الذاكرة الحيَّة
17 / 11 / 2022
في منتصف الشهر الماضي أصبت بوعكة صحية معقدة لم تنفع معها العلاجات التقليدية مع طبيبة العائلة في عيادة الحي، فتقرر نقلي الى المستشفى الجامعي “وست ميدلسيكس يونيفارستي هوسبيتال” القريب من مقر إقامتي. وبعد ترتيب غرفة لي في الطوارىء واجراء الفحوص الأولية، في اليوم الأول من الشهر الجاري، جاء الأستاذ الاختصاصي الذي سيجري العلاج تحت اشرافه ومعه ستة من تلاميذه يقوم بتدريبهم وكلهم من الذكور. أحضروا له كرسيًا جلس عليه قبالتي وراح يوجه الحديث الى تلامذته وهو يحمل ملفي الخاص بيده، قائلًا لهم: “تعلمون ان قلة من الرجال يعيشون الى عمر الخامسة والثمانين، وقلة قليلة من هؤلاء تعيش بصحة جسدية وعقلية تامة. هذه القلة القليلة التامة الصحتين علينا نحن الأطباء واجب اخلاقي وانساني ان نفعل كل ما بوسعنا للحفاظ عليها أطول مدة ممكنة بعد الخامسة والثمانين، هل تعرفون لماذا؟”. انتظر برهة ثم أجاب: “لأنهم يجسدون الذاكرة الحية السليمة لمجتمعاتهم”. ثم نهض ومشى بعد هذه المحاضرة التي دامت أقل من عشر دقائق وتبعه تلاميذه لاستكمال جولتهم على مرضى الطوارئ. لكن واحدًا من هؤلاء التلاميذ عاد الي مسرعًا ليسألني بعربية لبنانية صافية ما اذا كنت أنا هو الاستاذ سليمان الفرزلي، فأجبته بالإيجاب وسألته: ومن تكون انت؟ فقال مسرعًا ليلتحق بزملائه: “أنا لبناني اسمي هادي الصباغ اتدرب على يد الأستاذ الذي قابلك منذ قليل. اي شيء تريد اتصل بي فيصلك”. وهرع مسرعاً. فدعوت له بالنجاح والتوفيق، لكن الظروف لم تشأ ان التقيه مرة ثانية. اما على الصعيد اللبناني الآخر، الصعيد الخرافي، فقد اتصلت بي سيدة من أقاربي تستفسر عما أصابني فقلت لها: “قبل يوم تمامًا من شعوري بالمرض كنت بكامل صحتي على موعد مع طبيبتي نضع اللمسات الأخيرة على خطة التعافي للمرحلة المقبلة، والرياضات التي يجب ان امارسها، وما اذا كان يجب ان استمر في قيادة السيارة، وما الى ذلك من توصيات، واخذت الخطة منها مطبوعة ثم كان ما كان”. فما كان منها إلا أن شهقت وقالت بكل جدية: “يي عليها .. صابتك بالعين “. فضحكت وقلت في نفسي: “كيف لطبيبتي التي تعالجني وجميع أفراد عائلتي من أولاد وأحفاد منذ اكثر من ثلاثين عامًا أن تصيبني بالعين؟!”. وفيما انا اتفكر في الموضوع، تذكرت قصة الخليفة معاوية بن ابي سفيان مع النحوي ابي الأسود الدؤلي عندما قصده الى دار الخلافة لمعايدته بعيد الأضحى. فقد نزل ابو الأسود الى السوق واشترى حلة جديدة لهذه الغاية، وذهب الى الحمام حيث اغتسل وتعطر وتزين وقصد دار الخلافة وكان الوقت مبكرًا فرآه معاوية قادمًا فنهض من مكانه ومشى صوبه للقائه مبادراً بالقول: “أصبحت جميلًا يا أبا الاسود”، فرد عليه شعرًا بقوله:
أفنى الشبابَ الذي غادرتُ بهجتَه
مرُّ الجديدين من آتٍ ومنطلقِ
لم يبقيا لي في طول افتراقهما
شيئًا يُخافُ عليه لذعة الحدقِ
ولذعة الحدق تعني باللغة اللبنانية “صيبة العين”.
لكن المفاجأة التي صادفتني بعد عودتي الى منزلي من المستشفى مساء امس، رسالة من دائرة السير تبشرني بتجديد شهادتي لسياقة السيارة لمدة ثلاث سنوات جديدة. خير إن شاء الله.
ماركس اللبناني
1 / 10/ 2022
في اوائل ستينات القرن التاسع عشر اعتلت صحة المفكر العالمي المشهور كارل ماركس، واضع كتاب “رأس المال”‘ و “البيان الشيوعي”، فنصحه الاطباء بالذهاب الى بلد مشمس، لأن المناخات الأوروبية الباردة لا تناسبه، فاختار الإقامة في الجزائر. وكان ماركس وقتئذ يراسل جريدة “نيويورك تريبيون” في الولايات المتحدة الأميركية لقاء دولار ذهبي واحد عن كل مقال. وفي وقت إقامته في الجزائر اندلعت الحرب الأهلية في جبل لبنان بين الموارنة والدروز (1860 – 1864)، فراح كارل ماركس يتسقط اخبار الحرب الأهلية اللبنانية من الجزائريين أتباع الأمير عبد القادر الجزائري المنفي وقتها في دمشق، بسبب قيادته المقاومة الجزائرية للاحتلال الفرنسي. وكان الامير عبد القادر في ذلك الوقت قد لعب دورًا في التهدئة والتقريب بين المتقاتلين ومساعدة المتضررين، والاهم من ذلك عمل على منع امتداد الحرب اللبنانية الى الشام. ولما كان بعض أتباع الأمير عبد القادر يتنقلون باستمرار بين دمشق والجزائر حاملين معهم اخبار واحوال بلاد الشام وجبل لبنان، لأن الأمير عبد القادر كان على صلة ومراسلة دائمة مع الزعيم الماروني اللبناني يوسف بيك كرم، فقد التقط كارل ماركس تفاصيل الحرب اللبنانية من هؤلاء المسافرين الجزائريين ليكتب عنها في الجريدة النيويوركية التي كان يراسلها. وعندما كنت أصدرت جريدة “الميزان” في لندن خلال تسعينات القرن الماضي، وقعت على مجموعة قديمة من مجلة “بانش” الانكليزية التي ظلت تصدر باستمرار طيلة ثلاثة قرون، وقد تضمن أحد أعدادها لعام 861 مقال كارل ماركس عن الحرب اللبنانية منقولًا عن جريدة “نيويورك تريبيون”، فترجمته ونشرته في “الميزان”. وسوف أحاول إيجاد الترجمة الكاملة لمقال كارل ماركس هذا، لإعادة نشره هنا، لكن احتفظ في الذاكرة مقطعًا منه حول طبيعة اللبنانيين في تلك الحرب الأهلية، وبالتحديد الموارنة والدروز المتقاتلين الأساسيين فيها، حيث وصفهم بأنهم “القبائل المارونية والدرزية البربرية”، لهول ما بلغه عن المجازر الرهيبة التي ارتكبها الفريقان. ولسنا بحاجة الى كارل ماركس ليخبرنا عن الحرب الأهلية اللبنانية الأولى، لأننا عشنا وشفنا الحرب الأهلية الثانية التي ما زالت جارية بطرق اخرى فراح ضحيتها الشعب اللبناني بكامله تقريبًا.
موارنة وشهداء
بقلم كارل ماركس (2 شباط / فبراير 1861)
2 / 10 / 2022
(نشرت أمس قصة مقال كتبه كارل ماركس من الجزائر لجريدة “نيويورك تريبيون” الاميركية، عن الحرب الأهلية اللبنانية الأولى في عام 1861، وترجمته في عام 1997 لجريدة “الميزان” التي كنت أصدرها في تلك الأيام من لندن، وذلك نقلًا عن مجلة “بانش” الانكليزية، وفي ما يلي نص المقال المذكور):
كوسيلة لتصفية الحسابات مع القبائل الدرزية، اتحد المطارنة الموارنة في الطلب الى القوات التركية والفرنسية في سوريا، ذبح أربعة آلاف درزي، ما يعادل عدد ضحايا المجازر التي ارتكبها بحق الموارنة في الصيف الفائت اولئك البرابرة الآخرون. غير أنه يبدو أن الدروز ذبحوا الموارنة دفاعًا عن النفس، أو على الأقل بدافع من الخوف الجسدي الذي انتابهم بفعل رسالة رعوية لنيافة المطران صفرونيوس، مطران صور وصيدا، دعا فيها رعيته الى الانتفاض ضد الدروز في يوم معين، لذبحهم وسلب ممتلكاتهم. صفرونيوس هو أيضًا الاسم الذي كان يحمله بطريرك القدس البيزنطي ( 560 – 638 م) والذي في زمانه دخل الخليفة عمر بن الخطاب المدينة المقدسة في الفتح الاسلامي عام 637 م – المحرر وتطبيقًا لهذا التحريض، أصرَّ المطران على حجته بأن الدروز ليسوا قومًا محاربين أو كثيري العدد، وبالتالي يمكن قتلهم ونهبهم بسهولة. إن صفرونيوس وإخوته في مطرانية منطقة الدروز فرحون ومبتهجون بشراكتهم مع المقام البابوي في روما. وقد كان الحبر الأعظم بالأمس ينعي مصير ابنائه الموارنة ناقلاً مخاوفهم، ونادباً في الوقت ذاته، وبصوت أعلى، مخاوفه هو. (البابا المذكور هو بيوس التاسع الذي جلس على الكرسي الرسولي مدة أطول من جميع البابوات حتى الآن من 1846 الى 1878- المحرر) لكن هؤلاء الضحايا لا يبدو أنهم شهداء مساكين كما صورَّهم قداسته. فالمجزرة ضد الموارنة، كما يظهر، شيءٌ مختلفٌ عن المجزرة ضد “الأبرياء”. (“الأبرياء” هنا عبارة عن استعارة تشير الى الأطفال الذكور الذين أمر بقتلهم الملك اليهودي الروماني هيرودوس في عهد أغسطس قيصر، عندما بلغه نبأ ولادة السيد المسيح بغية التخلص منه – المحرر) وعلى أي حال، فإن المطران صفرونيوس وزملاءه الأساقفة يفهمون “الصفح المسيحي”، كما هو ظاهر، بأنه يعني ردُّ الأذيَّة بمثلها مع فائدة تبلغ حدَّ الربا. فإذا كان كل ما قيل لنا عن صفرونيوس صحيحًا (إشارة الى ما بلغه عن الاضطرابات اللبنانية من المسافرين الجزائريين كما ورد في مقال الأمس- المحرر)، فإن ذلك الكاهن الجليل ليس سوى واحد من قطَّاع الطرق. فماذا يظنُّ الحبر الأعظم بذلك الأسقف؟ ربما كان يظن بانه يصلح ليكون رئيسًا للوزراء – اذا ما حدث شيءٌ لانطونيللي. (الكاردينال انطونيللي عينه البابا رئيسًا للوزراء في المقاطعات البابوية بعد عودته من منفاه الفرنسي عام 1850، وكان شديد العداء لنظام الحكم الدستوري – المحرر). والا فإن قداسته قد يميل إلى الاعتقاد بان صفرونيوس جدير بعمل أفضل من رئاسة كنيسة صور وصيدا. فقد يخطر له أن زينة الكهنوت الكاثوليكي هذا من الممكن نقله الى مركز أنفع وأفضل. وفي هذه الحالة، ربما عكف على تنصيب صفرونيوس رئيسًا لأساقفة “دلهوني”، وتعيين أخوته المطالبين بموت أربعة الاف درزي أساقفة مساعدين. وكلما أراد الملك “باداهو” أن يملأ بركة من الدماء، وجد صفرونيوس وكهنته على أتم الاستعداد والسرور لتكريس ومباركة عمله. (باداهو هو الملك العاشر لمملكة داهومي على الساحل الغربي للقارة الإفريقية، دولة بنين حاليًا وعاصمتها كوتونو، وهي مملكة تأسست في عام 1600. وقد اشتهر ملكها باداهو بقسوته وبتجارة العبيد ، وحكم طويلًا من عام 1858 الى عام 1889 ومات منتحرًا- المحرر).
كفر وإلحاد (1)
زوال الروح
28 / 9 / 2022
هناك اعتقاد شائع بأن الكفر والإلحاد حالة فكرية مرافقة للأديان السماوية المعروفة. لكنها في الواقع التاريخي المكتوب نشأت في العهود الإغريقية والرومانية قبل عدة قرون من ظهور المسيحية والإسلام، عندما انبرى الفيلسوف الإغريقي ابيقوروس (مؤسس الفلسفة الابيقورية 371 – 240 ق م)، لدحض الفلسفة الأفلاطونية (الأفكار والأشكال). وقد أسس ابيقوروس مدرسة في أثينا سماها “الحديقة” على غرار مدرسة أفلاطون المعروفة بإسم “الاكاديمية”، لكنه سمح بالدخول اليها للنساء والعبيد، وهو ما لم يسمح به أحد من قبله. وقد وصف ابيقوروس الطبيعة في إطار “المادية الذرية”، أي أصغر جزء مادي غير قابل للانقسام، الى ان نجح العلم الحديث في القرن الماضي بشطر الذرة لتوليد الطاقة الذرية والقنابل الذرية. وباختصار، قدم اطروحة تدحض إمكانية بقاء الروح بعد الموت. وفسر المنحى الديني القائل بغير ذلك بأنه نتيجة قلق الانسان وخوفه من الموت، وهو ما سماه “مصدر الرغبات البشرية غير العقلانية”، لكنه اعترف في الوقت ذاته بأن هذا القلق البشري غير العقلاني من الصعب تصحيحه بسبب خوف البشر من الموت. وقال ساخرًا من أتباع الآلهة بقوله: “اتظنون أن الآلهة تشغل نفسها بالبشر وكيف يسلكون”! ومن أبرز الذين اعتنقوا افكار ابيقوروس في العهد الروماني (القرن الأول قبل الميلاد 99 – 55 ق م) الشاعر لوكريتيوس الذي كتب ملحمة شعرية عنوانها “في طبيعة الأشياء”، وهي اليوم من المصادر الأهم للفلسفة الأبيقورية، لأن معظم كتابات ابيقوروس ما زال مفقودًا. (في الحلقة المقبلة شعر لوكريتيوس)
كفر والحاد (2)
في طبيعة الأشياء
29 / 9 / 2022
شهد النصف الأخير من القرن الأول قبل الميلاد تحولات جذرية في الجمهورية الرومانية أدت الى سقوطها باتجاه نظام امبراطوري ديكتاتوري. وتلك التحولات نشأت بفعل حربين أهليتين متواصلتين، الأولى عام 48 ق. م، بين يوليوس قيصر وصهره السابق الجنرال بومبيوس الكبير وانتهت بانتصار يوليوس قيصر انتصارًا حاسمًا في معركة “فرزاليا”. والثانية وقعت في عام 42 ق . م بين قتلة يوليوس قيصر (أبرز هم بروتوس وكاسيوس)، واوكتافيان (أوغسطس قيصر) وريثه، ثم بين اوكتافيان ومارك انطوني زوج كليوباترا آخر ملكة من البطالسة في مصر. لكن هذه المرحلة شهدت ايضا بروز كوكبة من الكتاب والشعراء والمفكرين أشهرهم السياسي الكبير سيسيرو، والشاعر فيرجيل صاحب الملحمة الشعرية المشهورة “الانيادة”، والشاعر لوكريتيوس الذي نحن بصدده لانه أشهر الذين اعتنقوا أفكار الفيلسوف الإغريقي ابيقوروس، وشرحها شرحًا وافيًا في ملحمته الشعرية بعنوان “في طبيعة الأشياء”، ومنها الأفكار الإلحادية القائلة بزوال روح الإنسان بعد موته، وبعدم وجود حياة بعد الموت. والمدهش فيها أنها تتضمن أفكارًا من عصرنا الراهن حول الذرة المكونة للمادة، وحول طبيعة الكون وحركته. ولما كانت أفكار ابيقوروس الإلحادية صادمة ومن الصعب بلعها، حتى قبل ثلاثة قرون قبل الميلاد، وصف لوكريتيوس ملحمته الشعرية بأنها “طلاء من العسل على فنجان فلسفة ابيقوروس لتحليتها وتسهيل بلعها”. وقد وضع لوكريتيوس ملحمته الشعرية في ستة كتب أولها تقديم للإطار الفكري من حيث لانهائية الكون، وأنه ليس في هذا الكون سوى الذرات والفراغ، وأبدية المادة. أما الكتاب الثاني فيشمل المواضيع التالية:
1) حركة الذرَّات
2) أشكال الذرَّات وتجمعاتها
3) عوالم لامتناهية ويشمل الكتاب الثالث:
1) الطبيعة وتكوين العقل
2) الروح فانية
3) سخافة الخوف من الموت
ويشمل الكتاب الرابع:
1) الوجود وطبيعة الأشكال
2) الحواس والصور العقلية
3) بعض الوظائف الحيوية
4) عاطفة الحب
ويشمل الكتاب الخامس:
1) جدليَّة الكتاب وقصيدة شعر جديدة ضد مفهوم “الغائية”. (الاعتقاد بأن كل شيء في الطبيعة له غاية).
2) العالم ليس أبديًا
3) تكوين العالم واسئلة فلكية
4) أصول الخضار والحياة الحيوانية
5) أصول البشر ومرحلتهم الوحشية
6) بدايات الحضارة
ويشمل الكتاب السادس والأخير:
1) الظواهر الكبرى للنيازك
2) الظواهر العجيبة والمحيرة لتعاقب الليل والنهار وفصول السنة
وسوف أعرض في الجزء الثالث من هذا الموضوع مقاطع مختارة من شعر لوكريتيوس من ترجمتي عن الانكليزية (ترجمة رونالد ميلفيل عن اللاتينية)
كفر وإلحاد ( 3 )
بريت محاريث الحقول
30 / 9 / 2022
في الزمن المعاصر، زمن الشيوعية الإلحادية، زمن كارل ماركس والمادية الديالكتيكية، حاول ماركس ان يضع كتابًا في النقد الفلسفي عام 1843، لكنه لم يكمله. وفي ذاك الكتاب غير المكتمل الذي نشره في صحيفة مغمورة لم تكن تطبع سوى الف نسخة، استخدم بصورة عابرة جملة منسية عادت لتعم العالم في ثلاثينات القرن العشرين، عندما بات الفكر الاشتراكي موضة دارجة، وتقول: “الدين أفيون الشعوب”. لكن المادية الابيقورية في القرن الرابع قبل الميلاد، كانت في توصيف الدين ومفاعيله في العقل البشري أكثر وضوحًا من المادية الماركسية، وزادت وضوحًا عندما فسرها شعرًا الشاعر الروماني لوكريتيوس قبل أنحو 50 سنة على ظهور السيد المسيح. فقد مرت عبارة ماركس بشكل عابر بحيث لم يتنبه اليها أحد في البداية ولم تُنبش من هامشيتها سوى في عام 1930. أما مطالعة لوكريتيوس الشعرية في ملحمته بعنوان “في طبيعة الأشياء” فقد استهدفت العقائد الدينية استهدافًا علميًا معللًا ضمن إطار تفسير حركة الكون والوجود، وبقاء أو فناء الأرض والجنس البشري. ومن الأمثلة على ذلك (كما ترجمتها عن ترجمة ميلفيل الانكليزية عن اللاتينية):
تحت وطأتها
تنسحق الناس كالهباء
تَطحنهم أساطيرُ الالوهة
تُرعبهم صواعقُ الفضاء
أو زمجرات السماء
والفارق هو أن ماركس قال عبارته في الدين في إطار الوعي الطبقي، بينما وضع لوكريتيوس قصائده في إطار الوجود البشري وتعامله مع الطبيعة. وقد نبه الشاعر الروماني إلى ان التحرر من الأساطير الدينية له وجه خفي هو “القبول الإلزامي بمسيرة الطبيعة المؤدية في النتيجة الى انحلال لا رجوع عنه”. وكان يعتقد أن فهم هذه الحقائق يؤدي الى السكينة”، وينهي القلق البشري مما يسمونه “الآخرة” أو “ألعالم الآخر”.” لكن في زيارة لي الى المرحوم الشيخ عبدالله العلايلي في منزله في بيروت في التسعينات قبل وفاته بسنتين، برفقة ابن العم إيلي فرزلي، فتحنا نقاشًا حول الدين فوصفه الشيخ عبدالله بقوله: “الدين طمأنينة”، في مخالفة تامة لنظرية “السكينة” التي طرحها لوكريتيوس قبل اكثر من ألفي عام
حيث قال: أنظر وراءك من جديد
ألا ترى مرَّ العصور
مرَّاً غير محدود الدهور
ذلك انه انطلق من قاعدة أن الارض محدودة الموارد ويجري استنزافها الى درجة لن تقوى معها على إدامة الوجود البشري. فهو يقول في ذلك:
عصرٌ عظيمٌ في عالمنا انكسر
فالأرضُ منهكةٌ
بالكاد تقوى على إطعام البشر
بريت محاريث الحقول
وشح الثمر
فلا بد من أضعاف كدح وكدر
لكن حتى الكدح المضاعف المكدر عيش الناس لن ينفع في النهاية، لأن محاريث الحقول لن تستطيع إنتاج ما يكفي من الطعام لإدامة الجنس البشري وفصائل الحيوان جميعًا. فالطبيعة في مفهومه هي “مرآة البشر” لا يرون فيها ما مضى بل ما هو آت، وما هو آت ليس أقل من الهلاك. يقول لوكريتيوس:
لا شيء يعنينا قبل مولدنا
وفي الطبيعة مرآة لأنفسنا
فيها نرى آتي الزمان
الى يوم الممات
فأي شيءٍ تراه يُرعبنا؟
أين هي المأساة؟
أليس الموت أهنأ من منامتنا؟