يوم الفراق

بقلم سليمان الفرزلي

خريف عام 1982، عدت الى بيروت متلَهِّفاً، وفي ربيع عام 1983، غادرتها من جديد

متأسِّفاً، فكتبتُ هذه الخواطر المحبوكةُ بالتناقضات، تعبيراً عن أحوالِ بيروت يومَ فارقتُها

:للمرة الثانية، وعن حيرتي مع نفسي حيالها

وداعاً يا حبيبتي

فراقُكِ يا شبيهتي

مرتعُ القدر

أيتها المكحَّلةُ بكحلٍ من أهدابِ الليل

تخطرينَ أمامي بحلَّةٍ من خيوطِ الشمس

***

لا تنظري الى الوراءِ فلنْ ترينني

لأنني اختفيتُ عن الأنظار

سِرُّكِ العظيمُ في مأمنٍ فلا تقلقي

لن أبوحَ به لأحد

فلا تبحثي عني لئلا ينكشفُ السر

***

ُلا تُجديكِ الدموع

ولن يُفرِّجَ عنكِ لطمُ الخدود

،بل تهطلينَ عليَّ كرذاذِ المطر

تلامسينَ جسدي كنسائمِ الصباح

ترفرفينَ حولي كالحمامِ الزاجل

فتنحنينَ أمامي كالسنبلةِ الممتلئة

***

أيتها الأنشودةُ المتشكلةُ من كلامٍ لا يدانيه كلام

المرتَّلةُ بصوتٍ لا يستوعبُه السمع

تسقطينَ فلا قرارَ للهاوية

وترتفعينَ فلا حدودَ للذرى

***

أيتها المأدبةُ العامرةُ باللذائذ

من كلِّ ثمرٍ محرَّمٍ صنفان

ومن كلِّ وردٍ نادرٍ أشكالٌ وألوان

يا قارورةً من طيب

قطَّرته آلهةٌ فاجرة

يا عبقاً يفوحُ ولا يتلاشى

***

أيتها الكأسُ المترعةُ

بخمرٍ أعتقَ من الدهور

يا نغماً في كلِّ مزمار

يا طبقاً شهيَّاً على كلِّ الموائد

يا من أدخلتِني في التجربة

فجعلتني مدمناً على التجارب

***

لا تسألي

ولا تقلقي

ها أنا موغلٌ في الندامة

كما كنت موغلاً في التجربة

فاذهبي وخُذِي معك كلَّ الأمتعة

وكلَّ المِتَع

خذي كلَّ ما صنعتُه لكِ

وكلَّ ما أعطيتِني

***

من الريحِ صنعتُ لكِ معطفاً

من النورِ صبغتُ لكِ وشاحاً

من العتمةِ جمعتُ لكِ كحلاً

من الطيبِ نسجتُ لكِ رداءً

من الزنبقِ فرشتُ لكِ سريراً

من الشِعرِ نظمتُ لكِ غطاءً

فَرَطتُ كلَّ القصائدِ

وصغتُها لكِ عقداً

ومن النثرِ صنعت لكِ وسادة

ذَوَبتُ كلَّ الكتبِ

وحشوتُها في رأسكِ أفكاراً

ألَّفتُكِ سِفراً جديداً للحبِّ الجميل

***

أنتِ كتابي

لا حبرَ فيهِ ولا ورق

لا عنوانَ فيهِ غيرُكِ

ولا فصولَ سوى ما وهبَتكِ الطبيعة

دعيني أستريحُ من هذي الكتابةِ المضنية

***

اعذريني، وإن شئتِ

لا تغفري لي قسوتي

فما أقسى من أن أضعَ كتابي على الرف

لا عليكِ، إنني حافِظَهُ كلمةً كلمة

أهربُ منه فأجدُه أمامي

أنساهُ فيملأ ذاكرتي

***

أنا وأنتِ غريبان وقريبان

كلما اقتربنا اغتربنا

ونغتربُ فنقترب

نتحدُ لنفترق

ونفترقُ لنتَّحد

***

أنا وأنتِ واحدٌ واثنان

ما أصعبه من كتاب

أن تكوني مثلي وغيري

أنتِ بحري

وأنا نهرُكِ

أنا نبعُكِ وأنتِ المصَب

***

أخرجُ منكِ متسللاً

وأعود اليكِ صاخباً

أحضانُك دائماً بالانتظار

لا تملِّينَ من العناق

أغادرُ وتمكثين

أسألك لآخر مرَّة

أهو الوداعُ سمةُ المكان؟

***

ًاذهبي واملئي الجداولَ ملوحة

لعلي أجعلُ البحرَ رقراقاً

أقبلتِ عليَّ مغادراً

وتُقبلين عليَّ وافداً

هي الطبيعةُ التي جمعتنا

فما من واحدٍ منَّا قصدَ الآخر

َاخترنا المسار

والمسيرةُ اختارتنا

هي الحكمةُ العظمى

أن نَتَّحِدَ وننفصلَ في آن

***

أيتها المعلَّقةُ بين العلوِّ والانحدار

يا قعراً لكلِّ هاوية

ويا ذروةً لكلِّ ارتفاع

عند السقوطِ تتجسَّدين

وعند التسامي تتلاشين

لا يميِّزُ بينكِ وبينكِ

ِسوى أنينُ النشوة

!… أو أنين العذاب

***

ما في الخيالِ غيرُ ما في الوهم

أتوهمكِ فأسقط ُفي هاويتكِ

ِأتخيلُكِ فأرتفعُ الى ذراك

ليس بين الوهمِ والخيالِ محطٌّ

فأينَ أستريح؟

***

أضناني السعيُ

وأفناني الى حضنكِ الهرع

أخافُ أن أجيئَك مستريحاً

فأجدُكِ متعبة

أنت الواحةُ لنخيلِ الإبداع

يا مرتعاً لقوافلِ البدَع

فاقبليني نخلةً في الواحة

أو بدعةً في المرتع

***

جعلتكِ منبتاً للصواري

فلم يتَّسع لها بحر

ِّأقمتُك نُصُباً للحب

فلم تحملهُ قاعدة

رسمتكِ لوحةً للذكرى

فاستعصت على الذاكرة

نشرتكِ كتاباً للوجد

فأتلفَهُ الغبار

ترنَّمتُ بكِ غنوةً للعزاء

فتنافرت بهِ الألحان

***

انكسرَ الضوءُ

وتبدَّدَ الصدى

رحَلَت الوداعةُ

وامَّحت الرموز

أيتها السائرةُ في كلِّ الطرق

المبحرةُ في كل السفائن

العابقةُ في كل الأجواء

أفلا تستريحين؟

ها هو السريرُ مشتاقٌ اليكِ

وعنكِ يبحثُ السرور

***

ُاعتكفَ الصباح

ُواستقالَ المساء

فلا ليلٌ ولا نهار

والأيامُ عشبٌ يابسٌ

…كأنها موتٌ

!ليس منه قيامة

سليمان الفرزلي، بيروت في 21 أيار / مايو 1983

من الارشيف

«تسامي جبران فوق «الفساد المطلق