّتين: النقطة الأولى، التأكيد على أنَّ كيليكيا هي منطقة سورية وليست تركية، والنقطة الثانية، استشراف المخاطر المُترَتّبة على قيامِ دولةٍ يهودية في فلسطين، ليس على العرب فحسب، بل على الولايات المتحدة وعلى بقية العالم، باعتبارها “وصفة لحربٍ كَونيّة مُستَدامة”.
:لبنان… الحَربُ الأهليَّة المُستَدامة (24)
يَهودُ نابليون ويَهودُ ويلسون
2024/03/22
يُؤخَذُ على اللبنانيين، والعرب، أنّهم على مدى القرنَين الماضيين، لم يستطيعوا بشكلٍ وافٍ تَقديرَ وفَهمَ أثرِ وتأثيرِ التدخّلِ الأميركي في لبنان، والدول العربية الباقية.
في الثُلثِ الأوّلِ من القرن التاسع عشر، كانت الإرساليات التعليمية والطبية الاحتكاكَ الأوّل للبنانيين مع الأميركيين. وخلافًا لحركة الاستشراق الأوروبية، لم يَظهَرعلى نشاطِ الإرساليات الأميركية، في بداياتها الأولى، أيُّ نشاطٍ سياسي، أو أيُّ مُبادراتٍ تُبطِنُ أهدافًا سياسية خَفيّة أو غير مُعلَنة.
إلّاَ أنَّ الاهتمامَ التجاري والاقتصادي في الشرق (العثماني)، في أواخر القرن التاسع عشر، حملَ معه اهتمامات سياسية بدأت تظهر مفاعيلُها في مطالعِ القرنِ العشرين، وذلك من خلال “المعرض التجاري الكولومبي الدولي” الذي أُقيمَ في مدينة شيكاغو في العام 1893 بمناسبة مرور 400 سنة على اكتشافِ البحَّار الإيطالي (المُمَوَّل من إسبانيا) كريستوف كولومبوس للقارة الأميركية. في ذلك المعرض الكبير كان للوجودُ العثماني، واللبناني، والمصري، والمغربي تأثيرٌ فنِّيٌ وثقافيٌّ ملحوظٌ في الأوساط الأميركية آنذاك، وإلى جانبِ ذلك، برزت أصواتٌ لبنانيةٌ وعربيةٌ تطرحُ مسألةَ تقريرِ المصير والاستقلال عن السلطنة العثمانية.
ومع أنَّ السلطات الأميركية أوفدت إلى إسطنبول وفدًا رفيع المستوى لدعوة السلطان عبد الحميد الثاني للمشاركة في افتتاح المعرض، فقد اكتفى السلطان بفَتحِ جناحٍ للشركة الحميدية التي حملت اسمه، كما أصدرَ الأديب اللبناني المعروف المُعلِّم سليمان أفندي البستاني، بصفته من التابعية العثمانية، آنذاك، صحيفةً شهريةً باللغة التركية ظلّت تصدرُ طوال سنوات المعرض أُطلق عليها اسم “سروتي فنون”، أو “ثروة الفنون”، وتُرجمَ الاسمُ إلى الإنكليزية بمعنى “ثروة المعرفة”. فقد اهتمَّ السلطان عبد الحميد بمعرض شيكاغو لأنه وجد فيه مناسبة لنَسجِ علاقاتٍ مع الولايات المتحدة ظنًّا منه أنها يمكن أن تُخفف من وطأة التدخّلات الأوروبية في شؤون السلطنة.
لكن لا السلطان عبد الحميد، ولا مُعظم اللبنانيين، والعرب الآخرين، أدركوا تمامًا التحوُّلات الأميركية الداخلية، التي وصفها بعض الكُتَّاب البريطانيين، وقتذاك، بأنها “عبرنة أميركا”، نظرًا إلى ظاهرة التأثير الصهيوني في الميادين السياسية، والثقافية، والإعلامية، والمالية، وفي مراكز ومناطق أخرى حسَّاسة من الولايات المتحدة، وهو تأثيرُ أخذت ملامحه تظهر في أعقاب الحرب العالمية الأولى من خلال نشاط الرئيس الأميركي وودرو ويلسون في “مؤتمر فيرساي للسلام” في فرنسا في العام 1919، والمبادئ الأربعة عشر التي أطلقها هناك.
فلا أحدَ في الشرق العربي أو العثماني تابَعَ باهتمامٍ حملةَ ويلسون الانتخابية الأولى في العام 1912، التي اعترفَ فيها بالهَوِيّةِ اليهودية المُتَمَيِّزة عن الهوية الوطنية ليهود أميركا، وهو ما رفضه نابليون بونابرت قبل مئة سنة من خطابِ ويلسون عندما وَضَعَ القانون المدني الفرنسي الذي حصر ولاء الفرنسيين، أيًا كانت مذاهبهم الدينية، بالولاء الوطني لفرنسا فقط. ثم استدعى أعيانَ اليهود في فرنسا وطلب منهم عقد اجتماع لمجلس الحاخامين (السندرين الذي ضمَّ 70 حاخامًا) وجعلهم يُوَقّعون تعهّدًا بعدم ازدواجية الولاء. وكان التنازل الوحيد الذي أعطاه نابليون للحاخامين هو السماح بمراسم الزواج الدينية حسب طقوسهم، لكن بعد عقد الزواج المدني بموجب القانون الفرنسي، وأي زواج آخر يُعدُّ باطلًا وغير معترف به.
أما الرئيس ويلسون فقد أعلن في خطابه الانتخابي في العام 1912 قائلًا: “أنا لستُ هنا لأعبِّر عن تعاطفي مع إخواننا المواطنين اليهود، بل لتأكيد إحساسنا معهم بهويتهم. هذه ليست قضيَّتهم وحدهم، إنها قضيَّة أميركا”. لقد اعترف ويلسون ليهود بلاده بهويَّة أخرى، وبالتالي بولاءٍ آخر، وذلك قبل خمس سنوات من “وعد بلفور”.
فقد غفل كثيرون من أهل الرأي، في لبنان وسوريا خصوصًا، وفي الشرق العربي عمومًا، عن معنى وجود الرئيس ويلسون في مؤتمر فرساي للصلح في العام 1919، بل كان معظمهم مفتونًا به وبمبادئه التي أطلقها، فلم يُقدِّروا تقديرًا صحيحًا ما كانَ يرمي إليه في نهاية المطاف. وقد بدت تلك السذاجة في فَهمِ وُجهاءِ لبنان وسوريا للموضوع من خلال مطالبتهم بانتدابٍ أميركي، إذا كان لا بدَّ من الانتداب، كما إنّهم استخفُّوا، ربما، بتأثير قيامِ دولةٍ يهودية في فلسطين على لبنان، وعلى العرب، وعلى بقية العالم.
لبنان… الحَربُ الأهليَّة المُستَدامة (23)
رَفَضَ الدروزُ البروتستانتية فمَالَ الأميركيون إلى غَيرِهِم
2024/03/21
مع خروجِ الجيش السوري من لبنان في العام 2005، ازدادَ اهتمامُ السفراء الأميركيين المُتعاقِبين لدى بيروت، (إلى جانبِ دولٍ غربيةٍ أخرى أبرزها بريطانيا وفرنسا)، بالجيش اللبناني، مما أعطى انطباعًا بأنَّ التدخّلَ الأميركي في لبنان بدأ في مرحلةِ ما بَعد الوصاية السورية. وقد كان ذلك التدخّل ملحوظًا، لأنه مكشوف، لكنّهُ في الحقيقة قديمُ العهد، وعلى موجةٍ مُختلفة من التدخّلِ الأوروبي. فهو اتَّخَذَ في البداية شكلَ “التبشير البروتستانتي” المقرون بخدماتٍ طبيَّة وتعليمية. وفي الأصل كانت غايةُ التبشير الأنكلو-ساكسوني في لبنان (الأميركي-البريطاني) من ثلاثينيات القرن التاسع عشر، تحويلَ الدروز إلى المذهب البروتستانتي (مما يُفسِّرُ الدعم البريطاني للدروز، في حقبة حرب الجبل في العام 1860، وليسَ فقط لمُواجَهةِ التدخّلِ الفرنسي كما هو شائع).
بدأ الأمر بفتحِ مدارس الإرساليات التبشيرية البروتستانتية انطلاقًا من المناطق الدرزية في جبل لبنان، حيث قامَ المُبَشِّران الأميركيان الدكتور وليام طومسون والمُستَشرِق كورنيليوس فان دايك، بتأسيسِ مدرسة وعيادة طبيَّة في بلدة عبيه، وكذلك فَعلَ البريطانيون بتأسيسهم مدرسة سوق الغرب، كما تمَّ تأسيس “مدرسة الأميركان” في صيدا.
ولما فشلت الإرساليات الأنكلو–سكسونية في إغراء الدروز وتحويلهم إلى مذهبها اتجهت إلى استمالةِ أبناءِ الطوائف المسيحية الأخرى بنجاحٍ ملحوظ.
عندما وَصَلَ الدكتور طومسون إلى بيروت في أوائل العام 1833 كان هناك ثمانية مُبشّرين، توفي منهم اثنان، ورجعَ اثنان إلى أميركا، فلما حدث هذا التغيير في الاتجاه، اقترحَ طومسون إنشاءَ مدرسةٍ إنجيلية في بيروت في العام 1866 برئاسة دانيال بليس (أُطلق عليها في البداية اسم “الكلية الإنجيلية السورية”، ثم تحوَّل اسمها إلى “الجامعة الأميركية في بيروت” في العام 1920 بعد إعلان دولة لبنان الكبير، وأُقيمَت على أرضٍ اشتراها المرسلون الأميركيون من الدروز).
وقد ترك الدكتور طومسون أثرًا مهمًّا عن عمله في لبنان وتجواله في سوريا وفلسطين من مطلع أربعينيات القرن التاسع عشر، وهو كتابٌ يتضمّنُ انطباعاته وأوصافه لأحوال وعادات ومجتمعات السكان فيها بعنوان: “الأرض والكتاب”. وسوف أكتفي الآن بمقطعٍ من كتابه هذا حول لبنان للتأكيد بأنه لم يتغيّر شيءٌ في هذا البلد منذ ذلك الحين، فكتب يقول:
“يبلغ عدد سكان لبنان (الجبل) نحو 400 ألف نسمة يعيشون في قرابة 600 بلدة وقرية ودسكرة. هناك ديانات ومذاهب عدة تعيشُ مع بعضها، وتمارس خرافاتها الدينية المتضارِبة عن قرب، لكنَّ الناسَ لا يَأتلفون في مجتمعٍ متجانس، ولا يُكنُّون لبعضهم البعض مشاعرَ أخوية، فالسنَّة يُقاطِعون الشيعة، وكلاهما يكره الدروز، وأهل المذاهب الثلاثة يمقتون النصيرية (العلويين). أما الموارنة فلا يكنُّون محبةً لأحد، وهم بدورهم مكروهون من الجميع. والروم الأرثوذكس لا يطيقون الروم الكاثوليك، وكلّهم يبغضون اليهود. وهذا ينطبق أيضًا على الطوائف الصغرى في تلك البلاد. وليس بين كل هؤلاء رابطٌ مشتركٌ من الوحدة، كما إنّه ليسَت للمجتمع طبقات متواصلة تجمعه يمكن أن تُفتَحَ للعمل من أجل المنفعة العامة للجميع، بل هناك عددٌ لا حَصرَ له من النتف المتفرّقة، والصدوع، والفواصل، يجري عبرها تطويع الجمهور في حالةٍ من الفوضى الميؤوسة، وهي تكمن في كلِّ زاويةٍ من الزوايا الكثيرة للعداء المُتبادَل بينها جميعًا. إنَّ روحاً خارقة مُهَيمنة على الفوضى البدائية السائدة يُمكِنُ وحدها أن تُقيمَ الانتظام في مثل هذه الحالة الفوضوية، وتجعلُ تلك العناصرَ المتنازعةَ قابلةً للسلام والوئام. ولستُ أظنُّ أنَّ أيَّ بلدٍ آخر في العالم يَضُمُّ مثل هذا التعدّد من الفئات المتنازعة، وهنا تكمن العقبة الكبرى أمامَ أيِّ تهذيبٍ أو تحسينٍ عمومي ودائمٍ لهذا النوع من الحالات، ومن طبيعة الأخلاق، والتصوّرات. إنهم لن يستطيعوا أبدًا تشكيلَ شعبٍ موحَّد، ولن يأتلفوا من أجل أيِّ هدفٍ ديني أو سياسي مهِم. ولذلك سوف يبقون ضعفاء، وغير قادرين على حكم أنفسهم بأنفسهم، ومُعرَّضين دائمًا لغزوات ومظالم أجنبيَّة. هكذا كان الأمر، وهكذا هو الآن، وهكذا سيبقى الى أمد طويل طالما بقي الشعب مُنقَسِمًا ومُهمَّشًا ومُداسًا”.
ولَمَسَ الدكتور طومسون أنَّ الناسَ في هذه البقعة من العالم يحبّونَ المال إلى درجةِ العبادة، وأنهم أينما ذهبت تجدهم يطلبون المال، وقال إنهم ما كانوا ليرموا علينا السلام لو لم نكن نُقدّم لهم ولأولادهم خدمات تعليمية وطبيَّة.
!وقال أيضًا، إن عشقهم للمال جعله على يقين بأن مجيء السيد المسيح إلى هذه المنطقة، دون غيرها من مناطق العالم، لينقذهم من عبادة المال
:لبنان… الحَربُ الأهليَّة المُستَدامة (22)
!المسيحيون لدَفعِ القُروش والدروز لحَملِ السيوف
2024/03/20
مِن وَقتٍ إلى آخر، يدورُ في لبنان حديثٌ عن ضرائب الدولة وجبايتها. وتَعُمُّ الشكوى لأنَّ فئةً من اللبنانيين تُسَدّدُ ما عليها من ضرائب أكثر من غيرها. ويُشار بالبنان إلى المجتمع المسيحي الذي يَلتَزِمُ السداد، والجباية فيه أسهل، بينما يتهاون غيرهم ويتمنّعون. حتى أن الجُباةَ لا يتجرَّؤون على دخولِ مناطق مُعيَّنة، خوفًا من أن يقومَ فقراؤها بالاعتداءِ عليهم وإهانتهم وتعزيرهم.
والأغلب على الظن، أنَّ هؤلاءَ الجُباة يتذرّعون بذلك لتبريرِ عدم الجباية!
ناهيكَ بعمليات التلاعب بالدفاتر، خصوصًا في أرقامِ الأرباح وجداء حساباتها، إلى جانب التهرّب من ضريبة القيمة المُضافة!
هذا الكلام، يندرج في سياقٍ تاريخي، يعودُ إلى زمن الدولة العثمانية.
ففي سنة 1821، انفجرَ الوضعُ في جبل لبنان عندما طلبَ عبد الله باشا، والي عكا، من الأمير بشير الشهابي الكبير زيادة الضرائب على رعاياه، فتردّدَ أمير البلاد، لأنه كان يعرف مدى كراهية الناس لإرهاقهم بالضرائب، لكنه في النتيجة استسهل الجباية من المسيحيين، الذين عادوا فانتفضوا، وتمرّدوا، وشكّلوا ما سُمِّيَ “عامية أنطلياس”، وقد استمرت حتى حملة ابراهيم باشا المصري، التي أطاحت والي عكا.
وكانت فكرة “عامية أنطلياس”، تجربة رائدة، قلدها الفرنسيون في “كوميونة باريس”، خلال ثورة العام 1848.
في الزمن العثماني، أيضًا، لم يقتصر فرضُ الضرائب على عامة الناس، إنما، شمل الأديرة المسيحية، التي كان الرهبان فيها، يقومون بأعمالٍ إنتاجية. ولذلك سرى بين الناس في جبل لبنان مثلٌ يقول: “المسيحيون لدَفعِ القروش والدروز لحَملِ السيوف”، (رسالة إغناطيوس سركيس-“مجلة أوراق لبنانية”).
في الحربِ الأهلية في لبنان الصغير في العام 1860، كما في لبنان الكبير في العام 1975، يتشابه الموقفُ الجنبلاطي بين سعيد جنبلاط وبين وليد جنبلاط لجهةِ حَملِ السيوف وإعمالها في رقاب المسيحيين خلال الحربَين، بُغيةَ تهجيرهم. وكلاهما اعتمدَ على قوةٍ خارجية: سعيد جنبلاط اعتمد على الصدر الأعظم العثماني خورشيد باشا، الذي أوصى الزعيم الجنبلاطي “إبادة المسيحيين إبادة كاملة في جبل لبنان والبقاع”. وهذه التوصية، حسب التقارير الديبلوماسية في حينه، أدّت إلى مجازر عديدة شملت دير القمر، وجزين، وحاصبيا، وراشيا، وزحلة، وبلدات وقرى أخرى.
جاء في كتاب القنصل الروسي في بيروت قسطنطين فاسيلي “سوريا وفلسطين تحت الحكم العثماني” عن الهجوم على زحلة بقيادة شبلي آغا العريان ما مفاده: “لو لم يدافع الأمير خنجر بن ملحم الحرفوشي (من زعماء شيعة بعلبك) عن شعاب زحلة ومداخلها، لاجتاح الدروز كل لبنان”. وكان القنصل فاسيلي يهتمُّ بدراسة موضوع الأقليات مُرَكِّزاً بشكلٍ خاص على الدروز في سوريا ولبنان.
أما وليد جنبلاط في حرب 1975، خلال فترةٍ حرجة بين انسحاب القوات الإسرائيلية من الجبل ودخول القوات السورية، فقد اعتمد حسب قوله على “جيش حكمت الشهابي”. وإذا كان معروفًا مَن هي الجهة الخارجية التي أوصت سعيد جنبلاط بإبادة المسيحيين، فإنه من غير المعلوم على وجه اليقين مَن هي الجهة التي أوصت وليد جنبلاط بتهجيرهم. وفي الخلوة التي عقدها سيد المختارة مع كبار شيوخ الطائفة، وصف فيها الموارنة بأنهم “جنسٌ عاطل”، (بعد حوادث بيروت في السابع من أيار/مايو 2008)، قال له أحدهم عن المعارك مع مقاتلي “حزب الله”: “لقد أدمينا أنوفهم”، فأجابه جنبلاط: “وماذا عن غدٍ وبعد غد”.
والمعروف أنَّ جنبلاط، حينذاك، عندما شعر بالهزيمة أوكلَ أمره الى خصمه ومنافسه طلال أرسلان الذي تربطه علاقة حسنة مع السوريين ومع “حزب الله”، في نوعٍ من توزيع الأدوار، حيث ظهر الأمرُ بشكلٍ “ثنائي درزي” يُحاكي “الثنائي الشيعي”. والقصة ما زالت متواليةَ الفصولِ منها ما هو مليءٌ بالتناقضات، ومنها ما هو مليءٌ بالخداع، ومنها ما هو مليءٌ بالأحقادِ الدفينة أو بالمُجاملات التمويهية … وهكذا دواليك.
:لبنان… الحَربُ الأهليَّة المُستَدامة (21)
لبنان في عُيونٍ تُركِيَّة
2024/03/19
في وقتٍ كانَ القلقُ يُساوِرُ واشنطن من تمادي التعاونِ الروسي–الإيراني، الذي لم يُخْفِهِ ويليام بيرنز، مدير وكالة الاستخبارات الأميركية المركزية (سي آي إي)، طَرَحَ الرئيس التركي رجب طيِّب أردوغان فكرةَ عقدِ قمّةٍ رُباعيةٍ تضمُّ: روسيا، إيران، تركيا، سوريا، لبحثِ سُبُلِ التعاون المُشتَرَك بين تلك الدول، والأهم، تطبيع العلاقات التركية–السورية. ولم يكن مُستَبعَدًا أن يكون الوضع اللبناني المتأزّم على أجندة تلك القمّة الرباعية. إلّاَ أنَّ فكرة الرئيس التركي، لم تَخرُج من حَيِّزِ التشاور، ومع ذلك أثارت حفيظةَ الولايات المتحدة، ومَن تحالفَ معها من الأوروبيين، خصوصًا فرنسا.
بدءًا من سنة 2010 أخذت تركيا الأردوغانية تُبدي اهتمامًا مُلفتًا بلبنان، خصوصًا بالأقضية الأربعة ذات الكثافة السنّية التي كانت تحت الإدارة العثمانية قبل إنشاء دولة لبنان الكبير. فقد زار أردوغان لبنان في تلك السنة، (بدعوة من رئيس الحكومة اللبنانية يومئذ، سعد الحريري)، وزارَ بعضَ المناطق منها عكار ليفتتح مدرسة في قريةٍ نائية سكّانها من أصولٍ تركمانية، كما تبرّعَ بإنشاءِ مستشفى عصري في صيدا (اكتمل بناؤه وتجهيزه منذ سنواتٍ عدة، لكنه لم يُفتَتَح بَعد لأسبابٍ غامضة)، ولوحظَ أيضًا أنَّ الأتراك ينشطون بشكلٍ خاص في مدينة طرابلس، وأخيرًا في البقاع الغربي.
إنَّ بعضَ اللبنانيين أطلقَ على هذا النشاط التركي المُتَمَدِّدِ في لبنان (وفي سوريا أيضًا) صفةَ “العثمانية الجديدة”. ويتذكّرُ اللبنانيون أنهُ فورَ وقوعِ انفجارِ أو تفجيرِ مرفَإِ بيروت في الرابع من آب (أغسطس) 2020، وصلَ إلى القصر الجمهوري في بعبدا وفدٌ تركي رفيع المستوى ضمَّ نائب رئيس الجمهورية ووزير الخارجية وآخرين قدموا عرضًا إلى لبنان يُبدي استعدادَ تركيا لإعادةِ بناءِ المرفَإِ وتجهيزه.
لكنَّ التدخّلَ التركي المُستَجِدّ في لبنان يُثيرُ تحفّظاتٍ من بعض الفئات اللبنانية التي ما زالت تشعرُ بالمرارة من الحُكمِ العثماني، وسوفَ يُثيرُ تحفّظاتِ بعضِ الدول الغربية. كما إنَّ هناك إشكاليةً أخرى، لا تقلُّ أهمّية، وهي أنَّ تركيا ما زالت عضوًا في “حلف شمال الأطلسي” وتُقيمُ علاقاتٍ مع إسرائيل منذُ عقود.
وبعضُ الكُتّابِ الأتراك المُعاصرين يُلَمِّحُ إلى أنَّ اللبنانيين مدينون لتركيا العثمانية، وخصوصًا المسيحيين منهم، لاعتبارَين: أوَّلهما، أنَّ التنظيماتَ الأخيرة للدولة العثمانية حقّقت المساواة بين جميع مواطنيها، ورفعت عنهم التمييز السابق ضدهم، فسمحت لهم بشراء الأراضي والبيوت، وأعطتهم حرية العمل والتجارة، فازدهرت أحوالهم الاقتصادية، وعيَّنت وزيرًا للزراعة والإصلاح الزراعي، لوَضعِ قوانين عصرية في هذا المجال، مُفَكّرًا مارونيًا مرموقًا هو المعلّم سليمان البستاني، الذي تركَ بصماتٍ جليلة في تحديث القوانين الزراعية. والمعروف أنَّ البستاني نقل إلى العربية إلياذة هوميروس عن اليونانية.
وثانيهما، أنها سمحت باستقلالٍ ذاتيٍّ للبنان بعد الحرب الأهلية 1860، وأنَّ مجازرَ جبل لبنان في تلك الحرب ما كانت لتحدث لولا تدخّلات الدول الأوروبية، لا سيما فرنسا وبريطانيا.
ففي العام 1975 أصدر الكاتب التركي آنجن أكرلي كتابًا بعنوان: “السلام الطويل: لبنان العثماني 1861-1920” (هو أطروحته للدكتوراه)، حاجَجَ فيه بأنَّ لبنان شهدَ مرحلةَ سلامٍ طويلة بعد الحرب الأهلية امتدّت حتى الانتداب الفرنسي. واستنادًا إلى وثائق ومعلومات استقاها من الأرشيف العثماني، أقام الحجّةَ بأنَّ التجربةَ اللبنانية في الحُكمِ الذاتي، وفي الموالفة بين الجماعات الدينية المختلفة، أرست أساسَ الديموقراطية العلمانية، لكن تدخّلات الدول الأوروبية في السياسة اللبنانية عرقلت الجهود الرامية إلى تطوير مفهومٍ علمانيٍّ للوطنية اللبنانية.
والكاتب أكرلي يُجيدُ اللغة العربية التي اعتمد عليها في أطروحته لفَهمِ وجهة النظر العربية، لكنه انتقدَ اعتمادَ اللبنانيين والعرب على مصادر غربية في المسألة العثمانية من دونِ أيِّ اعتبارٍ لوثائق الأرشيف العثماني، ومنها أشياء لم يَطرُق بابها أيُّ باحثٍ لبناني غير مُنحاز، أو يحمل أفكارًا مُسبَقة من مصادر أجنبية.
وقد أشادت به “الصحيفة الدولية لدراسات الشرق الأوسط” لدقّةِ بحوثه، وغنى محتواه واستشرافيته، واعتبرته إضافةً قَيِّمة إلى المكتبة التاريخية حول لبنان (كتاب أكرلي صادر بالانكليزية عن مطبعة جامعة كاليفورنيا).
لبنان… الحَربُ الأهليَّة المُستَدامة (20)
فرنسا، تَحورُ وتَدورُ وتَعودُ إلى لبنان
2024/03/18
لم يَكُن التدخُّلُ الفرنسي في المسألة اللبنانية بعد حرب الجبل في سنة 1860 على وَتيرةٍ واحدة. في تلك الحرب الأهلية الكبرى، آزرت فرنسا الموارنة مُنفَرِدةً، فلم يأتِ تدخُّلها بأيِّ مَردودٍ إيجابي. ذلك أنّهُ، عبر دوراتِ التاريخ، ثبتَ أنَّ “الدورَ المُنفرد” لا يؤدّي إلى نتيجةٍ إيجابية، إلّاَ إذا كانَ في الإطارِ الدولي الجماعي.
وهذا ما حَصلَ عندما عادت فرنسا إلى الدخول شريكًا مع القوى الأوروبية الكبرى في ذلك الوقت (بريطانيا، روسيا، النمسا، بروسيا). فالتدخُّلُ الدولي المُشتَرَك آنذاك أنتجَ “نظام المُتصرّفية” على غرارِ إنتاجِ “نظام الطائف” بعد الحرب الأهلية عام 1975.
والمُشابَهة بين هذَين النظامَين لا تقتصرُ على الشَكل، بل تتعدّاه الى مضمونهما المُتَمَثِّل بتشكيلِ “مشروع الوصاية الخارجية المُستَدامة” على لبنان كنتيجةٍ حتمية لحالةِ الحربِ الأهلية المُستَدامة.
حربُ الجبل الأهلية أعقبها سلامٌ طويلٌ امتدَّ حتى الحرب العالمية الأولى والانتداب الفرنسي، وهو سلامٌ يشبه “سلام الطائف”، الذي ما تمَّت تسويته الدستورية لولا التوافق الدولي، فكأنّهُ فاصلٌ بين حربَين.
بعدما تعاطت فرنسا مع المسألةِ اللبنانية مُنفَرِدةً، عادت إلى تسويةِ هذه المسألة في إطارِعملٍ دوليٍّ جماعيٍّ مع شُركاءٍ آخرين.
وربّما كان ذلك لسببَين: الأوّل، في المراحل التي كانت فيها لفرنسا طموحاتٌ إمبراطورية للهَيمَنة في أوروبا، في العهد النابليوني الأوّل (بقيادة نابليون بونابَرت)، وكذلك في العهد النابليوني الثاني (بقيادة نابليون الثالث)، لتعود فرنسا بعد هزيمة هذين العهدين، الأول على أيدي الإنكليز، والثاني على أيدي الألمان، إلى العمل المشترك مع مجموعة الدول الأوروبية.
أمّا السببُ الثاني، وهو لبناني، فيتعلّقُ بتعاطي السياسيين اللبنانيين مع أزماتِ بلادهم، من حيث استدراج التدخّل الخارجي.
فقد كتب القنصل الفرنسي العام الذي خَدَمَ في بيروت أثناء الأزمة السياسية في العام 1913 يقول: “إنَّ الشعورَ بالتفاني من أجلِ الوطن الصغير لبنان غير موجود بين المسؤولين اللبنانيين. فكلُّ واحدٍ منهم مُستَعِدٌّ دائمًا، كما يقول المثل الدارج: أن يحرقَ البلد من أجلِ أن يُشعِلَ سيجارته”. (من كتاب جون سبانيولو “فرنسا ولبنان العثماني 1861- 1914″، إيثاكا، أُكسفورد 1992).
لكنَّ الفرنسيين في الحالة النابليونية، الأولى والثانية، كانوا يشعرون بالمسؤولية التاريخية تجاهَ المؤسّسات الدينية الكاثوليكية في لبنان، خصوصًا في المرحلةِ الثانية. أما في المرحلة الأولى فقد وَقَفَ حاكمُ جبل لبنان الأمير بشير الشهابي ضدّ حملة نابليون بونابرت في حصاره لمدينةِ عكا بسبب تحالفه آنذاك مع واليها أحمد باشا الجزّار.
وقد أبلغني الصديق الراحل الأب أديب بدوي، الذي كان رئيسًا للرهبانية المُخَلّصية الكاثوليكية، في وقتٍ من الأوقات، أنَّ الكنيسة الكاثوليكية أوفدت إلى مصر، أثناء وجود نابليون بونابرت فيها، راهبًا اسمه رافاييل راهبة، كان ضليعًا باللغات، ليعمل مُترجِمًا لقادة الحملة الفرنسية، وأنَّ ذلكَ الراهب عملَ مع العالم الفرنسي جان فرانسوا شامبليون في فكِّ طلاسم الكتابة الهيلوغريفية الفرعونية، وهو الإنجازُ الذي أدّى إلى كتابة التاريخ الحقيقي لمصر الفرعونية وحضارتها.
وأضاف الأب بدوي: إنَّ ذلك الراهب وَضَعَ قاموسًا فرنسيًا-عربيًا مع قاموس لاتيني-عربي.
وعن المرحلة النابليونية الثانية، التي فيها جرى التدخّلُ الفرنسي المُنفَرِد في حرب جبل لبنان، تعرَّضَ دير المخلص إلى النهب والتدمير، وبعد وقف تلك الحرب أوفدت إدارة الدير بعض الكهنة إلى الخارج لجمع التبرّعات من أجل إعادة بنائه، فأخبرني الأب بدوي أنَّ بين هؤلاء كاهن كانَ شجيَّ الصوت يجيد الترتيل بصوتٍ عالٍ يُمكِنُ سماعه إلى مسافة كيلومتر، تم إيفاده إلى فرنسا لتلك الغاية.
في باريس قصد الكاهن اللبناني القصر الإمبراطوري طالبًا مقابلة الإمبراطورة أوجيني زوجة نابليون الثالث التي عُرِفَت بأعمالها الخيرية. لكنَّ الحرّاسَ منعوه من الدخول لأنّهُ لم يكن لديه موعدٌ رسمي، فخرجَ إلى الشارع ووقفَ على الرصيف وراحَ يَنشُدُ ويُرَتّلُ بأعلى صوته، فسمعت الإمبراطورة أوجيني تلك الألحان البديعة فسألت عن مصدرها، فقيل لها إنّهُ كاهنٌ كاثوليكي من لبنان طلبَ مقابلة جلالتك فمنعه الحرّاس من الدخول، فبعثت موظفًا في القصر ليأتي بذلك الكاهن إليها، فحكى لها عن مآسي الحرب والدمار التي لحقت بدير المخلّص، فتبرّعت بعشرين ألف ليرة ذهبية لإعادة إعمار الدير.
ففي ذلك الوقت، وبعد سقوط الدولة النابليونية الأولى، نشأت في أوروبا فكرة المؤتمرات الكبرى للدول الأساسية أشهرها ثلاثة: مؤتمر فيينا (1814- 1815)، مؤتمر باريس (1856)، ومؤتمر برلين (1878). ونشأت منها مؤتمراتٌ دولية صُغرى هي التي تعاطت بشأن المسألة اللبنانية.
:لبنان… الحَربُ الأهليَّة المُستَدامة (19)
!”منَ “الحربِ الشيعيّة” إلى “السلم الشيعي
2024/03/17
في الرابع من كانون الثاني (يناير) 2023 قُتِلَ الجندي الإيرلندي شون روني، من قوّة الأمم المتحدة المؤقتة في لبنان (“يونيفيل”)، وأُصيبَ ثلاثةٌ من رفاقِ سلاحه بجروح، عندما أَطلَقَ خمسةٌ عناصر من “حزب الله” النار عليهم، أثناء مرور سيارتهم المُدَرَّعة في منطقة “العاقبية” في الجنوب.
ومن غريبِ المُصادَفات أن يأتي الحادث في أعقابِ إشارتَين سياسيتَين لهما مدلولات تتعلّقُ بتدويلِ الأزمة اللبنانية المُستَعصِية: الأولى، فشلُ الفصل العاشر من مسرحيةِ انتخابِ رئيس للجمهورية في مجلس النواب، (15/ 9 / 2023) ومعها دعوة رئيس مجلس النواب نبيه بري للحوار بين القوى السياسية اللبنانية، والثانية، الإعلان عن زيارةٍ يُزمِعُ الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، الذي كان وصل إلى الدوحة في 14/ 12/2023 لحضور مباريات كأس العالم لكرة القدم التي تأهل فيها فريق بلاده للدور النهائي، القيام بها الى جنوب لبنان لتفقّدِ الكتيبة الفرنسية هناك ومُعايدتها بالميلاد ورأس السنة الجديدة. وتلك الزيارة هي أيضًا عنوانٌ من عناوين التدويل.
إنَّ وَضعَ حادث “اليونيفيل” تحت هذا العنوان يطرحُ بصورةٍ فورية السؤالَ المُحَيِّرَ حولَ إذا ما كان يستعجل التدويل للأزمة، أو يعرقله، سواء كان مُدَبَّرًا ومقصودًا، أو مُجرّد مُصادفة عرضية.
وَضعُ السؤال في هذا الإطار يدخلُ في جدليةِ التدويل والحرب، من حيث ازدواجية التفسير حول ما إذا كانَ دوامُ التدويل يَخدُمُ دوامَ الحرب، أم أنَّ دوامَ الحرب هو الذي يستدعي دوامَ التدويل.
ومن هذا المنظار، يُطلُّ مشهدٌ جديدٌ على المسرح الجنوبي، بعد اتفاق رسم الحدود البحرية، وما تتطلّبه عمليات التنقيب البحري عن الموارد الطبيعية من سلامٍ طويل الأجل. فإذا كانت حالةُ الحربِ السابقة لاتفاقية الحدود البحرية، قد انتفت مُبرّراتها، فلن تكونَ هناك حاجة إلى قوات دولية بعد استتباب السلام، كما تنتفي الحاجة الى سلاح “حزب الله”. وهذا سؤالٌ افتراضي يتبادرُ إلى الأذهان، من خلال طبيعة، أو أهميَّة ترسيم الحدود البحرية، لكون السبب المباشر للترسيم البحري هو تسهيل التنقيب عن النفط والغاز في المنطقة الحدودية مع إسرائيل، مما يتعارض مع استمرارِ حالةٍ من الحرب على مقربةٍ من تلك الحقول السريعة الاشتعال.
وهذه الجدلية، التي تبدو واقعية منطقيًا، فيها نوعٌ من الإشكالية بالنسبة إلى أهالي الجنوب الذين استفادوا اقتصاديًا لسنواتٍ طويلة من وجود قوات اليونيفيل، ومن وجود “المقاومة الإسلامية” أيضًا. لكن هذه الإشكالية تظهرُ بوجهها السلبي (كما لاحَ من خلال قرار “حزب الله” تسخين الجبهة الحدودية فور اندلاع حرب غزَّة)، من حيث الموازنة بين فوائد “السلام”، وكوارث الحرب. لأن الأبواق المعارضة للاشتباكات العسكرية في الجنوب، تُحاولُ قراءة هذا المشهد من خلال إظهارِ أنَّ حالةَ السلم والبحبوحة ترتَبِطُ بوجود قوات اليونيفيل، وأنَّ حالاتَ الخراب والدمار وارتفاع عدد الضحايا، تعودُ إلى تورّطِ “حزب الله” في الحرب، حتى لو كانت محدودة. ونقطةُ ضعف هذه المطالعة، أنّهُ لو صَحَّ الافتراض بأنَّ سلامًا ثابتًا يلوحُ في أُفُقِ تسويةٍ ما قريبة، فإنَّ الحالةَ الجديدة (أي حالة السلام الثابت) تُلغي الحاجةَ إلى قوّاتٍ دولية ومنافعها المحلية. ومع أنها، حسب هذا الافتراض أيضًا، تُلغي الحاجة إلى سلاح “المقاومة الإسلامية” (نظريَّاً)، فإنَّ ذلك لا يُلغي الحقيقة السياسية الداخلية المتمثّلة بقدرة “حزب الله” في حَشدِ مُكوِّنٍ لبناني أساسي لإحباطِ أيِّ محاولةٍ لتغييرِ موازين القوى الداخلية القائمة حاليًا.
وبالتالي، فإنَّ المُماطَلة في انتخابِ رئيسٍ للجمهورية، تُنبئُ بأنَّ أيَّ تسويةٍ دولية، أو إقليمية بغطاءٍ دولي، أو محلّية بغطاءٍ دولي-إقليمي، سوف تُعطي “حزب الله” (ثمنًا للسلام في الجنوب) وزنًا تقريريًا أكبر في الشأن الداخلي اللبناني.
إنَّ الانتقالَ من “حالةِ الحربِ الشيعية” إلى “حالةِ سلامٍ شيعي”، بكفالةٍ دولية وإقليمية، يُذَكِّرُني بمكتبي السابق في بيروت عندما عملتُ في مطبوعة “عالم النفط” في ستينيات القرن الماضي، فوَجَدتُ على الحائطِ صورةً لمَشهَدٍ من القرنِ التاسع عشر فيه ثلاثة رجال تحت شجرة سنديان كبيرة كُتِبَ تحتها العبارة التالية: “ترجمان من الموارنة واثنان من الشيعة”!
فالترجمان بطبيعة الحال يتكلّمُ لغةً أجنبية غير لغته، تكونُ الحاجةُ إليها أكبر في إطار التدويل الذي يشمُلُ لغاتٍ أجنبية مُتعدّدة.
ويخطرُ بالبال، من تلك الصورةِ القديمة التي تُمثّلُ زمنَ القناصل في مرحلةِ إرساءِ التدويل في أواخر سني السلطنة العثمانية، أنَّ نوعًا من “المُثالثة” يلوحُ في الأفق على قاعدة “واحد واثنان”.
وهذه أيضًا وصفةٌ لصيغةٍ جديدة للنظام اللبناني، تحملُ في طيّاتها بذورَ اضطرابٍ مُخلخلٍ للتوازنات القائمة، لأنها ستكون، بالضرورة، على حسابِ مُكَوِّناتٍ تأسيسية أُخرى للوجود اللبناني.
:لبنان… الحَربُ الأهليَّة المُستَدامة (18)
حِوارُ “رَقصَةِ الدَرَاويش”
2024/03/16
في 31 من آب (أُغسطس) 2023، خلال خطبته في الذكرى الخامسة والأربعين لتغييب الإمام موسى الصدر، جَدّدَ رئيس مجلس النوّاب نبيه بري الدعوةَ إلى حوارٍ بشأنِ رئاسةِ الجمهورية، فلم يُوَفَّق، وهو في الأصل، دعا إلى طاولةِ الحوار من قَبيلِ “رَفعِ العَتَب”، ليسَ إلّاَ، لأنّهُ يَعرِفُ عدم جدواها، قياسًا على محاولاتِ الحوارِ السابقة مُنذُ تشكيلِ “هيئة الحوار الوطني” في أيام الحكومة التاسعة للرئيس الراحل رشيد كرامي في بداية الحرب الأهلية (وكان فيها كميل شمعون نائبًا للرئيس)، فلم تَستَطِع تلك الهيئة أن تَعقُدَ سوى جلسةٍ واحدةٍ يوم 25 أيلول (سبتمبر) 1975، لأنَّ أمراءَ الحرب، الحاكمين اليوم، أشعلوا جبهاتَ القتالِ خصّيصًا لإحباطِ الحوارِ الوطني. وكانت تلك الهيئة تضمّ: رشيد كرامي، كميل شمعون، عبد الله اليافي، صائب سلام، مجيد أرسلان، فيليب تقلا، غسان تويني، كمال جنبلاط، بيار الجميل، ريمون اده، رينه معوض، خاتشيك بابيكيان، رضا وحيد، الياس سابا، عباس خلف، نجيب قرانوح، إدمون رباط، عاصم قانصو، وحسين عواضة.
ثم غابَ الحوارُ الوطني لسنوات، إلى أن انعَقَدَ مرّتين خارج لبنان (في سويسرا، الأول في جنيف في 1983، والثاني في لوزان في 1984)، وأيضًا من دونِ نتيجة.
بَعدَ ذلكَ انعَقَدَت الحكومة في عهد الرئيس أمين الجميل عام 1986 كهيئةِ حوار، من غيرِ أيِّ نتيجة أيضًا. وكذلك الأمر عندما دعا نبيه بري إلى طاولةِ حوارٍ عام 2005، (حضرها السيد حسن نصر الله في جلساتها الأولى قبل الحرب مع إسرائيل في العام 2006).
ففي هذا المُسلسلِ من الإخفاقاتِ في الحوارِ الداخلي اللبناني، كانَ لا بدَّ من كَسرِ الدوران في الحلقة المُفرَغة، شأن “رقصة الدراويش”، بتدخُّلٍ من الخارج، وهو ما حدث فعلًا في مؤتمر الطائف. وكانت فرنسا، بعد الحرب الأهلية الأولى التي جرت عام 1843 بين الدروز والموارنة، وأدَّت الى “نظام القائمقاميتين”، قد أعطيت أرجحية في النفوذ الدولي في جبل لبنان، ظهر من خلال تكليفها تشكيل نصف عديد القوة الدولية الحافظة للأمن هناك.
ولهذا كانت فرنسا في الحرب الأهلية الثانية، الأوسع نطاقًا، في جبل لبنان (1860-1864)، هي القوة الدافعة للتدخّل في لبنان وسوريا تحت عنوان “الأسباب الإنسانية”. ولهذه التسمية أسبابها، وقد ظهرت لأوّلِ مرة في النقاشات الفكرية الأوروبية حولَ وُجوبِ أو عدم وجوبِ التدخّلِ الخارجي، ولم تكن “الأسباب الإنسانية” تلك، مِحوَرًا من محاورِ النقاشاتِ بهذا الشأن. مما يدلُّ على أنَّ تلك الحرب في جبل لبنان لم تكن حربًا بالمعنى التقليدي، بل مُسَلسَلًا من المجازِرِ الجماعية وعمليات التهجير، تمامًا كما حدث في حرب الجبل (1983-1984).
وعلى الرُغمِ من المصالحة الشكلية التي أجراها البطريرك الماروني الكاردينال نصر الله صفير مع الزعيم الدرزي وليد جنبلاط في مطلع الألفية الثالثة، تُضافُ إليها الأموال الطائلة التي هُدِرَت في “صندوق المُهَجَّرين”، فإنَّ مُعظمَ الذين تضرّروا من تلك الحرب لم يعودوا إلى قراهم، وهو مؤشرٌ مهمٌّ إلى الشعورِ بأنَّ الحربَ الأهلية لم تنتهِ فصولُها بَعَد.
التدخُّلُ الدولي في لبنان في القرن التاسع عشر، سبقته في ثلاثينيات ذلك القرن نقاشاتٌ فكرية أوروبية حوله تحت عنوان “الأسباب الإنسانية”، لم يشارك فيها أيٌّ من المفكّرين الفرنسيين في حينه، وكانَ من أقطابِ ذلك الحوار المُفكّرُ الإيطالي جوزيبي مازيني، الداعي إلى وحدةِ إيطاليا في ذلك الوقت، والمُفَكّر البريطاني جون ستيوارت ميل. لذلك، كان ملفتًا إناطة قيادة التدخّل الدولي في لبنان آنذاك بقوّاتٍ فرنسية بالدرجة الأولى.
لكنَّ النقاشَ حولَ التدخّلِ الخارجي بصورةٍ عامة (أي من غير اعتبارٍ للأسباب الإنسانية)، فقد انطلقَ في فرنسا خلال الثورة الفرنسية، ومرَّ بعدها بثلاثِ مراحل، أوّلها خلال الثورة برَفضِ التدخّلِ في شؤونِ الدول الأخرى، وثانيها ضرورة التدخّل في حال تعرّضِ أمن فرنسا ومصالحها للخطر، وثالثها التدخّل لمُساندة حركاتِ التحرّرِ للبلدان المُحتَلّة من دولٍ اُخرى. وقد فَلسَفَ هذه المبادئ في النصف الأول من القرن التاسع عشر ثلاثةٌ من كبارِ الكتّابِ والمُفكّرين الذين توَلّوا منصب وزير الخارجية في حكوماتِ زمانهم، وهم: فرانسوا رينيه دو شاتوبريان (المعروف بالفيكونت دو شاتوبريان)، ومن بعده المؤرّخ فرانسوا غيزو، ثم الكاتب والشاعر ألفونس دو لامارتين (بعد ثورة 1848).
ولم تكن “الأسبابُ الإنسانية” ضِمنَ التوجّهاتِ الفرنسية في تلك المرحلة، لكنَّ الحكومة الفرنسية برَّرت تدخّلها في الحرب الأهلية اللبنانية الأولى في ستينيات القرن التاسع عشر تحت هذا العنوان. ومُنذُ ذلك الوقت أصبحت فرنسا هي المُحرّكَ الأوّل للتدخّلِ الدولي في المسألة اللبنانية، وما زالت…
:لبنان… الحَربُ الأهليَّة المُستَدامة (17)
أيُّ تَدويلٍ للبنان؟
2024/03/15
“التدويلُ” ليسَ بدعةً مَشبوهة، ولا هو غريبٌ عن لبنان، فقد جرَّبهُ بعدما فُرِضَ عليه خلال حروبهِ المُستدامة، من أواسط القرن التاسع عشر إلى أيامنا هذه.
وعودةُ مرجعياتٍ لبنانية نافذة، في مقدَّمها البطريرك الماروني الكاردينال بشارة الراعي، إلى الحديث عن “مؤتمرٍ دولي” لإيجادِ حَلٍّ للأزمةِ اللبنانية المُستدامة، والمُتَعَدِّدةِ الأطرافِ والأوجُه، مردُّهُ إلى عَجزِ القوى السياسية المحلّية، أو عدمِ رَغبَتِها في التلاقي التلقائي، لوَضعِ الصِيَغِ المحلّية الكفيلةِ بمُعالجةِ الأزمة مُعالجةً جدّية تُغني عن الاستعانة بالخارج. لكنَّ أحدًا لم يَقُلْ للبنانيين كيفَ يكونُ ذلك، والأزمةُ في جذورها ناشئةٌ من الحربِ الأهلية المُستدامة، التي تُمسِكُ بزمامِ أسبابها ونتائجها جهاتٌ دولية لها أتباعٌ بين معظم القوى اللبنانية، بمَن فيها بعض المراجع النافذة المذكورة المُطالِبة بالحلِّ الوطني المُستقل.
ولعلَّ هذا التناقض، في المعنى والمبنى للطَرحِ الآنف، أو بين القصد والقدرة، ما يُفسِّرُ جُزئيًا طبيعةَ مَنشَإِ الأزمةِ اللبنانية في رَحمِ الحربِ الأهلية المُستدامة.
ففي هذا المسعى، أو الطَرح، لا يخرُجُ أصحابه، ومنهم البطريرك الماروني، عن السياقِ التاريخي للحرب الأهلية اللبنانية المُستمرّة من أواسط القرن التاسع عشر إلى اليوم، وهي حربٌ في كلِّ مراحلها استدعت تدخّلًا خارجيًا أو مؤتمراتٍ دولية.
حتى في مرحلةِ ما بعد الطائف، وهو بدوره مؤتمرٌ دوليٌّ بالتكليف، كان أبرزَ إفرازٍ له فقدان الاستقلالية اللبنانية بصورةٍ شبه كاملة، من خلالِ فَرضِ وصايةٍ خارجيةٍ مدعومةٍ بقواتٍ عسكرية غير لبنانية، (وصاية سورية–سعودية في البداية ثم وصاية سورية كاملة لثلاثة عقود)، ولا يُخفِّفُ من هذه الحقيقة اختيارُ شخصٍ لبناني الجنسية، ليُمثِّلً تلك التوليفة (مثلها في البداية رئيس الحكومة المُنتَدَب من مؤتمر الطائف، رفيق الحريري)، بل إنَّ رئيس الحكومة الآتي مع الوصاية الخارجية، يُثبتُ ويؤكّدُ عبثية أي دعوة لحَلٍّ لبناني نهائي على أيدي اللبنانيين أنفسهم.
إنَّ الوصايةَ السورية التي حَكَمَت لبنان من خلالِ فئاتٍ لبنانية نافذة وقوية، وما زالت حاكمة حتى الآن، لم تَخرُج بدورها عن إطارِ التسويات الدولية التي قرّرت مصيرَ لبنان منذ القرن التاسع عشر. فخلال حكم رفيق الحريري، تحت جناحِ الوصاية السورية، انعقدت مؤتمراتٌ دوليّة عدة من أجلِ لبنان، مُغَلَّفةً بأغلفةٍ اقتصادية، بها بدأت مسيرة الدين العام، وتسهيل عملية الاستدانة، من الخارج ومن الداخل، مما أوصل لبنان تاليًا إلى الانهيار الكبير القائم الآن.
فالدَينُ العام اللبناني، قبل المؤتمرات الدولية “باريس 1″، ثم “باريس 2″، و”باريس 3″، لم يكن يتجاوز الخمسة في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، فتصاعدَ بعد ذلك إلى أكثر من 150 في المئة من ذلك الناتج، (وهي نسبةٌ تُضاهي هبوط قيمة الليرة اللبنانية ثلاثين ضعفًا بين المرحلة السابقة لمؤتمرات باريس الدولية وابنها المسخ “سيدر 1” الذي بقي حبرًا على ورق). ولذلكَ من المُستَغرَب اليوم أن يَنظُرَ بعضُ اللبنانيين إلى دعوةِ البطريرك الماروني وكأنّها “بدعةٌ” تُخفي وراءها شيئًا مَشبوهًا، ولم يكن قد جفَّ بَعد حِبرُ اتفاقية رسم الحدود البحرية مع إسرائيل برعايةٍ دولية (أميركية). وقد عاد الوسيط الأميركي، الغني عن التعريف، آموس هوكستين، إلى بيروت في 6 آذار (مارس) 2024 لترتيبِ تفاهُمٍ جديد، مع أهلِ التَرسيمِ البحري، بشأنِ تَقويمِ الحدودِ اللبنانية البرّية مع إسرائيل، بهدفِ وَقفِ العمليات العسكريَّة، التي يقوم بها “حزب الله” على تلك الحدود، منذ بداية حرب غزَّة في 7 تشرين الأول (أكتوبر) 2023.
وربّما فاتَ البعضُ أنَّ إسرائيل، والقوى الداعمة لها، هما “التدويل”، أو أنَّ التدويل في قبضتهما. وبالتالي، فإنَّ نتيجةَ أيِّ مؤتمرٍ دولي بشأن لبنان في الوقت الحاضر، وربما إلى أجلٍ طويل في المستقبل، ستكون بطبيعتها مؤاتية للجوقة العالمية الدائرة حول “أوليَّة إسرائيل”. فأيُّ تدويل، في أيِّ أمرٍ، وإلى أمَدٍ غير منظور، ستكونُ إسرائيل فيه اليد المُحَرّكة في السرِّ والعَلَن.
فأيُّ مؤتمرٍ دولي بشأنِ لبنان، في إطار هذه التركيبة الدولية القائمة منذ عشرات السنين، يُمكِنُ أن يأتي بحَلٍّ جديدٍ ونهائيٍّ ينفي أسبابَ تلك الحرب، أو يأتي، على الأقل، بأفضلِ من مؤتمراتِ التدويل السابقة، منذ إقامة “نظام القائمقاميتين” في أواسط القرن التاسع عشر، الى “نظام الطائف” في أواخر القرن العشرين.
ويبقى السؤال: متى تنتفي الحاجة إلى التدويل في لبنان، وتكونُ أيّ دعوة إليه مُستَهجَنة ومُدانة؟
الجواب، عندما يُقرّرُ اللبنانيون، أو يقبلون، بقيامِ نظامٍ مدنيٍّ مُحتَرَمٍ يُجَفّفُ مُستنقع الحرب الأهلية، وينفي إمكانية قيام ميليشيات سياسية تتقاسمه في السلم، وتتناهشه في الحرب.
:لبنان… الحَربُ الأهليَّة المُستَدامة (15)
حُكَّامُهُ أعداؤهُ
2024/03/13
مُنذُ تسعينيات القرن الماضي ولبنانُ في محنةِ التيهِ وانسدادِ الأفق، فانطوَت السنوات على الأزماتِ المُفرِطة في التشابك، والعَصِيَّة على الحلّ، حتى تجاوزت مداها بدءًا من سنة 2015، وباتت البلادُ على خيطٍ رَفيعٍ من العَجزِ المُزمِن والاحترابِ الداخلي الساخِن.
وحقيقةُ القول، أنَّ ولاةَ الأمر الحاكمين، الذين هم من بقايا الميليشيات المُتناحِرة، غَيرُ مؤهَّلين، ولا قادرين، على معالجة هذه الأزمات المستعصية، ذلك أنّهم هم الذين تسبَّبوا بها.
ومِثالُهم مِثالُ أحدِ الولاةِ العثمانيين الذي أراد أن يُعَيِّنَ “ياورًا” لَهُ لا يكونُ من أبناءِ العائلات الغنيّة لئلا يسيء استخدام منصبه، فقرّرَ أن يُعَيِّنَهُ من أبناء العامة. فنزل الوالي إلى السوق ليبحث عن رجلٍ بشوش، صبوحِ الوجه، ذَربِ اللسان، فوجدَ ضالَّتَهُ في حَمَّالٍ (عتَّال) ظريف، محبوبٍ من جميع أهل السوق، فاستدعاه وأرسله إلى حمّامِ البخار لتطهيره من أوساخ العتالة، واشترى له ملابس قشيبة، فأصبحَ رجلًا آخر، وسلّمه منصبه الجديد بعدما درَّبه على مهامه المطلوبة، فبرَعَ في وظيفته، بحيث أنَّ الوالي عندما نُقِلَ من منصبه أوصى بتعيين ياوره واليًا مكانه.
وعندما صدر فرمان تعيينه واليًا انتقلَ إلى القصر حيث الخدم والحشم، انهالت عليه الهدايا والأموال، وحامَ حوله السماسرة، واللصوص، والمنافقون، يحاولون استدراجه إلى عمليات النهب والنهش، وتعليمه من أينَ تُؤكلُ الكتف!
وذات يوم جاءه قاضي القضاة زائرًا ليطَّلِع على أحواله، فوجده جالسًا في زاويةٍ من قاعةِ الاستقبالِ يجهشُ في البكاء، فقال له مُستَغرِبًا: “لماذا تبكي؟ ألا ترى العزَّ الذي أنتَ فيه؟ سلطةٌ، وأموالٌ، وقصورٌ، وخدمٌ، فماذا تُريدُ أكثر من ذلك؟”.
مَسَحَ الرجلُ دموعه ونظرَ إلى القاضي المطبوعِ على الفساد كما تَطبَّعَ هو، وقال له: “لستُ أبكي لا عليَّ ولا عليك. إنني أبكي على هذا الشعب المُغَفَّل الذي أنا واليه وأنتَ قاضيه”.
وهكذا أولياءُ الأمرِ في لبنان، يذرفون دموع التماسيح على أحوالِ الشعبِ المُتَدَهوِرة، وهم الذين تسبّبوا بها، لكنهم لا يعترفون بمسؤوليتهم وعدم أهليتهم، وليس في نِيَّتِهم معالجة أي أمر، بل هم عاجزون وقاصرون عن ذلك.
شعاراتهم المزعومة، لم يعد لها معنى لكثرة ما لاكتها الألسن، وأصبحت ممجوجة وفاقدة المعنى والصلاحية.
كلُّ يومٍ يُنادون بالتوافق كذبًا ونفاقًا، وبالوحدة الوطنية الوهمية، وبالميثاق الوطني المهلهل لكثرة الخروقات، وبالعيش المشترك الذي يسير في اتجاه التباعد، وبالشراكة الوطنية التي يفهمونها على أنّها مُحاصَصَةٌ واقتسامٌ للمغانم، وكذلك الأمر في كلِّ المجالات الأخرى، من الدستور والقوانين الهمايونية، البعيدة من المفاهيم العصرية للتقدّم، إلى أبسطِ المهامِ الإدارية.
إنَّ النظامَ السياسي للبنان، والتركيبةَ المُستَحكمة فيه، لا يُمكن أن يبقيا على ما هما عليه، لأنه من المستحيل إصلاحهما، أو حتى ترقيعهما.
لبنان القائم الآن هو فضيحةٌ عالمية، وسقوطُهُ يبدو محتومًا، والمصيبة إذا كان ذلك مُتَعَذِّرًا. فهو لن يستطيعَ أن يستمرَّ على هذا النحو، مغارة للصوص، وساحة مفتوحة للغرباء، والمهربين، والجواسيس، والمخرّبين، وملايين النازحين الذين لا أحد يعرف كيف دخلوا، ولا أحد يُفكّر بحلٍّ يسمحُ بإعادتهم من حيثُ أتوا.
الذين جعلوا أجمل الجبال مقالع وكسَّارات، وأحلى الأنهار العذبة المياه سواقٍ للمجارير والصرف الصحي، والشوارع النظيفة، أيام “بلدية بيروت الممتازة”، في عهود جاءت قبلهم، أصبحت مكبَّات للزبالة. بل إنَّ كلَّ البُنى التحتية التي هي من البديهيات في بلدانِ العالم المعاصر، باتت مُعطّلة أو مفقودة، من الكهرباء إلى المياه النظيفة، ومن الطرقات والمجاري إلى شواطئ البحر، إلى انعدامِ الرقابةِ على الأدوية والمواد الغذائية، إلى أوضاعِ الجامعة اللبنانية والمدارس الرسمية، وإلى جميع المرافق العامة من دون استثناء. فماذا يُمكِنُ أن يفعلَ أيّ عدوٍّ للبنان أفدح مما فعل به حُكّامه وولاة أمره؟
لبنان الذي كان مَضرَبَ المثل في الحداثة والإبداع والإشعاع قبل خمسين سنة، أُطفِئَت شعلته، وأُذِلَّ شعبه، وهو اليوم البلد الوحيد في العالم الذي عادت لتُفَرّخ فيه الأمراض السارية المُنقَرِضة، بسبب الفقر وانهيار الخدمات الصحية لعموم الناس، واختفاء الأدوية من الأسواق، وازدهار الأسواق السوداء، ورواج أعمال التهريب، وأي مجال آخر للكسب غير المشروع.
هذا ليس لبنان. ولن يكونَ إذا استمرَّ على هذا النحو. إنهم يقودونه في طريق الزوال، بينما المطلوب زوال الآفات الفاتكة فيه، وأوّلها الصيغة الكاذبة التي تحكمه وتتحكّم به.
:لبنان… الحرب الأهليَّة المستدامة (14)
دولةٌ تحاربُ شعبَها
2024/03/12
يَظُنُّ كثيرون، تحتَ وابِلٍ من الدعايةِ والإعلامِ التضليلي، أنَّ الأنظِمَةَ التي يُسَمُّونها “ديكتاتورية” أو “توتاليتارية”، تُحارِبُ شعوبها، وهذا كلامٌ غيرُ دقيق. نعم، هي تَقمَعُ مُعارِضيها في الداخل، وتتصدَّى لخصومِها في الخارج، وتُقيِّدُ بعضَ الحرِّيات، كإجراءٍ وقائي، لكن معظمها قدَّم خدماتٍ جليلةٍ لعمومِ شعبه. الأنظمةُ الميليشياوية المولودة في رحم الحرب الأهلية، هي التي تُحارِبُ شعوبَها أثناء جولاتِ القتال، وتنهبها خلال ما تُسَمّيه “السلم الأهلي”، وهو في واقعِ الحال “حربٌ أهلية” مُقنَّعة، كما شاهدنا ونُشاهِدُ في لبنان.
الشواهِدُ والأسانيدُ على ذلك كثيرة، نذكُرُ منها الأمثلة التاريخية الآتية:
(1) حَكَمَ نابليون بونابرت في فرنسا، كنظامٍ ديكتاتوري قامَ على أنقاضِ ميليشيات الثورة الفرنسية، التي سمَّاها البريطاني ريتشارد كوب، وهو المرجع الأكبر في أوروبا حول الثورة الفرنسية: “جيوش الشعب”. (منحه الرئيس فرانسوا ميتران وسام جوقة الشرف لدرسه الثورة الفرنسية بالعمق، وهو يُعاني من عَجزِ الشيخوخة، وعندما سأله أحد الصحافيين ماذا ستفعل بهذا الوسام، أجابه مُمازِحًا: “سوفَ أُعلّقه على صَدرِ ببجامتي!”.
كانَ حُكمُ نابليون حُكمًا عسكريًا فرديًا أرهقَ الشعبَ الفرنسي بالحروبِ المُتتالية، وأزهَقَ فيها أرواحَ ما لا يقلّ عن مليون جندي. لكنه كانَ يُحارِبُ بالشعبِ الفرنسي، ولا يُحارِبُ الشَعبَ الفرنسي. واليوم نَسِيَ الفرنسيون والعالم حروبَ نابليون، ويتذكّرون بفخرٍ “القانون المدني العصري” الذي وضعه لجميع الشعب الفرنسي وما زال ساري المفعول إلى اليوم… وسيبقى.
(2) الحالة الستالينية في روسيا والاتحاد السوفياتي، من مطالع القرن العشرين الى منتصف خمسينياته، كانت وما زالت في الإعلام التضليلي، أعلى مراحل الحكم الديكتاتوري الذي حارَبَ وقتلَ شعبه. وقد مارس ستالين سياسة الشدّة، في ظنٍّ منه أنَّ ذلك “من أجلِ تَقَدُّمِ جميع الشعب”.
إنَّ روسيا كما خلقتها الطبيعة هي أكبر دولة في العالم من حيثُ المساحة، تُساوي مجموع مساحة الولايات المتحدة، وكندا، والصين، وفيها ستة عشر نطاقًا زمنيا لأنَّ معظم خطوط الطول والعرض للكرة الأرضية تمرُّ فيها، وهي تمتدُّ من البحر الأسود إلى المحيط الباسيفيكي، ومن جورجيا جنوبًا الى المحيط المتجمّد الشمالي. هذه المساحةُ العُظمى من الأرض زرعها ستالين من أقصاها إلى أقصاها بشبكاتِ الكهرباء من أجلِ تَقَدُّمِ الشعب الروسي، لا من أجل مُحارَبته، وحَوَّلَ روسيا من دولةٍ إقطاعية تملكها عائلاتٌ أرستقراطية قليلة إلى دولةٍ صناعيةٍ مُتقدّمة، بل جعلها دولة عظمى مُهابة في العالم. ولستُ أظنُّ أنَّ أحدًا يُمكِنُ أن ينسى أنَّ روسيا هي أول دولة في العالم أطلقت قمرًا اصطناعيًا إلى الفضاء (سبوتنيك) في أواسط خمسينيات القرن العشرين، وأول قمر حمل حيوانًا الى الفضاء (الكلبة لايكا)، وأول رجل (يوري غاغارين)، وأول امرأة أيضًا. وإلى اليوم تُخرِّج كليات العلوم والرياضيات الروسية، أكبر عدد من الطلاب في هذه المجالات في العالم بالنسبة إلى عددِ السكان، ولا تَستَورِدُ العُلماء من الخارج.
(3) النظام الفرانكوي، الذي قام بعد الحرب الأهلية، كحالةٍ ميليشياوية في الحرب وفي السلم (كما في لبنان)، قتلَ من الشعب الإسباني، بعد حلول السلام، أكثر مما سقط في الحرب الأهلية.
فقد أعلنَ فرانكو فور انتصاره قائلًا: “صحيحٌ أنَّ الحربَ انتهت، لكنَّ العدو ما زال على قيد الحياة”. وفي السنوات الأربع التي تَلَت نهاية الحرب (1939 – 1943)، قامَ نظامُ فرانكو بعملياتِ إعدامٍ واغتيالاتٍ مُنظَّمة ذهبَ ضحيّتها نحو ربع مليون شخص من خصومه السابقين.
فقد قال الديبلوماسي والكاتب والمؤرخ الإسباني المعروف، سلفادور دي مادارياغا (رُشِّح لجائزة نوبل للأدب وجائزة نوبل للسلام): “دولةٌ عسكريةٌ في حربٍ مع شعبها، ليس كلامًا مجازيًا. إنّهُ تعريفٌ فاضِحٌ للأساسِ القانوني لدولةِ إسبانيا الراهنة” (من كتاب أنطوني بيفور “الحرب الأهلية الإسبانية”، 1982).
نعم، هناكَ أنظمةٌ تُحارِبُ شعوبها، وهي الأنظمة الميليشياوية الأصل والجذور، تقتله وتنهبه في الحرب، وتُصادِرُ معاشه وجنى عمره في السلم، كالمنشارِ يأكل ذهابًا وإيابًا.
أنظروا إلى لبنان!
:لبنان… الحَربُ الأهليَّة المُستَدامة (13)
إنَّهُم لا يَعرِفون لماذا يُقاتِلون
2024/03/11
ليسَ كلُّ المقاتلين يعرفون لماذا يُقاتِلون، بل أغلبهم لا يَعرِف. ولا أحدَ منهم يُدرِكُ أنّهُ يُقاتلُ في حربٍ لا يعرف عنها الكثير، وهو يُقاتلُ في حَربِ غيره، وأنه مجرَّدُ وقودٍ لتلك الحرب.
الكنيسةُ الكاثوليكية في إسبانيا أوهَمَت أتباعَها بأنَّهُم يُحارِبون من أجلِ المسيح. وجميعُ قادةِ الحروب الأهلية، قديمًا وحديثًا، يُعَبِّئون المقاتلين بدعاوى، أو عقائد، أو قضايا وهمية، يزعمونَ أنَّها عادلة وستكون لمصلحة المقاتلين إذا استَبسَلوا في القتال. لكنَّ المقاتلين أنفسهم لا يعرفون لماذا يُقاتلون أبناء بلدهم، ولماذا يستنجدُ قادتهم بقوى خارجية.
والبابا بيوس الثاني عشر، قال في رسالته إلى الجنرال فرانكو المُنتَصِر في الحرب الأهلية، عام 1939: “إنَّ هذا الانتصار هو الانتصار الكاثوليكي الذي ترغبه إسبانيا!”.
فالتَعبِئةُ الدينيّة هي أسهلُ وأفعَلُ أنواعِ الحَشدِ والتحريضِ للمُقاتلين البُسطاء الذين يؤمنون بجِدِّيةِ ما يُقالُ لهم من قادتهم الميدانيين، أو قادة أديانهم وطوائفهم.
ولذلك، أخذت الحربُ الأهلية اللبنانية منحى طائفيًا، بفعلِ التعبئة والحشد، وليس بفعل جوهر الموضوع. وكذلك الأمر، وعلى نطاق أوسع وأشد عنفًا في بعض البلدان العربية، مغربًا ومشرقًا، عندما انتشرت الحركات الإسلامية التكفيرية المُتطرّفة، وراحت تقتل وتُفجّر في كلِّ مكان، ظنًا من مقاتليها أنهم يُقاتلون من أجلِ دينهم وهم يقاتلون لخدمة أعدائهم.
لكنَّ كثيرين من المُضلَّلين، كما في الحرب اللبنانية، انخرطوا في القتال من أجل السرقة والنهب، وأحيانًا بمعرفة القيادات وتشجيعها لإغراء المقاتلين بالبقاء في ساحة القتال. وهذا يحدث في جميع الحروب، أهلية ونظامية، لكنَّ عملياتَ السَلبِ والنهب في لبنان انطلقت منذ البداية، من معركةِ مَرفَإِ بيروت، إلى معركة الفنادق، واحتلال وتدمير بلدة الدامور، كما وَرَدَ سابقًا. وعمليات النهب هذه، منها ما هو مُنَظَّمٌ بإشرافِ قادة الميليشيات، ومنها ما هو عشوائي يقومُ به أفرادٌ من المقاتلين على سبيل الانتفاع من الفوضى.
ولا يظنَّنَ أحدٌ أنَّ عملياتَ نهبِ ودائع اللبنانيين في المصارف، ومن خلال التلاعب بأسعار صرف العملة، تختلفُ في جوهرها عن عملياتِ النهبِ التي جرت خلال الحرب. فالمُمارساتُ الميليشياوية هي ذاتها، لأنَّ الحربَ الأهلية ما زالت مُستَمِرّة بطُرُقٍ أُخرى.
إنَّ الفئة الوحيدة التي كانت تعرِفُ لماذا جاءت تُقاتِلُ في الحرب الإسبانية، والوحيدة في تاريخ العالم، هي “السرايا الدولية للدفاع عن الجمهورية”، التي ضمَّت في غالبيتها المثقفين، والفنانين، والمُستنيرين من جميع أنحاء العالم. جاؤوا من فرنسا، وبريطانيا، وألمانيا، والنمسا، وبولندا، وأوكرانيا، وإيطاليا، وأميركا (الشمالية والجنوبية)، وتشيكوسلوفاكيا، ويوغوسلافيا، والمجر، وروسيا، والبلدان الإسكندنافية. وقد قال المُتَطَوِّعُ الأميركي ألفا بيسي لزملائه في “السرايا الدولية”: “أنتم أولُ جنودٍ في تاريخ العالم تعرفون لماذا تُقاتلون”. (من كتاب فينسنت بروم بعنوان “السرايا الدولية” الصادر عام 1965).
وعندما اقترح رئيس الوزراء الجمهوري، خوان نغرين، انسحاب “السرايا الدولية” على أملِ إنَّ ذلك يُمكِنُ أنْ يُعجِّلَ في التدخّلِ الرسمي من قبل بريطانيا وفرنسا، فخاب ظنّه، وقفت السيدة دولوريس إيباروري (الشيوعية المعروفة باسمها الحركي “لا باسيوناريا” وصاحبة الشعار الأشهر في معركة مدريد “لن يمرّوا”)، تخطبُ في السرايا الدولية المُنسَحِبة من برشلونة في 29 تشرين الأول (أكتوبر) 1938، قائلةً: “إذهبوا بفخر. أنتم التاريخ. أنتم الأسطورة. أنتم المثالُ البطولي للتضامن، ولعالمية الديموقراطية. إننا لن ننساكم، وعندما تُورِقُ أغصانُ شجرة زيتون السلام، جنبًا إلى جنبٍ مع أكاليل غار نصر الجمهورية الإسبانية… عودوا إلينا”.
:لبنان…الحَربُ الأهليَّة المُستَدامة (12)
رفيق الحريري في الحَربِ والسِلم
2024/03/10
ما التَبَسَ على اللبنانيين أمرٌ مثلما التَبَسَ عليهم اغتيال رئيس الحكومة لمرحلة ما بعد مؤتمر الطائف، رفيق الحريري، في 14 شباط (فبراير) 2005. فالرَجُلُ كانَ خارِجَ الحُكم، ولا صفةَ رسمية له، وعملية الاغتيال، في الشكل، لا تَندَرِجُ في نظريةِ “قتل الرجل الواحد لإنقاذ البلاد”، إنّما ضمن مُخَطَّط لزعزعة أمن البلاد، و”النفخ في نار الحرب الاهلية”.
هذا ما عزَّزَ احتمال أنْ تكونَ جهةٌ خارجية ضالعة في الحادث. لكنَّ الالتباساتَ السياسية والانقسامات الداخلية في ذلك الوقت لم تترك مجالًا للتفكير في الأمر من زاوية الحرب الأهلية قبل الطائف، بل حُصِرَ في إطارِ “السلم الأهلي” بعد الطائف.
ذلك أنَّ دورَ رفيق الحريري في المسألة اللبنانية لم يبدأ في مؤتمر الطائف، وإن كان بدا كذلك لكثيرين من اللبنانيين. وهذه نقطة خلافية مهمَّة، تُظهِرُ فجوةً كبيرةً من الالتباس، بينَ أن يكونَ حضورُه في السياسة من خارجِ الطبقةِ السياسية اللبنانية التقليدية، محمولًا على موجةِ “السلم الأهلي”، أو على موجةِ “الحرب الأهلية”.
في أواسطِ تسعينيات القرن الماضي، وكنتُ أُصدُرُ جريدة “الميزان” من لندن، كتبتُ مقالًا في محاولةٍ لتوضيح هذا الالتباس، عنوانه: “لم يفهم اللبنانيون دور الحريري في الحرب فأساؤوا فهمه في السلم”. ومن غَيرِ المُستَبعَدِ أن يكونَ ذلك الالتباس مقصودًا، لأنَّ وَضعَ الحريري، في حياته السياسية بعد الطائف، وفي إزالته من الوجود ضمن إطارِ الحرب الأهلية، من شأنه أن يُضعِفَ دوره في السلم الأهلي، وهالته الوافدة معه على وقع الطائف كرجلِ سلامٍ وإنماءٍ وإعمار.
كنتُ في بيروت خلال النصف الأول من العام 1983، (بين اغتيال بشير الجميل وتفجير السفارة الاميركية في عين المريسة)، وشاهدتُ جرّافاتٍ وشاحناتٍ كبيرة تقوم بعمليةِ تنظيف الرُكام من وسط بيروت رُفِعَت عليها صور العاهل السعودي آنذاك الملك فهد بن عبد العزيز، وقيل إن رفيق الحريري هو مُتَعَهِّدُ ذلك المشروع، بصفته من المُقرَّبين إلى الملك فهد ومحلّ ثقته. وقد عُجِبتُ لعمليةِ التنظيف تلك لمُخَلّفات دمار الحرب قبل انتهاء الحرب، واندلاعِ مرحلةٍ جديدة وخطيرة منها في الجبل فور الانسحاب الاسرائيلي من بيروت ومناطق لبنانية أُخرى إلى الشريط الحدودي في الجنوب. فاتصلتُ بالصديق الراحل محمد عطالله، رئيس مجلس الإنماء والإعمار في ذلك الوقت، مُستَوضِحًا الأمر فلَمَستُ أنَّ لديه ضيقًا من الضجّةِ الدعائية لعمليات التنظيف تلك، فقال لي بالحرف: “ما بَدّها هَلقَد، هذه شَغلِة البَلَدِيّة”.
أليسَ مُلفِتًا تنظيفُ رُكامِ الحرب من بيروت قبل سبعِ سنواتٍ من مؤتمر الطائف وانتهاءِ العمليات الحربية؟
قد يكونُ ذلك من قبيل التغطية على دَورٍ آخر خَفِيّ في الحرب بتنظيف مُخلّفاتها باكرًا، تمهيدًا لدورٍ أكبر في إنهائها تاليًا، يُرادُ منها طمسُ شيءٍ ما وكتابة تاريخٍ جديد على صفحةٍ بيضاء.
غالبية الذين كتبوا عن الحرب الأهلية اللبنانية، من لبنانيين وأجانب، إنْ لم يكن كلّهم، لم تتطرّق إلى مسألةِ تمويلِ أُمراءِ الحرب وتموينهم. وجميع مؤرِّخي الحروب الأهلية يعرفون أنَّ المالَ هو العَصَبُ الأشَدّ في الحرب، ويفوق السلاح في أهمّيته. فالسلاحُ لا يُمكِنُ أن يَفعَلَ فعله من غير رفده بالمال. فقد عرَّفَ أحد الزملاء الثورة الفلسطينية أثناءَ وجودِ ياسر عرفات في لبنان وانخراطه في الحرب الأهلية اللبنانية بأنّها “مالٌ وسلاح”.
في صيف 1983، مَرَّ بنا إلى مكاتب مجلة “الحوادث” في لندن الصحافي الأميركي المعروف جوناثان راندال، بعد صدور كتابه عن الحرب اللبنانية بعنوان “مأساة لبنان”، وقال لنا إنه عمل قصارى جهده ليفهم الحالة اللبنانية، لكنّه مع ذلك يشعرُ بأنه ما زال مُقَصِّرًا عن فهمها، وأنه مهما حاولَ المُهتَمّون الأجانب بالوصول إلى كنهها، فإنَّ ذلك لا يحلُّ محلَّ قيام كتّاب لبنانيين بكتابةِ حقيقةِ قضيّة بلادهم وشعبهم. وقد تناقشنا معه في الموضوع أكثر من ساعتين، وهو يصرُّ على أنَّ فَهمَ الموضوع اللبناني ما زالَ ناقصًا، (أظنُّ أنه وقتئذ كان يعمل في جريدة “واشنطن بوست”).
واليوم نُدركُ أنَّ الفهمَ العالمي، والعربي، وحتى اللبناني، للمسألة اللبنانية، في إطار “الحرب الأهلية المُستدامة” ما زال ناقصًا. ويكفي إلقاء نظرة على كيفية تشكيل المحكمة الدولية الخاصة بلبنان للنظر في جريمة اغتيال رفيق الحريري، والكلفة الباهظة التي تكبّدها الشعب اللبناني، لقاء تلك المسرحية الفاشلة، لمعرفةِ المَقصودِ بالنقص في فَهمِ المسألة اللبنانية. وقد فاقم ذلك النقص تغاضي المسؤولين اللبنانيين عن المخالفات القانونية والدستورية في تمرير مشروع المحكمة الدولية وتكاليفها الباهظة، من شارل رزق وفؤاد السنيورة، إلى المُطالبين بتشكيل المحكمة تحت البند السابع الذي يسمح بالتدخّل العسكري الدولي.
لا أحدَ أراد أنْ ينظرَ إلى رفيق الحريري على أنّهُ ضحيةٌ من ضحايا الحرب الأهلية لأنّهُ كانَ مُشارِكًا فيها من وراءِ الستار بتمويلِ أمراءِ الحرب نيابةً عن جهاتٍ خارجية، وليس من ماله الخاص. أرادوا فقط إظهاره بمظهر “بطل السلم الأهلي”، و”عرَّاب مؤتمر الطائف”، وهي عملية ترجمتُها الحقيقية نقل السلطة في لبنان من أيدي طبقة سياسية انتهت صلاحيتها إلى المليشيات وأمراء الحرب، مُكافأةً لهم على قيامهم بالمهام المُناطة بهم، على قاعدة “مَن صَنَعَ الحرب هو الذي يصنع السلم”.
وعملية التمويل تلك كانت أوسع نطاقًا مما يظنُّ معظم اللبنانيين، فهي لم تقتصر على جهةٍ مُحَدَّدة، بل شملت جميع الميليشيات المتقاتلة، يمينًا ويسارًا، وشملت جهات سورية مُتعاطية في الشأن اللبناني، والقوى المسلحة الفلسطينية، ومسؤولين وموظفين في الدولة، وشملت وسائل إعلام وإعلاميين، وصولًا إلى تمويلِ دراسة الطلاب في الخارج.
ولذلك، لا توجَدُ أيّ دراسةٍ جدّية عن كيفية، ومصادر، تمويل الحرب الأهلية اللبنانية، كما هو الحال بالنسبة إلى الحرب الأهلية الإسبانية مثلًا، حيث يستطيع الدارسون أن يعرفوا بالضبط ماذا قدم ستالين للجمهوريين اليساريين، وماذا قَدّم هتلر وموسوليني لقوات فرانكو اليمينية.
لبنان… الحَربُ الأهليَّة المُستَدامة (11)
نَظَرِيَّةُ قَتلِ رَجُلٍ واحِد
2024/03/09
مُنذُ أقدَمِ الأزمِنة كانَت النزاعاتُ التَسَلُّطِيّة الديكتاتورية لبَعضِ الزُعماءِ والحُكّام من أسبابِ الحروبِ الأهليّة. وقد بَرَزَ ذلكَ بشكلٍ واضحٍ في الجمهورية الرومانية خلال القرن الأوّل قبل الميلاد، بسبب الحروب التوسّعية في الخارج، وبروز النزعة السلطوية لدى القادة العسكريين المُنتَصِرين في تلك الحروب.
أوّلُ هذه الظواهر تمثّلَت في شخصِ لوسيوس كورنيليوس سولا، المعروف بالديكتاتور سولا، الذي انتُخِبَ قُنصُلًا مرَّتَين، ثم عُيِّنَ من مجلس الشيوخ الروماني، ديكتاتورًا مُطلَق الصلاحية (82 – 80 قبل الميلاد) ليَحسُمَ عسكريًا أوّلَ حَربٍ اهلية رومانية قامت لأسبابٍ اجتماعية ضدّ أصحابِ الأملاك الزراعية الواسعة، فأنهى تلك الحرب من طريق الجيش الذي كانَ مُحَرَّمًا عليه دخول مدينة روما. لكن سولا خَرَقَ هذه القاعدة التاريخية، ودخلَ بعسكره إلى المدينة لأوّلِ مرّة، وقامَ بتصفيةٍ جسدية لزعماء الطبقة السياسية الحاكمة. فكانَ كلّ صباحٍ يُعلِّقُ لائحةً بأسماءِ السياسيين المطلوبين للمُساءَلة ويقومُ بإعدامهم. فصارَ أهالي المدينة يهرعون في الصباح إلى ساحة الكابيتول، حيث مجلس الشيوخ، بدافعِ الفضول ليعرفوا أسماءَ المطلوبين كل يوم. وقد شملت تلك التصفيات أكثر من 600 شخص من السياسيين والنافذين، (كان يوليوس قيصر وقت تلك التصفيات في العشرينات من عمره وما زالَ مُبتدِئًا في العمل السياسي، فحيَّد نفسه وغادر روما إلى بيت جدته في الأرياف بعيدًا من الأنظار).
ومن غرائبِ الأمور، أنَّ سولا هو القنصل السابق الوحيد في تلك الحقبة الذي مات موتًا طبيعيًا في فراشه!
حُسِمَت تلكَ الحرب الأهلية بالقوة، لكنها لم تَحسُم دور القوة في تأجيج الحرب، ولا حَسَمَت الأسبابَ الحقيقية لتجدُّدها، فبقيت نارُها تحت الرماد.
وعندما جاء يوليوس قيصر إلى الحُكم، وظهرت عليه علائم الرغبة في التَسَلّط، خَشِيَ بعضُ كبارِ أعضاءِ مجلس الشيوخ، أمثال ماركوس يونيوس بروتوس وغايوس كاسيوس لونغينوس، أن تتكرّرَ تجربة سولا، فتآمرَ لقتله داخل المجلس على قاعدةِ “إنَّ قتلَ رجلٍ واحدٍ يمنع قتل البلاد كلّها”. لكنَّ قتلَ هذا الرجل الواحد، كما حدث تاليًا، أثارَ حَربَين أهليتَين مُتتاليتين، إضافةً إلى الحرب الأهلية السابقة، بين يوليوس قيصر وصهره السابق الجنرال بومبيوس الكبير، وقد حَسَمَها يوليوس قيصر لصالحه في معركة “فرزاليا” المشهورة، وهي التي أدّت إلى محاولة تفرّده بالسلطة.
نَظَرِيَّةُ حَلِّ المشكلة بقتلِ رجلٍ واحدٍ أعطت مفعولًا عكسيًا مُضاعَفًاً. لقد أدّت إلى حَربَين أهليتَين لا إلى حَربٍ واحدة، وأدّت أيضًا إلى سقوطِ الجمهورية وقيامِ نظامٍ إمبراطوري ديكتاتوري دامَ مئات السنين، مِن حُكمِ أغسطس قيصر قبيل ميلاد المسيح بسنوات قليلة، إلى سقوط القسطنطينية بأيدي العُثمانيين في القرن الخامس عشر الميلادي.
ومُنذُ ذلك الوقت، لم يَتَوَقَّف الجَدَلُ حولَ “نظرية قتل الرجل الواحد” كوسيلةٍ لمَنعِ قَتلِ البلاد كلّها.
وهذا الجدلُ زادَت حدّته تاليًا في أوروبا منذ قيام الأنظمة الملكية بالحق الإلهي. فلننظر إلى ما قاله ملك بريطانيا جيمس الأوّل أمام البرلمان يوم 21 آذار (مارس) من العام 1610: “إنَّ الملوكَ يُدعَون آلهة بحق، لأنهم يمارسون ما يشبه السلطة المُقدّسة على الأرض. فإذا نظرتم في خصائل الله، سوفَ ترون أنها تتوافق مع مزايا شخص الملك. فالله له القدرة على الخلق وعلى التدمير، وله أن يُقيمَ وأنْ يُزيلَ كما يشاء، أن يَهِبَ الحياة أو أن يُسلّطَ الموت، يُدينُ الجميع ولا يَخضَع لدينونةٍ من أحد، يُعلي مَن يشاء ويُخفِّض مَن يشاء بغيرِ حسابٍ وعلى هواه. وهذه أيضًا هي سلطة الملوك”.
ولهذا تَكَرَّرَ الجَدَلُ حول “نظرية قتل الرجل الواحد” في الحرب الأهلية الإنكليزية بعد إعدام الملك تشارلز الأول، وانطلاق الحروب الأهلية الإنكليزية التي امتدت قرابة ربع قرن (1625 – 1649).
ففي العام 1628 قامَ ضابطٌ في جيشِ دوق باكنغهام الأوّل (جورج فيليير) بقتل سيّده الدوق بطعنه أمام الملأ مُبَرِّرًا جريمته بالقول: “ظننتُ أنه من الأفضل أن يموتَ رجلٌ واحد، من أن تذهبَ إنكلترا كلّها إلى الخراب”. وقد جاء في المراجع البريطانية لتلك الحقبة، إنه من أسباب ذلك انتشار أفكار مؤدّاها أنَّ النبلاء يمارسون سلطةً مفرطة، ويُسيئون استخدامَ تلك السلطة، وهذا هو السبب الرئيس للشرور والأخطار التي تُحيقُ بالملك وبالمملكة.
ولذلك، فإنَّ الحروبَ الأهلية ليست حالةً بسيطة تُعالَج بالتسويات المُرَقَّعة القائمة على مَصالحِ المُتحاربين دونما اعتبار لمصالح الشعب والأمة، كما حدث في لبنان فختم جرح حربه الأهلية على زغل، وخلافا للحروب الاهلية المماثلة، فإنَّ الحربَ اللبنانية مُستدامة، ودوامُها مُرتَبِطٌ بالتسويات، المتعمد فيها الإبقاء على جذور الحرب حيَّة، تأسيسًا لحربٍ جديدة متى حانَ وقتها.
:لبنان… الحَربُ الأهليَّة المُستَدامة (10)
“غرنيكا المُخَلَّدة“ و”الدامور المَنسِيَّة”
المُقارناتُ والمُفارَقاتُ بين حَربِ الإسبان الأهليّة وحَربِ اللبنانيين لا تنتهي.
وقد يكونُ تَدميرُ بلدة “غرنيكا” (Guernica)، في إقليم الباسك، يتساوى في الفعلِ والنتيجةِ مع تَدميرِ بلدةِ الدامور الساحلية في الشوف اللبناني. والبلدتان، إلى ذلك، تتساويان أيضًا في الحَجمِ والمَكانَةِ الاستراتيجية.
في ليلة 26 نيسان (إبريل) من العام 1937 قامت أسرابٌ من سلاحِ الجوِّ الألماني النازي، مع مشاركةٍ من سلاحِ الجوِّ الإيطالي الفاشي، بغاراتٍ مُتواصِلة على بلدةِ “غرنيكا” الإسبانية فدمَّرَتها تدميرًا كاملًا، وقتلت أكثر من ألفٍ من سكانها، وتركتها قاعًا صفصفًا. ذلك أنَّ “غرنيكا” كانت مَعقلًا جمهوريًا تتحكّمُ بالاتصالات والمواصلات اللازمة للجمهوريين مع الخارج. وإزالة تلك البلدة من الوجود مكَّنت “كتائب” الجنرال فرانكو من السيطرة على مدينة بيلباو القريبة، وتاليًا على شمال إسبانيا بكامله. وقد أنكرَ فرانكو قيامَ الطيران الألماني النازي والإيطالي الفاشي بتدمير البلدة، ونسبَ ذلك إلى القوات الجمهورية التي زَعَمَ أنها دمّرتها وهي تنسحبُ منها. وبقيت هذه القصة مَكتومَةً ومُلتَبِسَةً على الصعيدِ الرسمي، إلى أن اعترفت بذلك الحكومة الإسبانية في العام 1999، أي بعد مَضيِّ 62 سنة على تلك الواقعة.
أمّا بلدة الدامور اللبنانية، وسكانها جميعًا من المسيحيين، فهي أيضًا في موقعٍ استراتيجي يَتَحَكّمُ بالمواصلات بين بيروت والجنوب، وبين الساحل والجبل، وتقع في منطقة نفوذ الزعيم الدرزي كمال جنبلاط، قائد الحركة الوطنية، المُتحالفة مع قوى الثورة الفلسطينية. وفي شهر كانون الثاني (يناير) من العام 1976 قامت قوّاتٌ من الحركة الوطنية والقوات الفلسطينية بمهاجمةِ الدامور وتدميرها وقتل عدد غير معروف من سكانها، واضطرار الناجين من الأهالي إلى الهروب بحرًا بملابسهم فقط إلى أماكن آمنة، لأنَّ المواصلات البرّية كانت مقطوعة.
كُنتُ وقتها ما زِلتُ في لبنان ومررتُ بالدامور المُدَمَّرة ثلاث مرات وأنا في طريقي مِن وإلى البقاع عبر الطريق الجبلي بين صيدا وجزين. وقد رأيتُ بعينَيَّ حَجمَ الدمارِ الشامل الذي حَلَّ بها، حيثُ لم يترك المهاجمون شيئًا لم ينهبوه حتى بلاط وقرميد المنازل، والإطارات الخشبية للأبواب والمراحيض، والمُقتنيات التي لم يحمل منها أصحابها شيئًا أثناء فرارهم بأرواحهم.
وقفتُ أتأمّلُ ذلك المشهد السوريالي، الذي يفوق الوصف، وخَطَرَ لي أنَّ إعصارًا أو زلزالًا قد ضَرَبَ المدينة، أو أنَّها تعرَّضَت لغاراتٍ جوِّية مُدَمِّرة كتلك التي تعرّضَت لها بلدة “غورنيكا” الإسبانية قبل أقل من أربعة عقود.
وكما في تَدميرِ “غورنيكا” الإسبانية، كذلك في تَدمِيرِ الدامور اللبنانية، أُبقِيَ الأمرُ مُلتبسًا من حيثُ تَجهيلِ الفاعل. فقد قيلَ انَّ القوّاتَ الجنبلاطية، المدعومة بقوّاتٍ فلسطينية، هي التي فعلت ذلك، ثُمَّ قيلَ إنَّ الفاعِلَ هو قوَّاتُ منظمة “الصاعقة” الفلسطينية الموالية للنظام السوري، الذي كان حينها على خلافٍ مع الجنبلاطيين.
في إسبانيا، على الأقل، كَشَفَت الحكومة رسميًا بعد ستين سنة عن الفاعلِ الحقيقي، لكن في لبنان لم تَكشُف أيُّ جهّةٍ رسمية أو دولية عن هوِّية الفاعل، فبقي معروفًا ومجهولًا في الوقت ذاته، كما كان في اسبانيا حتى نهاية القرن العشرين.
“غرنيكا” الإسبانية تخلَّدت، بينما الدامور اللبنانية طُمِسَت. “غرنيكا” خَلّدها الرسام المشهور بابلو بيكاسو بلوحةٍ رائعة تحمل اسم البلدة المنكوبة، هي الآن في مدريد موطنها الأصلي. والرسّام بيكاسو كان أوّلَ مَن اتَّهَمَ الألمان النازيين بتلك الفعلة الشنيعة.
بعدَ الاحتلال الألماني لفرنسا عام 1939، زاره في محترفه في باريس ضابطٌ كبيرٌ في جهاز “غيستابو” النازي راغبًا في اقتناءِ لوحةٍ من لوحاته، وفي رُكنِ المُحتَرَف رأى الضابطُ لوحة “غرنيكا”، فراحَ يتأمّلها، ولم يطلبها. واسترعى ذلك انتباه بيكاسو فبادَرَ الضابط: “أنتم فعلتموها.. أليس كذلك؟”.
رَسَم الضابطُ على شفتيه ابتسامةً وَشَتْ بموافقته على كلام الرسام الإسباني.
وشعرَ بيكاسو أنَّ لوحته العظيمة تلك لن تكونَ آمنةً في إسبانيا بعد انتصارِ فرانكو في الحرب الأهلية، ولن تكونَ آمنة في أوروبا بعد الاحتلال النازي، فأرسلها إلى الولايات المتحدة حيث عُرِضت لأوّلِ مرة في نيويورك.
وإلى جانب لوحة بيكاسو، خلَّدها الرسام الفرنسي رينيه ماغريت بلوحةٍ سمّاها “العلم الأسود”. وكذلك فعل النحَّات الألماني هاينز كيفيتز، المُتَطوِّع في السرايا الدولية المُناصرة للجمهوريين، بحفريةٍ على الخشب، وقد استشهد في المعارك هناك. ونحَّاتون آخرون نحتوا لها التماثيل التذكارية، وشعراء نظموا فيها القصائد، وأشهرها قصيدة بول إيلوار بعنوان “انتصار غرنيكا”، وخلدها موسيقيون أمثال باتريك أسيون وأوكتافيو فاسكيس. وكذلك فعل سينمائيون أمثال ألن رازنيه في فيلم قصير أنتجه في العام 1950 بعنوان “غرنيكا” أيضًا.
لكن أيًا من ذلك لم يحدث بالنسبة إلى الدامور اللبنانية، لا شاعر لبناني أو غير لبنانيٍّ نظم فيها قصيدة، ولا نحَّات نحتَ لها تمثالًا على حجر أو خشب، ولا رسَّام رسم لها لوحة على ورق أو قماش، ولا موسيقي ألّفَ لها مقطوعة، ولو للذكرى، ولا سينمائي فَكّرَ في إخراجِ فيلمٍ رمزيٍّ أو وثائقيٍّ عنها كمجرّد سجلٍّ تاريخي يُمكِنُ الرجوع إليه.
مَرَّ تدميرُ الدامور مرَّا عابرًا بدون أيِّ تذكار، وكأنه حادثُ سير، أو عاصفةٌ من البحر.
.ولذلك فإنَّ الحَربَ الأهلية الإسبانية ذهبت إلى غيرِ رجعة، بعدما تصالح الإسبان مع أنفسهم. وبقيت الحربُ الأهلية اللبنانية مُستَعِرةً ومُتَجَدِّدة بطُرُقٍ مختلفة، لأنها تقوم على قاعدة الإنكار والنفاق، والتكاذب بين المُتحاربين، فلا مساحة فيها للمُراجعة، أو المُصارحة، أو المُصالحة والاعتراف.
لبنان… الحَربُ الأهليَّة المُستَدامة (9)
الحِيادُ لا يُوقِفُ الحَرب
2024/03/07
في الحروبِ التي يَعتَبِرُها كبارُ المُثَقَّفين، والفنّانين، والكتَّاب، والمُفكّرين “قضايا عادلة”، تَتَشَكَّلُ من خلالِ أفكارهم حالةٌ رومانسية واسعة قادرة على الاستقطاب.
فالمُثقّفون، ومُعظَمُ الكُتَّابِ في الغرب، استفزّتهم مواقفُ حكوماتهم الداعية إلى الحيادِ في الحَربِ الأهلية الإسبانية، مع أنَّ استقصاءً للرأي العام في الولايات المتحدة أظهر أنَّ 87 في المئة من الأميركيين يؤيّدون الجمهوريين الإسبان. لكنَّ الرئيس فرانكلين روزفلت، الذي كان يصغي لتوجّهات الرأي العام، فشلَ في إقناع الكونغرس بتأييدِ الجمهوريين في الحرب الإسبانية
.“أمّا حكومة ليون بلوم الاشتراكية في فرنسا، فقد كانت في طليعة الداعين إلى الحياد، وكان رئيس الحكومة الفرنسية نفسه موضع سخرية في مجلس النواب عندما بَرَّر موقفه بالقول: “إنَّ الحيادَ يَمنعُ الحرب”.
ونتيجةً لذلك تشكَّلت في 52 دولة في العالم، من بينها فرنسا وبريطانيا وأميركا، ما سُمِّي “السرايا الدولية لنصرة الجمهورية الإسبانية”، بلغ عديدها 36 ألفًا من المُتَطَوِّعين للقتال إلى جانب الجمهوريين، بينهم أسماء كبيرة من الكتَّاب والفنانين، أمثال جورج اورويل البريطاني، وأرنست همنغواي الأميركي، وأندريه مالرو الفرنسي (كما انتجت هوليوود أفلامًا عدة خالدة حول الموضوع. (وكان بين المتطوِّعين نحو سبعة آلاف من المُثقّفين اليهود الهاربين من ألمانيا النازية).
ويَذكُرُ اللبنانيون، عشيّة حرب فلسطين، في أربعينيات القرن العشرين، كيف تَشكَّلَ “جيش الإنقاذ” بقيادة فوزي القاوقجي، وضَمَّ مُتَطَوِّعين من لبنان وسوريا، وبعض الدول العربية الأخرى، للقتال ضدّ العصابات الصهيونية في فلسطين، خارج إطار الجيوش العربية النظامية المُشارِكة في تلك الحرب.
فالقضايا العادلة، وإن كانت خاسرة في كثيرٍ من الأحيان، جاذبةٌ بطبيعتها لأهلِ الفكرِ والإنصاف إلى درجةٍ تَحمُلهم على التطوُّع للقتال في سبيلها. وهذا ما كان من أمر القضية الفلسطينية التي جذبت، في بداية الحرب الصهيونية لاغتصاب فلسطين الكثيرين في العالمَين العربي والإسلامي، كما بعض الأوساط الأوروبية.
هذا الإرث من النصرة الواسعة للقضية الفلسطينية، انسحبَ أيضًا على الوجودِ الفلسطيني في لبنان، حتى بَعدَ انقلابِ أجندةِ الثورة الفلسطينية من ” تحريرية لكامل التراب الفلسطيني” إلى “تسوية تقبل بأيِّ أرضٍ من فلسطين تتخلّى عنها إسرائيل في المفاوضات”.
ولذلك، لم يَنظُر العالمُ الخارجي إلى القضية اللبنانية، في المُقابل، على أنّها “قضية عادلة”، بل جرى تظهيرها على أنها “حالة عدوانية ضد الفلسطينيين وقضيتهم”، على الرُغمِ من جميع التضحيات التي قدّمها اللبنانيون في سبيل القضية الفلسطينية من أيام نجيب نصار في مطلع القرن العشرين إلى أيام فوزي القاوقجي في منتصفه، ثم في أيام ياسر عرفات أيضًا.
وكثيرون في الخارج، وفي لبنان أيضًا، لم يلحَظوا تحول الثورة الفلسطينية من التحرير الى التسوية، وبالتالي فاتهم أنَّ “حالة التسوية”، في ظلِّ هيمنة السلاح الفلسطيني، هي قَطعًا ستكون على حساب لبنان، وربما على حساب غيره أيضًا.
فمُعادَلَةُ التسوية تضمُّ خمسة شعوب وأربعة أقطار (لبنان، سوريا، الأردن، فلسطين)، وشعوبُ هذه الأقطار يضافُ إليها الشعب اليهودي في فلسطين المحتلّة.
فالتسويةُ المنشودةُ من الثورة الفلسطينية، لن تكون كلّها، أو معظمها، على حساب الفريق الإسرائيلي المُعتَدي أو المُحتَل، وبالتالي فإنّها بالضرورة سوف تكون على حساب الدول العربية المُحيطة بفلسطين، والتي تضمُّ أعدادًا كبيرة من اللاجئين الفلسطينيين المطلوب توطينُهم حيث هُمّ.
والذين هرعوا من الخارج، للقتال إلى جانب الثورة الفلسطينية في لبنان، وغالبيتهم ليست من المُثقّفين، كما في الحالة الإسبانية، كانوا غافلين بالفعل عن التوجّه إلى التسوية، فراحوا يُقاتلون من أجلها وهم يعتقدون أنهم يحاربون من أجل تحرير فلسطين. ولذلك لم تَجِد القضية اللبنانية آذانًا صاغية لا في العالم العربي ولا في بقيّة العالم.
ويجب أن يُقالَ أيضًا إنَّ اللبنانيين الذين تصدّوا للوجود الفلسطيني المُسَلَّح، المُتحالِف مع قوى لبنانية وازنة لها أجندتها الخاصة التي لا علاقة لها بفلسطين والقضية الفلسطينية، غلبت عليهم النزعة الفاشية الدموية، فكان ذلك مانعًا أمامَ إقناعِ العالم الخارجي بمنطقهم ومُنطلقاتهم، إن لم يكن بعدالة قضيتهم، فظهروا أمام العالم وكأنهم ينكرون عدالة القضية الفلسطينية التي تَنَكَّرَ لها دُعاةُ التسوية من الفلسطينيين أنفسهم حتى في عزِّ الحرب اللبنانية.
كم من الالتباسات والغشاوات تراكمت في أذهان اللبنانيين، وما زالت تتراكم، إلى درجةٍ أنَّ إسرائيل استخدمتهم للوصول إلى تسويةٍ مع الفلسطينيين، ومَن يدري ربّما تنجح مرة ثانية في استخدامهم للوصول إلى تسوياتٍ مُماثلة مع غير الفلسطينيين!
:لبنان… الحَربُ الأهليَّة المُستَدامة (8)
ذَرائعُ الحَرب
2024/03/06
.كما إنَّ لكُلِّ حركةٍ في العالم أسبابها، فللحروبِ أيضًا مُسَبّباتها التي تكونُ في أحيانٍ كثيرةٍ مُفتَعَلة، وتُشكّلُ ذريعةً للفِعلِ أو للحَرب، ولا يعني هذا عدم وجودِ أسبابٍ جوهريةٍ تُبَرِّرُها، أو تُطلِقُ دينامِيَّتها.
إنَّ الأسبابَ المُباشرة هي هذه: في الحربِ الإسبانية، مثلًا، لم يكن فوزُ الجمهوريين الشيوعيين والاشتراكيين في انتخابات 1936 هو سببَ الحَرب الفعلي، إنّما هو السبب المباشر. أمّا السبب الفعلي فهو وجود القوى اليسارية ذاتها، مما أَطلَقَ عجلةَ الصراعِ الطبقي، مع الإقطاعِ الزراعي، ومع الكنيسة الكاثوليكية ..الداعمة للطبقات العُليا والمدعومة منها.
ومن أسبابها الحقيقية أيضًا التحوّلات السياسية، والاقتصادية، والعسكرية، الناشئة في الإقليم المُجاور لإسبانيا، بعد الحرب العالمية الأولى، مثل الفاشية الإيطالية بقيادة موسوليني، والنازية الهتلرية في ألمانيا، وصراعهما مع “الشيوعية الستالينية” ومع “الانكلوسكسونية” التي كانت، وما زالت، تُهَيمِنُ على العالم بقيادة بريطانيا ثم الولايات المتحدة.
وكذلك الأمرُ بالنسبةِ إلى الحربِ الأهلية اللبنانية. فالهجومُ الكتائبي على بوسطة عين الرمانة ليس هو السببَ الفعلي للحرب، لكنّه السببُ المُباشِر، أو الفتيل الذي أطلقَ الحربَ من عقالها. أمّا الأسبابُ الفعلية وغير المُباشِرة في اندلاع الحرب فهي عديدةٌ ومُتَشَعِّبة، أبرزها، بالنسبةِ إلى شريحةٍ تأسيسية واسعة من اللبنانيين، التهديد الوجودي للبنان بفعل وجود الكفاح الفلسطيني المُسَلَّح، وانتشاره على كاملِ الأراضي اللبنانية، خلافًا حتى للاتفاقية المعقودة مع الدولة اللبنانية، والمعروفة باسم “اتفاقية القاهرة”، التي سمحت بوجود السلاح الفلسطيني في مناطق جنوبية مُحَدَّدة ومُحاذية لفلسطين المُحتَلّة.
لكنَّ الأمرَ لم يَقتَصِر على هذا التجاوزِ الخطير، بل تعدَّاهُ إلى أمرَين كلُّ واحدٍ منهما يؤدّي إلى الصراع الأهلي. الأوّل، هو امتدادُ انتشارِ السلاحِ الفلسطيني إلى أيدي جماعاتٍ لبنانية في مُختَلَفِ المحافظات، وإلى أيدي جماعاتٍ وافدةٍ إلى لبنان من الخارج بحجّةِ دَعمِ الثورة الفلسطينية. والثاني، استقواءُ تجمّعاتٍ لبنانية بالثورة الفلسطينية لقَلبِ الموازين الداخلية التاريخية، وأبرزها “الحركة الوطنية” بقيادة الزعيم الدرزي الاشتراكي كمال جنبلاط.
والجديرُ بالذِكرِ هنا، على سَبيلِ المُقارنة، أنَّ “الحركة الوطنية اللبنانية” كانت أطلقت برنامجًا إصلاحيًا لتغييرِ الأوضاع القائمة في لبنان آنذاك، يُشبِهُ برنامجَ القوى الجمهورية الاشتراكية في إسبانيا، الذي حظي بدَعمِ الأحزاب الشيوعية في الدول المجاورة، ودعم الاتحاد السوفياتي نفسه بصورةٍ علنية. وهناكَ ما يدلُّ أيضًا على دَعمِ موسكو للحركة الوطنية اللبنانية وقائدها كمال جنبلاط الذي كان يحملُ أرفعَ وسامٍ سوفياتي في ذلك الوقت وهو “وسام لينين”.
وكُنتُ ذكرتُ في كتاب سيرتي الذاتية “علامات الدرب”، الصادر مطلع العام 2013، أنَّ صديقًا للرئيس اللبناني الراحل الياس سركيس أبلغني أنَّ المُسَلَّحين الفلسطينيين في الجنوب اللبناني كانوا يُطلِقونَ الصواريخ باتجاهِ فلسطين المحتلة من جوارِ المدن والقرى الآهلة، ظنًاً منهم أنَّ ذلكَ يَردَعُ إسرائيل عن ضربِ تلك البلدات خشية ردود الفعل الإعلامية حول العالم. لكن ذلك لم يَردَع إسرائيل عن توجيهِ ضربةٍ قاسيةٍ إلى مدينة النبطية وجوارها، فقام الرئيس الياس سركيس باستدعاء ياسر عرفات قائد الثورة الفلسطينية طالبًا منه أنْ يُوقِفَ مثل هذه التكتيكات، لا سيما أنَّ في الجنوب مناطقَ جبلية وأوديةً كثيرة غير آهلة يُمكنه التحرّك فيها ومنها بحرية، فأجابه عرفات، حسب الرواية، “النبطية ليست أحسن من حيفا”. فردَّ عليه الرئيس سركيس بقوله له: “يعني إذا راحت حيفا، فهل من الضروري ان تروح النبطية. نعم، انا بصفتي رئيسًا للبنان، مؤتمنًا على وحدة أراضيه، أقول لك أنَّ النبطية عندي أغلى من حيفا”.
.لمشكلة هنا أنَّ الثورةَ الفلسطينية بقيادة ياسر عرفات استهترت بحقوقِ وأنظمةِ الدولِ المُحيطة بفلسطين المحتلة، لا سيما منها لبنان الذي كان الوحيد الذي قدَّم لها قواعدَ ثابتة على الأرض.
:وربّما كان ذلك الاستهتارُ المدمِّرُ حالةً نفسانية وصفها الشاعر الأردني مصطفى وهبه التل (المعروف بلقبه “عرار”) بقوله:
“إنَّ الذي تُسبى مواطنه تَحِلُّ له السبيَّة”.
.ي إنَّ الذي يَفقُدُ وطنه لا يُبالي بفقدانِ الآخرين لأوطانهم.
لبنان… الحَربُ الأهليَّة المُستَدامة (7)
خبثُ الغربِ في التغييرِ الديموغرافي
2024/03/05
من المُلفِتِ أنَّ مواقِفَ الدولِ المُصَنَّفة ديموقراطية في الغرب، وأهمّها الولايات المتحدة الأميركية، وبريطانيا، وفرنسا، كانت مُلتَبِسةً في الحرب الإسبانية، وكذلك في الحرب اللبنانية. وإذا سُمِعَ لها صوت، فقد كان صوتًا خافتًا، وفي بعض الأحيان صوتًا شامتًا مُتَهَكِّمًا، كما رأينا في تعليق البريطاني راندولف تشرشل على الحرب الإسبانية بوصفه التحقيري للمتقاتلين بأنهم “داغوس” يفتكون ببعضهم البعض. أو كما نُسِبَ إلى المبعوث الأميركي الى بيروت خلال الحرب اللبنانية، دين براون، قوله لأقطاب “الجبهة اللبنانية”: “ها هي سفن اسطولنا في البحر جاهزة فارحلوا”.
وقد كان من السذاجة أن تُعَوِّلَ القوى الجمهورية الإسبانية على دول الغرب لمجرّدِ اعتبارِها دولًا ديموقراطية، فالمسألة الديموقراطية هي آخرُ همّها. ذلك أنَّ العواصِمَ الغربية، واشنطن ولندن وباريس، كانت تنظرُ إلى الجمهوريين الإسبان على انهم “شيوعيون ماركسيون موالون للاتحاد السوفياتي”، لأنهم كانوا يتلقّون مساعداتٍ علنيّة من حكومة ستالين في موسكو، ومن الأحزاب الشيوعية الأوروبية، وأقواها في ذلك الوقت الحزب الشيوعي الفرنسي، والحزب الشيوعي الإيطالي.
أمّا في لبنان، فإنَّ الأجندة الغربية، وخصوصًا الأميركية، كانت وما زالت، توطين اللاجئين الفلسطينيين، كما هي اليوم توطين النازحين السوريين أيضًا. وهذا من الأدِلّةِ القويّةِ على أنَّ الحربَ الأهلية اللبنانية ما زالت قائمة بطُرُقٍ أُخرى، كما نُشاهِدُ على المسرح السياسي، والاقتصادي، والمالي، والنقدي، حيث يجري إفقار الشعب اللبناني بصورةٍ مُمَنهَجة.
وقد جاءَ في تقريرٍ لوكالةِ الاستخبارات المركزية الأميركية (سي آي إيه) حَولَ مُعَدّلاتِ الإنجابِ والوفيات، وحركةِ الهجرة في العالم، أنَّ مُعدّلَ الإنجابِ السوري هو الأعلى في العالم وقدره 4.4 في المئة، بينما يتناقَصُ الشعبُ اللبناني بسببِ الهجرة وارتفاع معدل الوفيات، بسبب تضاؤل الخدمات الصحية، بنسبة 8.6 في المئة، وهي أعلى نسبة في العالم. فالمُعَدّلُ السوري هو الأعلى من فوق، والمُعَدّلُ اللبناني هو الأعلى من تحت.
ولذلك فإنَّ إبقاءَ الحرب الأهلية اللبنانية مُستَعرةٌ بطُرُقٍ أُخرى، كما هو حاصلٌ الآن، هو الأمرُ الأخطر على الوجودِ اللبناني.
كانت دولُ الغربِ تَعرِفُ أنَّ هتلر في ألمانيا، وموسوليني في ايطاليا، يتدخّلانِ بصورةٍ مباشرة بقواتٍ جويّة وبرّية إلى جانب الجنرال فرانكو في إسبانيا، وتصرّفت وكأنَّ ذلك يُناسبها، كما ثبت في ما بعد عندما استتبَّ الأمرُ لصالح فرانكو، الذي أمر بتصفياتٍ جماعية للجمهوريين بعد الحرب، فاقت في عدد ضحاياها ما سقط في الحرب ذاتها، من غيرِ أيِّ كلمةِ احتجاجٍ من أحد.
إنَّ المشكلةَ الراهنة في لبنان، بفعل الحرب الأهلية المُستَمِرّة، عن عَمْد، وبموافقة دولية كما يبدو من مسألة النازحين واللاجئين، باتت أخطر وأصعب من أن تُعالَجَ من خلالِ الوَضعِ الراهن ورجالاته.
ولهذا، فإنَّ تجدُّدَ الحرب الساخنة في لبنان، بأطرافٍ وأهدافٍ مُختلفة، يزدادُ احتمالًا، وتتلبَّد غيوم إعصاره، لعدم وجود رغبة غربية في وقف التغيير الديموغرافي الحاصل.
لبنان…الحَربُ الأهليَّة المُستدامة (6)
تَدَخُّلُ الخارج وقابِلِيَّةُ الدَّاخِل
2024/03/04
في جميعِ الحروبِ الأهلية، ومن أقدمِ الأزمنة، تَحدُثُ تدخّلاتٌ خارجية بين المُتقاتِلين من الدولِ الإقليميّة المُجاوِرة عادةً، كما رأينا في التدخّلِ الفارسي إلى جانبِ سبارتا ضد أثينا في “حرب بيلوبينيز” في القرن الخامس قبل الميلاد. وهذا أمرٌ طبيعي لأنَّ مثلَ هذه الحروب يُمكنُ أنْ تمتدَّ إلى دولِ الجوارِ فتُزَعزِعُ أمنها، فضلًا عن تدخُّلِ المُهَرِّبين وتجّارِ السلاح.
لكنَّ الحروبَ الأهلية الحديثة تختلفُ من حيث كونها تستدرجُ تدخُّلاتٍ عالمية النطاق، وفي أحيانٍ عديدة قد لا يكون نشوبُها في أيدي القوى المحلّية، بل يُمكنُ أن يكونَ مُفتَعَلًا من قبلِ قوى خارجية كما شاهدنا في السنوات الأخيرة في بعض الدول العربية.
هذا النوعُ من التدخُّلِ الخارجي، وأبرَزُه “التدخّل الوقائي”، و “التدخّل المُفتَعَل” يختلف عن التدخُّلات التي حدثت في حالاتٍ أُخرى كالحالة اللبنانية، أو الحالة الإسبانية، حيث القوى الداخلية المُتصارِعة هي التي استدرَجَت التدخُّلَ الخارجي وَسَعَت إليه لأسبابٍ مختلفة أهمّها إثنان: الأوّل الحاجة إلى تمويلِ الحرب، والثاني هو الحاجة إلى الاستقواءِ بقوّةٍ خارجية لدَحرِ خصمٍ داخلي.
ففي الحَربِ الأهلية الإسبانية، عندما أعلن الجنرال فرنثيسكو فرانكو إنه سوفَ يُدَمّرُ مدينة مدريد العاصمة، ولن يتركها في أيدي الماركسيين، مُستَعينًا بطائراتٍ حربية من ألمانيا النازيَّة ومن إيطاليا الفاشية، أعلن راديو الجمهوريين صرخةَ استنجادٍ ساذجة بالغرب، جاء فيها: “إنَّ الجيوشَ الزاحفة اليوم على مدريد وبرشلونة وفالَنسيا، سوف تزحفُ غدًا على لندن وباريس وواشنطن (من دراسة روبرت كولودني بعنوان “الصراع على مدريد” الصادرة في كتاب عام 1985).
كذلك بثَّ الجمهوريون إذاعاتٍ تُعبّرُ عن فلسفتهم للحرب الأهلية بأنها “الحدود الكونية التي تفصل الحرية عن العبودية” (من كتاب هيو توماس بعنوان “الحرب الأهلية الإسبانية” الصادر عام 1990).
أمّا فلسفة الجنرال فرانكو، فإنّها تُفضّلُ الحربَ الأهلية الشاملة على الحرب العسكرية النظامية الحاسمة. فعندما أخفقَ الجيش الإيطالي الفاشي في اقتحام المعقل الجمهوري في “غوادالاجارا”، قال الجنرال فرانكو لرئيس أركان الجيش الإيطالي: “في الحرب الأهلية، يجري احتلالٌ مُمَنهَجٌ للأرض يرافقه التطهير اللازم، وهذا أفضل من إنزالِ هزيمةٍ عسكرية بجيوش العدو تترك البلاد في النهاية موبوءةً بالأعداء” (من “صحيفة التاريخ المعاصر”، المُجَلّد التاسع، 1974).
أمّا الحرب اللبنانية، فإنّها من البداية أخذت شكلَ الحرب الأهلية التطهيرية، كما عبّرَ عنها الجنرال فرانكو، لأنه لم تكن في البداية جيوشٌ نظامية. فالجيش اللبناني تم تحييده عن الصراع خشية انقسامه وتشرذمه. لكن جيوشًا نظاميةً أُخرى دخلت، أو استُدْرِجَت، إلى ساحة الصراع من غير نتائج حاسمة، منها جيش التحرير الفلسطيني، والجيش السوري، ثم الجيش الاسرائيلي، ثم القوات المتعدِّدة الجنسيات، التي تضمّنت فصائل من الجيش الأميركي (المارينز)، والجيش الفرنسي، والجيش البريطاني، والجيش الإيطالي، وغيرها.
ففي الحَربَين الأهليَّتَين الأهمّ في القرن العشرين، وهما الحرب الإسبانية والحرب اللبنانية، تحوَّلَ البلدان إلى ساحةٍ لصراعٍ عالميٍّ مفتوح. وقد ساهمت قوى إسبانية وقوى لبنانية في استدراج هذا النوع من التدخّلِ الخارجي للاستقواء به على خصومها في الداخل.
وفي الحالتَين دخلت إلى الساحة قوّاتٌ من المُتَطوّعين غير النظاميين، تمثّلت في الحالة الإسبانية بالألوية الدولية التي ضمّت مُتَطوِّعين من جميع انحاء العالم أغلبهم من المُثقَّفين والفنانين للقتالِ إلى جانب الجمهوريين اليساريين. وكذلك الأمرُ بالنسبة إلى الحرب اللبنانية حيثُ دخلَ إلى الساحة مُتطوِّعون من عَرَبٍ وغير عرب إلى جانب الثورة الفلسطينية التي كانت من مُحرّكات الصراع الأهلي اللبناني منذُ البداية.
:لبنان… الحَربُ الأهليَّة المُستدامة (5)
سُقوطُ القِناع في عمليّةِ الإقناع
2024/03/03
المجلس النيابي المُنعَقد خارج بلاده، وبغَيرِ صفةٍ دستورية، لأنه مُمَدِّد لنفسه لعشرين سنة مُتواصلة، لا يستطيع أن يُقنِعَ أحدًا، بأنَّ ما فعله في مدينة الطائف السعودية يُمثّلُ إرادةَ الشعبِ اللبناني، طالما أنَّ ذلك المجلس لم تكن له صفةٌ تمثيلية.
ولذلك جرى، وما زال يجري حتى الآن، التكتّمُ حول حقيقة ذلك الاتفاق، وحقيقة مضمونه. وهذا التكتّمُ بحدِّ ذاته يلغي أي وسيلة إقناعية بدستوريته، أو فلنقل بمناعته أمامَ الطعنِ الجدّي. وهذا ما جعل “الطائفيين”، من طريق الترهيب والترغيب والإعلام، يضفون عليه هالة وهمية من الكمال المانع حتى لمناقشته مناقشة إقناعية حرَّة.
لكن البحر، كما يقول الصيَّادون، دائمًا يُكذِّب الغطَّاس. فلننظر في بعض المسائل البسيطة، من الزاوية الإقناعية:
أُعلِنَ في “اتفاق الطائف” أنَّ عددَ أعضاء مجلس النواب الجديد الذي سيجري انتخابه، ليحلّ محلّ المجلس المُمَدِّد لنفسه عشرين سنة، سيكون 108 نواب، بدلًا من 99 نائبًا حسب قانون ما قبل الحرب. ولكن عندما وضع المجلس إياه قانون الانتخاب الجديد في بيروت، ضربَ عرض الحائط بما اتفق أعضاؤه عليه في الطائف، ورفع العدد من 108 الى 128، ولم يظهر في البلاد أيُّ اهتمامٍ بالأمر او اعتراض عليه.
قرَّرت الحكومة اللبنانية القائمة على ثقةِ برلمانٍ ناقصِ العدد وناقصِ الشرعية، تعيين نواب في المقاعد النيابية الشاغرة بفعل وفاة عدد كبير من قدامى النواب المُمَدِّدين لأنفسهم. فكيف يكون شرعيًا مجلسٌ مُمَدِّدٌ لنفسه عشرين سنة، وعدد لا يستهان به من أعضائه باتوا مُعَيَّنين بمراسيم حكومية، في مخالفة صريحة لأبسط القواعد البرلمانية، وهي أنَّ النائبَ يجب أن يكونَ مُنتَخبًا من الشعب في دائرته بأغلبيةٍ واضحة غير قابلة للطعن.
إذا كانت حجّةُ، أو على الأصح، ذريعةُ تمديد مجلس النواب لنفسه، أنَّ الحربَ الأهلية حالت دون إجراءِ انتخاباتٍ عامة، فأيُّ ذريعةٍ هي التي أملت على المجلس المُنتَخَب في العام 2009، والبلد في حالةٍ من السلام التام في ظل “اتفاق الطائف”، أن يُمدّدَ لنفسه ثلاث مرات حتى العام 2018، وكأن شيئًا لم يكن. وهذا في المنطق، وقياسًا على ذرائع التمديد في خلال الحرب، يعني أنَّ الحربَ الأهلية في لبنان ما زالت مُستَعِرة تحت الرماد ولو كانَ ظاهرها السلام. وكلُّ الذين قبلوا، أو سمحوا، بتلك التمديدات المُستَخفّة بعقول الناس، فلا بدَّ من أن تجري مُساءَلتهم في يومٍ من الأيام، إن لم يكن من المواطنين، ففي سجلَّات التاريخ على الأقل.
كانت الذرائع السابقة تلقي بكامل المسؤولية على “الوصاية السورية” لعجز الطبقة السياسية عن الإقناع، لكنها في الوقت ذاته أظهرت مدى تبعيتها لتلك الوصاية (أو لغيرها) متى أتت.
إنَّ المقاطعة المسيحية لأوّلِ انتخاباتٍ بعد “اتفاق الطائف”، والتي جرت في العام 1992 بقيادة البطريركية المارونية، كانت مقاطعة شكلية سرعان ما تمَّ التراجعُ عنها تاليًا، لأنَّ البطريركية المارونية كانت من أهل الطائف وما زالت.
فلننظر الآن في مسألة القناعة والإقناع من منظار الحرب الأهلية الإسبانية:
بتاريخ 12 تشرين الأول (أكتوبر) 1936 أُقيمَ احتفالٌ في جامعة سالامانكا بمناسبة ذكرى اكتشاف البحّار كريستوف كولومبوس للقارة الأميركية، بحضور السيدة ماريا مارتينيز–فالديز، زوجة الجنرال فرانثيسكو فرانكو قائد القوات “الفالانجية” اليمينية، وبحضور الجنرال السابق ذكره ميلان استراي قائد الفرقة الأجنبية المُقاتلة ضدّ الجمهوريين. وفي ذلك الاحتفال ألقى عميد الجامعة، وهو استاذ في الفلسفة من منطقة الباسك، اسمه البروفسور ميغيل دو أونامونو، كلمة حول القناعة والإقناع أدهشت كثيرين وفاجأت آخرين. فقد قال في تلك الكلمة: “هنا هيكل العقل والفكر وأنا كاهنه الأعلى، لكن أنتم هم الذين يُدنِّسون حَرَمَهُ المقدَّس. سوف تربحون، لكنكم لن تكونوا مُقْنعين. سوف تربحون لأنكم تملكون أكثر مما يكفي من القوّة الغاشمة، لكنكم لن تكونوا مُقنِعين، لأنَّ الإقناعَ يقتضي امتلاك الحجّة الدامغة. ولكي تمتلكوا حجّةَ الإقناع، يلزمكم شيءٌ تفتقرون إليه، ألا وهو العقل والمنطق والحق في الصراع”.
:لبنان… الحَربُ الأهليَّة المُستدامة (4)
حُكمُ الثلاثين طاغِية
2024/03/02
إذا ألقينا نظرةً عابرةً على الحروب الأهلية الكُبرى عبر التاريخ، نَجِدُ أنَّ الحربَ اللبنانية كانت من أطولها وأعقدها. فلنأخُذ على سبيل المثال “حرب بيلوبينيز” الإغريقية التي وقعت بين أعظم حالة ديموقراطية في العالم القديم، (431 ق. م-404 ق. م)، وهي أثينا، وبين سبارتا، وهي ذات حكمٍ أوليغارشي مُستَبِد، حيث كانت الغلبة في البداية لأثينا الديموقراطية لولا التدخّل الفارسي من الخارج، الذي رَجّحَ كفّة سبارتا واطاح الديموقراطية الأثينية، وفَرَضَ على أثينا حُكمًا أوليغارشيًا من ثلاثين رجلًا (بما يشبه الحالة اللبنانية الراهنة بعد الطائف) سُمِّي “حكم الثلاثين طاغية”.
وقد كَتَبَ تفاصيلُ هذه الحرب، في أوّلِ كتابِ تاريخٍ علميٍّ مُفَصَّلٍ ومُوَثَّق، المؤرّخ الإغريقي الكبير ثوكيديدس الذي قال في مقدمته: “إنني أكتبُ هذا الكتاب لجميع الأزمنة”. وهو كذلك.
بعد هذا التحوُّل، ضربَ الفقرُ والمجاعةُ والانحلالُ بلادَ الإغريق كلها، وآلت الأمورُ الى السفلة والأوغاد.
فعندما يجري تطويعُ الحالةِ الديموقراطية البرلمانية على هذا النحو، كما حَدثَ في مؤتمر الطائف بشأن الحرب اللبنانية، فإنَّ مآلَ الأمورِ بعد ذلك يُصبِحُ معروفًا إلّاَ للذين ينظرون ولا يُبصِرون، ويسمعون ولا يفقهون.
لقد سقتُ هذا المثال لأنَّ الحربَ اللبنانية الحديثة والحربَ الإغريقية القديمة مُتشابهتان في إطالةِ أمَدِ الحرب، وفي التدخّل الخارجي، وفي المناخ السياسي.
لكن المهزلة البرلمانية التي أوصلت لبنان الى “اتفاق الطائف”، ومن ثمَّ إلى الوضع الراهن، هي الجديرة بالبحث، لتأكيد عدم شرعية الوضع القائم الذي يشبه “حكم الثلاثين طاغية” في أثينا بعد التدخّل الفارسي في الحرب الإغريقية.
أوّلًا، ما كانَ يجوزُ لمجلسٍ تشريعي وطني أن يجتمعَ في خارج بلاده لتقريرٍ أمرٍ داخلي.
ثانيًا، ذاك المجلس نفسه كان فاقدًا للشرعية لأنه غير مُنتَخَب، وقد مدَّد لنفسه نحو عشرين سنة، اي أكثر من أربعِ دوراتٍ انتخابية. فكلُّ ما صَدَرَ عن ذلك البرلمان الذي انتهت مدّته الدستورية في العام 1976، هو غير قانوني وغير شرعي بعد انتهاء ولايته الدستورية في ذلك التاريخ.
فكلُّ تشريعٍ صدرَ عن مجلسٍ نيابي بعد انتهاء ولايته الدستورية الطبيعية، بما في ذلك انتخاب الرؤساء، والقوانين، و”اتفاق الطائف” نفسه، هو تشريعٌ باطلٌ ولو تمَّ التوافقُ عليه بين جميع أمم الأرض. هذا ليس تشريعًا أو انتخابًا، بل هو فُرِضَ بالقوّة القاهرة التي لا تُقيمُ وزنًا للإرادة الوطنية. ولذلك بقيت هذه المهزلة البرلمانية سارية إلى اليوم، من التمديدِ للمجلس النيابي نفسه، إلى التمديد لرؤساء الجمهورية، بما في ذلك انتخاب بعضهم خلافًا للدستور.
ولذلك لا يجوز القول بأنَّ النظامَ القائم في لبنان، منذ الحرب الأهلية، هو نظامٌ برلماني حقيقي. وقد نشأ مثل هذا الجدل بعد الانتخابات الإسبانية التي أدّت إلى الحرب الأهلية في العام 1936، حيث كتبت جريدة “تايمز” البريطانية تقول (بتاريخ 10 آب/أغسطس 1936): “قد يكون أنَّ نظامَ الحُكمِ البرلماني الذي يُناسِبُ بريطانيا العظمى، لا يُناسِبُ دولًا كثيرة غيرها. فالحكومة الإسبانية الأخيرة حاولت الالتزامَ بنوعٍ برلماني من الحكم الديموقراطي، من غير أيِّ نجاحٍ يُذكَر”.
وها هو العالَمُ كلّهُ شاهدَ على الشاشات المهزلة البرلمانية اللبنانية ثلاث عشرة جلسة نيابية في محاولةٍ لانتخابِ رئيسٍ للجمهورية من غير جدوى، لأنَّ ما بُنِيَ على باطلٍ فهو باطِلٌ.
:لبنان…الحربُ الأهليَّة المُستدامة (3)
“عقائديَّةُ الحرب”
2024/03/01
لا يُمكِنُ لأيِّ حربٍ أهلية ان تَستَعِرَ من غيرِ تَعبئةٍ عقائدية غايتها حشد الناس في مزاجِ القتال حتى الموت ضد الفريق الآخر المنازع له على رقعةِ أرضٍ واحدة. فالعقائدية هنا ليس بالضرورة أن تكون عن قناعة، لكنها أداةٌ من أدواتِ الحرب كالمال والسلاح.
لكن أنجع العقائد للحشد في الحروب الأهلية هي العقائد الدينية، أو الطائفية، لأنها تلغي إمكانية التفكير العقلاني المُطفىء لنار التطرُّف. وقد شهد المسرح الأوروبي في الحروب الأهلية الدينية، المعروفة باسم “حرب الثلاثين سنة” في القرن السادس عشر، نماذج عديدة من هذا التطرّف العقائدي المُغَذّي للحروب الأهلية.
ففي تلك الفترة من القرن السادس عشر كان القَسَمُ الرسميُّ عند تتويج الملك الفرنسي ينصُّ على ما يلي: “أُقسمُ بأن أُحافِظَ على الديانة الكاثوليكية واستبعاد أي ديانة اخرى”. بل إنَّ الملك الفرنسي هنري الثاني قال اثناء توقيع معاهدة “كاتو-كامبريسيس” في شهر نيسان (أبريل) 1559: “أقسم لو أنني أستطيع إنهاء نزاعاتي الخارجية، لجعلتُ الشوارعَ تسيلُ فيها دماء ورؤوس الكلاب اللوثريين الأشرار”.
طبعًا، الحروب الأهلية لها أسبابٌ أخرى غير المسائل الدينية، لكن الدين يجري استخدامه كسلاح في الحرب، أو كأداةٍ للحشد والتحريض، من أجل تضليل البسطاء والمُغَفَّلين والسُذَّج من الناس لتسهيل جعلهم وقودًا لحربٍ لا علاقة لهم بها، وليس لهم فيها لا ناقة ولا جمل، فيدفعون الثمن راضين قانعين لتحقيق مصالح قادتهم.
ولذلك، فإن عقائدية الحرب الأهلية هي في معظم الحالات مُجرّد أداةٍ للتضليل والتحريض، وليست لها علاقة حقيقيَّة أو جدّية بجوهر الصراع او أسبابه الفعلية.
وكذلك الأمر بالنسبة إلى المسائل العقائدية الدينية في الحروب الإسلامية المُعاصِرة، من الحركة الوهّابيَّة في الجزيرة العربية في القرن الثامن عشر، الى الحركة المهديَّة في السودان في القرن التاسع عشر، ومن حركة “الإخوان المسلمين” في القرن العشرين إلى حركات العنف والتفجيرات الانتحاريَّة التي ظهرت في مطالع القرن الواحد والعشرين.
وهذه سمةُ واضحة في الحالة الطائفية المُستَحكِمة بلبنان، حيث أبناء الطوائف هم مجرّد أدوات لمصالح لا علاقة لهم بها، ويُشَكّلون وقود الحرب الأهلية إذا اقتضى الأمر، سواء كانت تلك الحربُ ساخنةً، كما في الحرب التي امتدت من 1975 إلى 1990، أو باردة كما هي في الوقت الحاضر، وأدّت إلى سرقة أموال وودائع جميع اللبنانيين السُذَّج والبسطاء والمُغفَّلين، في مختلف الطوائف كافةً.
:لبنان… الحرب الأهليَّة المُستدامة (2)
سلاحُ نَشرِ الإرهاب
2024/02/29
تتناول هذه السلسلة من المقالات موضوعاً شائكاً يتعلَّق بالأسباب والظروف التي جعلت من لبنان بؤرة لحروب أهلية متواصلة منذ أواسط القرن التاسع عشر الى اليوم. ويجري فيها تقديم الحرب الأهلية اللبنانية الأخيرة (1975 – 1990) على نحو مقارن مع الحرب الأهلية الإسبانية (1936 – 1939)، ونماذج أخرى من التاريخ القديم، من أجل استكشاف الأسباب التي جعلت لبنان مسرحاً لحروب أهلية مستدامة، وبأشكال مختلفة، منها، بالسلاح والعنف، ومنها بالعنصرية والتباعد والتنابذ، ومنها بالسياسة وبالصراعات الإقليمية والدولية، وربما بطرق أخرى مختلفة. كما تطرح إشكاليات التدويل الناشئة من تلك الحالة، نظراً لارتباط بعض المكونات اللبنانية بقوى خارجية، فما العمل؟
سليمان الفرزلي*
في الحروب الأهلية عمومًا، يُشَكّلُ الإرهابُ عُنصرًا أساسيًا من عناصر الصراع بين المُتقاتلين. والغاية من الأعمال الإرهابية ليست عسكرية او ميدانية، بل هي نفسية لتَرويعِ الخَصمِ وإحباطه وشَلّ إرادته. ولذلك تكونُ هذه الأعمال وحشيَّةً، وهمجيَّةً، ومروِّعةً، بغير أي وازعٍ إنسانيٍّ، أو أخلاقيٍّ، أو ديني.
ويتذكّرُ اللبنانيون جيدًا اليوم الذي جرت فيه أعمالُ قَتلٍ جماعية في بداية الحرب أواخر العام 1975، والمعروف بيوم “السبت الأسود”، عندما قامت جماعاتٌ مُسَلَّحة بعملياتِ قتلٍ عشوائية، في منطقة مرفَإِ بيروت وحواليها، ضدّ أناسٍ فقراء أو عمّال وموظّفين لا علاقة لهم بالسياسة، أو بالقوى المتصارعة، بل لمجرّد أنهم يحملون هوية طائفية مختلفة، وذلك لترويع عموم أهالي تلك المناطق أو تهجيرهم. كذلك فعل الفريق الآخر عندما هاجمت فرقٌ مسلّحة مدينة الدامور الساحلية واستباحتها ونهبتها وقتلت وهجّرت أهاليها قاطبةً.
وقد حدث مثل ذلك وأفظع منه في الحرب الأهلية الإسبانية، ومن بدايتها أيضًا، كما يُستَدَلُّ من الوقائع التالية:
في صيف العام 1936، أعلن الجنرال إميليو مولا القاعدة الإرهابية للحرب، بقوله: “إنه من الضروري إشاعةَ جوٍّ من الإرهاب. علينا أن نخلقَ انطباعًا بأننا سادة الساحة”. (من كتاب انطوني بيفور بعنوان “الحرب الأهلية الاسبانية” الصادر عام 1982). وقد شَكّلَ الفريق الوطني (الفالانج)، من بداية الحرب، فرق إعدام ميدانية للفتك بأعضاء الفريق الجمهوري المعادي، وكذلك فعل الفريق الجمهوري.
وتجدرُ الملاحظة هنا أنَّ مثلَ هذه التكتيكات طوّرتها في السنوات الأخيرة القوات الانتحارية الإسلامية المتطرّفة في العراق وسوريا لزيادة حجم ودوي العمليات الإرهابية من طريق السيارات المفخَّخة والأحزمة الناسفة، وغايتها قتل وتشويه أكبر عددٍ من الناس الأبرياء الذين لا علاقة لهم بالصراع الدائر، أو بمحرِّكيه الظاهرين والمُستترين.
من الأمثلة التي أحدثت صدى عالميًا مدويًا حادثة إعدام الشاعر والمسرحي الإسباني الكبير فيديريكو غارسيا لوركا، صاحب المسرحية الشعرية الخالدة “عرس الدم”، ومن غير أيِّ محاكمة، في مدينة غرناطة. بل إن قاتله “الفالانجي” أعلن أنه، بعد إعدامه، أطلق عليه رصاصتين في مؤخرته لزعمه بأنه كان من المثليين!
راندولف تشرشل، نجل الزعيم البريطاني ونستون تشرشل، عبَّر عن النظرة البريطانية إلى الحرب الأهلية الإسبانية بقوله: “كثيرون من “الداغوس” يقتلون بعضهم البعض”. وكلمة “داغوس” هي تعبير عامي (شبه عنصري) للدلالة على شعوب جنوب أوروبا المتوسطية، مثل الإسبان والبرتغاليين والطليان، باعتبارهم في مرتبة أدنى من شعوب أوروبا الشمالية. وربما قصد أنهم شعوب همجية تفتك ببعضها البعض.
تمجيد الموت. مع أنَّ المتطوعين في الفرقة الأجنبية المقاتلة في صفوف الوطنيين كان من بينهم كثيرون من المثقّفين، فإنهم اختاروا لقواتهم شعار “يعيش الموت”، الذي ابتدعه مؤسس تلك الفرقة الجنرال ميلان استراي (من كتاب بول برستون بعنوان “الرفاق! صور من الحرب الأهلية الإسبانية”).
وعلى بشاعة هذا الشعار، فقد أثار اشمئزاز فريق من الكتاب والفنانين الذين انخرطوا في الحرب إلى جانب الجمهوريين مُتَطَوِّعين من كلِّ انحاءِ العالم، كما اثار إعجاب بعضهم الآخر.
لبنان…الحرب الأهليَّة المُستدامة :(1)
حَربُ اللبنانيين وحَربُ الإسبان
2024/02/28
تتناول هذه السلسلة من المقالات موضوعًا شائكًا يتعلَّق بالأسباب والظروف التي جعلت من لبنان بؤرةً لحروبٍ أهليةٍ مُتواصِلة منذ أواسط القرن التاسع عشر إلى اليوم. ويجري فيها تقديم الحرب الأهلية اللبنانية الأخيرة (1975 – 1990) على نحوٍ مُقارن مع الحرب الأهلية الإسبانية (1936 – 1939)، ونماذج أخرى من التاريخ القديم، من أجل استكشاف الأسباب التي جعلت لبنان مسرحًا لحروبٍ أهلية مُستدامة، وبأشكالٍ مختلفة، منها، بالسلاح والعنف، ومنها بالعنصرية والتباعد والتنابذ، ومنها بالسياسة وبالصراعات الإقليمية والدولية، وربما بطرقٍ أخرى مختلفة. كما تطرح إشكاليات التدويل الناشئة من تلك الحالة، نظرًا لارتباطِ بعضِ المكوّنات اللبنانية بقوى خارجية، فما العمل؟
سليمان الفرزلي*
قديمًا وحديثًا، وقعت في أنحاءٍ عديدة من العالم مئاتٌ من الحروب الأهلية الطاحنة والمُدَمِّرة لأسبابٍ عديدة ومختلفة، لكن معظمها لم يَطُلْ كثيرًا. ويُمكِنُ القول إنَّ الحربَ الأهلية اللبنانية الأخيرة (1975 – 1990) هي من أطولها زمنيًا إن لم تكن أطولها على الإطلاق (وما زالت مستمرة بطرُقٍ أخرى). والملاحظ، في جميع الحروب الأهلية القديمة والحديثة، أنَّ كلَّ حربٍ منها تُختمُ على زَغَلٍ بتسوياتٍ مُلَفَّقة، من غيرِ مُصارحة بأدقِّ التفاصيل، لتُشَكِّل اعترافًا بالمسؤولية، لا تؤدّي إلى مصالحة حقيقية مانعة لعودة الحرب، أو حتى لاستمرارها بطُرُقٍ أُخرى مانعة لتسويةٍ ثابتة ونهائية غير قابلة للجدل والطعن.
ومن بين الحروب الأهلية الحديثة، اخترتُ الحربَ الأهلية الإسبانية (1936 – 1939) للمقارنة بالحرب اللبنانية، مع أنها كانت أقصر منها زمنيًا بكثير، إنْ لجهة الفظاعات الهمجية التي ارتُكِبَت فيها، أو لجهة حجم التدخّلات الخارجية في مجرياتها الميدانية، وذلك من خلال ما ورد عنها في كتاب “التاريخ في مقتطفات”، الصادر في لندن عن دار “كاسل” للنشر في العام 2004 (الذي يشمل خمسة آلاف سنة من التاريخ العالمي). وفي ما يلي أبرز أوجه المقارنة:
القطبان الرئيسيان في الحربَين الإسبانية واللبنانية اسمهما “حزب الكتائب” (الفالانج). والقول الشائع في لبنان ان الشيخ بيار الجميل الجدّ عندما أسس “حزب الكتائب اللبنانية” استلهم في ذلك تجربة حزب “الفالانج” الإسباني، مما عزَّز الزعم، المُغرِض ربما، أنَّ “الفالانج اللبناني” تأسّس على فرضيّة حتمية الحرب الأهلية.
استحضارُ التحريض الديني لإعطاءِ مُبَرِّرٍ وجودي للحرب، كما ورد على لسان مطران برشلونة أثناء التصويت في انتخابات شباط (فبراير) 1936، مما أطلقَ شرارة الحرب الأهلية بفوز أحزاب الجبهة الشعبية اليسارية، التي استصدرت تشريعات جذرية أهمّها الإصلاح الزراعي، ما استفز كبار مالكي الأراضي والكنيسة الكاثوليكية. (هنا أيضًا تصحُّ المُشابهة بين برنامج “الجبهة الشعبية الاسبانية” التي ضمّت كل أحزاب اليسار، وبين برنامج “الحركة الوطنية اللبنانية” بقيادة كمال جنبلاط، والتي ضمّت أيضًا جميع أحزاب اليسار).
فقد قال مطران برشلونة في موعظته قبيل الانتخابات: “إنَّ كلَّ صوتٍ للمُرَشَّحِ المُحافِظ هو صوتٌ للمسيح”!
إثارة المسألة الديموقراطية. في المجلس النيابي الإسباني السابق، في شهر حزيران (يونيو) 1936، وَقَفَ خوسيه ماريا جيل روبلز، زعيم التحالف الكاثوليكي لأحزاب يمين الوسط، ليُعلِن: “إن إسبانيا في فوضى وتخبُّط، ونحنُ اليوم نحضر جنازة الديموقراطية”. (من كتاب رونالد فريزر “دم اسبانيا: تجربة الحرب الأهلية 1936 – 1939” الصادر في العام 1979).
الإشارة أو الشرارة. يتّفق اللبنانيون على أنَّ أول إشارة أو شرارة للحرب الاهلية هي الهجوم الكتائبي المسلح على بوسطة عين الرمانة في يوم 13 نيسان (أبريل) 1975، وقتل ركَّابها من الفلسطينيين. أمَّا في إسبانيا، فقد كانت الإشارة رسالة إذاعية مُشَفَّرة بثَّها الجنرال إميليو مولا تقول: “في جميع أنحاء اسبانيا الجوُّ خالٍ من الغيوم”، مُطلِقًا بذلك بداية الانتفاضة الوطنية التي بها بدأت الحرب الأهلية في 18 تموز (يوليو) 1936. (من كتاب إيفان مايسكي بعنوان “ملاحظات اسبانية” الصادر في العام 1966. والكاتب كان سفيرًا للاتحاد السوفياتي في لندن في وقت اندلاع الانتفاضة العسكرية في المناطق الإسبانية من المغرب العربي، وامتدادها تاليًا إلى البرِّ الإسباني).
سعد الحريري: ما له وما عليه (الأخيرة)
فتح الثغور من باب” النأي بالنفس”
26/ 2 / 2024
لم تطل المصالحة التي أجراها سعد الحريري مع الحكم السوري كثيراً، لأن التحضير للحرب في سوريا، بهدف تغيير النظام القائم في دمشق، داهم معظم دول الجوار السوري. كانت هناك تخمينات بأن نجاح ما سُمِّي “الربيع العربي” في قلب الأنظمة القائمة آنذاك في تونس، وليبيا، ومصر، ربما سيواصل عصفه في بعض الدول العربية الأخرى، وتحديداً في الدول العربية الإفريقية. قلَّةٌ من المراقبين خطر لهم، في ذلك الوقت، أن “عاصفة الربيع العربي” ستهب على سوريا.
ومن العوامل التي جعلت المراقبين يستبعدون نجاح عملية من هذا النوع في سوريا، قوة وتماسك الجيش السوري، وتجذُّر النظام السياسي القائم هناك قرابة نصف قرن تقريباً، ووجود القاعدة البحرية الروسية في طرطوس، مما سيجعل روسيا طرفاً في الموضوع، من مشاركة عسكرية مباشرة على الأرض، الى خوض صراع على نطاق عالمي.
وعندما بدأ التحرك باتجاه سوريا، وتوزعت الأدوار الإقليمية، الأطلسية والخليجية، صار لزاماً على سعد الحريري أن يأخذ المسار الخليجي (بصفته السعودية)، مما جعل القوى اللبنانية الموالية لسوريا، أن تنسحب من حكومته، فسقطت في لحظة وجوده مع الرئيس الأميركي آنذاك باراك أوباما في البيت الأبيض. وهكذا انتقل الحكم في لبنان الى الرجل المتمرس بملء الفراغات، نجيب ميقاتي، الذي شكل حكومته تحت شعار تضليلي هو “النأي بالنفس”.
وكان هذا الإعلان عن “النأيِ بالنفس”، في الحكومة اللبنانية البديلة عن حكومة الحريري المستقيلة، مريحاً للحريري، لأنه لو بقي رئيساً للحكومة وقتئذٍ، لما كان في مقدوره أن يسمح بفتح الثغور اللبنانية على سوريا، ولأنَّ أحداً لن يلحظ فتح الثغور في ظل حكومة شعارها “النأي بالنفس”. وقد لعبت قوى 14 آذار / مارس، المحسوبة على الحريري، أو المحسوب هو عليها، دوراً في التضليل الهادف الى التغطية والتعمية، بأن نكرت وجود قوات من الإسلاميين التكفيريين المتطرفين في الجرود الشرقية على الحدود مع سوريا، بل قام ممثلون عن 14 آذار / مارس بزيارات الى بلدة عرسال في تلك الجرود لإثبات عدم وجود هؤلاء التكفيريين.
وبعدما انكشفت الأمور في العلن، وصارت بواخر السلاح، وقوافل الإرهابيين تمر عبر موانئ وثغور لبنانية، مما وضع لبنان أمام خطر حرب أهلية جديدة، ابتعد نشاط الحريري عن لبنان، واتخذ حزب الله في المقابل خطوة مماثلة بأن اختار أن يسدَّ الثغور اللبنانية المفتوحة على سوريا من الجانب السوري، لأن سدَّها من الجانب اللبناني كان سيؤدي الى تصادم داخلي ينذر بحرب أهلية (سنيَّة – شيعيَّة هذه المرة) أخطر فتكاً بلبنان من الحرب الأهلية السابقة. ولهذا أعلن السيد حسن نصر الله الأمين العام ل”حزب الله”، موجهاً خطابه الى الفريق المعارض، ومنهم “تيار المستقبل”، بقوله: إن من يريد أن يقاتلنا فليقاتلنا على الأرض السوريَّة”.
بقي سعد الحريري في موقفه المعارض للنظام السوري، وبقي نشاطه في هذا الاتجاه، لكن ليس من الأراضي اللبنانية، وليس من الأراضي السورية أيضاً، بل انتقل نشاطه الى الثغور التركية، في منطقة الحدود بين تركيا وسوريا، ممثلاً بالنائب عقاب صقر عضو كتلته النيابة. وعندما انكشف نشاط هذا الأخير الى العلن، أعلن أنه وجوده على الحدود التركية “غايته توزيع البطانيات وعلب الحليب” على المحتاجين في سوريا. وتلك صيغةٌ لنفي تعاطيه مع المسلحين المعارضين للنظام السوري، من باب “توزيع السلاح والمال”.
وقد يكون من باب التخمين الافتراض بأن ما أصاب سعد الحريري في المملكة السعودية قبل سنوات، ونقل مقرِّه من المملكة الى دولة الإمارات، يتعلَّق في جانب منه بما حدث خلال الحرب السوريَّة. وحتى هذا الانتقال من الرياض الى أبو ظبي، يبدو وكأن فيه “قطبةً مخفيَّةً”. ذلك أن محمد بن سلمان، الرجل القوي في السعودية، ومحمد بن زايد الرجل القوي في الإمارات، كانا في ذلك الوقت على تفاهم تام وكأنهما توأمٌ. وفي مثل هذا الوضع، لا يمكن اعتبار انتقال الحريري الى أبو ظبي، أنه يحمل، تأويلاً في غير محله.
يُضاف الى ذلك، أن دولة الإمارات والمملكة السعودية كانتا في طليعة الدول الخليجية التي سارعت الى إعادة فتح سفاراتها في دمشق، إيذاناً بالمصالحة مع النظام السوري، والدليل على ذلك أنَّ الرئيس السوري بشار الأسد قام، منذ سنتين (19 آذار / مارس 2022) بأول زيارة له الى دولة عربية منذ اندلاع الحرب في سوريا عام 2011. كما حضر القمة العربية الأخيرة التي انعقدت في شهر تشرين الثاني الماضي في الرياض، عاصمة المملكة السعودية، برئاسة ولي العهد السعودي محمد بن سلمان.
وعلى هذا الأساس، يمكن القول بأن سعد الحريري، من مقره الراهن في أبو ظبي، له مكانٌ غيابيٌ محفوظٌ في المملكة السعودية، واستطراداً، ليس هناك ما يمنع أن يكون له موقعٌ غيابيٌّ في دمشق متى حان وقته. وبالتالي، يمكن الاستنتاج، ولو بصورة أوَّليَّة، بأن الزيارة الأخيرة لسعد الحريري الى بيروت بمناسبة ذكرى اغتيال والده، هي بمثابة “بروفة” للعودة الى لبنان بصورة نهائية. ومن هذا القبيل، كانت بمثابة “تمرين” لتنشيط قواعده الشعبية وإعادة تأهيلها.
وإذا صحَّ هذا التقدير، فإنَّ سعد الحريري يكون قد اختار هذه المرة أن يكون لبنانياً، بمعنى أنه سوف يودِّع شخصه “الخليجي”، ويأتي بعائلته للإقامة في بيته في بيروت. وكثيراً ما تساءل اللبنانيون أثناء وجود سعد الحريري في الحكم باستغراب، كيف أنهم لم يشاهدوا وجه زوجة وأبناء رئيس حكومتهم في بلدهم، وكأنهم لا رابط بينهم وبين الشعب اللبناني، حتى أنَّ بعض المغرضين زعم أن إقامة عائلة سعد الحريري خارج لبنان هي “إقامة جبريَّة”، أو أنهم “رهائن” لضمان سلوكه السياسي.
كلُّ اللبنانيين اليوم يُرحبون بسعد الحريري عندما يعود إليهم لبنانياً مثلهم.
www.sferzli.com
سعد الحريري: ما له وما عليه (5)
خطوات عاثرة في مسيرة حائرة
23/ 2 / 2024
إذا جاز اختصار وصف المسيرة السياسية لسعد الحريري، رئيس الحكومة اللبنانية الأسبق، حتى الآن، بكلمتين، فإنه يمكن القول بأنها كانت “مسيرة حائرة”. وبين مرحلة ومرحلة، حيث كان يرى ضرورة أن يبتعد عن رئاسة الحكومة، بدا كأنه بحاجة دائمة الى مرشح بديل عنه يُدفئ له المقعد الى حين تسمح الظروف بعودته اليه. والمرشحان اللذان قاما بمهمة “تدفئة مقعد الحريري” في السراي، فؤاد السنيورة ونجيب ميقاتي، أثارا جدلاً حين استطاب لهما القعود على ذلك الكرسي الدافئ، فاشتط بهما المقام، الى درجة تجاوز الحدود الدستورية الى درجة مُنفِّرة.
فؤاد السنيورة قضى سنواته في السراي يحكم بدون أي ميزانية للدولة، وبدون أي قطع حساب، مما جعل الميزانيات الهزيلة التي أُقرت بعده، فضلاً عن مخالفتها للدستور، مجرد أرقام عشوائية، فكانت أقرب الى “ميزانية دكنجية” منها الى ميزانية دولة. أما نجيب ميقاتي فإنه يحكم الآن بميزانية “وهمية” لدولة مفلسة، بل تعاني من إفلاس مزمن، جرت تغطيته بتلبيس الطرابيش.
فقد اختار سعد الحريري، فور اغتيال والده، عدم الاقتراب من رئاسة الحكومة، لعدم خبرته آنذاك بالعمل السياسي، مفضلاً أن يتعلم السباحة في بحر السياسة اللبنانية المتلاطم عن بُعد، بمراقبة صيادين بملابس سبَّاحين، فكانت تلك أول خطوة عاثرة للحريري، قبل أن يُدرك أن البحر هو المعلم الأكبر للسباحة، وبالتالي كان عليه أن يغطس فيه من البداية.
الصيادان السنيورة والميقاتي، نسيا سعد الحريري، وظنا أنهما باتا يملكان البحر، فراحا يُبلِّطانه. حَكَمَا بدون مسؤولية، لأن المسؤولية في أذهان اللبنانيين يتحملها الحريري. وهنا كانت الطامة الكبرى، عندما بدأ التلاعب والتزوير في قضيَّة اغتيال الشهيد رفيق الحريري، وتسليم الملف الى قوى أجنبية لها مصالح كبرى في العالمين العربي والإسلامي، وهي مصالح كانت، وما زالت، تقتضي إثارة صراع سنِّيٍّ – شيعي في لبنان والمنطقة. وكادت هذه الفتنة تقع في لبنان يوم السابع من أيار / مايو من عام 2008 عندما حاولت حكومة السنيورة البتراء، (لعدم وجود أعضاء فيها من الطائفة الشيعية)، وضع اليد على الشبكة الهاتفية الأرضية الخاصة التي أقامها “حزب الله” لحماية المقاومة من التنصت الخارجي على اتصالاته بين كوادره وقياداته.
ومن حسن الحظ أن شرارة تلك المحاولة، التي جعلت الحرب الأهلية في لبنان قاب قوسين أو أدنى، أُطفأت في الحال، بفعل عدم رغبة سعد الحريري في مثل هذه الفتنة، وبعمل شبه عسكري حاسم من قبل “حزب الله” وبعض حلفائه (وما زال يُعيَّر به الى اليوم)، ثم استُكْمِلَ ذلك على الفور بعمل سياسي وديبلوماسي، نتج عنه اتفاق الدوحة برعاية دولة قطر، حيث تم الاتفاق على انتخاب العماد ميشال سليمان، قائد الجيش آنذاك، رئيساً للجمهورية، وهو الذي وصفته تسريبات “ويكي ليكس”، عن لسان وزير الدفاع اللبناني الأسبق الياس المر، بأنه “أضعف ضابط في الجيش اللبناني”.
تلك المرحلة الابتدائية في مسيرة سعد الحريري السياسية، كانت مليئة بالخطوات العاثرة، وبعضها استُدْرِجَ اليه، مع أنها مكتظَّة بالمخالفات الدستورية والميثاقية أقدمت عليها الحكومةُ المحسوبةُ عليه، وكانت أيضاً مشحونةً بالتطرف الفئوي من فريق 14 آذار، وهو الفريق الذي لم يكن سعد الحريري قادراً أن يميز نفسه عنه، كما جرى تالياً، لأن جرحه في ذلك الوقت كان ما زال حامياً. وقد أساء فريق 14 آذار للحريري بتأييده الغوغائي له، أكثر مما أساء اليه خصومه في معارضتهم لفريقه، بما في ذلك صدامات السابع من أيار / مايو 2008.
في ذلك الوقت كان العداء لسوريا في رأس نشاط الفريق المحسوب على سعد الحريري، بل إن أول جهة وجَّه اليها ذاك الفريق التهمة باغتيال رفيق الحريري كانت سوريا. لكن الحريري ما لبث أن تراجع عن هذا الموقف، ليس فقط لأنه أدرك أن تلك “الشطحة” كانت خطوة عاثرة، بل لأن الشراكة السورية – السعودية التي مكَّنت المغفور له والده من الحكم المتواصل في لبنان، كانت ما زالت قائمة، ولو بحدها الأدنى، قياساً على ذروتها خلال وبعد حرب الخليج الأولى (حرب الكويت) بين الرئيس السوري حافظ الأسد والعاهل السعودي فهد بن عبد العزيز، وبقيت قائمة بقوة الاستمرار خلال مرحلة حكم الملك عبد الله، سواء بالوكالة في عهد فهد، أو بالأصالة يوم اعتلى العرش بعد وفاة شقيقه الملك السابق.
بل إن سعد الحريري، على ذلك المفترق السوري، بدا وكأنه اكتشف مكمن قوَّة موقف والده النابعة من الشراكة السورية – السعودية في لبنان. ولذلك استجاب في أول حكومة ترأسها بعد اغتيال والده بسنوات عديدة، لمتطلبات تلك الشراكة بأن قام بزيارة رسمية الى دمشق حيث استقبله الرئيس بشار الأسد استقبالاً حافلاً، وأرفق تلك الزيارة بإعلان منشور في صحيفة سعودية تراجع فيه عن اتهام سوريا باغتيال والده. وكانت تلك أول مسافة ملحوظة ابتعد بها سعد الحريري عن حلفائه السابقين في 14 آذار / مارس، أو هو ربما استذكر كلمة عمته السيدة بهيَّة الحريري، يوم مغادرة الجيش السوري لبنان أواخر شهر نيسان / أبريل من عام 2005، ومفادها حرفياً: “لا نقول وداعاً سوريا، بل نقول الى اللقاء”.
وفي هذه العبارة قولان: قولٌ فسَّرها على أنها تجديد للعهد مع النظام القائم في دمشق، كما كان قائماً خلال حكم الرئيس حافظ الأسد، وقولٌ فسَّرها على أنها إشارة الى نظامٍ بديلٍ آتٍ الى سوريا قريباً لكن لم تأتِ ساعته بعد.
زيارة سعد الحريري الى دمشق بضيافة بشار الأسد، تنبئ بالتفسير الأول، أما الخطوة العاثرة التي تراجع فيها الى مواقفه السابقة، فتنبئ بالتفسير الثاني، حيث عمل سعد الحريري بموجبه، فخسر الرهان.
www.sferzli.com
سعد الحريري: ما له وما عليه (4)
عودة الى الماضي أم بداية جديدة
21/ 2 / 2024
كان موضوع عودة سعد الحريري الى لبنان والى قواعده، مدار بحث في أوساط لبنانية مختلفة خلال الأيام الأخيرة منذ احتفال الذكرى التاسعة عشرة لاغتيال والده الشهيد رفيق الحريري. لكن القائلين بالعودة، أو المطالبين بها، أو المتوقعين لها، لم يعلنوا، أو ربما لم يفكروا، بالعودة الى ماذا. ففي أذهان معظم هؤلاء أن فترة تعليق النشاط، أو فترة الاعتكاف في الخارج، ما هي إلاَّ مجرَّد انقطاعٍ مؤقت، تعود بعدها مجاري “تيار المستقبل” الى سابق عهدها.
لكن مثل هذه العودة لا تلغي الأسباب الحقيقية التي أملت الاعتكاف وتعليق النشاط، فضلاً عن أنها تطرحُ الكثير من الأسئلة، وربما المساءلات، الحساسة حول ما جرى منذ استقالة الحريري الأولى من رئاسة الحكومة من إذاعة سعودية، الى استقالته الثانية خلال “ثورة تشرين”، وصولاً الى قرار التعليق ومغادرة البلد، وقرار عدم المشاركة في الانتخابات النيابية التي أنتجت المجلس الحالي.
فالوضع النيابي القائم حالياً، هو في جانب كبير منه نتيجة لخروج الحريري من الساحة. ولو خاض الحريري الانتخابات الماضية، لما أمكن لمرشحي المنظمات غير الحكومية أن يفوزوا بعدد من المقاعد يمنع أي فريق سياسي أساسي أن يشكِّل أكثرية نيابية مع حلفائه، ومن هنا نشأت استحالة انتخاب رئيس للجمهورية، مع ما استتبعه ذلك من انحلال للدولة وللاقتصاد الوطني.
ومن الصعب على أي مهتم جدي بالوضع اللبناني، في الداخل أو في الخارج، أن يُصدِّق أن سعد الحريري استقال واعتكف طوعاً. وبالتالي، تكون عودته إذا عاد، في هذه الحالة، مشروطةً، أو مقيَّدةً بأسبابها الحقيقية غير المعلنة. وربما كان ذلك من الموانع الأساسية، أو حتى المانع الأساسي، لطرح الموضوع على بساط البحث والمناقشة الحرَّة، داخل “تيار المستقبل”، أو في الندوات العامة ووسائل الإعلام.
فإذا كان الاعتكاف غير واضح الأسباب حتى الآن، فإنه يبقى غير ذي معنى، وتكون العودة الى الماضي بصورته ساعة الاعتكاف، هي الأخرى غير ذات معنى. وهذا الاستنتاج المنطقي، لا يوجد غيره له معنى في غيابِ سببٍ جوهريِّ مقنع، ليس فقط للاعتكاف، بل لدور سعد الحريري في الحياة السياسية اللبنانية من بدايته.
إن العودة الى الماضي، إذن، لا معنى لها، ولا تفي بالمطلوب الوطني، أي عودة التوازن بين مكونات الكيان اللبناني، وهذه العودة التي تستدعي التوازن الوطني لا تقوم ولا تدوم إلاَّ ببداية جديدة. لكن البداية الجديدة لها مستلزمات فكرية وتنظيمية قد لا يكون بعضها متوفراً، في الحالة الراهنة، ل “تيار المستقبل”، على أنه من الممكن أن تسير البداية الجديدة، بعقد مؤتمر وطني للتيار يُجري مناقشة مستفيضة للمسيرة السابقة، على معايير نقديَّة واضحة، حتى لو كانت السلبيات طاغية على الإيجابيات، فتكون البداية الجديدة قائمة على وضع خطوط عريضة لعقيدة حزبية تضم الأطر التنظيمية التي تسمح بمزيد من التطور.
وهذه البداية الجديدة، بالتالي، سوف تنعكس على بقية الأحزاب القائمة، ومنها أحزاب متجمدة أيضاً في الماضي، من حيث إن لبنان نفسه بحاجة الى بداية جديدة. فلا بد للبدايات الجديدة، بالنسبة الى لبنان والى أحزابه السياسية، من أن تبدأ في مكان ما.
وقد جُرِّبت البداية الجديدة من فوق، أي من رأس الدولة، في عهد الرئيس فؤاد شهاب، واستبشر بها الناس لفترة، لكنها في النتيجة أخفقت في التطور والاستمرار، لكونها محاولة فوقية، ولو أنها حسنة القصد. فالتحول الأنجح، خصوصاً حيث الحاجة اليه أكبر، يجب أن ينطلق من تحت، من القواعد الحزبية والشعبية، ومن النقابات والهيئات الاجتماعية، لأن هؤلاء يكوِّنون الشعب. فالاعتماد على الشعب ذاته أفعل من الاعتماد على ممثليه. ذلك أن تفعيل رقابة الشعب على ممثليه، من شأنه أن يُفعِّل رقابة ممثلي الشعب على الدولة. وهذه العملية معكوسة حتى الآن في لبنان، حيث الرقابة الشعبية على النواب معدومة، وبالتالي فإن رقابة النواب على الدولة معدومة بدورها. وها هو لبنان بفعل ذلك يسير القهقرى وعلى غير هدى، يترنح من اختلال توازناته.
وقد يقول قائل: لماذا يُطلب من “تيار المستقبل” أن يباشر بداية جديدة، دون غيره من سائر الأحزاب؟ والجواب هو الصدفة التاريخية التي وضعت “تيار المستقبل” على المحك، من خلال ما تعرَّض له رئيسه خلال السنوات القليلة الماضية، وهو وضع ما زال مستمراً ولم تُكتب نهايته في الأفق بعد. هي صدفة وهي فرصة. إذ إن أنجح التحولات تكمن في تحويل المصاعب المستعصية الى فرص واعدة.
هذا من حيث المبدأ. أما ما هو منتظر في الواقع، فما زال في طيِّ الغيب. لكنه يُقرأُ من ملامحه التي ظهرت قبل أيام في ذكرى اغتيال الشهيد رفيق الحريري، ومنها طغيان المظهر على الجوهر. وذلك لا ينبىء بتحوُّل جذري حتى الآن.
www.sferzli.com
سعد الحريري: ما له وما عليه (3)
“تيَّار المستقبل” على المحك
19/ 2 / 2024
الزيارة الأخيرة لرئيس الحكومة الأسبق، سعد الحريري، الى بيروت، بمناسبة ذكرى اغتيال والده الشهيد رفيق الحريري، ما زالت محفوفة بالغوامض، وبالتالي تستوجب استكشاف غوامضها، ليس فقط بطرح الأسئلة، إنما بوضعها في الإطار الوطني اللبناني، لتداخل اعتكاف سعد الحريري، وتعليقه العمل السياسي لتيار المستقبل، بخيطٍ خارجيٍّ مقلق.
بدايةً، لا بد من التأكيد بأن “تيار المستقبل” يتمتع بمزايا عديدة وطنية وإيجابية في الوقت ذاته، يجعلها غير مفهومة، بالنظر اليها من خلال الإطار السلبي القائم حتى الآن، من حيث تعليق العمل السياسي بغير إيضاح صريح ومقنع. ولا يُسِرُّ أحداً من اللبنانيين تعليلُ ذلك بالأحوال السيئة القائمة حالياً في لبنان، أو بعدم وجود جهات سياسية مستعدة للتلاقي الوطني في الوقت الحاضر، لأن وجود هذه الأحوال السيئة تدعو الى مضاعفة النشاط السياسي وليس الى الاعتكاف وتعليق النشاط.
ومن المزايا الإيجابية العديدة لتيار المستقبل، أنه حزب منتشر في جميع المناطق اللبنانية من غير استثناء، وبالتالي من الأسهل عليه أن يؤثر في الوضع الوطني. والطامة الكبرى، أن يتبيَّن تالياً، وجود عوامل خارجية ضاغطة على رئيس “تيَّار المستقبل”، فينعكس ذلك سلباً على التيار ذاته متى رُفع القيد الخارجي الموجب للاعتكاف وتعليق النشاط السياسي. لأنه، عندئذ، يفقد قوَّة تلك الميزة من الانتشار الوطني، بالسماح لآخرين أن ينتقصوا من وطنيته.
ومن المزايا الإيجابية الأخرى لتيار المستقبل، أن له مقبولية عالية لدى المكونات اللبنانية عموماً. فهو أقل الأحزاب طائفيةً بين الأحزاب الطائفية في لبنان. وأهميَّة هذه الميزة في “تيَّار المستقبل” أنها قابلة للتطوير على الصعيد الوطني العام، متى خفَّ الانغلاق الطائفي المتزايد في هذه الأيام، حيث لكل فريق سياسي طائفي “بيئته الحاضنة”.
ولكونه حزباً منتشراً في كل لبنان، فإنه يملك القابلية اللازمة للتفاهم مع باقي المكونات اللبنانية، أو أن يشكل اللحمة أو العمود الفقري، لوضعٍ ائتلافي، بل وصولاً الى وضعٍ اتحادي. ذلك أن لتيار المستقبل صداقات وازنة في مختلف البيئات اللبنانية. فهو على درجة عالية من الاعتدال، والمرونة، بحيث يمكنه أن يصبحَ مع الوقت عصيَّاً على الإرادات الخارجية المعوِّقة له، أو الهادفة الى ترويضه وتطويعه.
لكن المؤسف أنَّ “تيار المستقبل” هذه الأيام في وضع لا يُحسدُ عليه، بسبب الغوامض الناشئة من أوضاع قيادته، أو خياراتها، الإراديَّة واللاإراديَّة. وهذه الغوامض لا يمكن لأحدٍ من خارج التيار أن يوضحها لأعضائه أولاً، ولأصدقائه ثانياً، ولعموم اللبنانيين ثالثاً. وهذا يلقي على عاتق قاعدة “تيار المستقبل” مسؤولية وطنية تدفعها الى الخروج من الجمود الراهن الذي يفاقم أزمة لبنان الداخلية.
وهذا أيضاً من شأنه أن يكثِّفَ الضغط على قائد التيار لتدارك الأمر، باعتبار أن العقدة التي أملت الاعتكاف وتعليق العمل، تتعلق بشخصه في الدرجة الأولى. وهو، تبعاً لذلك، ملزم بالاستجابة لقواعده، على قول الشاعر والمسرحي الألماني (الماركسي) بيرتولت بريخت: “أنت قائدُهم فعليك أن تتبعَهم”.
ولا يعني ذلك التبعية، بمعناها الذي يقصد “فقدان الإرادة”، مما يجعله تابعاً لقوى خارجية أو داخلية، بل يعني الاستماع الى نبض القواعد الحزبية والاستجابة لها.
إذ يبدو الأمر لمن ينظرون اليه من خارج التيار، دارسين، أو مراقبين، أو منافسين، أو إعلاميين، وما الى ذلك، وكأن هناك مشابهةً بين أزمة “تيار المستقبل” وأزمة الوضع الوطني اللبناني الذي يقف على شفا التزعزع. فإذا أُخذت هذه المشابهة الى مداها الأقصى، فإنها تضع “تيَّار المستقبل” على المحكِّ، إن لم يكن على المفترق. اتجاه ينبىء بأن الجمود الراهن لتيار المستقبل وقيادته، يفاقم الأزمة الوطنية اللبنانية، واتجاه ينبىء بأن عودته السريعة الى النشاط الوطني من شأنها أن تعجِّل بالانفراج اللبناني العام.
والخيارات المتاحة للخروج من هذا المأزق، ضيقة ومحدودة، وتستوجب العجلة، بسبب تفاقم الأزمة الوطنية في لبنان، وتعاظم تعقيداتها، السياسية وغير السياسية، وأبرزها اختلال التوازن الداخلي بفعل عوامل داخلية وخارجية عديدة، منها غياب “تيار المستقبل” عن العمل السياسي العلني، لكونه من أعمدة التوازن الوطني اللبناني. ذلك أنَّ المشكلة الأساسية في التردي الراهن هي في اختلال التوازن الوطني.
إن انهيار لبنان، بفعل اختلال التوازن الوطني، الذي هو المنصة الوحيدة للنهوض واستعادة التوازن المفقود، ليس مجرَّد حالة عرضية يحلها تقادم الزمن، بل هو أشبه “بالخروج من الجنَّة” كما وصفه الفرزدق بقوله:
وكانت جنتي فخرجتُ منها
كآدمَ حين لجَّ بها الضِرارُ
وكنتُ كفاقئٍ عينيه عمداً
فأصبحَ ما يضيءُ له النهارُ
www.sferzli.com
سعد الحريري: ما له وما عليه (2)
المخطوفون الثلاثة
16/ 2 / 2024
نجح سعد الحريري في حشد المحازبين، والمريدين، والطامعين، والطامحين أيضاً، لكنه مع الأسف، خيَّب آمال المنتظرين. حتى الكلام الذي قاله لشاشة سعودية، بدا متلعثماً ومتناقضاً. ردَّ على كلام سائله بأن المنظومة الحاكمة في لبنان الآن لا تؤمن بالسلام (والمقصود هنا في أغلب الظن السلام مع إسرائيل)، “إنهم سوف يؤمنون عندما تأتيهم الأوامر”. ربما نسي سعد الحريري أن اعتكافه، لا يلغي واقع أنه كان من هذه المنظومة، بل من أقطابها. وهذا يعني أنه هو أيضاً ينتظر الإشارات (حتى لا نقول “الأوامر”). كما يعني، أنه هو من مؤيدي السلام أو حتى من أنصاره (حسب لغة قدامى الشيوعيين). وبالتركيب المنطقي للكلام، يمكن القول بأن الحريري لن يعود الى قواعده في لبنان قبل حلول “السلام”.
والسؤال الذي يتبادر الى الذهن قبل غيره من الأسئلة، هو: لماذا، إذن، هذا الحشد الكبير وغير المسبوق منذ اغتيال والده الشهيد؟ وبما أنه غير مسبوق منذ زمن طويل، فما هو المقصود منه طالما أن سعد الحريري غير عازم على العودة الى لبنان في الوقت الحاضر، وطالما أن “السلام المنشود” ما زال بعيد المنال؟
لا أحد يستطيع أن يعطي جواباً منطقياً، أو فلنقل معقولاً، من غير الرجوع الى أصل المشكلة الناجمة من اغتيال والده الشهيد رفيق الحريري قبل نحو عقدين من الزمان، أو حتى الى ما قبل ذلك، عندما أيقن اللبنانيون أن رفيق الحريري هو الذي سيتولى إدارة لبنان. ومن المفترض أن يكون بعض المتابعين للشؤون اللبنانية، ما زالوا يتذكرون أن رئيس الحكومة المنتظر في ذلك الوقت قادمٌ من أجل إطلاق ورشة إعمار واسعة النطاق، لا إعمار ما هدمته الحرب فقط، بل لجعل بيروت عاصمة الشرق، إن لم يكن عاصمة الكون. وكان القول الدارج في حينه، إن رفيق الحريري قادم الى لبنان على جناح السلام السريع، أو، تخفيفاً من هذه الدرجة العالية من اليقين، على رهان السلام. فأين لبنان اليوم من ذاك اليوم قبل عدة عقود؟
والعبرة من ذلك، أن أي رهان على السلام مع إسرائيل هو من قبيل الوهم في المخيلات الضعيفة، لأن السلام مع إسرائيل، حتى لو تحقَّق في يوم من الأيام، سيكون حرباً بطريقة أخرى، لأن الذين خلقوا فكرة إسرائيل، قبل قرن من خلق دولة إسرائيل، هم آلهة الحرب المؤبدة.
ولذلك بدا سعد الحريري، في وقفته على قبر أبيه قبل يومين، شارداً مرتبكاً وكأنه مخطوف. والواقع أن سعد الحريري ليس هو المخطوف الوحيد. فقد خُطف سعد الحريري يوم خطفت “حركة 14 آذار” استشهاد رفيق الحريري في 14 شباط، وأمعنت فيه تسيُّساً وتزويراً. هذا الخطف الأول، أدى بدايةً الى استبعاد سعد الحريري. إذ إن ما حدث في عهد حكومة فؤاد السنيورة يومذاك، هو خطف لبنان، بإلغاء التوازن الميثاقي الذي قام عليه لبنان أصلاً، حيث مارست حكومته الحكم بتغييب المكون الشيعي، وكأنه غير موجود.
ولم يكن كسر الميثاقية اللبنانية مع الشيعة، على الرغم من الاعتصامات الشعبية الحاشدة في وسط بيروت لمدة سنة ونصف السنة، شيئاً بسيطاً أو قليلاً، لأنه في حقيقته هو إخراج للشيعة من لبنانيتهم، وليس فقط حزب الله، وهذا من الأسباب الجوهريَّة التي حملته تالياً على استخدام ما لديه من طفحٍ في القوة على المسرح الإقليمي ليصبح من أكبر اللاعبين على مسرح أوسع من لبنان بأضعاف مضاعفة، ناهيك بما هو عليه في لبنان. ذلك أن الشيعة هم الذين اختاروا لبنان بلسان كبير أئمتهم في ذلك الوقت الشيخ عبد الحسين شرف الدين، عندما عرض عليهم الملك فيصل الهاشمي أن يدخلوا في دولته العربية في دمشق. وشأنه في ذلك شأن مفتي طرابلس، الزعيم الوطني الكبير عبد الحميد كرامي، الذي أوصى الطرابلسيين بالتمسك بلبنانيتهم، وأدخل ذلك خطياً في وصيَّته عندما بلغه، قبل وفاته، أن بعض غلاة شبان المدينة يمزقون الهوية اللبنانية التي أعطيت لهم، وبعضهم كان يخزق الأرزة ويحتفظ بالهوية!
وقد تطرَّق الآباتي بولس نعمان في الجزء الأول من كتاب مذكراته بعنوان “الإنسان، الوطن، الحريَّة” (1968 – 1992)، الى موضوع “الأحقيَّة الشيعية في اللبنانية”، من خلال حديث له مع كاظم الخليل، الذي تحدَّث اليه عن الغبن اللاحق بالشيعة في أحقيَّتهم اللبنانية، ونقل عنه قوله: “كنت أودُّ أن يبدأ الوعي الشيعي في لبنان بالذات من خلال اتفاق بين الشيعة والمسيحيين”. وقال له كاظم الخليل أيضاً: “إنَّ الشيعة هم سلاح قويٌّ ضد أعداء لبنان”. وفي الختام قال كاظم الخليل للآباتي نعمان: “إن الدولة اللبنانية تتآمر حتى الساعة مع السنَّة على الشيعة، ولم تأتِ حكومة منذ الاستقلال عملت على تأمين حقوقهم” (الصفحات 284 – 286 من مذكرات الآباتي بولس نعمان).
لكن عملية خطف لبنان، بعد خطف قضية رفيق الحريري، لم تنتهِ فصولها بعد. فالذي يحصل اليوم في ظل حكومة نجيب ميقاتي هو الفصل الأخطر من عملية خطف لبنان، من خلال نزع الميثاقية عن المكون المسيحي الذي هو في الأصل السبب الموجب للكيان اللبناني. فالمشروع الذي بدأه فؤاد السنيورة بكسر الميثاقية مع الشيعة، يُستكمل اليوم بكسر الميثاقية مع المسيحيين. وقد تم ذلك مع الأسف، وفي الحالتين، بغطاء من فريق مسيحي وازن، من 14 آذار ومن بقاياه.
فبماذا سينفع حشد الحريري، وخطابه لم يتغير فيه شيء، خصوصاً أنه لم يقل للبنانيين الى أين سيصل بهذا الحشد، وقد بدا عليه، وهو يحيِّيه، أنه مخطوفٌ، مثل 14 شباط، ومثل الميثاقية اللبنانية المبرِّرَة لوجود لبنان؟
www.sferzli.com
سعد الحريري: ما له وما عليه (1)
أنا لستُ أبي
14/ 2 / 2024
ما من شك في أن رئيس الحكومة اللبنانية الأسبق سعد الدين الحريري، الموجود حالياً في زيارته السنوية العابرة الى بيروت بمناسبة الاحتفال بذكرى اغتيال والده، الشهيد رفيق الحريري، يمثل ما لا يمثله معظم السياسيين السنَّة في لبنان. لا لأنهم أقل منه قدرة أو شأناً، بل لأن له حضوراً سياسياً وازناً على كامل الجغرافيا اللبنانية، من شبعا في أقصى الجنوب، الى حلبا في أقصى الشمال، ومن الصويري ومجدل عنجر وبر الياس في أقصى الشرق، الى صيدا وبيروت وطرابلس في أقصى الغرب. هذه ميزة لم تُتح لأي زعيم سني آخر، لا في السابق ولا في الحاضر، ربما باستثناء أبيه، بل ربما هو تفوَّق على أبيه، لأنه أضاف الى إرث أبيه عطفاً شاملاً من اللبنانيين عليه، لمزايا شخصيَّة فيه منفصلة عن إرث أبيه. إذ إنَّ ذاك الإرث شكَّل، في بعض الأحيان، عبئاً عليه كاد ينوءُ به. ومع ذلك فهو لا يستطيع أن يقول أنا أبي، ولا يستطيع أن يقول أنا لستُ أبي. وهذه عقدةُ تُقعدُ وتُلعثمُ أي ممثل على مسرح سياسي معقَّد، كما هو الحال في لبنان.
لكن يمكن القول بأن سعد الحريري لم يستهدِ بعد على صورته الحقيقية بمعزل عن أبيه. فقد ظهر في المرحلة الأولى، بعد استشهاد والده، خجولاً شبه مذعور، عندما أحجم عن الإقدام، فأخلى مكانه لشخص مثير للجدل لا يوحي بالثقة، ثم عندما تقدَّم للمهمة، مارس دوره السياسي وكأنه على مسرح تمثيلي لا على مسرح سياسي، حيث صعد ليخطب على المنصة في ساحة الشهداء وخلفه جدارية للملك السعودي عبد الله بن عبد العزيز، وفجأة خلع جاكيتاته وألقاها جانبا، وشمَّر عن ساعديه، وألقى كلمة ناريَّة، فكأنه أراد بذلك أن يظهر بصورة جديدة، فيها إشارة الى كونه رجل حزم وحسم. ويقال إنه فعل ذلك بتوصية من شركة أجنبية للعلاقات العامة مختصَّة بتعليم السياسيين المبتدئين تفانين اللعبة التي تجذب المتفرجين، وتُفرج كربة المحازبين. ويقال أيضاً إن سعد الحريري ندم على تلك المسرحية، والله أعلم.
واليوم أتى سعد الحريري الى بيروت، مشتاقاً ومشتاقاً اليه، بصورة جديدة، ليست صورة المعتد بشبوبيته، بقدر ما هي صورة الواثق من نُضجه في الطريق الى كهولته. هو الآن بإمكانه أن يودع أباه، ويودع ميراثه، وينطلق الى قمة جديدة بمفرده على ثنايا محبة اللبنانيين لشخصه.
وإذا كانت لا تجوز المقارنة بين سعد الحريري وأقرانه من السياسيين السنَّة في الوقت الحاضر، فإن مقارنته بمن سبقوه فيها أيضاً مفارقات، بمثل الفارق بين لبنان القديم قبل الحرب الأهلية، وبين لبنان الميليشيات الحاكمة الآن. حتى بالمقارنة بينه وبين الزعيم الاستقلالي رياض الصلح، من حيث الوضع السياسي لهذا الأخير في حينه، تعطي أرجحية لسعد الحريري. فقد كان رياض الصلح حائراً في اختيار دائرته الانتخابية، لأنه لم يكن واثقاً من شعبيته، فتارة هو صيداوي، وتارة هو بيروتي. أما سعد الحريري، فبعد أن حسم أمر دائرته الانتخابية من البداية، عمل على أن تكون له مكانة متقدمة في جميع الدوائر الانتخابية في طول لبنان وعرضه. أما رأساً لرأس، خارج العامل الانتخابي، فإن قامة رياض الصلح تبقى أعلى من قامة سعد الحريري مهما ارتفعت.
وقد حاول الرئيس ميشال عون أكثر من مرة أن يُدخل في رأس سعد الحريري أن يشكل معه ثنائياً شبيهاً بالثنائي الاستقلالي، بشارة الخوري ورياض الصلح، لكن هذه الفكرة لم تركب في رأس الحريري، ربما لأنه لم يقتنع بها، أو أنه لم يستوعبها. ومع ذلك فإن ميشال عون ما كان ليفوز بالرئاسة لولا دعم سعد الحريري. وكانت رئاسته ستبقى غير ميثاقية، لو كان فاز رغماً عنه.
لكن سعد الحريري عندما يزور بيروت في السنة مرَّة، تكريماً لذكرى والده الشهيد في 14 شباط / فبراير، يبدو وكأن هناك خيطاً غير منظور يشدُّه الى الوراء. أو لا يريده سوى أن يتذكر الموت على طريقة الرومان مع قياصرتهم. وفي نهاية المطاف، لا يستطيع أن يكون سعد الحريري زعيماً لبنانياً فاعلاً إذا بقي زعيماً زائراً. فهو ليس منفياً من قبل اللبنانيين، بل إن اللبنانيين اليوم مقبلون عليه أكثر من أي وقت مضى، وبعضهم يفتقده افتقاد البدر في الليلة الظلماء.
فإذا كان سعد الحريري نافياً نفسه بصورة طوعية، فإنه ملزمٌ بأن يقدم للبنانيين بوضوح تام أسبابه وأعذاره، لكي يتلمسوا طريقهم به أو بدونه. أما إذا كان منفاه مشروطاً من جهة خارجية، فلا يجوز أن يبقى ذلك في مدار الشبهة، لأن فيه احتقاراً للبنانيين، مكملاً لاحتقارهم السابق بفرض الاستقالة من رئاسة الحكومة عليه. ومن نافل القول، إن في هذه الحالة انتقاصاً من شرعية ومكانة أي جهة قامت بذلك كائنة من كانت.
فالأحرى بسعد الحريري أن يأتي الى بيروت يوم 14 شباط / فبراير باشتياق عيد العشاق، إذا كان يريد أن يَخرجَ، وأن يُخرجَ لبنان، من دائرة الضيق والموت، لأنه من المفارقات المؤسفة أن يكون الزعيم الأقوى في البلاد، هو الأكثر خوفاً من تحمُّل المسؤولية. ويجب أن يعرف اللبنانيون أن عامل الخوف، ممثلاً بذلك الخيط الافتراضي غير المنظور الذي يشدُّه الى الوراء، هو خيط افتراضي لأنه موصول بإرث أبيه.
!وبالتالي، فإن شرعية الزعامة الحريرية التي يلبسها سعد الحريري سوف تبقى ناقصة، وربما عبثية، ما لم يقف على قبر والده ويعلن على الملأ أنه باقٍ في بيروت ولن يتزحزح منها، هاتفاً بأعلى صوته: أنا لست أبي
www.sferzli.com
مذكرات محمد فايق مهندس الإعلام الناصري (الأخيرة)
عن لبنان: أخفى القبيحَ وأظهرَ الحَسَنَ
12/ 2 / 2024
كان الوسط الصحافي اللبناني، خلال الحقبة الناصرية، يعرف مدى اهتمام جمال عبد الناصر بما تنشره صحف بيروت، وكان الملحق الصحافي المصري في العاصمة اللبنانية، أنور الجمل، أنشط إعلامي في العاصمة اللبنانية، بين جميع الملحقين الآخرين، عرباً وأجانب. كان لأنور الجمل حضور، وكان له نفوذ، وكان له أسلوب متميز في العلاقات العامة. طبعاً، كان رأسماله الأول الدعوة الناصرية، لكن الدعوة على أهميتها، تلزمها دعاية أيضاً، والدعاية يلزمها مال، فكان أنور الجمل ينفق على الدعاية بمقدار قليل لأنه لم يكن بتصرفه مال كبير، بينما أصحاب المال الكبير كانوا ينفقون عن سعة ومن غير طائل.
لسنوات عديدة بقي أنور الجمل على المسرح الإعلامي اللبناني النجم الأول. ومع أنه بقي في الخدمة خلال عهد أنور السادات، فقد أفل نجمه لأن الدعوة الساداتية كانت ممجوجة وغير مقنعة من جهة، ولأن الدعاية بالمال الكبير انتقلت مصادرها الى أهل البترودولار.
بل إن الدعوة والدعاية الناصرية، في أواسط الستينات من القرن الماضي، ضعفتا كلتاهما عندما دعا عبد الناصر الى مؤتمر القمة الأول في القاهرة، تحت شعار وحدة الصف. وهنا تنفست الصحافة الناصرية في بيروت الصعداء لأن بعض أصحاب الصحف اللبنانية المحسوبين على عبد الناصر اشتاقوا الى المال الكبير، فاتخذوا من وحدة الصف معبراً الى الصف الآخر. وأذكر عندما كنت أعمل في دار الصياد في عام 1964، كان عميد الدار الراحل الأستاذ سعيد فريحة في مكتبه، وقد بلغه نبأ دعوة عبد الناصر الى مؤتمر القمة، فمررت به بمحض المصادفة فوجدته يكاد يرقص طرباً لذاك الخبر، وقال لي: “لقد انتظرت هذه اللحظة طويلاً. لو لم يدعُ عبد الناصر الى هذا المؤتمر، لكنت أنا سأفعل ذلك”.
وفي محطات عديدة من مذكراته، يذكر محمد فايق وقائع، لا أهمية لها في السياق العام للمواضيع الأساسية، غايتها إظهار مدى اهتمام جمال عبد الناصر بالشؤون اللبنانية. ويؤكد محمد فايق، ما كنا نعرفه في الوسط الصحافي اللبناني من أن عبد الناصر كان يحرص على قراءة الصحف اللبنانية كاملة كلَّ يوم، وكانت تصله كلَّ يوم. كان يقرأ الجرائد اللبنانية بنسخها الورقية المباعة في الأسواق، وليس من خلال التقارير أو الخلاصات المختصرة.
ففي المقطع الرابع من الفصل التاسع بعنوان “عبد الناصر والصحافة اللبنانية” يقول محمد فايق إن الإعلام عند عبد الناصر كان هواية، ويضيف: “وبالتالي كان على وزير الإعلام أن يكون أكثر متابعة، ولم يكن الأمر سهلاً في الأيام الأولى لتوليَّ وزارة الإعلام”. ويقول فايق إن الرئيس عبد الناصر كان يتصل به هاتفياً نحو الساعة الخامسة مساءً ويتحدث عن الصحف اللبنانية، فيسأل على سبيل المثال: “هل قرأت عمود ميشال ابوجودة؟ فأجاوب بالنفي، فيقول لي اقرأه لأنه مهم. هل قرأت مقالة فلان؟ فأجاوب بالنفي، فيقول هذه المقالة تحتاج الى الرد عليها”، الى درجة أن الوزير محمد فايق اعترف في مذكراته بأنه شعر بالتقصير وهو يجاوب بالنفي، الى أن اكتشف أن الصحف اللبنانية تصل الى عبد الناصر يومياً كاملة، بينما هو كان يقرأ خلاصات عنها لا وجود فيها لما يهتم به الرئيس. وقد اضطر محمد فايق الى إجراء ترتيب يمكنه من الحصول على الصحف اللبنانية قبل وصولها الى الرئيس. ويقول بعد وصول تلك الصحف اليه: “وفي أول يوم وجدت أن قراءة الصحف اللبنانية تحتاج الى وقت كبير، فهي كثيرة جداً، وبدأت أتساءل: لماذا الصحف اللبنانية؟ وكيف يستطيع الرئيس قراءة هذا الورق كله؟”.
وقد أبلغني أحد الزملاء أنه كان ضمن وفد صحافي زار الرئيس عبد الناصر ينقدمه رياض طه نقيب الصحافة الراحل، وكان محمد حسنين هيكل، رئيس تحرير جريدة “الأهرام” حاضراً، فقال له عبد الناصر: “بص يا أستاذ هيكل وشوف الصحافة اللبنانية كلها شباب ازاي”.
والمعروف أن عبد الناصر كان يمحض رياض طه ثقته ومحبته، الى درجة أن اصطحبه معه الى اجتماع توقيع اتفاقية الوحدة بين مصر وسوريا، فكان الوحيد الذي وقف وراء عبد الناصر، وهو ليس مصرياً وليس سورياً.
ولم يقتصر الاهتمام بلبنان على الصحافة والصحافيين، بل شمل أيضا الفن والفنانين. وفي تقديم كتاب مذكرات محمد فايق يقول كاتب التقديم، أحمد يوسف أحمد، باعتزاز أن أول عمل قام به محمد فايق بعد تعيينه وزيراً للإرشاد القومي هو استقباله للسيدة فيروز في مكتبه. وفي مكان آخرمن الكتاب نشر محمد فايق صورته مع فيروز في مكتبه، وكتب عنوان الصورة رقم 18 “محمد فايق مع الفنانة الكبيرة فيروز في أول مقابلة له بعد تعيينه وزيراً للإرشاد القومي – أول أيلول / سبتمبر 1966”.
بل إن عبد الناصر نفسه كان له مثل هذا التوجه. وفي هذا يقول محمد فايق، إنه كان أول وزير مصري زار دمشق بعد الانفصال، وإنه قبل مغادرته العاصمة السورية، أرسل في طلب الفنانة اللبنانية الكبيرة صباح، لأنه قبل ذهابه الى دمشق قابل الرئيس عبد الناصر للوقوف على أي توجيهات معينة، فكان الأمر الوحيد الذي طلبه منه هو أن يحاول إعادة الفنانة صباح وحل مشكلاتها، حيث إن “بتوع الجمارك طفشوها” كما نقل عن لسان الرئيس. وعبَّرت صباح عن فرحتها وامتنانها بهذه الرسالة، وعادت الى القاهرة لتتألقَ من جديد، كما كانت دائماً، على حد قوله.
هذا هو الوجه الحسن من الرأي الناصري عن لبنان. أما الوجه الآخر المعتم والذي ليس بالحسن، فلا يقاربه محمد فايق لا من قريب ولا من بعيد. ويجدر هنا إعطاء محمد فايق “منفعة الشك”، على قول الإنكليز، لأنه قبل تعيينه وزيراً للإرشاد القومي، كانت له مهام كثيفة خارج مصر، خصوصاً في إفريقيا، ولم يكن على تماس مع مجريات الأمور في لبنان.
ففي عام 1958، بدأت الأجهزة الأمنية الناصرية في سوريا حملة تدخُّل كثيفة في لبنان، جرى خلالها اغتيال الصحافي المعروف الأستاذ نسيب المتني، وبهذا الحادث انطلقت “الثورة” ضد الرئيس كميل شمعون بتسليح سوري، وسبق ذلك تأليب متواصل للمعارضة بحجة منع كميل شمعون من تجديد ولايته، وباتهامه بأنه ينوي الدخول في حلف بغداد. وقد كانت حملات عبد الناصر السياسية والإعلامية ضد حكم نوري السعيد في بغداد شديدة للغاية، بحيث أسهم ذلك في إطاحة النظام الملكي الهاشمي هناك، وإعلان النظام الجمهوري مكانه، مما دفع الولايات المتحدة الى إنزال قوة كبيرة من مشاة البحرية (المارينز) على شاطئ الأوزاعي في الضاحية الجنوبية من بيروت.
وعندما تسلم العاهل السعودي فيصل بن عبد العزيز الحكم، بعد إبعاد شقيقه الملك سعود بن عبد العزيز، عام 1964، عكف على إقامة حلف إسلامي مضاد لعبد الناصر، وقد تولى الصحافي اللبناني كامل مروة، صاحب جريدة “الحياة”، مهمة الترويج لهذا الحلف، مما أدى الى اغتياله في مكتبه يوم 16 أيار / مايو 1966، من قبل شخص ينتمي الى تنظيم ناصري لبناني. وتندَّر بعض اللبنانيين يومئذ بالزعم أن برقية تعزية بوفاة كامل مروة وردت من القاهرة، قبل حدوث الاغتيال!
لعلَّ محمد فايق لم يكن على علم بكل ذلك، لأنه لم يتم تعيينه في منصب وزاري إلاَّ في شهر أيلول / سبتمبر 1966، أي قبل أربعة أشهر من اغتيال كامل مروة. ولهذا لم يتطرق الى ذلك في مذكراته، أو على الأرجح لم يكن على علم بكل ما جرى في تلك الحقبة من التوتر العام في لبنان والمنطقة، لأنه لم يكن في دائرة اهتماماته الرسمية في ذلك الوقت.
www.sferzli.com
(6)مذكرات محمد فايق مهندس الإعلام الناصري
:مصر بين واشنطن وموسكو
أحبُّ الأعداء وأبغضُ الأصدقاء
9/ 2 / 2024
لم يتحدث محمد فايق في كتاب مذكراته عن طبيعة علاقات عبد الناصر مع واشنطن، ومع موسكو، خلال تعاطيه معهما في مرحلة الحرب الباردة. بل هو تحدث عن علاقة أنور السادات مع أميركا أكثر مما تناول علاقة عبد الناصر معها بأي درجة من العمق، ناهيك بالنقد. ففي المراحل الأولى التي انتهت بالعدوان الثلاثي (التواطؤ الدولي بين بريطانيا وفرنسا وإسرائيل عام 1956)، اكتفى بجملة واحدة قال فيها: “اضطرت القوى المعتدية الى الانسحاب بعد إنذار الاتحاد السوفياتي، وضغط الولايات المتحدة برئاسة دوايت أيزنهاور (1953 – 1961)، الذي لم يكن راضياً عن مؤامرة العدوان الثلاثي. كانت هذه الأسباب الرئيسية التي أجبرت القوات المعتدية على الانسحاب”.
أما عن أنور السادات، من حيث رؤيته للعلاقات الدولية، فيقول: “كان أنور السادات يجري وحده اتصالات مع المسؤولين الأميركيين، من دون أن يُطلع عليها أحداً من المسؤولين المصريين، وكان بعض الاتصالات يتم بمساعدة الاستخبارات الأميركية (سي آي ايه) الموجودة في السفارة الإسبانية في القاهرة التي أوكل اليها رعاية المصالح الأميركية بعد قطع العلاقات مع الولايات المتحدة”. وهذا المقطع لم يكتبه محمد فايق، بل اقتبسه من كتاب “مصر من ناصر الى حرب أكتوبر (تشرين الأول)” للديبلوماسي الروسي فينوغرادوف!
أما فايق بعد ذلك، كتب بقلمه هو: “لكن السادات في هذا الوقت، الذي كنَّا نستعدُّ لبدء معركة تحرير سيناء، كان يحاول أن يكسب ثقة الأميركيين بأي حال من الأحوال، أملاً في أن تضغط الولايات المتحدة على إسرائيل لإعادة سيناء من دون ضرورة للحرب، حتى لو كان الثمن تغيير تحالفاته الرئيسية لتكون مع الولايات المتحدة الأميركية، استناداً الى ما كان مقتنعاً به ويردده دائماً بأن أميركا تملك 99 في المئة من أوراق القضية الفلسطينية والشرق الأوسط”. وفي رأي محمد فايق أن السادات أراد بذلك أن يتملَّص من القرار الذي اتخذه مجلس الدفاع القومي بأن تبدأ الحرب مع إسرائيل في ربيع عام 1971 (وهو قرار اتُّخذ في حياة جمال عبد الناصر).
كذلك يتحدث محمد فايق عن تعويل السادات على زيارة وليام روجرز، وزير الخارجية الأميركي الى مصر في بداية أيار / مايو 1971، بحيث أنه أقال علي صبري من مناصبه قبيل وصول روجرز الى القاهرة للتدليل على صدق نياته تجاه الولايات المتحدة. وكان علي صبري في ذلك الوقت ما زال مسؤولاً عن العلاقات المصرية – السوفياتية. ويقول فايق أيضاً إن السادات، قبل زيارة روجرز، كان قد أبلغ جوزف سيسكو، مساعد وزير الخارجية الأميركي، في زيارة سابقة عن عزمه على التخلص من المجموعة الناصرية المتشددة في الدولة. كذلك أبلغ الأميركيين عن عزمه على التخلص من الوجود السوف