2/2/2024
لعلَّ من أهم المقاطع في كتاب مذكرات محمد فايق، هو المقطع الذي تناول فيه ما أسماه “العلاقة الكارثية بين جمال عبد الناصر والمشير عبد الحكيم عامر” (المقطع السادس من الفصل التاسع الصفحات 200 – 202). وبقدر ما كانت تلك العلاقة كارثية، بسبب الهزيمة المدويَّة أمام إسرائيل في حرب حزيران / يونيو 1967، بقدر ما كانت حميمية بينهما. فقد وصف محمد فايق علاقة عبد الناصر مع المشير عامر بأنها “رفقة سلاح وصداقة” وفوق ذلك قال إن المشير عامر كان الى عبد الناصر “توأم روحه”.
وكان من الطبيعي، والحالة هذه أن يداريه ويقف على خاطره، بل يقف مكتوف الأيدي بالنسبة الى تمسُّك المشير بالقرار العسكري، مما أحدث ازدواجية خطيرة في النظام المصري، بحيث أصبحت القيادة السياسية التي مثَّلها الرئيس عبد الناصر في واد، والقيادة العسكرية التي مثلها المشير عامر في واد آخر، مما أوجد مناخاً لحالة انقلابية عالجها عبد الناصر بالتراجع عن قرارات تتعلق بالمؤسسة العسكرية. بل إن عبد الناصر، حسبما نقل عنه محمد فايق، وصف تلك الحالة بأنها ” انقلاب نصفي”.
لكن أطروحة الانفراد بالقوات المسلحة من قبل المشير عامر، تضعف عندما يؤكد من جهة ثانية أنها كانت حالة عمومية من ناحية القيادات العسكرية، منذ العدوان الثلاثي على مصر في عام 1956. ففي المقطع ذاته من مذكراته يقول محمد فايق: “على الرغم من الانتصار المصري بفشل العدوان الثلاثي (بريطانيا – فرنسا – إسرائيل) في عام 1956، فإن هذا الانتصار كان سياسياً، أما عسكرياً فقد كان أداء القيادات العسكرية متواضعاً، واتضح عدم كفاءة هذه القيادات، وبخاصة قيادات السلاح الجوي، وعلى رأسها قائد السلاح الجوي محمد صدقي محمود، ولم تُتَخذ أي إجراءات وقتها لتغيير تلك القيادات، أو حتى محاسبتها”!
وتعليله الغامض “للتطنيش” عن المحاسبة اللازمة، هو أيضاً بحاجة الى تعليل. في ذلك يقول محمد فايق أن غضَّ النظر عن محاسبة القيادات العسكرية في حرب 1956، كان “كي لا تنتقص من النصر الذي تحقَّق بجلاء القوات المعتدية”. فالقيادات التي كان من المفترض محاسبتها في حرب 1956 بقيت كلها في مواقعها حتى حرب حزيران / يونيو 1967، وعلى يدها وقعت الهزيمة النكراء للجيش المصري في تلك الحرب.
هناك شيء في هذه العلاقة الكارثية بين الرجلين لا يستقيم بالنظر اليه من زاويته الوطنية، ومن حيث نتائجه الفادحة على الشعوب العربية، وهي نتائج ما تزال تجرجر أذيالها حتى اليوم. أي أن تكون الصداقة الحميمة بين قائدين كبيرين سبباً للهزيمة أو مبرراً لها.
وقد حاول محمد فايق أن يعطي لعبد الناصر أسباباً تخفيفية، بالقول إنه حاول أن يقصي المشير عامر من موقعه في قيادة القوات المسلحة بعد الانفصال السوري عن الجمهورية العربية المتحدة، باقتراح تعيينه نائباً لرئيس الجمهورية، لكنه لم يفلح في إقناعه.
ويقول محمد فايق أن المشير عامر كان العضو الوحيد في مجلس الرئاسة، وهو مجلس تشكل في أعقاب الانفصال السوري، الذي اعترض على مشروع التنظيمات العسكرية بهدف إقصاء القيادات التي ظهر عدم كفاءتها وطال بقاؤها في مواقعها، ومنها أيضا أن تكون ترقية الضباط من رتبة عقيد وما فوق من اختصاص مجلس الرئاسة. عندئذ غضب المشير وسافر الى مرسي مطروح حيث بدأ كبار الضباط يزورونه. ويقول محمد فايق: “وظهرت تحركات داخل القوات المسلحة تشير الى أن هناك نوعاً من التذمر. هنا أدرك عبد الناصر خطورة الموقف، حيث ظهرت قدرة عبد الحكيم عامر على تحريك الجيش وولاء القيادات العسكرية له شخصياً، وبذلك أصبح عبد الناصر في موقف بالغ الصعوبة، فإما أن يتراجع عن قراراته لتجنيب البلاد ذلك من خلال كارثة الانقلاب، وأملاً في أن يستطيع معالجة الموقف بعد ذلك”.
وأود هنا أن أعرض رواية، كنت فيها شاهداً، تعطي وجهة نظر مختلفة من جانب المشير عامر. فقد زرت القاهرة من بيروت عندما انتقلت اليها رئيساً لتحرير مجلة “الصياد”، المعروفة جيداً في مصر آنذاك لكونها كانت “ناصرية” في زمن عبد الناصر، وكان ذلك في أواخر عام 1982. وخلال تلك الزيارة أبلغني الزميل الراحل فيليب جلَّاب أنه حادث السيدة برلنتي عبد الحميد، أرملة المشير عبد الحكيم عامر، وأبلغها عن وجودي في القاهرة، وعرض لها من أكون وماذا أمثل، واقترح أن نقوم بزيارة خاصة لها في منزلها فرحبت بذلك، وقضينا عندها سهرة امتدت أكثر من ثلاث ساعات. كانت وحدها في المنزل مع ابنها عمرو من المشير، فسلم الشاب عمرو علينا لكنه لم يجلس معنا.
وقد كتبت ملياً عن تلك السهرة في كتاب سيرتي الذاتية “علامات الدرب”، لكنني أريد هنا أن أركز فقط على جانب “العلاقة الكارثية” بين زوجها المشير عامر و”توأم روحه” جمال عبد الناصر، حسب توصيف محمد فايق. لم أكن أعرف السيدة برلنتي من قبل، لكنني كنت أعرف أنها سيدة مثقفة، وفنانة مرهفة الأحاسيس، وقد أبلغتنا أنها مدينة بثقافتها الى الدكتور محمد حسين هيكل، الذي كان من كبار الحقوقيين في مصر، وهو أحد أعضاء لجنة الثلاثين التي وضعت دستور مصر المستقلة عام 1923، كما تقلد منصب وزير المعارف ثلاث مرات بين 1938 و1943، ثم انتخب رئيساً لحزب “الأحرار الدستوريين” حيث بقي في رئاسة الحزب المذكور حتى ثورة تموز / يوليو 1952، التي قامت بحل جميع الأحزاب السياسية القائمة آنذاك.
طبعاً، في لقاء تعارفي من هذا النوع من اللياقة عدم الدخول مباشرة في المواضيع الحساسة، فسألتها في البداية عن أعمالها الفنية، ومن خلال هذا الحديث أخبرتني عن الدكتور محمد حسين هيكل. لم تكن تلك السهرة من قبيل الحديث الصحافي التقليدي، فلا أنا حضَّرت أسئلة، ولا هي كانت ربما في هذا الوارد، وما كان معدَّاً للنشر في المجلة التي كنت رئيس تحريرها. ثم سألتها عن علاقتها مع الرئيس أنور السادات، فأجابتني بكل صراحة أنه هو اتصل بها بعد شهر من توليه الرئاسة بعد وفاة عبد الناصر، واستدعاها الى مكتبه. وقالت لي إنه رحَّب بها “شبه باكٍ” (أسفاً على وفاة زوجها المشير) وقال لها عن ابنها عمرو: “دا عمرو ابن أخويا، وانا ملزم بيه، دا ابن أخويا”. ثم قالت إن تلك كانت المقابلة الوحيدة والأخيرة، وإن السادات لم يصدق بوعده لها، فلم تراجعه أو تقابله مرة ثانية.
ثم سألتها عما شاع عن زواجها السري من المشير عامر لجهة أن أحداً من القادة المصريين كان يعرف شيئاً عن الغياب المفاجئ للمشير عن السمع والبصر، فهزَّت برأسها وقالت لي: “هل تصدق أن وزير الحربية وقائد القوات المسلحة يغيب أسبوعاً عن البلد ولا أحد من القادة يعرف مكانه، خصوصاً جمال عبد الناصر”.
وعندما قالت إن أركان النظام كذبوا في مسألة زواجها، خطر لي أنها تنشد القول بأنهم كذبوا أيضاً في مسألة انتحاره بعد هزيمة 1967، لكنها لم تقل ذلك مباشرةً، أو كأنها كانت تقرأ ما يجول في خاطري من هذه الناحية، فقالت: “لقد دفع المشير ثمن حبه وولائه لصديقه جمال عبد الناصر، وتحمَّل عنه عثرات كبيرة. فقد حمَّلوه مسؤولية الانفصال السوري، عندما كان مسؤولاً عن سوريا ولم يقل شيئاً. فقد كان عبد الناصر يتجاوزه بالتعاطي المباشر مع عبد الحميد السراج من وراء ظهره. فهل تعتقد بأنهم كانوا أبقوه في منصبه بعد الانفصال السوري لو أنه كان بالفعل مسؤولاً عن الانفصال؟”
واستطردت تقول بعد ذلك:” ثم حمَّلوه مسؤولية ما آلت اليه حرب اليمن ولم يقل شيئاً، بينما المسؤول عن ذلك المداخلات السياسية المتناقضة والمترددة في الشأن اليمني، وكان من الطبيعي أن يدفع الجيش ثمن تلك المداخلات. وأخيراً حمَّلوه مسؤولية الهزيمة أمام القوات الإسرائيلية وخسارة سيناء في حرب يونيو / حزيران بعد ذلك، فلم يعد بمقدوره أن يتحمَّل”.
وتعليقاً على ما قالته بهذا الخصوص، كتبت في كتاب سيرتي الذاتية “علامات الدرب” ما يلي: “هذه العبارة الأخيرة من كلامها (كلام برلنتي) حمَّالة أوجه. وتساءلت بيني وبين نفسي ما إذا كان المقصود بذلك أن الكيل قد طفح فحاول المشير أن يقلب الأوضاع فتخلصوا منه، أم أنه يئس وانهار تحت طائلة المسؤولية عن تلك الكارثة التي لم تنته فصولها بعد، فاختصر المشوار بوضع حد لحياته؟ لكن برلنتي في تلك السهرة، على الرغم من لهجة المرارة التي كانت تتحدث بها، بقيت منصفة لرجال الثورة المصرية عندما سألتها عن رأيها فيهم بصورة عامة. فقالت إنهم جميعا وطنيون لا غبار على وطنيتهم، بل هم من غلاة الوطنيين، لكنهم كانوا متعلقين بالسلطة بأظافرهم وأنيابهم. كان لديهم شبقٌ مرضيٌّ للسلطة بحيث أنهم كانوا مستعدين أن يفعلوا أي شيء من أجلها.
هذه مطالعة مختلفة عن مطالعة محمد فايق. هو يقول إن عبد الناصر تحمل إخفاقات المشير عامر بسبب صداقته اللصيقة به، والسيدة برلنتي عبد الحميد قالت على مسمعي في القاهرة إن عبد الناصر استخدم صداقته للمشير علاَّقة علَّق عليها إخفاقاته السياسية، بصفته صاحب القرار النهائي في كافة الأمور.
وفي موضوع نتائج تلك “العلاقة الكارثية”، حسب تعبير محمد فايق، أي أن تكون وفاة المشير عامر نتيجة يأسه وانتحاره، أم نتيجة محاولة انقلابية فاشلة، يشير فايق الى أنها كانت محاولة انقلابية. بل هو تحسَّب للمحاولة عندما توجه الى بيت عبد الناصر يوم إعلان الهزيمة، فطلب من الفريق أول محمد فوزي أن يُرسل كتيبة عسكرية لحراسة مبنى الإذاعة تحسُّباً لقيام قوات المشير عامر باحتلالها.
ومع ذلك، فإن ظروف تلك المرحلة ما زالت بحاجة الى مزيد من البحث والتدقيق.