العراقي الغامض

قراءة متأخرة في عقل صدام حسين

(16)

الخليجي

28/8/2024

سَنَتَها، في أواسط سبعينيات القرن الماضي، حّوَّلَ المطرُ دَربهُ عن المنطقة شبه الصحراوية المُحاذية لحدود المملكة العربية السعودية.

الجفافُ، أكلَ الأرضَ العاشبة، فأصبحت مجدبة، والعيون، التي كانت فوَّارة، باتت شحيحة، نزَّازة.

لعَنَ رعيان تلك القرى والبوادي الماء، والقدر، والأرض المُشَقّقة، ووصلت شكواهم الى آذان صدّام حسين، “نائب الرئيس” وقتها، فاستدعى خبراء الجيولوجيا، والمياه، والري، وسألهم المشورة، فأشاروا عليه حَفرَ آبارٍ ارتوازية لاستخراج الماء الزلال من جوف الأرض.

لم يُكَذِّب “السيد النائب” خبرًا، أعطى الأوامر، فتوجّهَ الفنّيون مع آلات الحفر إلى تلك المنطقة. وفي غضونِ أيام، كان الماءُ يتدفّقُ من بَطنِ الأرض عذبًا، سقى الناس، والمواشي، والأرض العطشى… فأصبح اسم “السيد النائب” يملأُ أفواه وقلوب سكان تلك النواحي.

في القاطع السعودي، كان الرعيان يراقبون ما كان يجري ويدور، وعندما استُخرِجَ الماء، هرعوا بمواشيهم، ونوقهم، لتنهل من الماء العراقي الزلال.

نظرَ العراقيون إلى المُتَوَجِّهين نحو ديارهم، بتبرُّمٍ واشمئزاز، ورفضوا أن يُقاسمهم جيرانهم الماء. والتلاسُن، تحوَّلَ الى مُشادَّات، واشتباكات بالعصي والنبابيت.

استشكلَ الأمرُ على السلطات الأمنية، فحارت كيف التعامُل مع الرعيان السعوديين، فأوصلت الإشكال إلى صدّام حسين، فأفتى وأمَر: ” لا تمنعوهم… قولوا لهم: إننا حفرنا الآبار لنا ولكم”.

تَصَرُّفُ صدّام حسين، يومها، ليسَ لفَضِّ المشكلة، إنما أراد، وهو يطمح الى الرئاسة والسلطة المُطلَقة، أن يُوَطِّئ الدَربَ إلى الخليج، وإرسالَ إشاراتٍ إلى السعوديين أنّهُ حريصٌ على ودّهم، وعلى أفضل العلاقات معهم، ومن خلالهم، مع الدول الأخرى في المحيط الخليجي.

وهكذا كان… فالتواصُل ظلَّ يربط العلاقات، بين الرياض وبغداد، حتى في أحلك الفترات.

***

لقد لمستُ بنفسي، سنة 1969، مدى حرص بغداد على التوادِّ مع الرياض، وعدم تعكير صفو العلاقات معها.

فقد قُرَّ الرأي، على إعادة إصدار “الأحرار”، التي كانت مُتَوَقِّفة، كوسيلة فكرية وإعلامية “لحزب البعث”، تكونُ قريبةً من ميشال عفلق، الأمين العام للقيادة القومية، الذي كان مُقيمًا في بيروت في هاتيك الأيام. وقد زكّاني عفلق لتلك المهمّة، فحوَّلتُ “الأحرار” من جريدة يومية الى مجلّةٍ أسبوعية.

ونحنُ نُحَضِّرُ لإصدارِ العدد الأول، تَجَمّعَت لدينا معلومات عن “محاولةٍ انقلابية” ضدّ الملك فيصل بن عبد العزيز، فنشرنا تحقيقًا مُسهَبًا، مُتخَمًا بالمعلومات من داخل البيت السعودي، عن تلك المحاولة، احتلَّ الغلاف وكان عنوانه: “واشنطن تُعِدُّ الأمير فهد لحُكمِ السعودية”.

بعد صدور العدد، الذي تناقلت موضوع غلافه غير وكالة أنباء عربية ودولية، تناهى إليَّ استياء المسؤولين في بغداد من الموضوع، وكُلِّفَ أحدهم، هو اليوم صار عند ربّه، أن يُبلِغَني ما تراه القيادة في بغداد: “كان من الأجدر أن تتصدّرَ المجلّة، في عددها الأول، مقابلة مع “الأستاذ ميشال”، أو مع الرئيس البكر، لإظهار هويتها، وشدِّ انتباه الحزبيين إليها”.

ظننتُ أنَّ بساطَ البحثِ حول العدد الأول قد طُوي، وأنَّ استياءَ القيادة وامتعاضَها قد محته الأيام، إلّا أنَّ ظنّي لم يكُن في محلّه.

في مطلع صيف سنة 1970، انعقدت في طرابلس الغرب، بدعوةٍ من العقيد معمر القذافي، الذي لم يَكُن قد مضى تسعة أشهر على إطاحته الملك إدريس السنوسي، قمّة عربية مُوَسَّعة، وتلتها قمة دول المواجهة، شارك فيهما الرئيس جمال عبد الناصر، (توفي بعد ثلاثة أشهر من القمّتين)، والرئيس أحمد حسن البكر، الذي التقيته مع رياض طه،  نقيب الصحافة اللبنانية آنذاك،  في قصر الأمير الرضا السنوسي ولي العهد السابق، وكان  مقرَّ إقامته المُخَصَّص له من الحكومة الليبية … سألتُ الرئيس البكر ما إذا كان وقته يَتَّسِعُ لإجراءِ مقابلةٍ معه للمجلة، فبادرني على الفور:  “تأخَّرتَ كثيرًا…”

ثم استدرك: “وقتي الآن ضيِّق، فبعد اجتماعات القمّة، سأُغادِرُ إلى الجزائر في زيارةٍ رسميَّة. لكن بإمكانك أن تُرسِلَ لي إلى بغداد أسئلة مكتوبة لأجيب عنها”.

فهمتُ، وقد وصلتني الرسالة من أوّل كلمتين: “تأخّرتَ كثيرًا”، فلا هو، ولا مَنْ معه في القيادة السياسية، تناسوا ذلك التحقيق الذي رَؤوا أنه أحرجَ بغداد أمام الرياض.

كانَ الوفدُ العراقي إلى قمَّتَي طرابلس ملفتًا، لأنه ضمَّ نائبَي الرئيس، حردان التكريتي وصالح مهدي عماش، إلى جانب وزير الخارجية الدكتور عبد الكريم الشيخلي، تاركين صدَّام حسين على رأس الدولة في بغداد، حيث أتاحَ له ذلك، في غفلة، التخلُّص من هؤلاء المسؤولين الكبار.

إنَّ تشكيلَ الوفد العراقي إلى طرابلس الغرب، على هذا النحو، يطرحُ أسئلةً لها معنى في تلك الظروف، حيث من المفترض أن يبقى أحد نائبَي الرئيس في البلاد ليقوم مقام الرئيس الغائب. وأول هذه الأسئلة، هو ما إذا كان البكر، في تلك المرحلة، على تواطؤٍ مع صدّام حسين للتخلُّص من منافسيه الثلاثة، كما حدث بالفعل، أو ما إذا كان البكر يريد ترفيع صدام الى نيابة الرئاسة، فوفَّر له تلك الفرصة.

***

“حبلُ الودِّ” بين الرياض وبغداد، لم ينقطع، لا بعد غزوة الكويت، ولا عندما تجمّعت على أرضِ المملكة العربية السعودية، جيوش ثلاثين دولة بينهم دول عربية، في تحالُفٍ غير مسبوق، لمحاربة عراق صدّام حسين، حرَّضت عليه مارغريت ثاتشر، رئيسة الحكومة البريطانية، وانقادَ إليها جورج بوش الأب، رئيس الولايات المتحدة.

لكن ما كان في الظاهر غير ما كان في الباطن. في العلن كانت الحملات الإعلامية على أشدِّها، وراحت صحفُ البلدَين تتفنَّنُ في “الردح”، على الطريقة التي كانت سائدة في زمن جمال عبد الناصر.

مُشادَّاتٌ، ونبشُ تواريخ، وتجريحٌ في العلن، تُقابلها اتصالات ولقاءات بالخفية. وقد استمرت تلك “الازدواجية” بعد العمل العسكري العراقي ضد الإمارة الصباحية، وبعد الهجمة الدولية، وهزيمة العراق!

الطرفُ السعودي الذي “هندس” تلك “الديبلوماسية السرّيَة”، إذا ما جاز التعبير، هو ذاته الذي بَلوَرَ التفاهُم بين البلدين، قبل، وأثناء الحرب الضروس ضد إيران (1980 – 1988)، يتقدّمه الأمير عبد الله بن عبد العزيز (ولي العهد وقتئذ)، ويضم الأمير سلطان بن عبد العزيز (وزير الدفاع)، الذي زار بنفسه شبه جزيرة” الفاو”، بعد إخراج القوات الإيرانية التي احتلتها في المرحلة الأخيرة من الحرب، وتعهَّد بإعادة إعمارها، والأمير تركي الفيصل (مدير الاستخبارات).

كان الأمير عبد الله، يُحمِّل نائبه في “الحرس الوطني”، عبد العزيز بن عبد المحسن التويجري، رسائل إلى المسؤولين العراقيين، فكان الشيخ المحنَّك، يتردَّد على العراق، ويُقابل صدّام حسين، الذي أنس له. وفي مرَّاتٍ رافق الشيخُ وليَّ نعمته الأمير عبد الله، في رحلات الصيد، التي كان يقوم بها في البادية العراقية، لم يغب عن لقاءات الأمير مع صدام حسين، بحضور طارق عزيز.

أما على الطرفِ العراقي، فقد  كان صدام حسين يُشرف بنفسه على تلك “العلاقات السرّية” التي كان يُحرِّكُ فيها كلًّا من برزان التكريتي، خصوصًا بعدما انتقلَ إلى “جنيف”، ليكون ممثل العراق في المقر الأوروبي للأمم المتحدة، وطارق عزيز الذي كان أبرز المسؤولين العراقيين العارفين بتلك العلاقات، والمُخطّطين لها، وهو الذي أقنع صدام حسين بالمضي في مساعيه للتفاهم مع السعوديين، “لأنَّ في يدهم مفتاح الخليج”، انطلاقًا من نظرية “تفاهم الضرورة”، التي مَحْوَرَ سياسة العراق الخارجية حولها، وسبعاوي ابراهيم الأخ الآخر غير الشقيق للرئيس العراقي، الذي كان يتردد على الرياض، والاجتماع بالأمير تركي الفيصل.

حدثَ، بموافقة صدَّام حسين، أن طلبَ برزان التكريتي لقاء الأمير عبد الله بن عبد العزيز في “جنيف”، وبعدما تبلغ الملك فهد بهذا الطلب، سمح لولي عهده بمقابلة المسؤول العراقي، فكان اللقاء في فندق “أنتركونتينتال”.

***

كان العراقيون في كل مباحثاتهم السرّية مع السعوديين، يطرحون، أنَّ مَنعَ الحرب، يكمُن في تفاهمٍ سعودي-عراقي حول مستقبل المنطقة. فقد كان صدام حسين يعتبر أنَّ العراق “دولة خليجية”، وإنَّ ما يمنعه من ذلك حرمانه الإطلال على بحر الخليج، كما خطَّط له السير بيرسي كوكس، ورفض الكويتيون تصحيحه برسم حدود الواجهة البحرية بعد نيلهم الاستقلال. (كما مرَّ في فصل “المُنظِّر”).

وحرصُ صدام حسين، على الوجه الخليجي للعراق، جعله يَتَفَهّمُ مُبرّرات قيام” مجلس التعاون الخليجي”، فتوجّه إلى الخليجيين قائلًا: “نحن ممتنون، إذا أردتم التعاون، والأفضل أن تكونوا مُتَّحدين، لأنَّ في ذلك قوةً لنا”.

إمعانًا في خطب ودِّهم، وصف إقامة مجلس التعاون الخليجي بأنه “عملٌ عقلاني”. واستدرك، كأنه عرف أنه لن يُقبَلَ في صفوفهم: “إننا نبارك الاتحاد من دون أن نكون فيه، وقد باركنا به”.

أراد صدام حسين أن يكونَ “سيف الخليج”، وليس كما كان الشاه “شرطي الخليج”، فالشرطي يأمر، ويُهيمن، وحامل السيف يُدافع.

في دردشة صريحة مع أحد الزملاء اللبنانيين في لقاءٍ بينهما في بغداد، أسرَّ طارق عزيز، أنَّ المباحثات التي دارت بالخفية، مع السعوديين، كانت دانية القطاف، لولا تدخّل إسرائيل، “المُتفاهمة” مع طهران، التي وجدت في التوافق العراقي-السعودي ما يتهدَّدُها، ويشكل قوَّةً ضاربةً في وجهها، فحرَّضَ الإسرائيليون الولايات المتحدة للضغط على الرياض لقطعِ حبلِ الودِّ، وسرّعت في التحضير للهجمة على بغداد.

لكن على الرُغم من كل ذلك، ظلَّ هذا المسار مُستَمرًّا من الغزو العراقي للكويت، إلى الاحتلال الأميركي للعراق، وإسقاط نظام صدام حسين.

***

لقد اتَّضحَ، منذ البداية، أنَّ انقضاضَ صدام حسين، سنة 1979، على “ميثاق العمل القومي”، بين بغداد ودمشق، الذي وقَّعه البكر وحافظ الأسد، كانت غايته أن يكونَ “العراق دولة خليجية”. ففي الخيار بين “سوريا” و”الخليج”، اختار صدام حسين “التوجُّه الخليجي”، لأنه كان مُزمِعًا على محاربة إيران دفاعًا عن دول الخليج، ولتصوُّره الذي لم يكن يُخفيه، بأنَّ سوريا تقف في الصف الإيراني، وكانت لديه معطيات كافية لتأكيد صواب ما ذهب إليه.

هذا التصوّر العراقي، الذي استحوذَ على سياسة صدام حسين، بالنسبة إلى إيران وأطماعها في الخليج (ومنه العراق)، نكره، وتنكَّر له، الخليجيون، ولم يعترفوا به، ولذلك أسبابٌ منها خوفهم من “طبيعة” النظام العراقي، وعدم ثقتهم بقيادة صدام حسين. فقد اعتبر السفير عبد الله بشارة، أول أمينٍ عام لمجلس التعاون الخليجي، أن توجُّه صدام حسين هو من الأساليب “غير الأخلاقية”، وجعل الابتعاد الخليجي عنه من الأسباب الموجبة لإقامة “مجلس التعاون الخليجي”.

ويُمكن استخلاص ما قاله عبد الله بشارة، بما مفاده: “إن فكرة تأسيس مجلس التعاون الخليجي، جاءت من استياءٍ تولَّدَ لدى قادة الخليج، من الأساليب غير المعتادة، وغير الأخلاقية، التي اتبعها بعض العواصم، لتأمين الموافقة الخليجية على البرنامج الذي وضعته بغداد ضد مصر (الساداتية)، فضلًا عن نجاح الثورة الإيرانية، وما رافقها من صخبٍ ثوري، شعاراتي، موجَّهٍ ضد الخليج، وانفجار الحرب العراقية–الإيرانية في أيلول (سبتمبر) 1980، والوضع المتوتر بين سلطنة عُمان واليمن الجنوبي، والتبدّلات التي شهدتها الساحة الدولية، على أثرِ غزو الاتحاد السوفياتي لأفغانستان، والتهديد الذي رافقه لاستقرار باكستان”. (“مجلس التعاون الخليجي: دواعي التأسيس من وجهة النظر الرسمية”، عمر الحسن، بحثٌ في كتاب “مسيرة التعاون الخليجي: التحديات الراهنة، والمخاطر المستقبلية”، الدار العربية للعلوم ناشرون، بيروت، 2015).

نقطتان مهمّتان في هذا الكلام، واحدة ظاهرة، وأخرى مُستترة، وكلتاهما تُنكران أي دور للعراق في الخليج: الظاهرة منهما، هي التنديد بمساعي بغداد لتشكيل حالة عربية رافضة للصلح المنفرد مع إسرائيل، ومحاولتها إرغام دول الخليج على السير في هذا النهج. أما المستور، فهو نكران “خليجية العراق” جملةً وتفصيلًا… وبالتالي، التنكر للمقاصد العراقية المعلنة بأنَّ حرب صدام حسين ضد إيران الخمينية، كانت غايتها الدفاع عن الخليج”.

الدارسون لموضوع العراق والخليج، في المراحل اللاحقة لاحتلال الجيش العراقي للكويت، لا يستطيعون تَجاهُلَ وجهة النظر المُتَضَمِّنة بين السطور في عرض عبد الله بشارة للأسباب الموجبة التي أملت تأسيس “مجلس التعاون الخليجي”. لكن هذا الاستدلال يبقى وحيد الجانب، ما لم يقفوا على وجهة النظر العراقية حول المسألة الكويتية، ليس في عهد صدام حسين فقط، إنما في السياق التاريخي السابق له.

حتى تصوُّر صدام حسين للمسألة (كما مرَّ أيضًا في فصل “المنظِّر”)، قبل خمس سنوات من الحرب مع إيران، كان يرفضُ أمرين لا يعترف بهما الخليجيون:

الأول، هو أنه لا يضع إشكالية رسم الحدود مع الكويت، في “الإطار التوسُّعي” لبلاده.

والثاني، أنه لا يريد التشبُّث بالماضي، (أي المسعى العراقي في العهود السابقة لضمِّ الكويت الى العراق). لقد كان بالفعل يُريدُ حلًّا واقعيًا، هو في نظره، الحلُّ المتمِّمُ لخليجية العراق. أما الخليجيون فقد كانوا عازمين من البداية رفض إضفاء أيّ صفة خليجية على العراق، كما كان يتوخّى صدام حسين، من بداية عهده.

***

على الرُغمِ من صَدِّهم مساعي صدام حسين، فقد حاول الخليجيون، مُجاملته بإجراءٍ شكليٍّ لا قيمة فعلية له، وهو الموافقة على مشاركة وزير الإعلام العراقي في اجتماعات وزراء إعلام الدول الخليجية، وهم عندما سمحوا بذلك، كانوا يعرفون أنَّ المشاركة في اجتماعاتٍ إعلامية، لا تُضفي عليها صفة سياسية جادة ومُلزِمة.

صادف ذات يوم في العام 1983، أن التقيتُ وزير الإعلام العراقي لطيف نصيف جاسم (الدليمي)، فسألته عن مشاركته في اجتماعات وزراء إعلام الدول الخليجية، وماذا يبحثون فيها، ففاجأني بالقول: .”إنني أخجل أن أقول ما هي الأشياء التي كانوا يتحدثون، أو يتسامرون بها”.

قلتُ مُستغَرِبًا: “ألا يتحدّثون بالسياسة؟”.

ردَّ هازئًا: “لا بالسياسة، ولا حتى بالإعلام. كل الحديث عن “الونسة”، و”السفر وتوابعه”، وما الى ذلك!”.

هذا يعني أنَّ الدول الخليجية، المؤسِّسة لمجلس التعاون، ليست جادَّة حتى بتطوير المجلس في اتجاه التعاون الفعلي المُثمِر. فقد عرض الملك السعودي عبد الله بن عبد العزيز، في القمة الخليجية المُنعقدة في الرياض في العام 2011، مشروعًا لتحويلِ مجلس التعاون إلى “اتحاد” بين الدول الأعضاء، فلم يلقَ استجابة.

وفي قمة 2013، جرت محاولةٌ جديدة لتقديم العرض السعودي، فرفضت سلطنة عُمان هذا العرض رفضًا مُطلقًا، وأعلنت أنها ستنسحب من المجلس إذا تحوَّلَ إلى “اتحاد”!

على أنَّ الرفضَ العُماني، لم يكن بغير تعليلٍ منطقي. فقد قال وزير خارجية سلطنة عُمان آنذاك، يوسف بن علوي: “إن المجلس فشل في بناء منظومة اقتصادية حقيقية، فكيف سينجح في الاتحاد؟”.

***

تبيَّنَ بالدليل القاطع، أنَّ الخليجيين ما كانوا في أيِّ يومٍ، قبل صدام حسين، وفي أيامه، ومن بعده، يرغبون في قبول العراق دولة خليجية. وكما ثبت، في شتّى مراحل “مجلس التعاون الخليجي”، أنهم لم يكونوا أيضًا راغبين في تطويره إلى قوةِ إقليميةٍ متَّحدةٍ، لئلّا تُسيطرُ عليه المملكة العربية السعودية، المؤهّلة لتحمُّل مثل هذه المسؤولية.

فعندما اقترحَ العراق، مشروعًا أمنيًا يتضمّنُ خطةً للدفاع عن الدول الخليجية المُعرَّضِ أمنها للاهتزاز، كجُزءٍ من تشكيل قوة ردع عربية، لم يترك الخليجيون حجّةً إلّاَ وطرحوها لرفض كلِّ ما يتعلق بالموضوع. منهم مَن أثار مسألة التفاوت الاقتصادي بين العراق والدول الخليجية، ومنهم مَن تذرَّعَ بتفاوت الأنظمة السياسية، ومنهم مَن شكَّك بنيّات النظام البعثي في بغداد، وآخرون بالخوف من نشوء صراع سعودي–عراقي على زعامة الخليج، وما إلى ذلك…

ظنَّ بعضُ العراقيين الذين جاؤوا إلى السلطة في بغداد، على محملٍ أميركي، بعد إطاحة صدام حسين ونظامه، أنَّ وجودَ العراق والخليج معًا تحت المظلة الأميركية، يُشكلُ ظرفًا مؤاتيًا للدخول في الفضاء الخليجي، فعادوا خائبين:

إبراهيم الجعفري، رئيس مجلس الحكم الانتقالي، في السنة الثانية من الاحتلال الأميركي (2004)، طالبَ بالانضمام الى “مجلس التعاون الخليجي”، فلم يردّ عليه أحد.

وزير النفط آنذاك، إبراهيم بحر العلوم، اجتهدَ في صياغةِ تعبيرٍ لطيف “لتطرية” الأجواء، سمَّاه “الوطن الخليجي الموحَّد”، فزاد في الطين بلَّة!

بعد أربع سنوات من تلك المحاولة البائسة، تحت الراية الأميركية، تقدّمَ وزير الدفاع الأميركي، روبرت غيتس، المدير السابق لوكالة الاستخبارات المركزية، باقتراحٍ الى دول الخليج بضمِّ العراق الأميركي إلى مجلسهم، مُعلِّلًا ذلك بأنَّ دعمَ دول الخليج للعراق يُساعد على احتواء إيران، فلم يُعيروه بالًا. كانت الحجة أنهم لا يريدون التورُّطَ في أيِّ نزاعٍ بين العراق وإيران.

في العام 2019، شكَّلت الحكومة العراقية ما أسمته “لجنة الحوار الاستراتيجي مع مجلس التعاون الخليجي”، بمُنطلقات تؤكّدُ أنَّ حكومة بغداد حينها تسعى إلى “الانفتاح على المحيط الإقليمي والدولي”، وأنَّ “العراق يلعب دورًا محوريًا في الحفاظ على الأمن والسلم الإقليمي والدولي، وتعزيز الاستقرار في المنطقة، إلى جانب مواقفه الرامية إلى خلق التوازن فيها”.

كما ناقشت اللجنة الإجراءات والأنشطة المُقتَرَحة المُتَّفَق عليها بين الجانبين، والمُثبَتة في خطة العمل المشترك (2019 – 2024)، التي تركزت على “المشاورات السياسية حول قضايا المنطقة، والتعاون في مكافحة الإرهاب والتطرّف، ودراسة فُرَص ومعوّقات التبادل التجاري، بالإضافة إلى جُملةٍ من الأنشطة الأخرى”.

دخلت البلبلة في أذهان الخليجيين لأنَّ الدعوةَ العراقية تلك جاءت بعد يومٍ واحدٍ فقط من استضافةِ بغداد اجتماع وزراء خارجية مصر والأردن، الذي أكد على “العُمقِ العربي للعراق”، مما ذكَّرهم بما قام به صدّام حسين، مع الملك حسين وحسني مبارك وعلي عبد الله صالح، بتشكيل “مجلس التعاون العربي”، الذي اعتبره الخليجيون موازيًا لمجلسهم، وأنه يضمُّ دولًا مُفلِسة طامعة بأموالهم!

والحقيقة، أنَّ “مجلس التعاون العربي”، كان فكرةً طرحها الملك الحسين بن طلال، على الرئيس العراقي، وتقضي بإنشاءِ ما سمَّاه “الفيلق العربي”، لكن صدام حسين اقترح اسم “مجلس التعاون العربي”، لكيلا يُفهَم بأنَّ للتجمُّع طابعًا وأهدافًا عسكريَّة.

على الرُغم من قُصرِ عمر هذا المجلس، فقد تمَّ عقدُ 17 اجتماعًا رسميًا على مستوى القمة، وعلى مستوى وزاري في سنة ١٩٨٩ وحدها…

مع ذلك كرًّرَ وزير الخارجية العراقي في العام 2021، فؤاد محمد حسين، طلب الحوار الاستراتيجي مع “مجلس التعاون الخليجي”، شارحًا أهدافه، وأوّلها ما كان الخليجيون ينفرون منه على الدوام، وهو “عقد اتفاقية استراتيجية متكاملة مع مجلس التعاون الخليجي”، (أسامة مهدي، موقع “إيلاف”، لندن، 17 أيلول/سبتمبر 2021).

في محصلةِ الأمر: إنَّ العراقَ غير مقبول في النادي الخليجي، تحت أيِّ رايةٍ جاءها، وإنَّ كلَّ عراقي، في نظر الخليجيين، مهما تغيَّرَ جلده، فيه شيءٌ من صدام حسين، من قبل ومن بعد!

(الحلقة 17 والأخيرة يوم الأربعاء المقبل بعنوان: “المهزوم”).

ارشيف المقالات