9/2/2024
لم يتحدث محمد فايق في كتاب مذكراته عن طبيعة علاقات عبد الناصر مع واشنطن، ومع موسكو، خلال تعاطيه معهما في مرحلة الحرب الباردة. بل هو تحدث عن علاقة أنور السادات مع أميركا أكثر مما تناول علاقة عبد الناصر معها بأي درجة من العمق، ناهيك بالنقد. ففي المراحل الأولى التي انتهت بالعدوان الثلاثي (التواطؤ الدولي بين بريطانيا وفرنسا وإسرائيل عام 1956)، اكتفى بجملة واحدة قال فيها: “اضطرت القوى المعتدية الى الانسحاب بعد إنذار الاتحاد السوفياتي، وضغط الولايات المتحدة برئاسة دوايت أيزنهاور (1953 – 1961)، الذي لم يكن راضياً عن مؤامرة العدوان الثلاثي. كانت هذه الأسباب الرئيسية التي أجبرت القوات المعتدية على الانسحاب”.
أما عن أنور السادات، من حيث رؤيته للعلاقات الدولية، فيقول: “كان أنور السادات يجري وحده اتصالات مع المسؤولين الأميركيين، من دون أن يُطلع عليها أحداً من المسؤولين المصريين، وكان بعض الاتصالات يتم بمساعدة الاستخبارات الأميركية (سي آي ايه) الموجودة في السفارة الإسبانية في القاهرة التي أوكل اليها رعاية المصالح الأميركية بعد قطع العلاقات مع الولايات المتحدة”. وهذا المقطع لم يكتبه محمد فايق، بل اقتبسه من كتاب “مصر من ناصر الى حرب أكتوبر (تشرين الأول)” للديبلوماسي الروسي فينوغرادوف!
أما فايق بعد ذلك، كتب بقلمه هو: “لكن السادات في هذا الوقت، الذي كنَّا نستعدُّ لبدء معركة تحرير سيناء، كان يحاول أن يكسب ثقة الأميركيين بأي حال من الأحوال، أملاً في أن تضغط الولايات المتحدة على إسرائيل لإعادة سيناء من دون ضرورة للحرب، حتى لو كان الثمن تغيير تحالفاته الرئيسية لتكون مع الولايات المتحدة الأميركية، استناداً الى ما كان مقتنعاً به ويردده دائماً بأن أميركا تملك 99 في المئة من أوراق القضية الفلسطينية والشرق الأوسط”. وفي رأي محمد فايق أن السادات أراد بذلك أن يتملَّص من القرار الذي اتخذه مجلس الدفاع القومي بأن تبدأ الحرب مع إسرائيل في ربيع عام 1971 (وهو قرار اتُّخذ في حياة جمال عبد الناصر).
كذلك يتحدث محمد فايق عن تعويل السادات على زيارة وليام روجرز، وزير الخارجية الأميركي الى مصر في بداية أيار / مايو 1971، بحيث أنه أقال علي صبري من مناصبه قبيل وصول روجرز الى القاهرة للتدليل على صدق نياته تجاه الولايات المتحدة. وكان علي صبري في ذلك الوقت ما زال مسؤولاً عن العلاقات المصرية – السوفياتية. ويقول فايق أيضاً إن السادات، قبل زيارة روجرز، كان قد أبلغ جوزف سيسكو، مساعد وزير الخارجية الأميركي، في زيارة سابقة عن عزمه على التخلص من المجموعة الناصرية المتشددة في الدولة. كذلك أبلغ الأميركيين عن عزمه على التخلص من الوجود السوفياتي في مصر من خبراء عسكريين ومدنيين.
لكن محمد فايق لا يتحدث مطلقاً عن العلاقات المصرية – الأميركية قبل أنور السادات، مكتفياً بنقل عبارة واحدة من خطاب عبد الناصر في الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك، وصف فيها وعد بلفور لليهود بإقامة وطن لهم في فلسطين، بأنه “أعطى ما لا يملك لمن لا يستحق”.
ربما كان محمد فايق لا يدري أن وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية قدَّمت الى عبد الناصر شخصياً مبلغ سبعة ملايين دولار فتبرع بها لبناء برج القاهرة. وهو لم يتطرق قط الى رغبة عبد الناصر في التفاهم مع واشنطن خلال رئاسة أيزنهاور، وما كانت الشروط الأميركية، أو ما كانت عليه النظرة العامة للرئيس عبد الناصر الى الولايات المتحدة، على غرار ما كتب صلاح نصر مدير الاستخبارات المصرية العامة لعشر سنوات متواصلة (1957 – 1967).
لقد أكَّد صلاح نصر أنَّ عبد الناصر أخفق في تصوره لأميركا، بمعنى أنَّ صورة أميركا في ذهنه لم تكن واقعية. كان عبد الناصر يتصوَّر، حسب تشخيص مدير استخباراته، أنَّ أميركا دولة تقدمية قوية، بلا أطماع استعمارية، بعيدة عن مكائد السياسة الأوروبية، فاعتبرها ملجأً لآمال الشعوب الصغيرة. لكن عبد الناصر، حسب صلاح نصر، عاد فاكتشف بالتجربة أن الأمر ليس كذلك عندما تضاربت سياسته مع مصالحها.
هناك روايات متعددة حول إمكانية التمويل الأميركي لمشروع السد العالي، وهو أول احتكاك سلبي حاسم لعبد الناصر مع واشنطن. لكن الرواية التي تُنسب الى سامي شرف، سكرتير عبد الناصر للمعلومات، تضع اللوم على السفير المصري في واشنطن أحمد حسين، حيث وصل الأمر الى حد اتهامه بأنه كان يميل الى الجانب الأميركي. وحسب هذه الرواية، أن السفير أحمد حسين أوهم وزير الخارجية الأميركي جون فوستر دالس، أن عبد الناصر يرغب في صداقة أميركا. لكن دالس وجد تضارباً بين هذه الرغبة المزعومة ومنطق المساومة بشأن التمويل الأميركي لمشروع السد العالي بوضعه في موازنة العروض الأخرى المتاحة وفي طليعتها العرض السوفياتي.
والمعروف عن جون فوستر دالس أنه كان يرفض رفضاً قاطعاً أن يتعاطى أصدقاء أميركا، أو طالبو صداقتها، مع الفريقين الدوليين بمنطق المساومة. وهذا ما قاله بوضوح للسفير المصري أحمد حسين ومؤداه: “إذا جاء بلد وأبلغنا أنه في وضع مساومة جيد، وإن لم نعطه ما يريد فسوف يحصل عليه من خصومنا، فلا يهمنا مثل هذه العلاقة”.
بل كان دالس شديد القسوة على السفير أحمد حسين عندما ألمح هذا الأخير الى أن الرئيس عبد الناصر يحرص على صداقة أميركا، لكنه لا يستطيع أن يجاهر بذلك كما تريد واشنطن، لأنه يخسر شعبياً في مصر. فقال دالس للسفير المصري عندئذ: “إذا كان عبد الناصر يحرص على الصداقة مع أميركا، فإنه يجب أن يكون مستعداً ليدفع ثمناً محلياً لقاء هذه الصداقة”.
أما رواية سامي شرف فإنها تضع فهم لقاء عبد الناصر بسفيره في واشنطن وما دار فيه من حديث في إطار مختلف. بمعنى أن شرف توخى أن يلقي ظلالاً من الشك بعلاقة ما للسفير أحمد حسين بالأميركيين. فقد كان عبد الناصر يُدرك في قرارة نفسه أن الأمر لا يخرج عن حدود المناورة، وأن أميركا لن تقدم على المساهمة في تنفيذ المشروع، وتمسك أحمد حسين بموقفه وبمحاولاته للتفسير والتبرير، وبعد أن استمع له عبد الناصر مطولاً بادره قائلاً: «حسناً سأعطيك الفرصة لكي تثبت شيئاً من أجل مصر يا أحمد، تروح لدالس وتقول له إنك قبلت بجميع شروطه، ثم لاحظ رد فعله، ومنشوف ايه حايجري بعد كده”.
وأسقط في يد أحمد حسين، واستفسر من الرئيس عما إذا كان لا يريد أن يعدل من الشروط الأميركية فقال له عبد الناصر: “لا تعديل في الشروط، وأنت مفوَّض تفويضاً كاملاً ومعاك (كارت بلانش)، لكنه أوصاه ألاَّ يفعل شيئاً يسيء الى سمعة مصر وكرامتها، وقال له: “إن السبب الموجب لذلك هو أننا لن نحصل على السد العالي من الأمريكان”.
وأتذكر الآن جلسة في بيروت مع الوزيرين العراقيين طارق عزيز وعامر عبد الله من الحزب الشيوعي العراقي بعد اتفاق إنهاء الحرب الكردية بقيادة الملا مصطفى البارزاني في شمال العراق، وتشكيل حكومة جبهة وطنية في بغداد مطلع عام 1970، حيث دار الحديث عن مواقف الدول العربية في الحرب الباردة بين أميركا والاتحاد السوفياتي، فقال عامر عبد الله: “إن الدول العربية تتصرف على أساس أن أميركا هي أحب الأعداء، والاتحاد السوفياتي أبغض الأصدقاء”!