5/2/2024
من المعروف أنَّ جمال عبد الناصر كان ضدَّ الأحزاب السياسية، وقد ظهر ذلك عندما أقدم مجلس قيادة الثورة، فور الانقلاب على نظام الملك فاروق يوم 23 تموز / يوليو 1952، على حل جميع الأحزاب السياسية العاملة في مصر حينذاك. بل إن الشرط الأول لعبد الناصر على السوريين الذين كانوا يفاوضونه على إقامة الوحدة المصرية – السوريَّة أواخر عام 1957، أن يجري حلُّ الأحزاب السوريَّة كافَّة ومن غير استثناء، قبل الاتفاق على أي شيء آخر.
لكن عبد الناصر، بعد انفصال سوريا عن دولة الوحدة بعد نحو ثلاث سنوات فقط من قيامها، شعر بضرورة نوع من التنظيم يشكل إطاراً للحكم من خلاله. ولهذا طوَّر فكرة “الاتحاد الاشتراكي” لكي يكون هذا الاتحاد هو الإطار المطلوب. ومع ذلك، فإن عبد الناصر ظلَّ يساوره القلق من ألاَّ يستطيع “الاتحاد الاشتراكي” تشكيل الإطار المطلوب، لكونه حالة بيروقراطية، يمكن أن تشكل عبئاً إضافياً على البيروقراطية الحكومية المتضخمة والمترهلة.
ويروي محمد فايق أن عبد الناصر فاتح رئيس وزراء حكومة الصين الشعبية، شو إن لاي، بموضوع التنظيم السياسي في الدولة، وخصوصاً إزاء الجيش. وقد جرى هذا الحديث مع الزعيم الصيني بداية صيف عام 1965، عندما زار القاهرة ليتحادث مع عبد الناصر، قبل سفرهما معاً الى الجزائر تلبية لدعوة الرئيس أحمد بن بلَّة لحضور قمة الدول الآسيوية والإفريقية المقرَّر عقدها في العاصمة الجزائرية. لكن في هذه الأثناء، أي في الوقت الذي كان فيه شو إن لاي في القاهرة، وقع انقلاب قائد الجيش الجزائري، هواري بومدين، ضد بن بلَّة، فبقي الزعيم الصيني أحد عشر يوماً في مصر، قضى خلالها إجازة في الإسكندرية مع عبد الناصر، لأن الحكم الجديد في الجزائر ألغى المؤتمر. وكان الوضع آنذاك حسَّاساً، ليس فقط بسبب الانقلاب الجزائري، إنما لوجود خلافات عميقة بين الصين والاتحاد السوفياتي على قضايا عدَّة من بينها القمة الإفريقية – الآسيوية.
ويقول محمد فايق في مذكراته أنه كان من الطبعي أن يهتمَّ جمال عبد الناصر اهتماماً خاصاً بالزعيم الصيني، صديقه منذ مؤتمر باندونغ عام 1956 (المؤتمر التأسيسي لمنظومة الحياد الإيجابي وعدم الانحياز)، الذي ساعده على عقد صفقة السلاح التشيكي، كما ساعده وفتح له الطريق الى الدول الآسيوية. وكانت مصر من ناحيتها، أول دولة عربية وإفريقية تعترف بجمهورية الصين الشعبية، وتقيم معها علاقات ديبلوماسية منذ عام 1956. وأكد محمد فايق أنه خلال تلك الزيارة الطويلة للزعيم الصيني الى مصر حضر شخصياً جميع المحادثات واللقاءات التي تمت بينهما.
يقول محمد فايق، حول موضوع التنظيم السياسي، إن عبد الناصر أبلغ شو إن لاي قائلاً: “إننا لم نستطع بناء تنظيم سياسي قوي بسبب الجيش (وفي رأي محمد فايق أنه كان يقصد بذلك عبد الحكيم عامر)”. وأضاف: “عندما أنشأ الاتحاد الاشتراكي ’ منظمة الشباب‘ عبَّر عبد الحكيم عامر عن قلقه الشديد، بخاصًّة أن علي صبري كان أميناً عاماً للاتحاد الاشتراكي، واضطر عبد الناصر إلى إبعاد علي صبري عن أمانة الاتحاد”. وأكد محمد فايق أن هذا ما جعل عبد الناصر يلجأ الى بناء “التنظيم السري”، من غير أن يفصح شيئاً عن ماهية هذا التنظيم السري، أو عن مبادئه، أو هيكليته، سوى القول إن تلك المحاولات كانت “للاستقواء على عبد الحكيم عامر في الجبهة الداخلية بتنظيمات سياسية مدنية لم تكتمل”.
يُخيًّل للقارئ من خلال هذا الكلام، أنَّ عبد الحكيم عامر كان هو الرجل الأقوى في النظام المصري، وأن عبد الناصر كان الطرف الأضعف الباحث عن وسائل تنظيمية في المجتمع المدني يستطيع بها مواجهة الجيش، أو الاستقواء عليه.
وتبقى مسألة التنظيم السياسي بطبيعته الحزبية مادة للنقاش، وسوف تبقى الى أمد طويل في المستقبل في ظل الحكم الفردي، حيث تكون السلطة في يد أفرادٍ قليلين، أو الحكم الانفرادي حيث تكون السلطة في يد فردٍ واحد. وكان الصحافي محمد حسنين هيكل، المقرَّب من عبد الناصر، قد فتح نقاشاً من هذا القبيل بعد الانفصال السوري، عندما حاول أن يلامس الثغرات التي أدَّت الى الانفصال من الناحية التنظيمية، بطرح عدم إمكانية نجاح وحدة عربية بين قطرين أو أكثر، من غير أن تكون هناك “حركة وحدوية” في الأقطار الساعية الى الوحدة فيما بينها أو الراغبة في ذلك. ومن ذلك الوقت وحتى الآن لم تكن في العالم العربي حركة بهذه المواصفات غير ” حزب البعث العربي الاشتراكي” الذي عمل عبد الناصر ونظامه في سوريا ومصر على تهشيمه وتهميشه، بالإضافة الى الخلل العضوي في التركيبات التنظيمية لحزب البعث ذاته.
أما فكرة التنظيم السياسي، السري أو العلني، في الحكم الفردي، فهي محكومة بالفشل مسبقاً لأنها فكرة فوقية لا تستطيع أن تتجاوز كونها جهازاً إدارياً من أجهزة الدولة. فالتنظيم السري الذي راود عبد الناصر ليستقوي به على الجيش، أو ليوازي به القوات المسلحة، لن يكون، في أحسن الأحوال، أكثر من “جهاز أمني”، أو جهاز مخابراتي. فالحركات السياسية الأصيلة القادرة على التفاعل مع المجتمع لا تنبت إلاَّ من تحت. وقد سبق أن قامت في مصر حركات من هذا النوع أبرزها “حزب الوفد” و “حركة الإخوان المسلمين” بصرف النظر عن الفوارق بينهما، من حيث إن “حزب الوفد” كان حزباً مدنياً نخبوياً،
و”حركة الإخوان المسلمين” كانت حزباً دينياً شعبياً.
فالحاجة الى “التنظيم” أو “الحزب”، حتى بالنسبة الى نظام فردي يقوده زعيم له كاريزما جاذبة، أو تتحكم به نرجسية مميزة، ليست مسألة “ديكور” للزينة مكمل لنرجسية الزعيم، بقدر ما هي مسألة ديمومة. فالزعيم الكاريزمي قصير العمر، ولو طال عمر حكمه. أما الحركة أو الحزب أو التنظيم فلهم حياة متجددة، حتى لو فشلوا، لأن سمة التجدد في الحركات الأصيلة تجعلها طويلة البقاء. فهي تستطيع أن تنهض من كبوتها، وتستطيع أن تجدد شبابها وكوادرها، أو حتى تستطيع أن تؤسس نفسها من جديد.
.وفي المقابل، فإنَّ الحركة النازلة من فوق تنتفي في داخلها القدرة على المعارضة أو الاعتراض، وتبقى مؤلفة من شخص واحد ولو بلغ عديدها مليون عضو. وبالتالي، فإنَّ أحزاب، أو تنظيمات، أو حركات الرجل الواحد، هي حركات فارغة، أو مفرغة، تسقط بسقوط واضعها، أو تموت بموته